العروض في شعر نازل الملائكة وشكله الجديد بقلم:الأستاذ نادر ظاهر .
تاريخ النشر : 2010-11-20
العروض في شعر نازك الملائكة وشكله الجديد

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين محمد بن عبد الله , وعلى اله وصحبه أجمعين .

أما قبل ....
فان بحثي المتواضع هذا يحمل في طياته فكرة عن العروض الجديد في شعر نازك الملائكة (الشعر الحر) .

حيث بدأت بالحديث عن حياة نازك الملائكة من ولادتها وحتى مماتها واهم المناصب التي حصلت عليها الشاعرة في حياتها ومجموع الدواوين الشعرية والمقالات والكتب التي أصدرتها.

وقد تطرقت في بحثي هذا إلي ديوان نازك الملائكة وإحصاء النماذج الشعرية التي كُتبت على الأنماط المختلفة من حيث الشكل مع تدعيم ذلك بالأمثلة من دواوينها.

وفيما يلي ذلك الحديث عن أهم ملامح التجديد والابتكار في شعر نازك الملائمة حيث كان من أهما : ريادتُها لمدرسة الشعر الحر (شعر التفعيلة) وإيرادا لبعض التفعيلات الجديدة وابتكارها لأوزان جديدة أيضا لم تكن معروفة في عروض الخليل .

ويتلو ذلك الحديث عن ابرز سمات شعر نازك الملائكة من حيث الوجهة العروضية كتمسكها ببعض الظواهر العروضية المعينة كوحدة الضرب وظاهرة التدوير والبحور التي كتبت عليها .

ثم تطرقت بعد ذلك للحديث عن أهم آراء شاعرتنا في بعض القيا العروضية وهي القضايا الآتية :
الضرب - التفعيلات الفردية - الزحافات - الوتد المجموع - ظاهرة التدوير.

وقد كانت خاتمة هذا البحث تحتوي على القافية عند نازك الملائكة وأشكالها واهم آراء نازك الملائكة فيها .

وفي الختام أسأل الله ان يلهمني السداد في القول والإخلاص في الفكر والعمل , وهو حسبي ونعم الوكيل .


نادر ظاهر 22/1/2010











نبذة مختصرة عن حياة نازك الملائكة واهم اعمالها

ولدت الشاعرة الكبيرة في بغداد في الثامن والعشرين من شهر آب عام 1923 في بيت علم وأدب ، أمها كانت الشاعرة سلمى عبد الرزاق وكنيتها ( أم نزار ) ووالدها الشاعر العراقي( صادق جعفر الملائكة )الذي جمع قول الشعر والاهتمام بالنحو واللغة كعادة الشعراء آنذاك ،،،، أحبت نازك الشعر منذ الصغر وولعت به وهي ما زالت بعد طفلة ،، ووجدت قي مكتبة أبيها الزاخرة بدواوين الشعر وأمهات كتب الأدب ما يروي ظمأها إلى الإطلاع والمعرفة
أكملت دراستها في بغداد ، ثم التحقت بالجامعة واستطاعت أن تتمتع بمنحة دراسية إلى الولايات المتحدة حيث حازت على درجة الماجستير في الآداب وكانت أول تلميذة تحظى بالدراسة هناك ، حيث لم يبح القانون بدراسة المرأة بجامعة برن ستون آنذاك ، عادت إلى بغداد وأتيحت لها فرصة أخرى للسفر إلى خارج العراق ، للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن ، عملت سنين طويلة في التدريس في جامعة بغداد ، وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت ، وتقيم الآن في القاهرة
أحبت الموسيقى منذ نعومة أظفارها وتعلمت العزف على آلة العود ، واستطاعت بواسطة معرفتها العميقة بالأنغام الموسيقية أن تمتلك حسا مرهفا بإيقاع الكلمة وموسيقاها ، وأثرت تلك المعرفة الكبيرة أيما تأثير في قصائدها سواء تلك التي قالتها في مقتبل العمر أو التي نظمتها في سني عمرها حيث اكتسبت المعرفة وحصدت ثمار التجربة ،، وقد اهتمت الشاعرة بالأدب العالمي وارتادت دور السينما للإطلاع على القصص العالمي ممثلا ، في هذا الجو المتفتح نسبيا إذا ما قورن بالجو العام الذي كان سائدا في ذلك الوقت في عموم العراق عاشت الشاعرة نازك وامتلكت من الاهتمامات ما لم يكن شائعا بين معاصريها ، حرصت على الثقافة والإطلاع من مصادر غير اللغة العربية كانت تمتاز بصفات مثل التحلي بالنظام والترتيب والمحافظة على الهدوء
قالت الشعر منذ طفولتها المبكرة وأجادت فيه وكان لها السبق والريادة في حركة التجديد وان ثار جدل طويل حول من كان الأول في نظم القصيدة التي تعتبر الأولى في تلك الحركة التجديدية ، البعض ينسب التجديد للشاعر الشاب بدر شاكر السياب والبعض الآخر يقول إن نازك كانت الأولى ولكن الذي يهمنا أن نذكره هنا أن شاعرتنا كانت مجددة وإنها كانت رائدة في حركة تجديد الشعر العربي وإنقاذه من القواعد والقيود التي جمعها الخليل بن احمد والتي تحاول أن تجعل الشعر يراوح في مكانه ولا يتحرك منذ مائتي سنة قبل مجيء الإسلام كتبت نازك النقد ووضعت الكتب في هذا المجال الحيوي الجميل ، وقد حللت أسباب الحداثة ودافعت عن وجهة نظرها في التجديد في كتابها المشهور ( قضايا الشعر المعاصر )
بدأت نازك حياتها الشعرية بقصيدة طويلة اسمها ( الموت والإنسان ) وكان ديوانها الأول ( عاشقة الليل ) وقد أصدرته عام 1947 وضم قصائد كتبت وفق الشكل الكلاسيكي القديم ، لكنها من حيث البنية الفنية والمناخات الشعرية والصور والإحساسات جديد تماما ، في عام 1949 أصدرت الديوان الثاني بعنوان ( شظايا ورماد ) تضمن قصائد جديدة على الشكل الجديد والذي أطلق عليه اسم الشعر الحر وهو بالحقيقة شعر لا يخلو من الوزن والقافية وإنما بشكل آخر يختلف عن الطريقة القديمة ، كانت قصيدتها ( الكوليرا ) المؤرخة عام 1947 إحدى القصائد التي اكتسبت شهرة كبيرة ، وقصة تلك القصيدة انه حدث في صيف عام 1947 أن حصد وباء الكوليرا الآلاف من أبناء الشعب المصري الشقيق ، وكانت كارثة فظيعة ردت عليها شاعرتنا نازك بقصيدة رائعة لها عنوان المرض نفسه ، قصيدة ليست كالقصائد التي كانت سائدة ذلك الوقت ، كانت جديدة في كل المقاييس ، مختلفة ، إيقاعها غريب عن الأذن العربية التي اعتادت ومنذ ألفي عام على أوزان الخليل ، وسرعان ما انتشر خبر القصيدة الجديدة كوليرا نازك الملائكة بين الشباب المثقف واستطاعت أن تؤثر على الذائقة الشعرية وتنتج ألاف من القصائد الشعرية ذات الأثواب الجديدة والأشكال الزاهية .
ديوانها الثالث أصدرته عام 1957 وأسمته ( قرارة الموجة) ، ديوانها الرابع عنوانه ( الصلاة والثورة ) أصدرته عام 1978 استمرت نازك في كتاباتها الشعرية وكانت عظيمة في بداياتها حتى مطلع السبعينات ، فلم تواصل الرحلة ، وانقطعت عن الكتابة الشعرية ، وبدأت تكتب في قضايا سياسية واتهمت أنها تراجعت عن آرائها السابقة في ضرورة الحداثة ووجوب التطوير . اهتمت بالسيرة الذاتية ولها مختارات’ من سيرة حياتي وثقافتي ( تقصد سيرتها الشخصية )، أحبت طفولتها كثيرا وتمنت مرارا لو تمكنت من العودة إلى تلك الفترة الذهبية الجميلة .
هذه نبذه عن حياة نازك الملائكة واهم أعمالها الشعرية والأدبية والسياسة وسنبدأ بالحديث عن مضمون بحثنا الذي يتناول الموسيقى في شعرها من حيث أشكالها وتطوراتها بإذن الله ......

