الفصل الثاني والثالث - من كتاب قيم الأدب الإسلامي في إبداع البحراوي -بقلم د أميمة منير جادو-تقديم الشاعر د محمود خليفة غانم
تاريخ النشر : 2010-11-01
الفصل الثاني والثالث
من كتاب قيم الأدب الإسلامي في إبداع البحراوي
بقلم د/أميمة منير جادو
تقديم الشاعر د/ محمود خليفة غانم
الكتاب الحائز على جائزتي وزارة الثقافة وجمعية أحباء البحراوي
(في الدراسات النقدية الأدبية -جائزة حورس)


الدراسة التحليلية للأزجال الدينية
في ديوان " بستان الورد "
(رؤية نقدية أدبية وتربوية إسلامية)



تحليل الإهــداء:
بداية يلفت نظرنا الإهداء الذي كتبه شاعرنا المرحوم عبد الفتاح البحراوي في بداية الديوان ... ولعله إهداء خاص جداً يستوقفنا فهو يقول فيه:
" إلى الله .. الذي أحل العقدة من لساني وفقهني في قولي .. طالباً منه .. سبحانه أن يكون ديواني هذا علماً ينتفع به وعملاً أتقرب به إليه".
والإهداء واضح ليس بحاجة إلى شرح، الإهداء يعلن عن شخصية الشاعر إنه داعية إلى الله، إنه بداية يعلن هذا الإيمان العميق بالله وهذا التوجه بالشكر والحمد لله عز وجل وينطوي هذا الحمد على العرفان بنعم الله سبحانه فلولاه ما أنطقه بهذا البيان وفي النهاية يتمنى أن يكون هذا الإبداع عملاً وعلماً ينتفع به، فالبحراوي لا يقر هنا الفن للفن في حد ذاته منسلخاً عن القيم الرفيعة والمثل العُلا وإنما يبدع العمل الأدبي والفني العليا بهدف الارتقاء بالسلوك الإنساني عبر بث القيم الإسلامية الجميلة ... فهل يفعل الداعية الإسلامي غير ذلك؟
إن البحراوي بهذا المعنى لا ينطبق عليه القول:وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(الشعراء:224) فهو ليس في غيَّ أو ضلال وإنما ينطبق عليه  إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (سـبأ: من الآية37).
وليس بقدوة أعز من " حسان بن ثابت" شاعر الرسول() في هذا المجال.
فهناك من الشعراء المؤمنين المسلمين الموحدين بالله الذاكرين له ولنعمه ممن تفيض كلماتهم بعذوبة الإيمان وحلاوة الذكر، إن لكلماتهم معنى وأثراً يشيع الفضيلة ويرسخ الإيمان ويثمر في النفوس حلاوة الرضا والقناعة والسعادة واليقين بالله عز وجل.
إنه الشعر الهادف والكلمة الرفيعة والإعلام البَنَّاء والعلم النافع، ومعنى قول رسول الله(): " ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له". ولعل البحراوي كما نعرف عنه جميعاً ترك لنا الثلاث وهو خير ميراث يتركه الآباء لأنفسهم وللأبناء والأحفاد.....
إن هذا الإهداء اللافت للنظر بهذه الكثافة وهذا العمق إن دل على شيء فإنما يدل بداية على هذا التوجه الإيماني الإسلامي ثم يدعمه ما ورد في ديوانه (بستان الورد) مما يؤكد ويبرر فكرتنا حول (الأدب الإسلامي في أزجال البحراوي).
ثم هي محاولة للقراءة التأويلية والوقوف على هذا الأدب الإسلامي الرفيع المستوى في داخل النص الإبداعي الديني للبحراوي.
مع ملاحظة أن البحراوي لم يتوقف فقط عند الإبداع الديني وإنما امتدت أزجاله لتشمل الجوانب الاجتماعية والوطنية والنقدية والأغنيات أيضاً.
لكنه في جميع الحالات لم يخرج عن الهدف الأسمى للكلمة الضوء والطهر والبراءة والجمال والنقاء، وبعد الإهداء ينقلنا إلى عالم من عذوبة في رحاب الأماكن المقدسة، فينشدنا القصائد واحدة إثر أخرى لا تقل عنها روعة ومعنى، وسوف نتناول القصائد بنفس العناوين التي ذكرها الشاعر على النحو التالي:
1- رجعت لك يا كعبتي:
يفتتح الديوان بقصيدته "رجعت لك يا كعبتي" وهي مطولة تضم (سبعاً وخمسين بيتاً).
نلمح في القصيدة أشواق المسلم لبيت الله الحرام وأيضاً تؤكد أنها ليست الزيارة الأولى، إنها رغبة المسلم في الاستزادة من المغفرة والرحمة والقرب من الله عز وجل، ومن المعروف عن البحراوي أنه حج عدة مرات وكان يعتمر كل عامٍ منذ زار الكعبة أول مرة فقد ظل الحرم يناديه دوماً إلى أنواره المحمدية السرمدية كما كان يحدثنا وكما حدثتنا أشعاره أيضاً وكما أشار لهذا أصدقاؤه والمقربون منه.
يقول البحراوي:
بحبي وبشوقي وكل كياني
رجعت لك يا كعبتي من تاني

رجعت لك عطشان وشوقي ماليني
عشان أشاهد فيكِ عظمة ديني

وأملاً بهواكي وبجمالكِ عيني
وفي رحابك فرحتي تغذيني

حاجج وقاصدك يا كريم ترضيني
بالحج والعمرة فـ أعز سنيني

نلمح في الأبيات السابقة لهفة المسلم وشوقه لتكرار زيارة بيت الله الحرام، كما نستشعر مدى حبه وهواه وإيثاره لحب الله فوق كل محبة عداها، فالفرحة بالزيارة هي الغذاء الروحي والوجداني للشاعر ثم الدعاء لله عز وجل والخضوع والانتماء للواحد الأحد وتمنى رضاه خلال تلبيته هذا الغرض الروحي الاجتماعي المقدس.
ثم تؤسس القصيدة في بقية الأبيات لمناسك الحج فيذكر شعائره جميعها في أسلوب سهل عذب ممتع وشائق ، كما يدل على سعة أفق وثقافة الشاعر الدينية ووقوفه على مضامين وأهداف هذه الشعائر التي يؤديها ... إنه لا يؤدي الطقوس مجرد أداءٍ أجوف غير واضح المعاني بل هو يقف على كل المعاني التي تنطوي عليها كل مَنّسَك ديني من مجموع مناسك الحج..
إنه يذكر (الإحرام) بداية فيقول:
رجعت اصلي فـ (حِجْر إسماعيل)
و (الحِجْر) رمز الطاعة والتبجيل

يوم ما امتثل لأبيه بصبرٍ جميل
ابن الخليلِ الحر .. نسبه أصيل

في البيتين السابقين يوضح أن امتثالنا للطاعة في السنة النبوية من حيث الصلاة في (حجر إسماعيل) إنما هو جزء من امتثال الفتى (إسماعيل) عليه السلام طاعة بين يدي أبيه إبراهيم عليه السلام عندما رأى في المنام أنه يذبحه فرد عليه هذا الرد الجميل المأثور:  قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(الصافات: من الآية102).
إنه قدوة للأبناء في مدى الالتزام بطاعة الآباء، حيث لا يوجد ما هو أكثر من "الذبح" الذي امتثل له إسماعيل وهو مشهد في غاية التأثير والروعة والتكثيف التربوي لعلاقة الابن بأبيه، ومما يجب أن يجبل عليه الأبناء بعيداً عن صيحات الادعاءات التربوية الصهيونية والأمريكية التي تدعو لتمرد الأبناء على آبائهم لتفكيك الأسرة المسلمة تحت دعاوي الحرية المزيفة بما تنطوي عليه من انفلات خلقي وفوضى في القيم التي تهدم كيان المجتمع المسلم بأسره.
ثم يقول البحراوي متابعاً تقديم أسرة إسماعيل:
وأمهُ (هاجر) تبقى بنت النيل
وف صلبه كان (المصطفى) قنديل

إننا نفهم بدون تصريح أو مباشرة أن السيدة هاجر (مصرية) مما دل عليها كلمة (بنت النيل) كما نفهم امتداد النسب إلى رسول الله() التي أفادت به كلمة (المصطفى).
فهو النسب الذي جمع بين الأصالة المصرية والأصالة النورانية الطاهرة حيث جذوره وامتداده لآل بيت النبوة.
يؤسس الشاعر لأحد المناسك المقدسة فيقول متابعاً:
يا زمزم الشهد الشهي سلام
من مصر أم الدنيا والأهرام

ياما شفيتي بإذن ربي آلام
ياما رويتي (بعنبرك) أعلام

يؤكد على أهمية الشُرب من مياه بئر زمزم بل يؤصل لفكرة أن في مائها الشفاء بإذن الله وهو مأخوذ عن حديث رسول الله() في التداوي والشفاء من الشرب والاغتسال بماء زمزم فهي مياه مقدسة عظيمة وكم ارتوى منها عظماء لا يعظمون على عظمتها، إنه التواضع والالتفاف عند ماء البئر المقدسة (لا فرق بين عظيم الشأن أو فقير أو بسيط .. كلهم يجتمعون حولها).
ثم يستطرد الشاعر لتأصيل أهمية هذه الماء المقدسة (زمزم) تاريخياً فيقول:
من عهد (إسماعيل) وهو غلام
وأمه (هاجر) زينة الإسلام

لما سعيت والسعي رمز حنان
وبحبي وبشوقي وكل كياني

رجعت لك يا كعبتي من تاني
إنه يذكرنا بـ (سعى) السيدة هاجر عليها السلام لهفة وشوقاً على إرضاع طفلها في الصحراء وهي وحيدة ومدى حنانها عليه الذي لولاه ما تفجرت زمزم بين قدمي الرضيع إسماعيل (عليه السلام) رحمة من الله عز وجل بها .. وكأن الشاعر يؤكد أن الأمومة وهي أصدق عاطفة وأنبلها بما تنطوي عليه من حب وحنان إنما تستجيب السماء لها ، فإرادة الله ترحم من يتوسل إليها بصدق ورجاء وخضوع وكما نقول: يا من يجيب المضطر إذا دعاه.
ويواصل البحراوي لتوثيق المكان المقدس فيقول:
رجعت (للأسعد) أبوس واتمنى
وأدعي ربي واحمدهُ واتهنى

واسعد بقربه وبلقاه اتغنى
| مثل الجدودِ كان النبي له (بنَّا)

إنه تأصيل للحجر المقدس وهو الحجر (الأسعد) ويفيد الجناس في جمال اللغة فكلمة الأسعد الأولى تعني الحجر الأسعد، وكلمة (الأسعد) الثانية تفيد معنى الفعل من السعادة. ثم يشير إلى أن النبي () هو الذي بناه، ويشير إلى عملية التبرك من تقبيل الحجر المقدس (الأسعد).
ثم يوضح الشاعر لماذا يقدس المسلمون "الحجر الأسعد" ويسعون للتبرك به بالمسح عليه أو تقبيله فيقول:
شاهد علينا .. جاي لنا م. الجنة
ولو بإيدي .. لاحضنه وأستنى

وإن شا لله حتى يقولوا
عني أناني .................... الخ

يتضح لنا أنه مُنزَّل من الجنة من عند الله عز وجل من سماواته العُلا، وهو يشهد علينا منذ وُضع هكذا وبناه الرسول() في الكعبة المشرفة ومن المعروف أن الحجيج يتدافعون للوصول إلى الحجر الأسعد عند الطواف رغم الزحام الشديد وأنه مذكور بالأحاديث النبوية الشريفة والقدسية فإن من مسح عليه أو قبله يغفر له ذنبه، ولذا فإن التزاحم والتدافع عليه شديد ولذا قال الشاعر هنا (حتى يقولوا عني أناني) فـ إن الأنانية هنا إنما هي أنانية مستحبة ومحمودة وليست مذمومة لأن كل حاج مسلم يود أن يتقرب إلى الله ويود أن يغفر الله له ذنوبه وأن يفوز بجنته.
وينتقل الشاعر لمنسك آخر من مناسك الحج والعمرة وهو "السعي بين الصفا والمروة" كما سعت السيدة هاجر بحثاً عن ماء لإرضاع إسماعيل (عليهما السلام).
يقول الشاعر:
إن الصفا والمروة .. في الآيات
ومن شعائر رافع السموات

في الحج والعمرة .. ننول بركات
في السعي ما بينهم كثير نفحات

ويستجيب المولى للدعوات
بعد التطوف قص للشعرات

وبالسبع أشواط سعدت إيماني
وبحبي وبشوقي وكل كياني

رجعت لك يا كعبتي من تاني
يشير الشاعر في الأبيات السابقة إلى البركات التي ينالها الحاج من سعيه بين الصفا والمروة من استجابة الله للدعاء وتكفير ذنوب العباد.
يشير إلى الحلاقة أو قص الشعر بعد الانتهاء من السعي كشعيرة أخرى من شعائر الحج يرتبط بنهاية السعي ويشير إلى عدد الأشواط وهم (سبعة) إحياءً لذكرى الأشواط السبعة التي قامت بها السيدة هاجر في السعي بين الصفا والمروة والقصة معروفة للجميع.
ينتقل الشاعر بنا عبر المكان في القصيدة ليشير إلى مكان مقدس آخر وهو غار ثور فيقول:
يا غار ثور .. يا حصن للأحرار
آمن وهادي .. ع النبي المختار