شعر نازك الملائكة من حيث الشكل


لقد كتبت نازك الملائكة أشعارا متنوعة طوال حياتها جمعت دواوينها ,
على أن هذه الدواوين وما تحتويه من أشعار كتبت على الأنماط التالية :

أولا/ الشعر العمودي (إسلوب الشطرين) ":

الشعر العمودي هو عبارة عن شعر ذو شطرين متساويين طولا في عدد التفعيلات, وقد كتب عليه العرب القدماء أغلب أشعارهم , وقد كتبت نازك الملائكة أشعارا على هذا النمط بلغت حوالي (ستة وخمسين ) قصيدة منثورة في الدواوين , ومن أمثلة تلك القصائد قصيدة الحرب العالمية الثانية التي تقول فيها :
لم يكد يستفيق من حربة الأو لى ويهنأ حتى رمته الرزايا
رحمة يا حياة حسبكي ما سا ل على الأرض من دماء الضحايا
انظري الآن هل ترين سوى آ ثار دنيا بالأمس كانت جنانا
ليس من سحرها سوى سود احجا ـرن تثير الدموع والأشجانا
ثانيا/ شعر الشطر الواحد :

وهو عبارة عن قصائد تتكون من شطر واحد فقط , وهو ما يسمى بالسطر الشعري الذي يشتمل على عدد ثابت من التفعيلات ويسمى في علم العروض بالبيت المشطور.
وقد كتبت نازك الملائكة على هذا النمط أشعار كثيرة قمت بإحصائها ,إذ بلغت (تسعة وأربعين)قصيدة متفرقة بين الدواوين , ومن أمثلة هذا النمط من أشعار نازك الملائكة قصيدة "السفر"التي تقول فيها :
أنا وحدي فوق البحر يا زورق فارجع
عبثا انتظر الآن فنجمي ليس يطلع
هيت الريح على البحر الجنوني المروع

ثالثا/ شعر الموشحات :

وهو عبارة عن قصائد تجمع بين نمطي الشعر العمودي وشعر الشطر الواحد , وقد كتبت نازك الملائكة عدد قليل من هذا النمط , ومن أمثلته :لعنة الزمن صلاه إلى بلاوتس - تهم .



تقول نازك الملائكة في لعنة الزمن :
والأشباح الغامضة اللون تجوس الظلمة في الآفاق
والنهر ظنون سوداءُ
والريح مراوح نكراءُ
والضفة ارض جرداء
كانت خطوات الظلمة ترطم جو الشاطئ في استغراق
رابعا/ الشعر الحر :

هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يغير في عدد التفعيلات من شطر إلى شطر وبذلك لا يشترط فيها أن تكون متساوية ولكنها لابد أن تكون متشابهة, فيحق للشاعر أن يكتب على الرجز كالأتي /
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
مستفعلن مستفعلن
مستفعلن
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
وقد كتبت نازك الملائكة اغلب أشعارها على هذا النمط , حيث بلغت أشعارها الحرة حوالي " اثنتان وستين" قصيدة متفرقة بين الدواوين , ومن أمثلة أشعارها الحرة قصيدة "مرثية يوم تافه" التي تقول فيها :
لاحت الظلمة في الأفق السحيق
وانتهى اليوم الغريب
ومضت أصداؤه نحو كهوف الذكريات
وغدا يمضي كما كانت حياتي
صفقة ظمئ وكوب

نازك الملائكة رائدة مدرسة الشعر الحر

هناك خلاف يعود إلى من هو رائد مدرسة الشعر الحر, أهي نازك الملائكة؟ أم بدر شاكر السياب؟ ولكن الأغلب يجمع على أن قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة هي القصيدة الحرة الأولى التي عرفها الناس .