الله مع (الصديق) وأبو الأنوار
الله ثالثهم كان يا غار ستار

أُغشي القلوب العفنة والأبصار
يا غار وجينا مع الحجيج زوار

عشنا وجينا بإذن من الرحمن....الخ
والشاعر يذكرنا بـ "غار ثور" وهو الغار الذي هداه الله إليه ليختبئ فيه مع صديقه "أبو بكر الصديق" صديق رحلة الهجرة مستلهماً من القرآن والحديث النبوي الشريف كيف كانا بالغار يتناجيان فيخشى أبو بكر هجوم الكفار عليهما فيطمئنه رسول الله() بما أثر عنه. " ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ثم يؤكد الشاعر أن الله حماهما في غار ثور وأعمى الأبصار عنهما رغم وقوفهما أمام باب الغار وانقطاع أثر الأقدام عنده، والقصة المعروفة لدى الجميع حيث باض الحمام وعشش العنكبوت ونسج خيوطه وهي غنية عن الذكر.
إن الشاعر يذكر وقائع الحج الحالية وعبر التذكر والاسترجاع يطرح هذه الذكريات التاريخية التي تثير الحنين والرهبة وتشعل الوجدان بالانتماء لله عز وجل واحترام مقدساتنا الدينية لما شهدته من عظمة إلهية وإنسانيةوتاريخية. إنه يقدم لنا المنسك الديني وعبر الاسترجاع (تكنيك الفلاش باك بلغة الفن) يقدم لنا التفسير والتعليل لأداء هذا الطقس حتى يفرق بينه وبين العبادات الوثنية الجوفاء التي يؤديها الكافرون بلا تفسير منطقي مقنع للعقل أو الوجدان.
وها هو يرحل بنا عبر القصيدة في أجواء مقدسة أخرى وكأننا نطوف مع الشاعر (البحراوي) عبر رحلة مقدسة فهو يأخذنا ليقف بنا فوق جبل عرفات ليؤكد كيف يهون العمر في هذه اللحظة أو ليقول إن اللحظة هنا تساوي عمراً بأكمله لما فيها من نفحات روحية رائعة فيقول:
العمر لحظة فوق (جبل عرفات)
تتجلى فيها الرحمة والنفحات

يتباهى بينا ... رافع السموات
وتتبدل لينا الذنوب حسنات

(الحج عرفة) في الحديث بالذات
وعليه يكون (القصر) في الصلوات...الخ

وعندما نقرأ الأبيات السابقة نتذكر قول شاعر سابق:
ويهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعاً

فها هي اللحظة فوق عرفات تساوي عمراً كاملاً.. وها هي مواضع الأرض جميعها قد تهون إلا من أماكنها المقدسة مثل: جبل عرفات، والمسجد الحرام، والأقصى، والكعبة المشرفة، ومسجد رسول الله، وغيرها..
إن الشاعر يستلهم من الحديث القدسي كيف تتباهى الملائكة بالحجيج وكيف يتباهى الله عز وجل بهم فيبدل ذنوبهم إلى حسنات.
كما يؤكد أن الوقوف بعرفة هو ركن أساس من أركان الحج حيث يقول المصطفى() (الحج عرفة) ويطول تأثر الشاعر بالوقوف بعرفات وتأخذه الرهبة والرغبة معاً مؤثرة في وجدانه وبتفكيره فلم يزل يخبرنا:
الوصف فوق (عرفات) بديع فتان
يشبه لفل أبيض على الأغصان

وحدة قلوب مليانة بالإيمان
متعشمة في واحد .. أحد رحمن

أو قول كيوم الحشر بالأكفان
عبادة واحدة .. والحجيج ألوان

الملك ملكك يا عظيم الشان.... الخ
إنه يصف مشهد الحجيج فوق جبل عرفات كأنهم زهرات فل متراصة فوق أغصان متجاورة، وكلهم يجتمعون على حب الله والرجاء لديه وهو مشهد جمالي فيه الرغبة، أما المشهد الآخر فهو يصورهم وكأنهم في يوم القيامة وقد قام الجميع لتلبية نداء الحق في أكفانهم البيضاء وهو مشهد (رهبة) وعظة وتذكرة بيوم الآخرة حيث لا يشفع للإنسان إلا عمله الصالح وفي النهاية فالملك كله لله وحده...
كما يشير البيت الأخير إلى اجتماع الأجناس المختلفة على أداء فرض من فروض الإسلام وهو (الحج) والذي يأتي إليه المسلمون من أقصى الأرض وأدناها وشمالها وجنوبها ومن كل لون توحدهم وتجمع صفوفهم كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) رغم اختلاف لغاتهم أيضاً.
يتوجه الشاعر بالدعاء من قلبه والتكبير عند المشعر الحرام فيقول:-
يا مشعر الله الحرام .. سلام
من عبد خاشع .. ذاكر العلام

لما تجلى .. الذكر له إلزام
الله أكبر منتهى الإكرام

يا رب حقق للوطن أحلام
بنصر من عندك وبعد سلام

إنه يؤكد على أهمية ذكر الله، وخشوع العباد لرب العباد، ويدعو للوطن بالنصر من عند الله والسلام. ثم ينتقل الشاعر في رحاب الله ويطوف بنا إلى أرض المزدلفة فيقول:
يا أرض (مزدلفة) وجينا ليكي
مغفور ذنوبنا من كريم يحميكي

جمعنا مغربنا وعشانا فيكي
خدنا الحصى لأبليس من أراضيكي

أمسينا ليلتنا وبتنا عليكي
ودعينا رب الكون نعود ونجيكي...الخ

أنه يشير إلى قداسة أرض المزدلفة حيث يبيت الحجاج فيها يدعون الله بأن يغفر ذنوبهم ويرحمهم، ويجمعون من أرضها الحصى لرمي أبليس (الشيطان) بالجمرات وهو ما يعرف ركن (الرجم لأبليس) وهو إشارة لمقاومة الإنسان لهوى نفسه وشيطانها والتطهر من الذنوب والمعاصي التي يدفعه أبليس الرجيم لها.
ثم ها هو الشاعر يعتلي جبل (مِنى) للرجم فيقول:
وبالأماني يا (مِنى) اتهنينا
رجمنا فيكي الشيطان بادينا

وذبحنا فيكي فدونا وهدينا
قصرنا فيكي شعرنا وقصينا

رغم المشقة يا(مِنى) اتمنينا
الله أكبر يا (مِنى) هلينا

ليلتين بكل الحب والإيمان...الخ
يذكر الشاعر المشقة والصعاب التي تواجه الحجيج والمعاناة لكن هذا كله يهون في سبيل الجزاء الأعظم والفوز من عند الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والتوبة والتقبل..
ويشير الشاعر إلى طقس الذبح والفداء الذي يثير فينا ذكريات فداء سيدنا إسماعيل بالذبح العظيم كما ورد بالقرآن، إن المسلمين ما زالوا ينهجون هذا النهج فهي سنة مقدسة ومن بين شعائر الحج وأركانه الأساسية، وحيث يوزعون الأضحية على الفقراء، وينالون بر الله ودعواتهم لهم ويشير إلى التقصير وقص الشعر بعد الانتهاء من أداء هذا الطقس.
يعود الشاعر لتمجيد بيت الله الحرام (الكعبة) وتعظيمها وبيان جمالها وقدسيتها فيقول:
يا كعبة يا أعظم .. بناء وأساس
يا كنز ربي والحجيج حراس

والقمة والعظمة في عيني ماس
يا عظمة والعظمة شعور إحساس

يا رابضة شاهدة بالطواف للناس
يا سايعه بالحب العظيم أجناس

النظرة ليكي عبادة للرحمن
ويختم الشاعر القصيدة المطولة الرائعة بالدعاء للأهل والأصحاب والأحباب والوطن الغالي والنصر على الأعادي فيقول ويرجو الله:
يا رب بيها يتوعد الاحباب
وكل من وصاني م الأصحاب

يا رب بلدي وانفتاح لابواب
وكون على العاصي كريم تواب

يا رب وانصرنا على من عاب
قبل التراب ما يضمني واكفاني

وبحبي وبشوقي وكل كياني
رجعت لك يا كعبتي من ثاني

وهكذا يختم الشاعر قصيدته بصيحة إنذار وحيث يعظ نفسه قبل الناس وقبل فوات الأوان وحيث لا ينفع الندم فالنهاية الحتمية لكل البشر هي الكفن والتراب، وكأن الشاعر يخبرنا أن نغتنم الفرصة من الآن وأن نعمل لآخرتنا من الآن حيث لا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح.


2- ميلاد الرسول عليه الصلاة السلام :
وفي قصيدة ميلاد الرسول() يشير البحراوي إلى إعجاز الخالق سبحانه وتعالى حيث لا يبدأ قصيدته بميلاد الرسول مباشرة وإنما هو يؤرخ لميلاده منذ عهد آدم عليه السلام وكيف كان بظهر الغيب معلوماً عند رب العرش العظيم فيقول:
حتى شوفوا سيدنا آدم ....
كان ما يعرفشي المخبي ....

لما أغواه اللعين ....
الشيطان المستخبي ...

قال: يا رب بحق طه ....
مصطفاك اغفرلي ذنبي....

مين يا آدم اللي دلك....
ع الشفيع الهادي حبي ....

يا إلهي وبعظمتك ....
لما سويتني يا ربي ....

اسم طه جنب اسمك ....
نور في عرشك شافه قلبي....

كما أنه يشير إلى شفاعة رسول الله للمسلمين منذ عهد آدم، أن آدم أبو الأنبياء وأول خلق الله عندما عصى خالقه بإغواء الشيطان اللعين فقد استغفر ربه وتمنى شفاعة رسول الله وقد قرأ على عرش رب العزة (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
إن عبارة الشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) مذكورة في الأثر وفي الأحاديث القدسية بأنها مكتوبة بحروف من نور على عرش المولى جل وعلا.
كما نلحظ أن الثقافة الدينية العالية للبحراوي قد لعبت دورها في كل إبداعاته حيث يوظف المعلومة المناسبة في الموضع المناسب لها من القصيدة.
والقصيدة التي بين أيدينا مؤلفة من ثمانية وستين بيتاً قد أبدعها الشاعر في رحاب المسجد النبوي الشريف عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين، كما أشار إلى ذلك في الديوان، وهنا نلحظ كيف لعب (المكان) دوره في الهام القريحة الإبداعية لشاعرنا – يرحمه الله - ، إن البحراوي كان بالمدينة المنورة حيث المسجد النبوي الشريف ولذا فإن الصدق المعنوي يتسق والصدق الفني لديه مما يمنح القصيدة قوة التأثير في السامع وحيث لا يمكننا فصل المناخ النفسي للشاعر عن المناخ المكاني الإبداعي.
ويستكمل البحراوي إبداعه وتأريخه لميلاد الرسول() أو كأنه يحكي لنا الحكاية منذ البداية فيحملنا عبر أجواء التاريخ المقدس ليؤكد لنا أنه() من سلسال الأنبياء الطاهر المنير منذ عهد سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل الذبيح فيقول في الأبيات مشيراً إلى هذا المعنى:
سار في صلب الأنبياء ....
نور في جده إسماعيل ....

اللي طاوع وبإرادة ....
حلم سيَّدنا الخليل ....

وامتثل للذبح لكن ....
رحمته مالهاش مثيل ....

وافتداه مولاه بكبشه ....
لاجل يبقى لنا الدليل ....

لاجل تبقى لنا يا طه ....
الشفيع في المستحيل ....

المحسب المنسب ....
طاهر السلسال أصيل ....

ويثير البحراوي في الأبيات السابقة عدة قيم تربوية أصيلة وجميلة لعلنا نفتقدها في الوقت الحالي ففي كلمة (اللي طاوع وبإرادة) تعني قيمة طاعة الأبناء للآباء واحترامهم لهم وبإرادتهم وليس كرهاً أو رغماً عنهم، وإن هذه الطاعة والامتثال لم تكن – في الوقت نفسه – طاعة في أمر هين أو قليل ، فإن الوالد (سيدنا إبراهيم) لم يطلب من الابن (سيدنا إسماعيل) طلباً عادياً أو متواضعاً يستطيع أن يلبيه له بل كان طلباً مستحيلاً وتكمن استحالته في أنه يتعلق بحياته لأنه رأى في المنام أن يذبحه، وكما نعلم أن رؤيا الأنبياء حق ...
وعلى الرغم من أن الموقف يعد بمثابة اختبار إلهي من رب العزة جَلَّ شأنه وعلا، إلا أن الصبي إسماعيل – في هذا الوقت – لم يكن يعرف ذلك، أنه في الحقيقة أطاع أمر أبيه وامتثل للذبح وكما ورد في القرآن الكريم فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (الصافات:103) حينذاك أدركته رحمة الله سبحانه وتعالى وأنزل عليه كبشاً من السماء فداءً له، وكأن الله يثبت للناس أن رحمته هي جزاء الصابرين المطيعين البارين بأهلهم ... إنها قيمة عُليا يثبتها القصص القرآني ويربطها البحراوي في إبداعه بالتفاؤل والثقة في الله عز وجل وحيث شفاعة الرسول() للمؤمنين قد تصل إلى حد لا يتخيله الإنسان بشرط التقوى، هذه الشفاعة قد تصل لحدود ما يظنه العبد مستحيلاً، لكن رحمة الله أكبر من هذا المستحيل.
ثم يعود البحراوي – يرحمه الله - عبر الأبيات التالية ليقودنا إلى قصة أخرى ربما لا يعرفها الكثيرون من العامة وهي نذر عبد المطلب (جد النبي()) أيام الجاهلية بأن يذبح عبد الله (الذبيح الثاني) في تاريخ الرسالة وعبد الله هو والد الرسول (). وهي قصة شهيرة(*) قبل ميلاد الرسول ويعود عهدها لجده عبد المطلب مع أبيه عبد الله (والذي لم يره عند ميلاده). فمن المعروف أن الرسول() ولد يتيماً.
فيشير البحراوي إلى هذا الافتداء الذي كان سبباً في وجود النبي() لأن عبد المطلب (الجد) لو لم يفتد ابنه (عبد الله) والد سيدنا محمد ما وُلد الرسول. ولذا سمي الذبيح الثاني بعد الذبيح الأول (سيدنا إسماعيل).
وكأن البحراوي يلفت نظرنا – تاريخياً – أن وجود سيدنا محمد() في الحياة إنما هو وجود غالٍ ونفيس وعزيز وعظيم وقد افتدى الله بهذا الوجود الذبيحين العظيمين الأول وهو (إسماعيل النبي) أو جده الأعلى والثاني وهو (أبوه) نفسه وكان من أشراف قريش ومكة وقد تم افتداؤه بإبل كثيرة وعظيمة، يقول البحراوي مشيراً لهذه القصة:
وألا يوم الندر(1)لما ....
جده كان نادر(2) أبوه ....