لقد اكدت نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر" أن الشعر الحر قبل كل شيء هو ظاهرة عروضية"فهو يعني بالشكل الموسيقي في القصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات وترتيب الأشطر والقوافي وإسلوب التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك , ولكن النقاد المعاصرون ينظرون في نقدهم للشعر الحر إلى جانبه الجمالي والخيالي فقط ويهملون الجانب العروضي الذي يعتبر ذا أهمية قصوى, فهناك أخطاء عروضية
لابد من التركيز عليها , أما بالنسبة للقراء فقد أعماهم النقاد الذين تحدثوا عن الشعر الحر واعتبروه كلاما عاديا ليس موزونا , فإنهم نمو على هذه الفكرة , فكرة أن الشعر الحر عبارة عن كلام مرصوص في اسطر متتالية دون وزن ولا قافية, فالقراء والجمهور بشكل عام ليس لهم ذنب في هذا الاعتقاد بل اللوم كل اللوم يقع على النقاد المعاصرين .
لذلك دعت نازك الملائكة إلى العودة لعلم العروض وتطبيقه على الشعر الحر الذي يعتبر فرعاً من فروع علم العروض , ولكن بعد أن دخله التطور, فالشاعر المعاصر يهمه التعبير عن حياته في حرية وطلاقة , لذلك كان لابد من تطوير العروض حتى يتماشى مع حرية شاعرنا المعاصر. وقد عبرت نازك الملائكة عن عدم مناسبة الشعر العربي ذو الشطرين في العصر الحالي بقولها :"في طفولتنا كانت البيوت التي يعيشها الناس ببغداد بيوتا شرقية في بنائها , تتوسطها ساحة واسعة قد تكون فيها حديقة صغيرة يطلقون عليها اسما فارسيا (البقجة) فكان البناء يحيط بهذه الساحة من جهاتها الأربع , وإذ انظر الآن إلى الوراء ألاحظ أن نظام الشطرين الخليلي في الشعر كان مناسبا مع هذا الطراز في البناء لأن الشطرين تتوسطهما فسحة أو سكتة في وسط البيت وأحس أنني انما ثرت على طريقة الشطرين الخليلية نفورا من المنزل المتناظر " وقد انتقدت نازك الملائكة كثيرا في شعرها الحر حيث اعتبره بعض النقاد خروجا عن الشعر العربي الأصيل يقول الدكتور يوسف الخال :"إن آراء نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر هي آراء ارتدادية متزمتة خانت بهاحركة الشعر الحرالتي تدعي اكتشافها"

ملامح التجديد والابتكار في عروض نازك الملائكة


ابتكرت نازك الملائكة قضايا جديدة لعلم العروض, منها ما يختص بالتفعيلات ومنها ما يختص بترتيبها , ومن ملامح التجديد هذه :

أ – شعر التفعيلة /

حيث تعتبر نازك الملائكة رائدة مدرسة الشعر الحر, فهي أول من كتب شعرا حرا يعتمد على نظام التفعيلة الواحدة في كل سطر شعري بخلاف النظام الذي كان سائدا "الشعر العمودي " , حيث تعتبر قصيدة "الكوليرا" أول قصيدة حرة تخرج للنور وبذلك أعدت نازك صاحبة هذا التجديد .
ولقد أبدعت نازك الملائكة في شعرها الجديد , حيث الحرية في اختيار عدد التفعيلات في السطر الواحد, فكانت أشعار الملائكة أشبه بلوحة جميلة في ترتيب التفعيلات في الأسطر المتتالية , وسوف أقوم بعرض بعض الأشكال التي وردت في شعر نازك الملائكة من حيث عدد التفعيلات في السطر الواحد , ومن ذلك :
1- أربع تفعيلات في السطر الأول والثالث وثلاث تفعيلات في السطر الثاني والرابع, ومن أمثلة ذلك قصيدة لها على بحر "المتدارك" بعنوان " سخرية الرماد"
لو رجعنا غدا وأردنا الزمان فاعلن فاعلن فعلن فاعلن
إن يرانا كما كنا فاعلن فاعلن فعلن
والتقينا فضل ينبض الميتان فاعلن فاعلن متفعلن فاعلن
خلف ألواح صدرينا (1) فاعلن فاعلن فعلن
2- أربع تفعيلات في أول أربعة اسطر تتلوها ثلاثة تفعيلات في السطرين الخامس والسادس وهكذا , ومن أمثلة ذلك قصيدة لها على وزن "الرجز" بعنوان "أغنية للحزن" التي تقول فيها
أفسحوا الدرب له,للقادم الصافي الشعور فاعلن مستعلن مستفعلن مستفعلان
للظلام المرهف السابح في بحر أريج فاعلن مستفعلن مستعلن مستفعلان
ذي الجن الأبيض السارق أسرار الثلوج فاعلن مستفعلن مستعلن مستفعلان
انه جاء إلينا عابر خصب المرور فاعلن مستعلن مستفعلن مستفعلان
انه اهدأ من ماء الغدير فاعلن مستعلن مستفعلان
فاحذروا أن تخرجوه بالضجيج (2) فاعلن مستفعلن مستفعلان
3- ثلاثة تفعيلات في الأسطر "الأول - الثالث - الرابع " وتفعيلتان في الأسطر "الثاني والخامس " , ومن ذلك قصيدة لها على وزن الرجز أيضا بعنوان "الخيبة" حيث تقول فيها :
عدنا إلى الأرض وكأن الطريق مستفعلن مستعلن فاعلن
طريقنا الأوّلا متفعلن فاعلن
والجهد لم يبقِ لنا من بريق مستفعلن مستعلن فاعلن
خلّفه الأمس النضير الوريق مستعلن مستفعلن فاعلن
عبر الرؤى مشتعلا (3) مستفعلن مستعلن


ب- ابتكرت نازك الملائكة وزنا صافيا جديد وهو :
مستفعلاتن مستفعلاتن
/5/5//5/5 /5/5//5/5
وقد صرحت نازك الملائكة بأن هذا الوزن من اكتشافها وهو مشتق من بحر البسيط المدور
مسفعلن فا علن مستفعلن .
/5/5//5/5 //5/5/5//5
فإذا نظرنا إلى الوزنين لوجدنا بعض ملامح التشابه بينهما , لذلك اعتبرت الملائكة أن الكتابة على هذا الوزن يمكن اعتباره من البحور الصافية لا الممزوجة , وهو بحر اقل مشقه لكاتب الشعر المبتدئ , مثال ذالك قصيدتها "نجمة الدم ".التي تقول فيها :
عُدْنا عُيونًا بِـلا حقيقة
مستفعلاتن متفعلاتن
"ولكن إذا نظرنا قليلا في الموشحات ، لوجدنا ( مستفعلاتن ) بكثرة ، وهذا يعني أن التفعيلة قديمة ، بل هي أقدم من الموشحات ، وبالتالي لا فإن تصريح نازك الملائكة باكتشاف هذه التفعيلة مشكوك فيه لأن هذه التفعيلة موجودة قبل وجود نازك"
ولو أخذا قصيدة الرصافي مثلا :
سمعت شعرا للعندليب تلاه فوق الغُصْنِ الرطيب
متفعلاتن مستفعلاتن متفعلاتن مستفعلاتن
إِذْ قالَ نَفْسي نَفْسٌ رَفيعَهْ لَمْ تَهْوَ إِلاَّ حُسْنَ الطَّبيعَهْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
وكقول ميخائيل نعيمه :
أَلْقَيْتُ دَلْوي بَيْنَ الدِّلاءِ
ميتفعلاتن مستفعلاتن
وَقُلْتُ عَلِّي أَحْظى بِماءِ
متفعلاتن مستفعلاتن "