(الذبيح الثاني ) لما ....
بالإبل قاموا افتدوه ....

افتدوه لاجل البرايا ....
وفـ حمى الرحمن راعوه ....

نور في (عبد الله) منور ....
عند (آمنة) هناك صانوه ....

ويشير في الأبيات إلى النور الذي كان يُرى دائماً في جبهة عبد الله والد
الرسول() أينما سار ولم يكن أحد يعلم ما سر هذا النور في جبهته إلا عندما وضعت آمنة (أمه) طفلها سيد البرية محمد()، فقد زال هذا النور لينزل من جبهة عبد الله لينير الأرض كلها وتشرق شمس الوجود.
والتاريخ يقول لنا أنه ولد يوم الاثنين في ساعة شروق الشمس وهذا الارتباط بين ميلاد الرسول () وبين شروق الشمس لم يأتِ صدفة ولا اعتباطاً ولكنه من آيات الله عز وجل ودلائل قدرته وإشاراته العظيمة إلى أن ميلاد هذا الطفل يعني شروق شمس الوجود على العالمين جميعاً.
ثم يكمل البحراوي مشيراً إلى رضاعته () عند حليمة وكيف حل الخير عليها وأهلها وبيتها وقبيلتها وأخيه معه في الرضاعة الذي كان يرضع معه ويفيض لبنها عليهما ويكثر لدرجة تدعو للدهشة.
يقول البحراوي (يرحمه الله):
في الرضاعة حليمة قالت ....
كان رحـيم دايمــاً باخــوه ....

وينتقل الشاعر إلى موقف آخر من مواقف الرسول ويختصر لنا عبر الأبيات الكثيفة قصة رفع الحجر الأسود عندما اختلف عليها البعض فقالوا: نُحَكَّم أول من يهل علينا، فلما أهلَّّ رسول الله() قالوا: حكَّمِنْا الصادق الأمين، وارتضيناه حَكَماً لنا وهي قصة معروفة،(*) يقول الشاعر:
والا يوم الكعبة لما ....
في خلافهم حكموه ....

احمدوا الهادي اللي صانه ....
للبرايا ووحدوه ....

اشكروه في عيد ميلاده ....
من قلوبكم واذكروه ....

ثم تفيض مشاعر البحراوي وروحانيته في رحاب الرسول – وفي المدينة المنورة حيث عاش وحيث هاجر وحيث يقبع المسجد النبوي – وتفيض عذوبته ويستأثر به الإيمان والتقوى حتى يشعر بالعجز عن الاسترسال في القصيدة أو أنه لن يستطيع أن يوفي صاحبها حقه، هذا العجز نلمحه في الأبيات التالية:
يا حبيب القلب قلمى ....
مش مهاودنى الكتابة ....

نفسي اغني يوم ميلادك ....
مش مهاوداني الربابة ....

لو راح اكتب مش ح اوفي ....
حق واحد م الصحابة ....

شوف بقى انت يا حبيبي ....
الكلام فيك له مهابة ....

الكلام فيك يا شفيعي ....
يشفي أمراض الغلابة ....

الكلام في آل بيتك ....
بيزيد الإنسان قرابة ....

يا حبيب العاشقين ....
قلبي بيك مغرم صبابة ....

عندما نقرأ الأبيات السابقة نستشعر عجز القلم لدى الشاعر، وما القلم إلا أداة تسطر ما توحي به القريحة فإذا كان القلم عاجزاً فإنه يعني عجز قريحته عن إنشاء كل ما يتمناه، إنه عاجز أمام فيض مشاعره التي تسكنه ولا يدري كيف يعبر بها، حتى "الربابة" تستعصي على المهاودة لتخرج اللحن العظيم المناسب، في هذه الذكرى الخالدة (ذكرى مولد الرسول()، ويحاول الشاعر أن يقرب لنا هذا الشعور بالعجز فيعقد مقارنة تقريبية بأنه لن يستطيع أنْ يوفي فقط لواحد من الصحابة فما بالنا بالرسول() ؟؟ أنه فيض المشاعر وقوتها وهدرها في مقابل عجز اللغة وقصورها لعظمة الموقف وصاحبه.
وينتقل بنا الشاعر إلى محاولة لتوصيف هذه المشاعر التي يشعر بها، وهي نقلة تلقائية ومنطقية تعلل عجز اللغة – السابق ذكره – لدى الشاعر. فيقول:
لو سألت القلب عنك ....
دمعي بيرد الجواب ....

واما أعيش في حسن سيرتك ....
والا في النور اللي طاب ....

وألا في رحابك يا غالي ....
أدعي ربي يستجاب ....

وفـ شمايلك وفـ جمايلك ....
التقى العجب العجاب ....

وألقى همي انزاح وغمى ....
في رحابك عني غاب ....

نستشعر من الأبيات السابقة مدى غزارة مشاعر الحب والصدق والإخلاص والنقاء لدى الشاعر تجاه رسول الله()، أنها تصل من فيض الحب والشوق إلى حد البكاء ومن المعروف أن الإنسان لا يبكي إلا من فرط حزن شديد أو فرح شديد أو شوق شديد إن البكاء هو نوع من التطهر عادة فما بالنا بالبكاء في حضرة ذكر الرسول() ؟
إنها حالة من الوجد والصوفية والنورانية يعيشها الشاعر فتمتلك عليه مشاعره وأحاسيسه وتأخذ بمجامع قلبه فيغشاه النور ويشعر أن دعوته مستجابة، وأن الله راضٍ عنه فيستجيب لدعوته وكأن الله عز وجل يجعل له آية فيقول له: ها أنت يا عبدي تحبني وتحب رسولي فأنا أحبك وأنت تتقرب مني فأنا أتقرب منك أكثر فهذه دعواتك ألبيها وأجيبك وهذه دلالة واضحة على الحديث القدسي المعروف عن علاقة العبد بربه، فعندما يقترب العبد من ربه بالصلاة والنوافل وذكر الله والصلاة على رسوله والإكثار من كل العبادات التي تقرب العبد من الله فإن الله يحبه وينادي في الملائكة أن أحبوا عبدي هذا ويرفعه الله عنده لأعلى الدرجات ويصير أقرب إليه من حبل الوريد فإذا دعا الله استجاب الله لدعوته ...
فإن تلبية الدعاء من الله عز وجل للعبد ليست بالأمر السهل أو الهين لكنها ذات دلالات عميقة وأبعاد إيمانية عظيمة تنطوي على إيمان هذا العبد وتقواه ومدى قربه من الله ورسوله وحبه للإسلام في منتهى الإخلاص ولذا فليس من الصعب أن نصدق هذه الحالة التي وصل إليها الشاعر وكأنه وقف على سر من أسرار الوجود الإلهي فيرى كما يقول (العجب العجاب) أنه لا يذكر لنا تفصيلاً ما العجب العجاب ؟ لكنه يكتم سره الروحي في نفسه ويشعر بالراحة والطمأنينة والأمان ( وألقى همي انزاح وغمى) إنها الراحة الإيمانية المنبثقة بتقوى الله وذكره وحب رسوله() وألا بذكر الله تطمئن القلوب وذكر الله لا ينفصل أبداً عن ذكر رسول الله() لأنه حبيبه وصفيه وخليله وشفيعنا يوم الحساب.
ويبدو أن نفس الشاعر الطيبة قد اعتادت محبة رسول الله() وصار أقرب إليها من كل شيء فهو الحبيب الغالي الذي يفتقده ويوحشه ويحن إليه ويعاوده الرجوع (في العمرة(*)والحج) لأنه لا يطيق فراقه ولا يطيق بعاده فيشد الرحال إليه، ويقول في هذا المعنى:
وأما أغيب عنك يا روحي ....
ألقى قلبي شاب وداب ....

وألقى نفسي معذباني ....
والدموع في الانسياب ....

وابقى محتاج طير يشيلني ....
أو ياخذني م العذاب ....

والعذاب في البعد أرحم ....
عندي من طول الغياب ....

والغياب شيء غصب عني ....
يا رحيم عند العتاب ....

نفسي اعيش خادم في قربك ....
قبل ما يفوتني الشباب ....

يا رؤوف ارأف بحالي ....
يا شفيعي في الحساب ....

من الملاحظ أيضاً في الأبيات السابقة أن الشاعر يناجي الرسول() وكأنه عاشق محب لا يطيق الفراق ونار الوجد والبعد والعذاب، وبالتالي لا يطيق غيابه عنه طويلاً فيشعر بحاجة للحرية أو للطيران من بلاده (مصر) ليذهب إليه في (الحجاز) (وأبقى محتاج طير يشيلني)، وعندما نقرأ هذا البيت نستشعر مدى الرغبة والشوق في زيارة رسول الله() فإن الإنسان عندما يستشعر التعب الشديد أو الإرهاق وهو في مكانٍ ما بعيد عن أهله مثلاً أو في غربة فإنه يقول بالعامية المصرية (نفسي أغمض عيني وأفتحها أو طائرة تحملني الآن وألاقي نفسي جوه بيتي أو على سريري لأرتاح).
إن تعبير الشاعر قريب من هذا المعنى لكنه أبلغ وأعمق وأعذب، إنه يبحث عن طير مسافر يحمله لبلاد رسول الله()، وهو يشعرنا بأنه مضطر للبقاء في بلاده فيقول (والغياب شيء غصب عني) ذلك لتباعد المسافة بين موطن الشاعر في مصر، ومسجد الرسول أو بلاده في السعودية، إنه لا يريد مجرد الحج والعمرة لكن يتشوق ويتمنى لو صار خادماً في قربه، وفي هذا الخضوع والذل ما يذكرنا بالدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا لكَ) ذلك أن الذل لله هو العزة في الحقيقة والذل الحقيقي هو الذل لغير الله كذل العبد للعبد وللمادة والشهوات ... الخ
لذلك فقد تمنى الشاعر هذا الذل العزيز الشريف الرفيع المقام حين قال في مناجاته للرسول():
نفسي أعيش خادم في قربك ....
قبل ما يفوتني الشباب ....

ولقد كان اختياره كلمة الشباب اختياراً موفقاً لأن الشباب يعني الفتوة والقوة والشاب هو الأقدر على تحمل مسئوليات الحياة وتبعاتها بما تؤهله حيوية الشباب لذلك، إنه يريد أن يفعل ذلك ويتمناه في قوته وفتوته قبل أن يفوت الأوان ولا يصبح قادراً على هذه الخدمة التي تعز وتعلى من قدره عند الله سبحانه وتعالى.
وينتقل الشاعر إلى أبيات أخرى ويشير إلى معنى آخر من معاني العجز والقصور في رحاب وصف الرسول() وصفات أخلاقه وجمالها وكمالها حتى يعجز عن وصفها فيقول:
يا حبيبي يا محمد ....
نفسي أطوف عندك وأجول ...

نفسي أحكي عن صفاتك ....
فكري عاجز في الوصول ....

في الشريعة والمبادئ ....
سنتك حجة وأصول ....

والكمال وبيحكي أنه ....
من كمالك يا رسول ....

والجمال والحسن منك ....
من جمالك مين يطول ؟....

والأمانة من أمانتك ....
يا أمين فعلاً وقول ....

والبشارة والطهارة ....
والنضارة والوصول ....

واللي زارك في ديارك ....
يا هناه نال القبول ....

إنه يرصد بعض صفات الرسول: الحكمة وقواعد الحياة وأصولها في كل شيء عند اتباع الرسول لأن الذي علمه هو الله والذي أدبه هو الله وقالت عنه عائشة رضي الله عنها: كان أخلاقه القرآن، وفي رواية أخرى: كان قرآناً يمشي على الأرض.
فليس من المدهش أن يكون هو "الكامل" ولا يجوز وصف غيره بذلك وكما يقال في المثل: ما كامل إلا محمد. فقد اقتصر الكمال عليه وصار هو() حكراً للجمال والكمال وبديع الصفات التي لا تجوز لأحد غيره من قبل أو من بعد وكما أشاد به الجميع حتى أعداؤه: " إنه الصادق الأمين".
ثم ينتقل الشاعر للأبيات التالية فيثير قضية غاية في الأهمية وهي أنه "خاتم الرسل والنبيين" ولا يجوز إنكار ذلك من قبل غير المسلمين لأن عيسى نبي الله نفسه قَدَّ بَشَر به أمته وقد آمن به من قبل بعثته وقد ذكر هذا القرآن صراحة في آياته الكريمة:وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (الصف: من الآية6).
فيقول الشاعر:
سارت الدنيا في نوره ....
خاتم الرسل الرسول ....

بالرسالة لكل أمة ....
يهدي للخير والقبول ....

لا شريك للوحدانية ....
بالدلائل والأصول ....

يا محمد يا حبيبي ....
رَتَّل القرآن وقول ....

( عيسى ) قال من بعدي ( أحمد ) ....
الشفيع طه الرسول ....

صاحب النفس الوديعة ....
صاحب الدرجة الرفيعة ....

صاحب السيرة البديعة ....
صاحب الخطوة الشفيعة ....

والوسيلة أعلى درجة ....
للوسيلة راح ينول ....

ربنا واصف صفاته ....
وصف من فوق العقول ....

وفي قول الشاعر تأكيد لختام محمد() للنبوة والرسل، وتأكيد لصفاته الوديعة البديعة وأن صفاته هذه هي التي وصفها الله عز وجل وأن من تبع هداه وسار على خطاه ومنهجه فإنه سينال (الوسيلة) بإذن الله وهي أعلى الدرجات عند الله في الجنة وحيث يحظى بجوار رسول الله ولذة التطلع إلى وجه محمد المشرق البسام()وإلى وجه رب الكون الكريم – جل وعلا - وإننا مهما تخيلنا صفاته نعجز عن استيعابها واحتوائها ووصفها بالقدر اللائق بها.
ثم يحملنا الشاعر عبر أجواء روحانية هلامية صوفية هي أجواء الحُلم الحكم أو الرؤيا الحقة(*)، ويتحدث وكأنه يناجي رسول الله() الذي زاره في المنام ويستحضره أمامه، فينشد:
أنت فاكر يا حبيبي ....
لما جيتني في المنام ....

لما كنا في رحابك ....
لما شوفتك في الزحام ....

وانت خارج م البقيع ....
متجه يم المقام ....

كوكبة وفيهم منور ....
قمة الرسل العظام ....

وسط حشد من الملايكة ....
أبهى م البدر التمام ....

انت فاكر لما خدتك ....
بالعناق والاحترام ....

بالقبل مشتاق مليتك ....
والشمايل والسلام ....

باللقا شرفت ذاتي ....
نولت بيك أعلى وسام ....

مرتين في رؤيا واحدة ....
فخر ليا على الدوام ....

والحديث صح انه حقا ....
من رآني في المنام ....

الرجا لله تكون لك ....
الوسيلة ع الدوام ....

والوسيلة عليك شوية ....
يا زعيم كل الكرام ....

إنه لتقشعر منا الأبدان ونرتل بالصلاة والسلام على رسولنا سيد الكرام عندما نسمع أنه زار فلاناً في المنام فإنها رؤيا صحيحة وصادقة. والشاعر يصف الحبيب المصطفى في الرؤيا بأنه رآه وكأنه يأتي من البقيع (وهي الأرض التي بها أخواله وقبر أمه) وقد تيمم جهة المقام (أي بمسجده) وكأنه في زفة حوله من الرسل والملائكة المنيرة وهو أبهى من القمر عند اكتماله.
ويصف الشاعر كيف عانق الرسول من فرط شوقه إليه، وسلم عليه، وأنه رآه مرتين في ليلة واحدة، وهذا مما أسعده وشرفه واستشعر رضا ربه وأنه بهذه الرؤيا قد نال أعظم الأوسمة وأشرفها مما يدعوه للفخر بذلك مصداقاً للحديث الشريف: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي" (حديث شريف).
ويختم البحراوي قصيدته الرائعة المطولة بالدعاء للرسول() بأن يمنحه الله الوسيلة والفضيلة كما أمرنا الله عند الدعاء وعند ختام سماع آذان المؤذن عند الصلاة فهي سنة محمودة ودعوة مستجابة: (اللهم صلَّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، اللهم امنحه الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة الذي وعدته بها على رسلك إنك لا تخلف الميعاد).
والحمد لله أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله(*).
3- سفينة بتزغرط:
أي (تزغرد) وفي هذه القصيدة يتناول الشاعر شعيرة "الحج" ومدى شعوره بالفرحة لأداء هذه المناسك المباركة وكيف نال ما يتمنى بزيارة الرسول وكيف كانت الفرحة غامرة لكل من ذهبوا معه ورافقوه هذه الرحلة فوق السفينة، فالفرح عَمَّ لدرجة أنه شعر وكأن السفينة تطلق الزغاريد من فرط هذا الفرح وفرح الركاب عليها، أنه تشبيه بليغ استطاع أن يصفه لنا الشاعر حيث السفينة (جماد) وحيث أن الزغاريد لا تطلقها إلا حناجر النسوة (أي الإنسان) وهو تعبير عن فرحهن بأمر ما، فالزغاريد دلالة على الفرح وهو عُرف اجتماعي لإشهار الفرح والسعادة في الأفراح والمناسبات السعيدة مثل الزواج والنجاح والختان ونيل الأمنيات مثل الذهاب للحج والعودة منه... لذا فقد وفق الشاعر في هذا التشبيه ووصل العلاقة ما بين فرحة (ركاب السفينة)، والسفينة ذاتها التي تحملهم وكأنها أدركت فرحهم ففرحت معهم، إن الشاعر لم يقل: الناس "بتزغرط" أو "زغاريد الحجاج" مثلاً لكن أبلغ في الوصف فقال: سفينة "بتزغرط"، لقد انتقل بالصفة الإنسانية من فاعلها (الإنسان) إلى الجماد (السفينة) وذلك للمبالغة في وصف الفرح والتدليل على مدى السعادة، تماماً كما نقول مثلاً: الحيطان لها آذان، أو الأرض اشتكت من كثرة المشاوير عليها في هذه المنطقة أو هذا الشارع ...الخ إنها بلاغة الشاعر في الوصف ونقل الحالة الشعورية الإنسانية من صاحبها (الإنسان) إلى الجماد وكأنه يستنطق الجماد كناية عن عظم وروعة هذه الحالة وتأكيداً على المبالغة في الفرح فقال (سفينة بتزغرط) أي "تزغرد".
والقصيدة تقع في خمسين بيتاً وقد أبدعها الشاعر عام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين(*) في أجواء مكة المكرمة، مما يدلنا على الارتباط المكاني بين الحالة الإبداعية للشاعر والإبداع نفسه وتأثير الأول في الآخر.
فماذا قدم لنا الشاعر في هذه القصيدة من قيم جميلة أو أدب إسلامي عظيم ؟
يفتتح الشاعر القصيدة معبراً عن بدايات رحلة الحج فيقول:
سفينة بتزغرط .. في قلب المينا
فرحتنا بيها تسرنا وتشجينا ....

والفرحة يا ألله .. بتشجي عنينا
وهيا متجهه ليم نبينا ....

أبيض ملعلع .. واحنا بالإحرام
أو قول كيوم البدر وهو تمام ....

كل الحجيج بيوحدوا .. العلام
"أحد .. أحد" .. كل الحجيج ألوان ....

السعد والفرح العظيم والزينة
سفينة بتزغرط في قلب المينا ....

بداية ينقلنا الشاعر إلى أجواء الفرح والسعادة في الميناء حيث توجد سفينة الحجيج التي ستتجه بهم إلى الأراضي المقدسة (مكة، المدينة) لأداء مناسك الحج المباركة.
ولقد استلهم الشاعر كلمة لـ (يم نبينا) من معاني وآيات القرآن الكريم إذ يقول الله تعالى: "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (البقرة:150) إن الشاعر يثير أيضاً قيمة "التوحيد لله" اجتماع البشر على هذا التوحيد رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم لكن الجميع مجتمعون على كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومن هنا فإن الفرحة عامة ولا تخص أحداً دون سواه، وحيث لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى.
كما يشير إلى فرحة ارتداء ملابس الإحرام البيضاء والتي تجعلهم جميعاً مثل البدر ليلة تمامه، إنه نور الله عز وجل يضفيه على المخلصين من عباده.
وينتقل الشاعر في الأبيات التالية إلى معانٍ أخرى جميلة فيقول:
عشمنا يا مولانا تغفر لينا
بالرحمة والفضل العظيم تشفينا

وبحق هادينا الكريم .. اهدينا
رؤوف رحيم حتما .. هيشفع فينا

شادد رحالي يا رب .. كلي إليك
يا عزة العزه .. أنا باناديك

يا عظمه والعظمه شويه عليك
بالرحمة يا ربي .. عشمنا فيك

إن الشاعر يتمنى من الله أن يَمُنَّ عليه بالمغفرة وبالشفاء وبالهدى وبشفاعة الرسول .. إن الشاعر في هذه الأبيات يتوجه إلى الله بالدعاء وهو أحب الذكر عند الله فكما قال رسول(): خير الذكر الدعاء، والدعاء جزء من إيمان المسلم لأنه ينم عن حالة من الانتماء والاتصال واليقين بقوة عليا هي قوة الله عز وجل وحيث لا حول ولا قوة إلا بالله.
إنه يتمنى من الله أيضاً أن يتم فضله عليه ونعمته بأن يراعي الحجيج ويكمل عليهم دينهم وفرحتهم والرضا عنهم فهو ذو الفضل العظيم.
ثم ينتقل الشاعر إلى الجزء التالي من القصيدة ملوحاً إلى الوسائل التي استخدمها في رحلته ويشير إلى اسم السفينة (قمر بلادي) ولعل اسمها (القمر) كما نسمع عن أسماء السفن والعَبَّارات مثل السلام التي غرقت ومثل تيتانيك الشهيرة والتي غرقت أيضاً في الغرب، وغيرها.
إن الشاعر لا يريد أن ينسى أياً من التفاصيل التي استغرقته في رحلته المباركة فيقول:
سفينتي حجي .. وعمرتي الطيارة
وشركة الطيران في وطني جداره

هيه الإدارة ومافي غيرها صدارة
خدماتها بتعم الجميع بمهارة

ذهاب وعودة .. والحجيج يتهنى
وبفيض هداياها نعيش نتغنى

"قمر بلادي" ليها شنة ورنة
واجب أحيي في السما طيرانّا

ويدوم ويبقى خط مصر مدينة
سفينة بتزغرط في قلب المينا

إن الشاعر في الأبيات السابقة لا ينسى وفاءه العظيم لبلاده والتي تمثلت في خدمات وهدايا شركة الطيران والسفينة (قمر بلادي)، إن الشاعر يفتخر بحبه لبلاده مصر ويؤكد الانتماء إليها والإشادة بما تقدمه للحجاج من رعاية وخدمة، ولا أعتقد أنها دعاية لشركة (مصر للطيران).
ثم ينتقل الشاعر لمعنى آخر مؤكداً قيمة أخرى فيقول:
لبيك اللهم لك لبينا ....
هلَّلنا اللهم لك هلينا ....

كحلنا بالكعبة الشريفة عنينا ....
في العرض ع الرحمن هاتشهد لينا ....

يا رب زد تشريفها لاجل الكل ....
واجعلها فيض دائم علينا تطل ....

وزدها تكريماً وحُسنْ وفُل ....
واجعلنا يا مولانا ليها نهل ....

يا رب بيتك تحفتك وسطينا ....
سفينة بتزغرط في قلب المينا ....

إنه في الأبيات السابقة يشير إلى بدء مناسك الحج بالتلبية حيث يهلل الحجيج ويكبرون طوال الطريق (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لبيك وسعديك والخير كله بيديك) وكذلك يكبرون (الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر .. الخ).
وعندما يشهد الشاعر "الكعبة الشريفة" فإنه يجعل رؤيتها وكأنها الكحل تكتحل به عيناه ويستلهم من ثقافته الدينية الواسعة كيف أن هذا المشهد سوف يشهد على الإنسان بعد مماته ويوم البعث عندما تُعرض أعمالنا على الله سبحانه وتعالى، إن شهادة الكعبة التي نزورها هي من ضمن الشهادات التي تزيد من حسنات الإنسان في ميزان العدالة الإلَهية، إن الشاعر لا يدعو لنفسه بل لكل الناس ويدعو بزيادة الفضل والتشريف للكعبة وأن يستمر تواصل الناس في زيارتها دائماً.
إن الأبيات تبث قيم: المحبة، وإيثار الآخرين بالدعاء، أيضاً كما ندعو لأنفسنا وتثبيت الدين بتثبيت الدعوة لأحد أركان الإسلام الأساسية وهو (الحج إلى بيت الله).
وينتقل الشاعر إلى بث معاني أخرى جميلة وإشارة إلى معجزات ودلائل تفيض من خير الله، يقول:
الله أكبر .. فيض عظيم م الله
والناس في عز الحَرّْ والمعاناهْ

النسمة هلت م الكريم في علاه
فيها الكرم هالل على رعاياه

النسمة جتنا الجمعة في العصرية
تشبه تماماً نسمة الفجريهْ

وعشنا يومها المعجزة الإلَهية
رحمن رحيم العطف والحنيهْ

أرسل لنا نسمات عاشتها عنينا
سفينة بتزغرط في قلب المينا

يبدأ بقوله (الله أكبر) وهي لفظة عادة ما يقولها الإنسان حينما يشهد موقفاً عظيماً أو أمراً غير متوقع وكأنه معجزة لا يمكن حدوثها إلا من الله عز وجل فسبحانه هو القادر المانح الأكبر القوي الأعلى فوق قدرات الجميع ...
إننا عندما ننتصر على الأعداء نهلل " الله أكبر ".
وعندما يظهر الحق ويدحض الظلم بعد معاناة نهلل "الله أكبر" لذا فإنها لفظة تخرج لا إرادياً من المسلم عند حدوث معجزة ما أو أمر خارق يتمناه المرء، وبقراءة الأبيات نكتشف أن الشاعر ورفاقه من الحجيج كانوا يطوفون في يوم جمعة شديد الحرارة بالإضافة لمعاناة الزحام وتعب السعي والطواف لكن رحمة الله الواسعة تدركهم وتلطف بهم فيرسل لهم النسمات المرطبة لتخفف عنهم الحر والمعاناة وهذه رسالة إلهية لا يدركها إلا المؤمنون لأن الطقس والمناخ إنما هو بيد الله ولا يستطيع أي بشر أن يتدخل فيه مهما أوتي من علم وإنما يكون التدخل محدوداً وفي الأماكن المغلقة مثل استخدام المراوح الكهربية أو المكيفات - كما في حالة السعي بين الصفا والمروة - لكن في مكان مفتوح وساحة واسعة مثل ساحة الكعبة وحتى تتسع لملايين البشر من الحجيج فلا يمكن التدخل في هذا الأمر إلا أن يشاء الله عز وجل فيدركهم بكرمه ورحمته فيلطف من الجو وحرارته.
إن قول الشاعر ( وعشنا يومها المعجزة الإلهية) إنما يدل على شدة الحرارة في هذا الوقت وللدرجة التي قد تصيب الإنسان باليأس وكأن في تخفيضها ما يشبه الإعجاز والمستحيل، لكن الله مَنَّ عليهم به في ذلك الوقت بإرسال النسمات المرطبة.
إن هذه الأبيات إنما شاهدة مؤكدة على قيمة إيمان الشاعر بقدرات الله وأقداره خيرها وشرها.
ثم ينتقل الشاعر لمعنى آخر فيقول:
أحد أحد .. فياض كريم مضياف
اللي في ضيافته قاصد الإنصاف