ج- كتبت نازك الملائكة أشعارا كثيرة على وزن بحر المتدارك , فإذا بها تجدد في تفعيلاته لتخرج بنا إلى تفعيله جديدة وهي "فاعلُ" في حشو المتدارك , فهي تفعيله جديدة لم ترد في عروض الخليل .
وقد أكدت نازك الملائكة في كتابها( قضايا الشعر المعاصر) أنها تطرقت لهذه التفعيلة حسب إذنها الموسيقية , وذلك في أول قصيده لها على وزن المتدارك حيث تقول :
أقبل فجرك ياوطني فاعلُ فاعلُ مفتعلن
لكنها لم تنتبه لهذه التفعيلة لما لها انسجام بين سائر أخواتها التفعيلات , وبما أن نازك الملائكة صاحبة أذن موسيقيه عاليه , إذاً أجازت نازك الملائكة هذه التفعيلة بداعي عدم نشازها , وظلت توردها في قصائدها التي تنشدها على وزن المتدارك .
دللت نازك الملائكة على جواز تفعيلتها الجديدة "فاعلُ" بأن هذه التفعيلة لاتختلف كثير عن "فعلن" الأصلية المستعملة في بحر المتدارك ,فإذا نظرنا إلى "فاعلُ" والى "فعلن" سنجد أن كلا التفعيلتين تتكونان من ثلاثة أحرف متحركة وحرف واحد ساكن, غير أن الاختلاف يكمن في أن الساكن في "فاعلُ" يقع بعد المتحرك الأول أما في "فعلن" فانه يقع بعد المتحركات الثلاث , وإذا دققنا في كلتا التفعيلتين سنجد أن "فاعلُ"هي مقلوب "فعلن",على أن "فعلن"هي "لن فعُ", وبتالي فان الفروق بينهما دقيقة جدا , وبذلك فان الأذن العربية ستقبلها بلا شك دون التفريق بينهما ,ولكنا إذا اعتبرنا أن كل تفعيله تشبه مقلوبها سيؤدي ذلك إلى التداخل بين البحور, فيصبح الرجز هزجاً , لان مقلوب "مستفعلن"هو "مفاعيلن" , وقد صرح لهذه النقطة الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر" بقوله :
"وواضح بطبيعة الحال أن (فعلن) لا تساوي (فاعلُ) تماماً أنها قد تنسب إلى دائرتها ,وهي بذلك تشبه (مستفعلن) و(مفاعيلن), حيث أن الواحدة منها مقلوب الأخرى, وهما بالإضافة إلى هذا متساويان في عدد الحركات والسكنات لكننا مع ذلك لا نستطيع نمزج بينهما لا في الرجز ولا في الهزج , وبنفس الحجة يمتنع دخول "فاعلُ" في الخبب وإن تساوت مع تفعيلته الأساسية المستعملة "فعلن" في عدد الحركات والسكنات"


السمات العروضية في شعر نازك الملائكة


1- بلغت نسبة القصائد التي كتبتها نازك الملائكة على البحور الصافية حوالي
80% وهي المتقارب - المتدارك - الكامل -الهزج - الرجز -الرمل - الوافر.
أما البحور التي تتكون من تفعيلتين متكرّرتين وهما البسيط والطويل, فقد بلغت نسبة الأشعار التي كتبت على هذين البحرين حوالي 20% ,أما البحور الأخرى كالسريع والخفيف والمنسرح والمضارع ....الخ , فهي شبه معدومة في شعر نازك الملائكة .
والسبب في ذلك أن البحور الصافية أيسر في كتابة الشعر الحر, وذلك لأنها تتكون من تفعيلة واحدة مكررة , وبما أن الشعر الحر يتكون من اسطر شعرية متفاوتة في الطول والقصر يستطيع الشاعر بذلك أن يقف عند أي تفعيلة يراها مناسبة في نظره,"فالبحور الصافية أمرها يسير, لأن الشاعر ينظم بتكرار احدي التفعيلات الواحدة له بحسب ما يحتاج المعنى من مرات والمزالق في هذه البحور اقل منها في البحور الممزوجة وذلك بسبب وحدة التفعيلة , وإنما تكمن المزالق في البحور ذات التفعيلتين " التي تحكم الشاعر أن ينتهي بتفعيلة معينة كالوافر (المستعمل) مثلاً , فيكون على الشكل التالي :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
مفاعلتن فعولن
مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
فالملاحظ هنا ضرورة وقوف الشاعر في آخر السطر على تفعيلة "فعولن"

2- ظاهرة التدوير في شعرها العمودي :-

من سمات شعر نازك الملائكة التدوير, وهو أن تنقسم التفعيلة إلي قسمين ,قسمها الأول في نهاية الشطر الأول , وقسمها الثاني في بداية الشطر الثاني .
ولا تكاد تخلو قصيد عمودية لنازك الملائكة إلا ودخلها التدوير, ولكن من الملاحظ أن نازك الملائكة كانت تضع في نهاية الشطر الأول من البيت المدور زحافاً حتى لا تضطرب القصيدة, كالانتهاء بالوتد المجموع "لأن البيت المدور يتيح للشاعر إنهاء صدر البيت بمتحرك وذلك بخلاف البيت ذي الشطرين" وكأن الشاعرة حلت هذه المشكلة بإنهاء الصدر بزحاف لأنه اخف من العلة وسأضرب مثالاُ من قصائدها العمودية قصيدة "البحث عن السعادة" حيث تقول :
فهي آناً ليست سوى العطر والألـ (م) ــوان والأغنيات والأضواء
/5//5/5/5/5//5/5//5/5 /5
وهي آناً في الصوم عن متع الدنـ (م) ــيا وعند الزّهاد والرهبان
/5//5/5/5/5//5///5/5 /5
ليس تحيا إلا على صخر المعـ (م) ــبد بين الدعاء والإيمان
/5//5/5/5/5//5/5/5/5 (1) ///5