قاصد يا رب لكعبتك .. طَوَاف
وفي الصفا والمروة جاي طواف

نَوَّر بصيرتي يا رب نَوَّر عيني
وزي ما حججتني إشفيني

راعيني. يا رب العباد . اهديني
فرج كروبي في دنيتي وسنيني

بالخير وبالحب العظيم .. اكفينا
سفينة بتزغرط في قلب المينا

وهنا يشير الشاعر ويؤكد على ضيافة الله لعباده، فنحن في الحج ضيوف الرحمن، واستخدام لفظة (الضيافة) إنما هي إشارة لقيمة عظيمة من القيم الإنسانية وهي "الكرم" ولا سيما الكرم العربي، إننا عادة ما نصف الإنسان الكريم المضياف بأنه كريم كرماً حاتمياً
( نسبة إلى حاتم الطائي ) وكان من أكرم وأجود العرب ويضرب به المثل في الجود والكرم حتى يقال عنه لا تُطفأ له نار) فإذا كانت هذه أصول الضيافة العربية في بني البشر فما بالُنا بها عند الله خالقنا جميعاً، إن الكرم صفة من صفات الله عز وجل فهو الكريم وإن كرم الله مع مخلوقاته إنما هو رحمة وخير وعز وعطاء يفوق كل عطاء.
ولذا فقد وفق الشاعر في استخدام الكلمات والعبارات المناسبة للتدليل على المعاني العظيمة فإن من يقصد وجه الله لا يخزيه الله أبداً ولقد قصدها الشاعر في كل الأحوال في النية والدعاء والحج بمناسكه وهاهو يطوف بالكعبة ويسعى بين الصفا والمروة وهي من شعائر الحج كما ذكرت في القرآن وكل هذا يفعله الشاعر بخشوع وفي ضيافة الله ورسوله ولم يزل يدعو الله حتى آخر لحظة بأن يرضى عنه ويراعيه ويهديه ويفرج كروبه ويكفيه من عنده. وينتقل الشاعر لوصف منسك آخر من مناسك الحج وهو وقفة عرفات فيقول:
ربيع إلهي .. معجزة .. وآيات
هلت علينا فوق جبل عرفات

وفاض علينا صاحب الحسنات
أنعم علينا رافع السموات

وبإشراقات السعد .. مَنَّ علينا
حاضننها فوق عرفات بنِنّي عينينا

الخير علينا مغطى ومكفينا
في الأرض فرحة وفي السماء الزينة

يفرجها رب العزة وينجينا
سفينة بتزغرط في قلب المينا

نلمح أن الشاعر كثيراً ما يؤكد معجزات الله وقد يبدو للبعض من العلمانيين – وأصحاب الآراء المخالفة للدين والشريعة – أن موضوع الطقس والمناخ والحرارة شيء عادي لأنه قد يكون كذلك في بعض المناطق الحارة ويؤولونه ويفسرونه بشكل علمي، ونحن لسنا ضد العلم لكن مع الإيمان بقدرة الله وإعجازه، وهذا ما تدلل عليه الأبيات، إن الشاعر يشير إلى الحرارة الشديدة ثم يشير إلى لطف الله بالحجيج وهذا هو الإعجاز فعندما يذكر كلمة (ربيع إلهي) في عز الحر فهذا معناه معجزة حدثت لتلطيف الجو في هذا الموعد من العام والذي يفترض أن يكون شديد الحرارة، لكنها رحمة الله بعباده لِيُقْدِرَهُم ويعينهم على مشاق رحلة الحج.
ويؤكد هذا المعنى في الأبيات التالية فيقول:
وغيامه رباني بتنشر ظِلَّهْ
شمسية واقيه ع اللي حاضر كله

فايح علينا عبيرهُ. عِطرُهْ. وفلَّهُْ
والوصف قلمى مش قادر يوصل له

بيقول يا حاج أنت جاي في ضيافتي
لبيك عبدي برحمتي ونزاهتي

ولك يا مؤمن رحمتي وشفاعتي
جزاء صيانتك كل أمري وطاعتي

كل الحجيج في إيدين رحيمة أمينة
سفينة بتزغرط في قلب المينا

إنه يشير إلى رحمة الله في يوم الوقوف على عرفات فأشار إلى النسمات قبلا ثم يشير إلى وجود (غمامة) ظللت فوقهم لتحميهم، وهي معجزة في الأيام شديدة الحرارة وكذلك يستشعر الشاعر العطر والعبير الذي لا يدري من أين للدرجة التي يعجز فيها قلمه عن الوصف، وقد يقول قائل إن الحجاج يتعطرون (مثلاً)، لكن لعل الشاعر يبدي مشاعر أعمق من هذا الطرح الساذج إنها مشاعره الداخلية التي فاض الله عليه بها إنها حالة من الشفافية يخصه الله بها فلا يستطيع التعبير عنها بما يتناسب مع ما يستشعره من أمر عظيم جلل ولعلها عطور مقدسة تفيض بها ملائكة الرحمن على الحجاج فتنتشر في الجو عبقاً خرافياً لا يعلم مصدره إلا الله. أنه يؤكد أيضاً على كرم الله مع عباده الذين نزلوا ضيوفاً على بيته وفي رحاب المسجد النبوي.
كما أنه على يقين من رحمة الله الواسعة التي تشمل الجميع جزاء لطاعتهم أوامره واجتنابهم نواهِيَهُ.
ثم ينتقل الشاعر لأبيات أخرى فيقول:
كريم يا رب الكون .. علينا حْنَيَّن
بتجعل الصعب الكبير شيء هَيَّن

عشناه وكانت رحمتك بِتبيَنّ
وتقبل العاصي مع المتدين

ورحلنا من عرفات ونُلْنا الجنة
والذكر في المشعر على دي المنةَّ

مزدلفة يا أرض الحصاء والحِنةَّ
صلينا مغربنا وعشانا سُنَهَّ

إنه يؤكد كرم الله وحنانه على عباده التي تهون الصعاب والمشقة، هذا الحنان الذي لا يفرق بين العاصي أو العابد، إن إشارة الشاعر لكلمة (العاصي) إنما تعني العاصي الذي يتوب ويلجأ إلى الله فإن الله يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات كما ورد بالذكر الحكيم كثيرا، إنه كرم الله وتوبته على من يفعلون المعاصي ثم يتوبون ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(النحل:119). "و "إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" وهكذا تشمل عناية الله ورحمته كل عباده لأنه خالقهم لذا فهو الأقدر على أن يرحمهم كما قال في حديثه القدسي: " لو خلقتهم لرحمتهم".
ويشير الشاعر إلى مناسك أخرى فيذكر المشعر الحرام والدعاء فيه، وأرض المزدلفة حيث يجمعون" الحصى" ويصلون فيها المغرب والعشاء ويقيمون بها ذاكرين الله خاشعين له حتى طلوع الفجر التالي.
ثم ينتقل لمناسك أخرى من الحج لختم القصيدة قائلاً:
ورجمنا أبليس الخبيث في يومين
عملنا كالقرآن ونص الدين

ورحلنا يومها من "مِنَى" آمنين"
لبيتنا الآمن .. ليوم الدين

وبقدرته وعظمته بعد الحج
غفر لكل اللي حضر من فج

عفو الكريم خلى الأبالسة تهج
يا رب ما تحرمني عمرة وحج

ونيجي نتمتع نهنى عنينا
سفينة بتزغرط في قلب المينا

إنه يشير إلى "رجم أبليس اللعين" بالحصى الذي جمعه سابقاً من المزدلفة، ويؤكد أن هذا المنسك مذكور في القرآن وليس مجرد بدعة – معاذ الله – لذا يؤكد عليها بقوله:
(عملنا كالقرآن ونص الدين) حتى يرد على مزاعم المنافقين والكافرين والعلمانيين الذين يسيئون إلى الإسلام، ويشككون في مناسك الحج بجدل تافه وسفسطة فارغة.
كذلك يشير إلى الرحيل من "مِنى" والعودة إلى بيت الله (الكعبة) مرة أخرى، أنه أيضاً يذكر كيف يغسل الله عباده من ذنوبهم عقب آداء مناسك الحج وكما قال رسول
الله(): يعود كما ولدته أمه.
ويشير إلى أهمية وقيمة التوبة والرجوع لله دائماً التي تقهر الأبالسة وكما قال الله تعالى وهو يرد على أبليس الذي أراد أن يقعد صراطهم المستقيم فأجابه الله عز وجل.
" إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (الصافات:40) إن الشاعر يختتم القصيدة الجميلة وهو يحلق بنا في أجواء مقدسة بأن يدعو بالعودة ثانية وثالثة ورابعة ولقد اختصر هذا الدعاء بالتمني (يا رب ما تحرمني عمرة وحج) فإنها المتعة الحقيقية والهناء والسعادة والفرح ...
لأجل كل هذا بدأ الشاعر بقوله: سفينة بتزغرط في قلب المينا، وكذلك ختم بها كل خمسة أبيات(*) وختم بها آخر شطره في القصيدة.
وأخيراً فإن القصيدة دعوة للامتثال لطاعة الله واستكمال أركان الإسلام بالحج والتطهر والتوبة والدعاء لله في خشوع بأن يتم علينا نعمته بالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً والامتثال لكل أوامره واجتناب كل نواهيه ورجم الشيطان بتضييق مسالكه.
اللهم اجعلنا من التوابين واعف عنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
4- كعبتي المشرفة :
وهذه القصيدة تقع في ستة وأربعين بيتاً، وكبتها الشاعر أيضاً في مكة المكرمة عام ألف وتسعمائة وخمس وسبعين، أي بعد القصيدة السابقة بثلاث سنوات، إنها دلالة واضحة على عودته للأراضي المقدسة وبأن الله استجاب دعاؤه في المرة السابقة وهيأ له أسباب العودة إليها، إنها دالة على استجابة الله (عز وجل) لعباده المخلصين وهكذا يعود الشاعر مرة أخرى للأماكن المقدسة لتفيض عليه قريحته الإيمانية بأبيات من الشعر الديني الغنائي في سلاسة وعذوبة ورقة ونغم رقيق وشدو روحاني يشتشفه القارئ لأول وهلة حين يطالع الأبيات التي يبدأها البحراوي بقوله:
أجمل آيات الحبِ مع عرفاني
إليك يا ربي من الضعيف الفاني

على استجابة دعوة قالها لساني
رجعت لك يا كعبتي من تاني

الحمد لك والشكر والعرفانِ
ما أعظمك ربي رفيع الشأنِ

حليت لساني في دنيتي وزماني
أحد أحد في الكون مالهوش تاني

إن الشاعر يبدأ قصيدته بالثناء والحب والعرفان والامتنان لله عز وجل وهو في منتهى الخضوع والخشوع إليه لأنه استجاب لدعوته التي دعاها في المرة السابقة، إن البحراوي في هذا الوقت كان في عمر يقل عن الأربعين.
(حين أنشد القصيدة السابقة في الحج الأول) ثم ها هو في الواحد والأربعين في الحج الثاني، أي أنه لم يزل في عمر الشباب وزهوته وفتوته لكنه زاهد في متاع الدنيا يستشعر الضعف والفناء من فرط زهد وإيمان وتقوى، إن هذه المشاعر لا تفيض على شاب في الأربعين إلا إذا كان تقياً صالحاً قد نشأ في بيئة صالحة أسست على الإيمان والتقوى وخشية الله.
إنه يظل يحمد الله ويثني عليه ويوحده (أحد .. أحد) وكأنه يرطب ويحلي لسانه بهذا الذكر، إنه يذكرنا بالعبد الصالح بلال بن رباح الذي لم يزل يرددها وهو ينوء تحت أثقال أحجار الكافرين حتى أعتقه أبو بكر الصديق ... مع الفارق بالطبع بين مغريات الحياة ما بين العصرين، فجر الإسلام والعصر الحديث بما ينطوي عليه من غزو ثقافي وإغراء بالتغريب ، والعولمة والتحضر والبُعد عن الله.
ثم ينشد الشاعر مؤكداً أشواقه وحنينه للكعبة مرة أخرى:
رجعت لك عطشان وشوقي ماليني
يا قمة الإعجاز في دنيا وديني

أروي بعظمتك لهفتي وحنيني
ونظره من مدد الإله تكفيني

وتداوي نار الحب وتدفيني
وألقى دموعي زغللت نور عيني

يا رب حل لساني فقَّهُهُ ديني
يا رب نظره برحمتك ترضيني

نلمح من الأبيات السابقة مدى أشواق الشاعر وحنينه وأن أحد المعجزات في زيارة الكعبة المشرفة أن من يزورها مرة يتمنى أن يزورها دائماً وأن يعود إليها إنها شعور الحاج أو المعتمر بالظمأ إليها مرة أخرى، ويدلل على هذا الحب الروحي بـ: وكيف انسابت دموع الفرحة أو دموع الامتنان والخشوع لعودته إليها، إن الشاعر يشير إلى دموعه التي لم يستطع مقاومتها رغم عودته للمرة الثانية، لكن لم يخبرنا أي دمع هذا الذي سيطر عليه ؟ هل دموع الفرحة بالعودة للكعبة أم دموع الخشوع والتقوى واستجابة الله لدعوته ؟ أم مزيج منهما؟
إنه لم يزل يدعو الله مستلهماً من التراث دعاء سيدنا موسى عليه السلام وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27)يَفْقَهُوا قَوْلِي(28)(طـه)، وهو من الدعاء المستجاب لأنه مما أثر عن أحد الأنبياء ويستحب عادة الدعاء بدعائهم.
ثم يقول الشاعر مستكملاً شعوره بالفرح واللذة عند العودة للكعبة.
وأحضن جمال الكعبة وأنسى شجوني
وأطوف وألبي وأمتعك يا عيوني

يا رب نظرة وكاف معاها النون
قادر تقول للشيء كن فيكون

وأُقبل "الأسعد" وأفوز بلقاه
وأستقبل الكعبة وأقول "الله"