ولكن من الملاحظ أن وقوع "التدوير في الشعر العمودي يقربه إلى النثر حيث يضطر القارئ إلى الوصل بين شطري البيت الواحد مراعاة لاكتمال المعنى"
3- وحدة الضرب :-

من المميزات التي تميزت بها أشعار نازك الملائكة وحدة الضرب, حيث أن نهاية كل سطر شعري تشتمل على تفعيلة متشابهة , وقد كان لنازك أراءاً في قضية الضرب سنتحدث عنها فيما بعد ...
وسأسوق مثالا واحدا يبين وحدة الضرب عند نازك الملائكة ,تقول نازك الملائكة في قصيدة "الأعداء" :
نحن إذن أعداء /5///5 /5/5
ومن عالم لا يفهم الأشواق /5/5//5 /5/5//5 /5/5
ولا يسعى أغنية الأحداق //5//5 /5///5 /5/5
الحب فيها سيرة تروى /5/5//5 /5/5//5 /5/5
كان لها أمسُ /5///5 /5/5
وضمة رمسُ //5//5 /5/5
من تربة البغضاء (2) /5/5//5 /5/5


إذن نلاحظ من هذا التقطيع وحدة الضرب في شعر نازك الملائكة قصيدتها تلك جاءت على وزن الرجز فجميع الأضرب فيها هي "فعلن" بتسكين الثاني .

4- الالتزام بالتشكيلة الواحدة للبحر:-
"يكاد يكون الخلط بين التشكيلات من أفظع أنواع الغلط وأكثرها شيوعا في الشعر الحر",ولكن نازك الملائكة لم تقع في تلك الشبكة , بل التزمت التشكيلة أو الصورة الواحدة للبحر , والمقصود بقولنا الخلط بين التشكيلات , هو أن البحر الواحد له أكثر من صورة من حيث أشكال عروضه وضربه , فمثلا : البحر الكامل له أكثر من ثمانية صور, فقد جاءت عروضه صحيحة وضربه احذ مضمر مثلا وصورة أخرى عروضه حذاء فقط وضربه احذ فقط ...الخ فهذه الصور هي المقصودة بالتشكيلات , وقد وقع اغلب شعراء مدرسة الشعر الحر في مشكلة الخلط بين التشكيلات, فيجعلون التفعيلة الأخيرة في السطر - وهي بمثابة الضرب لأن الشعر الحر لا يوجد به عروض وضرب بل ضرب فقط - في البحر الكامل مثلا متفاعلن مرة وفعلن مرة ثانية وفعلن مرة ثالثة, تقول نازك الملائكة في ذلك :
"والحق أن الشاعر الأصيل الذي أرهف سمعه الإغراق في قراءة الشعر العربي لا يمكن أن يقع في المزج بين التشكيلات في قصيدة واحدة"
أما نازك الملائكة فقد التزمت في دواوينها بالتشكيلة الواحدة للبحر ولنضرب بذلك مثلا قصيدتها " طريق العودة التي تقول فيها :
وكنا نسميه دون ارتياب طريق الأمل فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعو
فما لشذاه أفل فعولن فعولن فعو
وفي لحظة عاد يدعى طريق الملل (3) فعولن فعولن فعولن فعولن فعو


وجهة نظر نازك الملائكة في بعض قضايا العروض الجديد والانتقادات لموجهة إليها


صرحت نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) أن هناك بعض المشكلات التي يقع فيها الشعراء المعاصرين في الشعر الحر دون الانتباه إليها, ومن هذه المشكلات :

أ- الزحافات /

حيث يعتبر كثرة الزحافات داخل القصيدة الواحدة أمر مغلوط فيه حيث تقول :
:"غير أن ما يفعله الشاعر القديم قط, وإنما ينزلق إليه الشاعر المعاصر أن يكتب أبياتا كاملة واشطرا, تفعيلاتها كلها مصابة بالزحاف"
"ومن المؤسف أن يكون النادر اليوم في قصائد الرجز هو التفعيلة السليمة , وهو يعني إصابة كل تفعيلات الرجز بالزحاف مما يفقد البيت نغمته الموسيقية "
ولكن للأسف وردت هناك أبيات لنازك الملائكة - رغم قولها هذا - أغلب تفعيلاتها مصابة بالزحاف .


ب- الوتد المجموع /
تطرقت نازك الملائكة إلي قضية الوتد المجموع باعتباره صوت صارم إذا دخل وسط الكلمة يعمل على تفكيكها , واقترحت لحل هذه المشكلة طرق عدة أبرزها :
1 – أن يقع الوتد المجموع آخر الكلمة , مثل ومدحتها ///5//5
2- ان يقع الوتد المجموع في ال التعريف , مثل وحاصد اليأس //5//5 /5/5 (2)

ج - التدوير/

ذكرنا فيما سبق أن من خصائص شعر نازك الملائكة استعمالها للتدوير بكثرة, ولكن ذلك كان في شعرها العمودي فقط , وقد انتقدت نازك الملائكة الشعراء الذين يستخدمون التدوير في الشعر الحر لان استعماله فيه يجعل البيت سمجا ميتا لا يحتمل وذلك لسببين :
1-أن التدوير هو ظاهرة تربط الشطر الأول بالثاني ومادام الشعر الحر يتكون مش شطر واحد فلماذا التدوير هنا ؟ .
2 التدوير يجعل الشطر الثاني يبتدئ بنصف كلمة وهذا جائز في الشعر العمودي


وذلك لان الشطر الثاني لا يعتبر بدايةً للكلام , أما الشعر الحر الذي يتكون من شطر واحد , فكل شطر فيه سوف يكون بداية كلام ومعلوم انه لا يجوز الابتداء بنصف كلمة فتطبيق التدوير في الشعر الحر يجعل السطر الشعري يبتدئ بنصف كلمة وهذا لا يجوز, وتضرب نازك الملائكة مثالا على التدوير في الشعر الحر أبيات من قصيدة جورج غانم الذي يقول فيها :

ترى يا صغار الرعاة يعود الــ
رفيق البعيد

فكلمة الرفيق انقسمت إلى قسمين , قسمها الأول في نهاية السطر الأول وقسمها الثاني في بداية السطر الثاني مما يجعله يبتدئ بنصف كلمة وهذا لا يجوز .

د- الضرب /
تقول نازك الملائكة "والأذن العربية لا تقبل في القصيدة الواحدة إلا تشكيلة واحدة "
والمقصود بذلك عدم جواز الخلط بين الأضرب في القصيدة الواحدة حتى لا يخالف موسيقى الأذن العربية , فمثلا البحر الكامل في عروض الخليل لا تبقى صورة ضربه على حالها , فقد يصيبه الحذف فتتحول بذلك من (متفاعلن)///5//5 إلى (فعلن)///5 أو إلى (فعلن) /5/5, وبالتالي على الشاعر أن يلتزم بهذه الصورة إلى نهاية القصيدة حتى لا تضطرب موسيقاه
وكذلك الحال في الشعر الحر, فإذا انتهى الشطر الأول بـ (فعلن) فلا بد أن تنتهي جميع الأضرب في السطر المتتالية ب (فعلن) , وبالتالي يكون شكل البحر الكامل في الشعر الحر كالتالي :
متفاعلن متفا ///5//5 ///5
متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفا ///5//5 ///5//5 ///5// ///5
متفاعلن متفاعلن متفا ///5//5 ///5//5 ///5

وقد انتقدت نازك الملائكة الأشعار الحرة التي تم فيها الخلط بين الأضرب في القصيدة الواحدة حيث وردت أشعارا على النمط التالي :
متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلان ///5//5 ///5//5 ///5//5 ///5//55
متفاعلن متفا ///5//5 ///5
متفاعلن مفعولن ///5//5 /5/5/5

وبذلك فإن "وحدة الضرب قانون جار في القصيدة العربية مهما كان أسلوبها : شطرين أو شطر ثابت الطول أو شطر متغير الطول من بحر صافٍ أو شطر متغير الطول من بحر ممزوج , وإنما الحرية التي نسلكها في حشو الشطر فليتدبر كل شاعرٍ هذا"

هـ- التفعيلات الفردية في الشعر الحر/

نلاحظ في شعر نازك الملائكة أن الحد الأقصى لعدد تفعيلات السطر هو أربع تفعيلات ليس أكثر, وقد عابت نازك الملائكة على استعمال التفعيلات ذات الأعداد الفردية(الخماسية - السباعية - التساعية ) , وذلك لان هذا العدد من التفعيلات لا يمكن شطره إلى نصفين , لأن هناك تفعيلة واحدة ستبقى وحيدة .
تقول نازك الملائكة :
"لعل هذه النماذج هي نفسها تخبرنا لماذا لم يرتكب العرب الوقوع في التفعيلات الخماسية , ذلك لأنها تبدو قبيحة الوقع عسيرة على السمع بحيث لا تحتاج إلى أكثر من إيرادها للتدليل على ضرورة تحاشيها ," وقد أوردت الملائكة على ذلك القول مثالا لبيت من شعر فدوى طوقان التي تقول :

صداقة حميمة تشدني إليك من سنين مفاعلن مفاعلن مفاعلن مفاعلن فعولن

ومن الغريب ذكره أن نازك الملائكة قد اعترفت بان لها قصيدة خماسية التفعيلات, ولكنها انتقدتها واعترفت بعم حبها لهذه القصيدة .
ولكن الدكتور عز الدين إسماعيل لا يرى في استخدام تلك التفعيلات أي ضرر طالما نتحدث عن الشعر الحر , فالشعر الحر شعر جديد يتمتع بمزايا جديدة تختلف عن الشعر القديم , فالشعر الحر شعر الشطر الواحد وليس شعر شطرين , وبالتالي ليس من الضروري أن يكون عدد التفعيلات زوجيا متساويا , وعلى هذا يمكن أن نقبل في السطر الشعري تفعيلة واحدة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع تفعيلات .
يقول الدكتور عز الدين إسماعيل :
" كما أنني لم أحس بشيء من هذا وأنا اقرأ قصيدة " طريق العودة "
لنازك الملائكة نفسها التي تقول :
وكنا نسميه دون ارتياب طريق الأمل فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعو
فما لشذاه أفل فعولن فعولن فعو
وفي لحظة عاد يدعى طريق الملل (3) فعولن فعولن فعولن فعولن فعو

فالبيت الأخير مكون من خمس تفعيلات دون الإحساس بأي نشاز في سماعه هذا وإن كنا نعلم بان هذه الأبيات تعود لنازك الملائكة صاحبة الأذن المرهفة فأين ذلك النشاز.

حتى أنا كثيرا نجد في الشعر الحر عدداً فرديا من التفعيلات وهو العدد واحد أي تفعيلة واحدة وبالتالي أين سيكون موقعها من باقي التفعيلات إذا أكدنا على ضرورة تساوي عدد التفعيلات .

و- الأصل في ضرب الرجز أن يصيبه القطع فتصير به مستفعلن "مفعولن", ولكن بعض الشعراء الجدد غيروا في ضرب الرجز بإصابته التذييل, وبذلك تصير به مستفعلن "مستفعلان".
وقد استثقلت نازك الملائكة هذه التفعيلة في ضرب الرجز وذلك لاجتماع ساكنان في نهايته واعتبرت ذلك نشازاً قائلة :
"يقع بعض الذين ينظمون قصائد على بحر الرجز في خطأ شنيع وهو أنهم يوردون تفعيلة "مستفعلان" في ضربه , ولا يقع هذا في الشعر العربي قط لأن الأذن تمجه"
وتفسر نازك الملائكة سبب وقوع الشعراء الجدد في هذا الخطأ الشنيع قائلة :
" لعل التعليل الوحيد له أن الشاعر الناشئ يسمع أن في الشعر الحر حرية فظن أن معنى تلك الحرية أن يخرج على العروض وقواعده"
وكذلك أن يورد بعض الشعراء تفعيلة فاعلن في ضرب الرجز مما يؤدي إلى الخلط بينه وبين السريع .
ولكني استغرب من رفض نازك الملائكة لتفعيلة "مستفعلان" دون غيرها من التفعيلات فإذا نظرنا إلى تفعيلة البحر الكامل "متفاعلن" بعد أن يصيبها التذييل فتصير به "متفاعلان" والتي تنتهي بساكنين أيضا , وبذلك فان متفاعلان لا تبتعد كثيرا عن مستفعلان , لذلك لا أرى أي ضرورة لنقد نازك الملائكة لتفعيلة "مستفعلان" .
كذلك وجدت في ديوانها بعض القصائد من بحر الرجز والتي انتهت بتفعيلة مستفعلان, ومن هذه القصائد قصيدة بعنوان "أغنية للحزن" التي تقول فيها
أفسحوا الدرب له,للقادم الصافي الشعور فاعلن مستعلن مستفعلن مستفعلان
للظلام المرهف السابح في بحر أريج فاعلن مستفعلن مستعلن مستفعلان
ذي الجن الأبيض السارق أسرار الثلوج فاعلن مستفعلن مستعلن مستفعلان
انه جاء إلينا عابر خصب المرور فاعلن مستعلن مستفعلن مستفعلان
انه اهدأ من ماء الغدير فاعلن مستعلن مستفعلان
فاحذروا أن تخرجوه بالضجيج (2) فاعلن مستفعلن مستفعلان
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على انتقاد نازك الملائكة لنفسها من خلا أشعارها .