"الله" ع البركة وعلى المناجاهْ
"الله" ع الكعبة نعيم وحياهْ

وأطوف طواف العمرة واتهنى بُهْ
وأدعي في اعتاب الكريم وفـ بابه

وبحق جاه المصطفى وأحبابه
تجعلني يوم الحشر ضمن اصحابه

إنه يشير في الأبيات السابقة إلى جمال الكعبة كيف يجلو الهموم ويمتع العيون ويزيح الأحزان، وكيف تتجلى قدرة الله في حرفين فقط هما (الكاف والنون) ووحده القادر على مبدأ (كن فيكون) هذا المبدأ المستحيل لسواه، ثم يذكر لنا الشاعر تقبيله للحجر الأسعد (وهو من الجنة) ويلمح لنا أن هذه المرة (عمرة) بعد الحج السابق وأنه لم يزل يدعو الله أن يحشره بين أصحاب رسول الله()، وينتقل الشاعر إلى أبيات أخرى ليروي لنا حادثة قد أسعدته فلم يمر عليها مرور الكرام بل حرص على تدوينها بين الأبيات فيقول:
في الكعبة شفت العَالِم الشعراوي
(متولي) شيخنا القدوة قطب مداوي

بيطوف ويسعى العالم الغمراوي
فاهم لقدر العلم دارك راوي

وأقول يا رب بلادي قبل اولادي
حقق لمصر الغالية كل مرادي

اجعل حليفها النصر بالمرصادي
حقق رجايا يا عظيم يا هادي

يا رب وامنحها السلام والعزة
مصر الأمان والأمن مصر اللذة

مصر العروبة الغالية خير وعزة
مصر الكيان العربي مصر العزة

يشير الشاعر إلى لقائه بالعالم الجليل (الشيخ محمد متولي الشعراوي) وهو يطوف ويسعى معه في الكعبة، ويشير إلى اعتزازه به وبأنه من بلده (ميت غمر) تدل عليها (الغمراوي) وأن هذا سبب له السعادة والفخر بمصر النجابة التي أنجبت مثل هذا العالم الجليل بل ويزيد فخره واعتزازه أنه من ذات المحافظة التي ينتمي إليها الشاعر (الدقهلية) وكلاهما ينتمي لميت غمر (المدينة)، إن هذا الموقف فجر في الشاعر شعوراً بالانتماء للوطن الأم مصر وفخراً بأنه التقى بقطب من أقطاب الدين فيها وهو يطوف بالكعبة فانهالت قريحة الشاعر تتغنى بالحب والولاء والعزة والسلام لبلاده مصر.
ثم ينشد الشاعر حول منسك الطواف بالكعبة فيقول:
وأطوف وأدى بالطواف أضعافه
وأطلب من المولى العزيز إنصافه

وأسعد وأنعم ويا من .. جه .. شافه
على الدوام آجي وأكون طوافه

ونكون مع الجايين من آخر الدنيا
ونطوف وننسى دنيا زايفة وفانية

دنيا غرورة تخدعك وفِْ ثانية
تتركها وتعيش البقاء في الثانية

نلمح من الأبيات السابقة زهد الشاعر وتصوفه أثناء الطواف وأنه في زمرة المحتشدين الطوافين حول الكعبة لنسيان الدنيا الزائفة الفانية وعدم الانخداع بأمورها لأنها لا أمان لها وحيث يدرك الإنسان الموت في لحظة واحدة فينتقل من دار الزوال إلى دار البقاء، لذا تنطوي الأبيات على الإشارة للدار الآخرة بأنها خير وأبقى وكذلك تنطوي على التنبيه للإنسان بألا ينخدع في الدنيا أو يغتر بها لأنه لا يدري متى يموت، وقد يرتكب المعاصي والمحرمات ويدركه الموت قبل أن يتوب حيث لا أمان أبداً للدنيا، وهي قيمة مهمة يجب أن يتنبه إليها كل الناس صغاراً وكباراً حتى لا يأخذهم لهو الحياة فيؤجلون توبتهم وطاعاتهم لله عز وجل.
ثم يصف الشاعر مشهد الطواف في الحج فيقول:
على كل لون تلقى البشر طوافه
ألوان لكن القلوب شفافه

ونسمة م الجنة عليك هفهافة
وملايكة بتزفك ولك شوافه

تلقى الفئات متعددة في درجاتها
إلا الطواف متوحدة في لغتها

والوحدة في الكعبة أهم صفاتها
كل العبيد متوحدة بعظمتها

أحد .. أحد وحدة لُغَة عُمَّارُه
الكل متوحد هنا بمقداره

المولى متجلي على زواره
كريم وكرمه فاض علينا فـ داره

إن الشاعر عبر مشهد الطواف يشير إلى أن "التوحيد" هو لغة العقيدة الواحدة في الإسلام رغم اختلاف ألوان وسلالات البشر، إن الطواف يجعله شفافاً. فيستشعر وجود الملائكة التي أخبر الله عنها في ساحة الكعبة المقدسة لأنها تطوف مع البشر أيضاً منذ بدء الخليقة وكأن نسمات الجنة تهب على الطائفين، وأن الله عز وجل لم يزل يفيض بكرمه على زوار البيت الحرام قد توحدوا تحت راية "التوحيد" وإعلائها، إنها (أحد .. أحد).
ثم يستمر الشاعر في وصف حال الطائفين والراكعين والسجود:
كلمة يا رب من الحشود تسمعها
كل القلوب تقولها وتعشقها

وهي الملايكة بقدرته بترفعها
والكعبة شاهدة اللي زارها وشافها

وقت الصلاة إن حان وحل معادها
في الكعبة تلقى الكل صلى قُصادها

الكل يتقرب ويبغي ودادها
يا رب شرفها وزيد روادها

مش صف واحد زي ما احنا تمللي
الكعبة حواليها الجميع بيصليَّ

الكعبة يا قوته ونورها يخللي
فيها التجللي ما فْـ بعدها تجلّى

يشير الشاعر إلى "التكبير" في الحرم المكي والذي يهز أرجاء المكان لأن كل الحشود تكبر (الله أكبر) ويؤكد على أن الملائكة ترفع أصوات المكبرين لله عز وجل وأن الكعبة شاهدة على زوارها وعصورها ومن مختلف أجناسهم.
ثم يشير إلى منظر الصلاة في الكعبة بأنها ليست في صفوف كما هو خارجها في البلاد والمدن المختلفة لكنها القبلة للجميع من جميع جهاتها الأربع لأن جموع المصلين تحوطها ثم يشبهها وكأنها الياقوتة الثمينة التي تشع بالأنوار الروحانية وأن بها قمة الشفافية والتجلي أمام عظمة الله سبحانه وتعالى.
ولم يزل الشاعر مبهوراً بالكعبة وجمالها والطواف ومَنْ حولَه فيشير إلى هذا في معانٍ جديدة وأساليب مغايرة:
وبقدرة المولى العظيم الغالي
الكعبة نورها في الحرم بيلالي

واطلب وألح وفي الرجاء طوالي
البركة لاحبابي وكل عيالي

سبحانه رب العرش مالناش غيره
الكعبة وجمالها الفريد من خيره

وأشرب زلال "زمزم" وله تأثيره
"زمزم" وما في الدنيا نلقى نظيره

لم يزل الشاعر مؤكداً على جمال وبهاء وروعة الكعبة وأنوارها القدسية التي تتلألأ، إنها من فرط جمالها القدسي تدعوه للدعاء المستمر لنفسه وأهله وأصحابه ويرجو من الله أن يمن عليه بالخير ويفيض به كما أفاض على الكعبة بأن حباها الله هذا الجمال القدسي النوراني الجليل، إن هذه المشاعر الإيمانية يكللها الشرب من ماء زمزم الذي فيه الشفاء من عند الله وكما قال الرسول (): زمزم لما شُرب له.
ومن المعروف أن المسلمين يتبركون بماء زمزم فيشربونه ويغتسلون منه وقد يعبئونه في زجاجات ليهدوها إلى أهلهم وذويهم عند العودة إليهم من الأراضي المقدسة، ولتأكيد سر زمزم في الشفاء كما أشارت إليها أحاديث الرسول يقول الشاعر:
شربتها عَيَّان شفاني إلهي
وأفخر بأني شبعت منها واباهي

زمزم وفيها صحتي وترياقي
أشرب وأقول يا رب تم شفائي

إنه يؤكد أنه كان مريضاً وقد شفاه الله بعد شرب زمزم وأنه ظل يشرب منها حد الشبع وكأن فيها السحر والترياق، إنه يعلن الخبر ويؤكد سر الله ومعجزته التي وضعها في هذا الماء ويباهي بالقول في كل مكان ثم يختم الشاعر قصيدته:
يا قوة الله اللي مالهاش حد
الكعبة مجد وما في بعدها مجد

فيها الهنا للناظرين والسعد
الكعبة بينا وبينها أعظم ود

أجمل بقاع الدنيا عند الهادي
وأجمل جمال الأرض في الدنيا دي

يا رب زد بيتك وزد تشريفه
واجعل يا رب اللي ما شافه يشوفه

وهكذا مرة أخرى لم يزل الشاعر مفتوناً مبهوراً بجمال الكعبة وأجوائها القدسية ويؤكد أنها أجمل بقاع الأرض جميعاً، ثم كعادته الطيبة لا يستأثر لنفسه بالدعاء لكنه يدعو للجميع بالهدى والإيمان والذي يتمثل في شوف الكعبة وزيارتها.
5- أعود تاني لبيت الله:
ويبدو أن الشاعر قد عشق بيت الله الحرام فاعتاد العودة إليه ودفعه الشوق والحنين لمعاودة الزيارة باستمرار ففي هذه القصيدة نعرف أن الشاعر كتبها في (مِنّى) أي في أجواء مدينة مقدسة "مكة" ،هذه الأجواء الذي اعتدنا أن تلهمه أشعاره الدينية وأن تحفزه وتثير لديه قريحة الإبداع في حب الله ورسوله() مما تنبثق عنه دائماً القيم الإسلامية والأدب الإسلامي والعطاء التربوي الروحي العظيم.
وتقع هذه القصيدة في ستة وعشرين بيتاً أبدعها عام ألف وتسعمائة وثمانين مستلهماً من قدسية المكان بعض المعاني التي تتشبع بها روحه الشفافة ونفسه التقية الورعة .. فيقول الشاعر:
أعود تاني لبيت الله ....
وأبقى في ضيافة الله ....

واعيش البركة والمناجاة ....
وأتملى بعظيم الجاه ....

وازور فيها " أُحد " مع " بدر " ....
وأوفي هناك جميع الندر ....

وازور " الحمزة " عم البدر ....
شهيد الحق ما ننساه ....

إن الشاعر هنا يستفتح قصيدته بالعودة لبيت الله وكأنها تحقيق التمني والدعاء، ويسعده أنه في ضيافة الله كما اعتاد من قبل هذه الضيافة التي تحل بالبركة عليه وتمتعه بسر النجوى مع الله فينال من الشرف أعظمه في الأجواء المقدسة التي شهدت موقعة " أحد" وموقعة " بدر " ونفهم أنه يوفي النذر الذي نذره لله من قبل دون الإشارة إليه بشكل مباشر وإنما هي إشارة ضمنية نفهمها من السياق .. ترى ما هذا النذر ؟
إن الوفاء بالنذر إنما يكون لتحقيق أمنية ما أو تلبية الله لطلب عزيز وغالٍ على النفس، إنه عند الشاعر يتمثل في العودة لبيت الله الحرام وكما جاء في كتابه ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج:29).
فهل هناك نذر في حياة الإنسان أرفع شأناً من هذا النذر ؟ إن الناس عادة ما ينذرون نذراً لشفاء مريض أو نجاح ابن أو عودة مسافر أو زواج طال تأخيره ... الخ
لكن النذر الأسمى والأعلى هو النذر لزيارة بيت الله، فإن مَنَّ الله على بعض الناس بهذه الزيارة فإن وعده الحق وعلى الإنسان أن يوفي النذر لله عز وجل.
ويشير الشاعر إلى زيارته لحمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه - عم الرسول() وشهيد الإسلام والذي رفع اللواء (راية الإسلام) بعضده بعدما قطعت يده وأبقى عليه وهو يجاهد حتى آخر رمق في حياته.
إنه يلقب الرسول() بـ (البدر) كما غنت له بنات النجار من أهل المدينة عندما كانت الهجرة من مكة للمدينة فأنشدوا:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع ... الخ

إن أحد ألقاب الرسول وكناياته (البدر) لما يشبهه في طلعته البهية وجمال وجهه وشروقه ولقد ورد ذلك في كثير من روايات الصحابة.
ولعل البحراوي كان موفقاً في استخدام الجناس مرة والكناية مرة أخرى في أبياته السابقة ..
فقد أشار الشاعر إلى موقعة (بدر) في نهاية الشطرة الأولى في البيت الثالث ثم أشار إلى الرسول() ضمنياً في الشطرة الأولى في البيت الرابع في نسبه لحمزة بن عبد المطلب فهو عم الرسول أي عم (البدر).
ثم نتابع مع الشاعر ما يقول:-
واصلي وأحظى بالحرمين
واشاهد نور حبيبي الزين

وامتع بالجمال العين
واعيش أحلى نعيم وحياة

وأعيش في موطن " الشرفاء "
وفي " روضة " أبا الزهراء

واحقق بالزيارة رجاء
رجاء طول عمري باتمناه

واصلي ركعتين في " قباء "
وازور القبلتين بدعاه

مآثر لِيَّ فيها شفاء
أصلي فيها وادعي الله

الله ... الله .. الله ...
ما أجمل أن يطوف بنا الشاعر عبر هذه الأجواء المقدسة ليحملنا عبر الخيال وعبر الأبيات ويصحبنا معه في هذه الجولات الروحية التي تمدنا بالطاقة النورانية الإيمانية.
إن الشاعر يشير إلى مناطق مقدسة يصلي فيها مثل:
الحرم المكي والحرم النبوي ومثل موطن " الشرفاء " ومثل " الروضة الشريفة " وهي مدفن بعض آل بيت الرسول() وأصحابه مثل أبي بكر وعمر، ومثل مسجد " قباء " أول مسجد بني في الإسلام.
إن الشاعر لا يستلهم فقط من هذه الأجواء العبقة رحيق الشعر وإنما رحيق الشفاء والحياة، إننا نشعر عبر الأبيات وكأنه يتجول من هنا في سياحة إيمانية زاهدة رافضة كل متع الدنيا إلا متعة الإيمان والتصوف وحب الله ورسوله وأن شفاءه لا يتحقق إلا بهذه المزارات وأن متعته الكبرى ليست فيما دون ذلك.
( فاللهم اغفر له ومتعه بصحبة رسولك الكريم والنظر إلى وجهك الكريم)
ثم يسترسل الشاعر (يرحمه الله):
وبعد زيارة المختار ....
أسلم روحي للأنوار ....