أشكال القافية في شعر نازك الملائكة

لقد أكدت نازك الملائكة عي وجوب توفر القافية في الشعر الحر مثله مثل الشعر العمودي وذلك لما لها اثر موسيقي على الأذن العربية .
ولقد أبدعت نازك الملائكة في قوافيها كإبداعها في عدد تفعيلات شعرها الحر, فكما كانت تتلاعب في التفاعيل ها هي تتلاعب في القافية وأشكالها, ومن أشكال القافية التي وردت في شعرها:
ا- "المزدوج " وهو عبارة عن قافية موحدة بين الشطرين في البيت الواحد ومنهم من يجعل كل شطر لوحده أي متتالين ومثال ذلك قصيدتها شجرة القمر :
على قمة من جبال الشمال كساها الصنوبر
وغلفها أفق مخملي وجو معنبر
وترسو الفراشات عند ذراها لتقضي المساء
وعند ينابيعها تستحم نجوم السماء
ب- "المربع " وهو عبارة عن قصائد تكون فيها كل أربعة أبيات متتالية بقافية واحدة مثل قصيدة الشاعر "دعوة إلى الأحلام" التي تقول فيها :
تعال لنحلم ,إن المساء الجميل دنا
ولبن الدجى وخدود النجوم تنادي بنا
تعال نعبد ونعيد خيوط السنا
سنمشي معا فوق جزيرتنا الساهده
ونبقى على الرمل آثار أقدامنا الشارده
ويأتي الصباح فيلقي بآذانه البارده
وينبت حيث حلمنا وردة واحده

ج- قافية موحدة بين السطرين الأول والرابع وقافية أخرى موحدة بين السطرين الثاني والثالث , ومن أمثلة ذلك قولها في قصيدة "الأفعوان" من "المتدارك" :
أين امشي مللت الدروب ؟
وسئمت المروج
والعدو الخفيّ اللجوج
لم يزل يقتفي خطواتي,فأين الهروب

د- قافية موحدة بين السطرين الأول والثالث وقافية أخرى موحدة بين الثاني والرابع كقولها في قصيدة "مرثية يوم تافه" من "البسيط":
كان يوماً من حياتي
ضائعا ألفيته دون اضطراب
فوق أشلاء شبابي
عند تل الذكريات
هـ- قافية موحدة بين كل بيتين متتاليين الداخلية والخارجية ومثال ذلك قولها في قصيدة"الباحثة عن الغد" من "المتقارب" :
غدا نلتقي نبأ في الزمان روته الحياه
تلاشى ولم تروه شفتان تلاشى وتلاه
وجاء غد ثم ولى ومات وعاد ضبابا
فأين غدا نلتقي يا حياة أعادت ترابا
غدا نلتقي ثم مات الزمان وضاع المكان
وهل يلتقي أبدا عاشقان على لا كيان
و- "المسمط" وهو أن كل بيتين شطرين ينتهيان بقافية واحدة والشطر الثالث في كل القصيدة بعد البيتين المتشابهين له قافيته الموحدة ومثال ذلك قولها في قصيدة "نحن وجميلة" :
جميلة تبكين خلف المسافات,خلف البلاد
وترخين شعرك كفك دمعك فوق الوساد
أتبكين أنت ؟ أتبكي جميله؟
أما منحوك اللحون السخيات والأغنيات ؟
أما أطعموك حروفا ؟ أما بذلوا الكلمات ؟
ففيم الدموع إذن يا جميله ؟
هذه نبذة مختصرة عن بعض أشكال القافية في شعر نازك الملائكة .

تأكيد نازك الملائكة على وجوب القافية

لقد انتقدت نازك الملائكة بعض الشعراء المعاصرين الذين يهملون القافية في ولا يعتبرونها عنصرا هاما في الشعر الحر, يقول الدكتور السمان في ذلك :
"ليس في الشعر الحر التزاما بشيء إذ لا التزام في القافية" فهم يعلنون ثورتهم على القافية ويعتبرونها ضرر للشعر والشاعر, ورأيهم في ذلك أن القافية تسبب ما يلي :
1- تقيد الشاعر بمعاني هو في غنًا عنها ولكنه يأتي بها بغرض إتمام قافيته فحسب

2- أن الشاعر الملتزم بالقافية لا بد وان تنتهي ذخيرته من الكلمات المنتهية بنفس الروي , فيضطر إلى أن يأتي بكلمات مضطربة غير فصيحة لاستكمال قافيته ,

ولكن نازك الملائكة تقف موقفا معاديا من هذه الآراء وتنتصر للقافية وتبطل ادعائهم وذلك من خلال:

1- أن الأخذ بنظام القافية في شعرنا العربي الأصيل لا يعني الميل إلى المعاني المهملة لاستكمال القوافي, فهناك الكثير من أشعار فحول العرب ذات القوافي الموحدة والخالية من ذلك .
2- هناك أشعار عربية قديمة تجاوزت المائة والمائتان بيت وكلها مقفاة من غير وجود كلمات غير فصيحة.
3- مسموح للشاعر في علم العروض أن يكرر قافيته بعد كل سبعة أبيات إذا لم يجد قافية جديدة , وهذا أمر غير مُعاب في الشعر العربي .
وتدعو الشاعرة - بل تتمنى - أن يتمسك الشاعر المعاصر بالقافية ولا يتفلت منها؛ لأنها جزء أساسي من موسيقى الشعر لا يصح الاستغناء عنه. وفي هذا الفصل رصدت "نازك" بعض محاولات الخروج على القافية الموحدة بدأت منذ العصر الجاهلي، حيث نسب إلى امرئ القيس نوع من أنواع الموشح سَمُّوه "المُسْمَط" كان فيه خروج مبكر على نظام القافية الموحدة.