وأوصل عند أعظم دار ....
بإحرامي لبيت الله ....

ومن ميقات أبي الحسينين ....
( علي ) رابع الراشدين ....

إمام للعز ويا الدين ....
وصهرك يا رسول الله ....

وم . الميقات أنا أحرمت ....
وصليت ركعتين ونويت ....

وحج وعمرة فيه وعزمت ....
وكملنا لبيت الله ....

ها هو الشاعر يستسلم تماماً للأنوار القدسية، إنه روح تمشي على الأرض هائمة في نور الله وفي محبة رسول الله ()، إنه يذهب للميقات [ميقات سيدنا علي ()] ابن عم الرسول – وأبى سيديْ الحسن والحسين سيدا شهداء أهل الجنة - ، ورابع الخلفاء الراشدين، إنه يشير إلى منسك من مناسك العمرة أو الحج وهو الإحرام من الميقات وميقات علي بن أبي طالب معروف لدى المعتمرين والحجاج.
إنه يصلي هناك ويُحْرِم وينوي العمرة ويتوكل على الله ليكمل مسيرته إلى بيت الله في رحلته القدسية المباركة. ويكمل الشاعر وصف هذه الرحلة المقدسة فيقول:
" وللأسعد " أبوس وانعم
واطوف واشرب مياه زمزم

زلالها للشفاء بلسم
وبركة من نعيم الله

وبعد طوافي أسعى هناك
كما ( هاجر ) تفوز بدعاك

يصونك ربنا ويرعاك
| صفا ومروة مناسك الله

ويبقى " حجنا عرفات"
وفي .. " المزدلفة " للجمرات

ونحصد في " مِنى " الحسنات
ونهدي " الهَدْي " لاجل الله

إن الشاعر يقبل الحجر الأسعد وهو من الجنة، ويطوف بالكعبة المشرفة ويشرب من زمزم الزلال الشافي من عند الله ويسعى بين الصفا والمروة ويؤرخ لهذا السعي تاريخياً بأن يشير إلى قصة السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام بأنها فعلت ذلك بحثاً عن الماء لرضيعها حتى انفجرت زمزم لذا صار السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحج إكراماً للسيدة هاجر أم الذبيح إسماعيل ولذا كانت بركة الشفاء بماء زمزم الذي فجره الله بين قدمي رضيعها إسماعيل ليرويه وليطمئن قلبها الملهوف على ولدها الذي كادت أن تفقده من شدة الظمأ في صحراء جرداء لا نبت فيها ولا ماء حين تركهما زوجها سيدنا إبراهيم (عليه السلام) هناك في رعاية الله وحدهما.
إن الشاعر يستكمل رحلته بالوقوف على عرفة وبجمع الحصى والجمرات من المزدلفة كي يرجم بها الشيطان فيما بعد، وكذلك فإنه يذبح الذبائح ويقدم " الهدي " للفقراء والأصدقاء وهو في الأصل لله عز وجل.
ويستكمل الشاعر خاتماً قصيدته أو رحلته المقدسة:
ونرجم في "منى" الشيطان
ونلعن في اللي ماله أمان

ونشعر فيها بالإيمان
ونرجم في عدو الله

بعودة يا رسول الله
هانرجع لك بعون الله

وفي رحابك أعز حياه
دعائي لك وسيلة الله

إن الشاعر قد رجم الشيطان في (مِنى) ولعنه وتبرأ منه فشعر بالراحة والإيمان بعد إقراره بعفو الله ولم يزل يدعو ثانية أن يعود مرة أخرى لزيارة رسول الله ويستنصر بالله ويتقوى به ليعينه مرة أخرى على زيارة متجددة ليستشعر العزة في رحابه داعياً له بالوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة التي وعده الله بها.
وإن وعد الله حق .. وإن الله لا يخلف الميعاد.
6- أعـــز نـــور:
وهي قصيدة قد كتبها الشاعر أيضاً في المدينة المنورة في عام ألف وتسعمائة وثمانين، وهي تتألف من رباعيات تكون في مجموعها أربعة وعشرين بيتاً أي من ستة مقاطع.
ولعله كتبها في نفس الرحلة السابقة في العمرة في نفس العام، يتناول الشاعر فيها قيمة " النور " في الحياة ويشير إلى الأنوار المحمدية ونور الله عز وجل الذي ورد في الذكر الحكيم: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(النور:35)...الخ، ونور الرسل والأنبياء، وكأنها سلالة بعضها من بعض تشع بالنور وهي نور يهدي البشرية إلى الحق وفي الدعاء: اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعني نوراً وفي بصري نوراً وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً ومن أمامي نوراً ومن خلفي نوراً ومن فوقي نوراً ومن تحتي نوراً ....
إنه النور ... الضوء ... الحقيقة ... الإيمان ... البصيرة ... الأمل...
وفي قصيدة البحراوي ( أعز نور ) يشير إلى هذه القيمة السامية لكن تُرى ماذا يقصد بها ؟ أنه يقول:
بالرسل نحيا مع بعض الحقيقة
والحياة الغالية ويا أعز نور

نور نبينا المصطفى دقيقة بدقيقة
البشير المجتبى بدر البدور

أو عبير العطر ريحان الحديقة
أو خلاصة أعلى صنفِ منَ العطور

كل سيرة المصطفى بالخير مضيئة
أقوى من نور شمس على مر العصور

يعبر الشاعر عن حقيقة النور في رسالات الأنبياء وأن أعز نور هو نور المصطفى()، إنه كالبدر أو عبير العطر فوق جميع أنواع العطور بل ان نور رسالته المحمدية أكثر شروقاً من الشمس منذ بدء الخليقة ليومنا هذا.
ثم يتابع:
والحبيب المصطفى قال في كلامه
كان نبي قبلن ما آدم يبقى روح

جسم آدم كان مسوى في منامه
والحبيب المصطفى بعطره يفوح

مقتدر واحد وله في الكون نظامه
والنظام بالعزة وافي .. له .. وضوح

قبضة من نور العناية عليه سلامه
والسلام بعدد ثواني عمر نوح

تنطوي هذه الأبيات على الثقافة الدينية الواسعة للشاعر حيث يشير إلى بعض ما ورد في الأحاديث القدسية والأحاديث الشريفة عن أن وجود سيدنا محمد كان سابقاً – في علم الغيب – على وجود سيدنا آدم، وقد قرأ آدم على عرش المولى عز وجل لفظة الجلالة: لا إله إلا الله وعلى الجانب الآخر محمد حبيب الله ولما سأل آدم عن هذا عرف أنه المصطفى() نبي آخر الزمان وخاتم المرسلين وشفيع المسلمين وحبيب رب العالمين.
والأبيات تنطوي على الثناء على الرسول وعلى حكمة المولى (عز وجل) في تقديره للأمور ولنظام الكون وأن نور سيدنا محمد هو نور من عند الله، وأن سلام الله عليه مستمر منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام.
ثم يواصل الشاعر:
الرسل والأنبياء كانوا في لوائُهْ
يوم ما أسرى صلوا في القدس سوياً

والإله لما تجلى في سمائه
بالكمال والقرب والحضرة العلية

حقق المولى الكريم طلبه ورجاءُه
ع الدوام المصطفى السيرة الذكية

والأمل أحظى بقربه وبلقائه
يا إلهي اكرمني بالطلعة البهية

في هذه الأبيات إشارة إلى رحلة " الإسراء والمعراج " وأن الرسول() قد أمَّ الأنبياء للصلاة في بيت المقدس فكان هو إمامهم رغم وجود سيدنا إبراهيم وكان أكبر عمراً، ولكن في هذا ما يدل على قيادته للأمة واعترافاً من الأنبياء بأنه خاتمهم ولا رسول يأتي من بعده.
ودائماً يدعو الشاعر بأن ينال الحظوة بقربه من الرسول()، ثم يواصل الطواف حول سيرة الرسول() المشرقة:
حتى شوفوا الأنبياء لما اصطفاهم
الإله خد عهد منهم بانتصاره

والميثاق لهُ آيه في القرآن معاهم
لاجل تحقيق العدالة في انتصاره

والملايكة هللوا للنور حداهم
واحتفظ بالطهر في الأصلاب مساره

أنفس الأنساب وأذكاهم بها هم
من أصيل لأصيل .. قمر فيهم مداره

وفي الأبيات السابقة يشير الشاعر إلى أن الله ينصر الرسول()، والمسلمين في آيات كثيرة منها: " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3)(النصر).
كما يشير إلى فرحة الملائكة بنور محمد سيد الخلق أجمعين() وأن هذا النور إنما نور الطهر في سلالته الطاهرة وسلساله الشريف الذي يمتد في صلب سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل. فهو أنفس الأنساب وأذكاها منذ بدء الخليقة إلى يوم يبعثون، وهو القمر بينهم جميعاً، رغم ما قيل في جمال يوسف وعيسى وغيرهما إلا أن سيدنا محمد() يتفوق عليهم جميعاً في نوره كالبدر المستمد من نور الله تعالى وكأنه هو الشمس وجميع الرسل يدورون في مدارات حوله، ويستكمل الشاعر:
خير خلق الله نفساً .. خير بيتاً
خير خلق الله روحاً خير ذاتا

خير خلق الله أصلاباً وحسباً
خير خلق الله م الأعراب صفاتاً

عربي هاشمي .. قرشي يا محمد
خير أهل الأرض أشرفها حياةً

في اللسان وفي الميزان وفي البيان
لا مثيل له في خلق الله بتاتاً

في هذه الأبيات يؤصل الشاعر لبعض صفات النبي ونسبه وأنه خير من خير كله فهو خير الناس في النفس والمنزلة والبيت والعرب والروح والأصلاب والأحساب وقريش وبني هاشم وفي أهل الأرض جميعاً وفي اللغة وفي حساب الدرجات عند الله وكل هذا بالطبع يجعله متفرداً مثالياً استثنائياً كاملاً متكاملاً ذلك لأن الله هو الذي أدبه فأحسن تأديبه وليس يُعلى على تأديب الله أي شيء .. ويواصل الشاعر تأكيده لفكرته فيقول:
الإله خصه بنوره وبعظمته
وبجماله وبكماله في صلب أبوه

وبآيات الله وبالقدرة بعظمته
أبرهة والفيل وطير أبابيل شافوه

وفي حالات القحط يتجلى عليهم
ينزل الغيث مِ السما لو وسطوه

كل ده تمهيد بيحكي لنا كرامته
في الذبيح الثاني أبوه لما افتدوه


ويشير الشاعر في ختام قصيدته إلى كرامات ومعجزات سيدنا محمد فيشير إلى النور الذي كان في وجه أبيه عبد الله قبلما يولد، الذي أراد هدم الكعبة راكباً فيلاً ضخماً فأنزل الله عليه طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل (جهنم) فجعلهم كعصفٍ مأكول أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2)وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ(3)تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ(4)فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ(5)(الفيل).
وقد كان هذا كرامة لمولد سيد الخلق أجمعين، كما كان هذا حماية من الله عز وجل لبيته الحرام فلا يمكن منه أي عدوٍ أو غازٍ شرير (فللبيت رب يحميه)، ويشير إلى بعض كرامات الرسول عندما حل القحط بالجزيرة العربية وجف الضرع والزرع فلما دعا الله سبحانه وتعالى فأنزل الغيث وكذلك يشير إلى افتداء عبد المطلب لابنه عبد الله (الذبيح الثاني) وهو والد محمد().
إنها كلها بمثابة إضاءات أو إشراقات أو أنوار محمدية، يجب أن يعرفها الجميع ويتشرفوا بها حيث هي موجودة في التراث ومدونة في الأثر، ولذا فإن الشاعر كان مُلماً عبر ثقافته الدينية الواسعة بهذه الأحداث التي أثرت قريحته فأفاضت عليه بالإبداع من وحي الرسالة والأنوار المحمدية.
إن من لا يقف على سيرة الرسول() قد لا يفهم بعض الإشارات المختصرة التي يشير إليها الشاعر ضمنياً أثناء سرده للبيت الشعري، حيث أن الشاعر يشير فقط إلى القصة من بعيد وكأنها ومضة أو إضاءة أو دعوة للقراءة والتساؤل والبحث في التاريخ والدين وفهم النصوص القدسية.

7 - البِشْر والأنوار:
ولعل قصيدة " البشر والأنوار " استكمال للقصيدة السابقة، وهي مكونة من عشرة أبيات مجهولة التاريخ لكن الشاعر دون فيها تاريخ ميلاد الرسول() ويستهل الشاعر بالبشر والأنوار المحمدية فيقول:
البِشْر والأنوار ......
والفرح ليل ونهار ......

عمت أمم وديار ......
يوم مولد المختار ......

الظلم ولى وراح ......
وهلت الأفراح ......

أجمل وأحلى صباح ......
هدية الفتاح ......