ويُعَدُّ حديث المؤلفة عن سيكولوجية القافية من أهم فصول الكتاب؛ حيث ترى أن تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي فني مُلِحّ، وتتحدث في هذا عن ثمة عوامل مهمة تجعل من القافية تلك الضرورة التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها الشعر. ومن أهم هذه العوامل:
1-أن القافية تُقَوِّي بصيرة الشاعر تَقْوِية عجيبة .
2- تفتح له الأبواب المغلقة الغامضة.
3- تقوده في دروب خلابة تموج بالحياة.
4- أنها تفتح كنوز المعاني الخفية، بل إنها تُنْبِتُ الأفكار.
5- تغير اتجاه القصيدة إلى مجالات خصبة مفاجئة.
6- أن القافية وسيلة أمان واستقرار لمن يقرأ القصيدة.
7- وجودها يُشعر بوجود نظام في ذهن الشاعر وبتنسيق الفكر لديه ووضوح الرؤية. وقوة التجربة

وهي في كل ذلك تأتي بنماذج شعرية تُدلِّل بها على رأيها وتقنع بها قارئها. وعلى سبيل المثال عندما تتحدث عن أثر القافية في شعر النضال والمقاومة تأتي بنموذج من شعر نزار قباني يقول فيه:

يا آلَ إسرائيل لا يَأْخُذْكُمُ الغُرور

عقارب الساعات إن توقفت لا بد أن تدور

إن اغتصاب الأرض لا يُخِيْفُنا

فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور

والعطش الطويل لا يخيفنا

فالماء يبقى دائمًا في باطن الصخور

هنا ترى "نازك" أن ترادف القافية يعطي إحساسًا بأن الشاعر مجهز بعزيمة صلبة لا تلين، فالقافية قتال ومصاولة، وهي تنزل على السمع نزول الرعود، وكل قافية قنبلة تنفجر في آخر الشطر.

وقد قارنت نازك الملائكة في انتصارها للقافية بين قصيدتين الأولى لصلاح عبد الصبور الخالية من القافية والثانية لنزار قباني المقفاة .
يقول صلاح عبد الصبور:
كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء
متعذبين كالآلهة
بالكتب والأفكار والدخان من الزمن المقيت
هناك الكلام,معنى المساء لحاجة,طال الكلام
وابتل وجه الليل بالنداء

ويقول نزار قباني :
ولمحت طريق الياسمين
في الأرض مكتوم الأنين
كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين
ويهم فارسك الجميل بأخذه متمانعين
وتقهقهين
لا شيء يستدعي انحنائك ذاك طوق الياسمين

تقول نازك الملائكة عن قصيدة صلاح عبد الصبور:
"كانت هذه القصيدة مرسلة من دون قافية , وقد افتقدناها ذلك جمال الوقع وعلو النبرة فأين هي من قصيدة نزار قباني" نلاحظ من خلال تمسك نازك الملائكة للقافية أنها تنجرف نحو الشعر القديم (الشعر العمودي) الملتزم بالوزن والقافية , فكيف تعتبر أن الشعر الحر هو شعر عربي جديد , فإذا اعتبرنا أن الشعر الحر هو الشعر العربي الجديد فلا بد لنا من الخروج من
فوهة الشعر التقليدي , ويُعقب الدكتور عز الدين إسماعيل على مقارنة نازك الملائكة بين قصيدتي صلاح عبد الصبور ونزار قباني بقوله :
"ومهما يكن من أمر فإنني أحس خالصا مخلصا أن آبيات صلاح عبد الصبور أوقع موسيقية من أيبات نزار"

حيث يرى الدكتور عز الدين إسماعيل أن التزام الشاعر في الشعر الحر بموسيقى القافية يفقد القصيدة الموسيقى الداخلة التي تتغللها , فالسامع للقصيدة المقفاة ينتظر متلهفاً لسماع الحرف الأخير من الشطر (الروي) وبالتالي فلن ينتبه للموسيقى الداخلية في القصيدة , كما أن قافية نزار قباني (ين)قافية ذات موسيقى صاخبة وفي المقابل فان الشعر الحر يمتاز بالموسيقى الهادئة الداخلية التي تخاطب حس وشعور وعاطفة السامع .
وفي نهاية حديثنا عن القافية عند نازك الملائكة نشير إلى قولها :
"والحقيقة أن مسألة القافية ركن مهم في موسيقى الشعر الحر لأنها تحدث رنينا وتثير في النفس أنغاما وأصداء وإن الشاعر المبدع هو الذي يلهِمه حسه الفني المواضع التي يتخلى فيها عن القافية والمواضع التي يلتزم بها فيها. وإن القافية ليست مجرد كلمات عابرة موحدة تروى، وإنما هي حياة كامل" .

















1- ديوان نازك الملائكة . المجلد الأول . ط2 1/10/1981.

2- ديوان نازك الملائكة . المجلد الثاني . ط2 1979.

3- قضايا الشعر المعاصر . تأليف: نازك الملائكة . ط2 بغداد 1965 . منشورات مكتبة النهضة .

4- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية . تأليف . د عز الدين إسماعيل . ط3 - دار الفكر العربي .

5- نقض أصول الشعر الحر . دراسة نقدية في العروض وأوزان الشعر الحر. تأليف : د . إسماعيل جبرائيل العيسى . دار الفرقان . ط1 1986 .

6- ملامح التجديد في موسيقى الشعر العربي . تأليف : د. عبد الهادي عبد الله عطية . جامعة الإسكندرية ط 1990 . دار المعرفة الجامعية -الإسكندرية .
7- العروض العربي صياغة جديدة . ج2 . تأليف : أ د. زياد كامل الخويسكي . د محمد مصطفى أبو شوارب . دار الوفاء - الإسكندرية .

8- (آراء الدكتور علي يونس في كتاب العروض الزاخر واحتمالات الدوائر) http://www.kathemalsahir.com/vb/showthread.php?t=90012

9- الخلاصة الثرية في علم أنغام موسيقى شعر العربية . تأليف: د. صادق عبد الله أبو سليمان .أستاذ العلوم اللغوية / جامعة الأزهر غزة . وعضو مجمع اللغة العربية المراسل بالقاهرة . 1429هـ . 2008م