إن الشاعر يفصح عن هذا البِشْر وهذا النور بأنه إنما كان بـ (مولد الرسول) ()، فقد ولت دولة الظلم وبان الحق وجاء الفرح وكان مولده مع شروق يوم جديد بمثابة هدية من الله سبحانه وتعالى للكون كله الذي فتح علينا بمولد رسوله الكريم().
ويستكمل الشاعر:
في فجر يوم الاثنين ......
تسعة في ربيع الزين ......

أشرف نبي وأمين ......
بالرحمة للعالمين ......

اخضرت البساتين ......
بالعطر والرياحين ......

والفل والياسمين ......
اتعطروا بالدين ......

إن الشاعر هنا يؤرخ لميلاد الرسول() في فجر يوم الاثنين في التاسع من شهر ربيع الأول.
وبمولده الكريم عم الخير كل الخير على كل العالم. ولينشد الشعراء وليصف الواصفون من فقهاء البلاغة فهيهات أن يوفوا هذا اليوم حقه من الوصف ولقد جادت قريحة الشاعر فاختصرت وأوجزت في الأمانة والرحمة والنور وعطر الدين الإسلامي الذي يفوح على من يتعطر به منذ بعثة الرسول() ثم يكمل خاتماً القصيدة:-
البشر والإنشاد ......
والدعوة والإرشاد ......

وأعز عام الأعياد ......
ميلاد سيد الأسياد ......

إنه يكثف المعاني ما بين التفاؤل والبهجة والدعوة والحكمة لو أنصف الناس ولو علموا ما هو ميلاد الرسول() ؟ فهو سيد أهل الأرض أجمعين وسيد المرسلين وسيد أسيادها.
8 - الربيع أنس الحياة:
في هذه القصيدة نكتشف عند قراءتها أن الربيع المعهود لنا (فصل الربيع) ليس هو ربيع القصيدة وإنما يريد الشاعر به شهر الربيع نفسه في التقويم الهجري.
لكن الربيع عموماً يوحي بالتفاؤل والأمل والشروق والاعتدال والصحبة ويوحي عامة بالحياة والحيوية والانطلاقة، ولعل الشاعر غافلنا في مطلع القصيدة بهذا العنوان ليسحبنا إلى قراءتها بذكاء ثم لنكتشف أنه لا يقصد المعنى الحرفي للربيع (كفصل معتدل جميل) لكن يقصد ما ينطوي عليه الربيع من جمال ومعانٍ خلاقة أو كما يقال (المعنى في بطن الشاعر).
وتقع قصيدة " الربيع أنس الحياة " في أربعة وأربعين بيتاً، وقد كتبت أيضاً في أجواء مكة المكرمة بعد زيارة المدينة المنورة في عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين، إنها قصيدة مكية إن جاز التعبير على نهج (سورة مكية)، فلقد جادت بها قريحة الشاعر ونزل وحي الشعر وإلهامه عليه في رحاب مقدسة لا ليحدثنا كما نتخيل عن الربيع كفصل وموسم معتدل الطقس وإنما عن الربيع كشهر مقدس وماذا حدث فيه ويكشف لنا بعض أسرار هذا الشهر الكريم فنفاجأ بكرامات روحية ووجدانية مقدسة تتعلق بهذا الشهر، يقول الشاعر:
الربيع أنس الحياة ....
زي ما قالوا الرواه ....

في الربيع ميلاد حياه ....
ع الحبيب زيدوا الصلاه ....

بعثه ربي واصطفاه ....
صانه بالوحي وحباه ....

في الربيع أسراه دعاه ....
للعلالي .. منتهاه ....

في الربيع هِجْره .. ونجاه ....
أَيَّدُه .. سدد خطاه ....

حفظه مولانا وراعاه ....
اليتيم ربي أواه ....

نلحظ في هذه الأبيات مجموعة من الإشارات التاريخية ذات الدلالة وكلها حدثت في شهر الربيع وقد جمعها الشاعر بذكاء وسلاسة ليضيف للقارئ معلومة مهمة دينياً ففي شهر الربيع ميلاد الرسول()، وفي هذا الشهر كان الإسراء والمعراج (رحلة الرسول من مكة المكرمة للقدس الشريف وبيت المقدس ثم الصعود لسدرة المنتهى في الجنة بعد السموات السبع والقصة معروفة).
وفي هذا الشهر كانت هجرة الرسول والتي أيده الله فيها بالنصر والفتح وأعزه بالمسلمين من المهاجرين والأنصار وراعاه الله وحفظه وهو اليتيم ويستلهم الشاعر من القرآن ما يعزز به نصوصه الشعرية فيقول (اليتيم ربي أواه) وهي مستلهمة من سورة (الضحى) حيث تقول الآية الكريمة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(الضحى:6).
إن استلهام معاني القرآن يُثري أشعار البحراوي ويعلى من قيمتها اللغوية والفنية.

صانه للدنيا وهداه ....
الفقير ربي غناه ....

لاجل ما تكون الحياة ....
بالحبيب أعظم حياه ....

في البيتين السابقين يؤكد الشاعر كيف أن المولى عز وجل هو الذي صان رسوله() في الدنيا أي صانه من الشرور والآثام وحفظه وحماه بالهداية الإلهية فأعزه وهو فقير بالغنى النفسي وهو أعظم غِنى في الوجود، ولعل حفظ الشاعر للقرآن الكريم أطلق لسانه في معانيه وهو يبدع أزجاله فهذا البيت مستمد من سورة الضحى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8).
وبالتالي فإن من يتبع سنة رسول الله() في الحياة فإنها ستكون أعظم حياة، لأن جذورها تعود إلى التربية الإلهية والتهذيب الرباني، وإن من يحيد عن دين الله فهو الخاسر كما قال ذلك().
في الربيع كان الوفاه ....
إنما الموت الحياه ....

للبشير مليون صلاه ....
للشفيع احنوا الجباه ....

نَوَّروا الأفهام بشرعهِ ....
بَصَّروا الإعلام بِوَرَعِهِ ....

عطروا الأقلام بفكرهِ ....
زَهَّرُّوا الميلاد بزرعه ....

فقهوا الأقوال بذكره ....
عَمَّروا الأوطان بشكرهِ ....

انشئوا الأجيال بسيرته ....
انشدوا الهدى في مسيرته ....

يشير البحراوي إلى قضية من أخطر القضايا الإنسانية والوجدانية وهي قضية (الموت/الحياة) أي كيف يحيا الإنسان بموته وقد يموت آخر وهو على قيد الحياة؟
إنها فكرة فلسفية قد طرحها الشاعر ببساطة عندما رمز إلى موت سيد البشرية بأنه (الموت/الحياة) ولم ينس أن يؤرخ لتاريخ (موته/الحياة) بأنه كان في شهر الربيع أيضاً، كما كان ميلاده ()، لكن جرت العادة أن نحتفل بمولد الرسول وليس بذكرى رحيله! لأن الدين الإسلامي يدعو إلى الحياة بالبشر والتفاؤل وليس باليأس والحزن.
إن الشاعر يؤكد فلسفة (الموت/الحياة) أو قضية (الغياب/الحضور) بحسب قيمة صاحبها، فكم من أناس عاشوا وماتوا ولم نعرف عنهم شيئاً ولم يخلفوا وراءهم أي أثر أو تراث أو ذكرى.
وكم من أناس يعيشون على الأرض وحياتهم للموت أقرب لأنها بلا نفع ولا قيمة، وفي مقابل هؤلاء يوجد العظماء، وليس أعظم من رسول الله()، إنه سيد العظماء في الدنيا والآخرة بلا منازع وقد وصفه الله عز وجل بأنه حبيبه، وقد قرأ آدم عليه السلام (أول الخلق أجمعين) اسمه مكتوباً على عرش المولى عز وجل نظراً لقدره وعلو شأنه ومكانته عند الله، ولذا فالشاعر ينبه إلى ضرورة الإكثار من الصلاة عليه() فإن الملائكة ترد عليه السلام وترحمه وتصلي عليه، ولقد اقترنت كثرة الصلاة عليه() بوجوب شفاعته لنا يوم القيامة ويوم لا يشفع للمرء إلا عمله، لذا فقد وظف البحراوي العلاقة بين الصلاة على رسول الله وبين شفاعته، وهو ذكاء وإلهام من الله عز وجل للشاعر المحب لله ورسوله.
ولذا يؤكد الشاعر على ضرورة التنوير بشرع الله وتبصير الأعلام بورعه، ولقد جاءت كلمة (الأعلام) في مكانها المناسب والمقصود بها العلماء وليس علماء الدين ولكن العلماء الذين يغترون بالدنيا وينسون ذكر الله وورع رسوله () - وهو أتقى خلق الله - ولا يخافون الله الذي ألهمهم هذه السعة من العلم وكما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(فاطر: من الآية28)
إن الشاعر يدعو أيضاً إلى نشر الفكر الإسلامي ونشر الدعوة المحمدية لأنها ستكون بمثابة الزرع الذي يثمر زهوراً وما أجمل من حصاد الزهور! ؟
إنه يدعو للفقه في القول عن طريق الذكر، والشكر وتربية الأجيال وتنشئتهم على الإسلام وآدابه وتعليمهم سيرته العطرة() ليهتدوا بهديه ومن سار على هدي رسول الله() لا يضل سعيه أبداً، ويستكمل الشاعر حول كمال الرسول():
كامل الأوصاف هداني ....
في سلوكي وفـ إيماني ....

جوا روحي وفـ كياني ....
بالمثل ويا المعاني ....

بالقيم بارك زماني ....
بالفضائل عَلَّى شاني ....

نمى بالإحساس بياني ....
حل لي عقدة لساني ....

في عيوني. وفـ وداني ....
في صلاتي وفـ أداني ....

والقلم وياه لساني ....
كل معنى للإيمانِ ....

في هذه الأبيات يفسر لنا لماذا السير على خُطى الحبيب ! ذلك لأنه كامل الأوصاف ويقال دائماً (ما كامل إلا محمد) () ولأنه يتصف بهذا الكمال الذي أودعه فيه الله سبحانه وتعالى لذا فإن من يسلك سلوكه فقد آمن وعادة لا يسلك الإنسان سلوك إنسان آخر إلا إذا أحبه فهو يقتدي به ويقلده ويفعل مثله لأنه يحبه، لذا فقد جاء الشاعر بخلاصة القول بأنه يسلك مثله حتى صار إيمانه داخل روحه وكيانه وأنه يستمد قيمه من قيم رسول الله() لأنها الفضائل التي ترفع شأن الإنسان.
ولذلك فقد وهبه الله هذه القريحة التي تجود بهذه الكلمات من البيان وقد استجاب الله لدعائه المخلص كدعاء سيدنا موسى فأحل له عقدة لسانه وأجرى عليه الشعر كما نرى.
ونستطيع عبر الأبيات أن نكتشف كيف أثر القرآن الكريم على مفردات الشاعر فهذبتها وحولتها إلى كلمات إيمانية عذبة، لقد استلهم دعاء موسى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)يَفْقَهُوا قَوْلِي(28) (سورة طه). إنه منتهى الحب للحبيب ولقرآنه المنزل عليه.
وفي هذا المقام يصدق قول رسول الله() عليه وهو يؤكد (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فلقد ارتبط الإيمان بالمحبة للرسول ومن أحب الرسول فقد أحبه الله وأمر الملائكة أن تحبه ونادت الملائكة في الناس (العباد) أن تحبه.
إن الشاعر قد أحب رسول الله() حتى صار في عينيه وأذنيه وصلاته وآذانه ولسانه فأجرى القلم بين يديه يُسطر شعراً في حب رسول الله والمولى(عز وجل) والمقدسات جميعاً ثم يدعونا الشاعر للسير على خطاه وتنفيذ وصاياه لتأكيد هذا الحب، فالحب بالأفعال وليس بالأقوال فقط، فيقول الشاعر البحراوي:
انفقوا .. زكوا فـ ميعاده ....
أوصلوا الأرحام مراده ....

اجمعوا الشمل فـ ميلاده ....
المدد . م . الله مداده ....

إنها دعوة للنفقة في (سبيل الله) كما ورد في الآيات وهو يبشر الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(البقرة:262).... الخ) ويعدهم بجنات النعيم، وإنها دعوة (لصلة الأرحام) فإن من يصل رحمه يصل الله ومن يقطعها يقطع الله كما ورد في حديثه القدسي جل في علاه، إنها دعوة للاتحاد عند الاحتفال بمولد رسول الله() هذا الاتحاد الذي دعا الله ورسوله إليه كما في الآياتوَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا الخ  (آل عمران 103) ففي الاتحاد قوة لأن الله يمدهم بقوة من عنده وفي التفرقة ضعف وذل وانكسار.
ويعود الشاعر في حالة من الفرح الصوفي عندما يزور رسول الله() في قبره في المدينة المنورة فيقول:
في المدينة هناك دعاني ....
واحنا في حج الأماني ....

كرم الرؤيا وجاني ....
شفته مرة وشفته تاني ....

مرتين شرف زماني ....
شوفته كامل للمعاني ....

رؤيا واضحة كالعياني ....
يومها بالأحضان شفاني ....

وبشمايله قال لساني ....
يا شفيعي يا جناني ....

بين صحابك شأن تاني ....
في الوجود مالكش تاني ....

إن الشاعر هنا يصف كيف لبى دعوة الرسول وذهب للحج الذي يتمناه ويصف كيف جاءه رسول الله() في الرؤيا والمنام، وقد جاءه مرة إثر أخرى.
لذا يؤكد الشاعر بفرح أنه رأى الرسول () مرتين وكأنه رآه رأي العين فالرؤيا واضحة بلا التباس، وأنه أخذه بالحضن في هذه الرؤيا، وقد شفاه الله وعافاه عندما حضنه الرسول في المنام.
ومن المعروف عن حديث رسول الله () أنه قال: ( من رآني في المنام فكأنما رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي) أي أن الحديث الشريف ينفي أن من يحلم بالرسول يكون حلمه من قبيل الهلوسة وأضغاث الأحلام ولعب الشيطان بالنائم، ذلك أن الشيطان يعجز عن التشبه برسول الله، لذا فإن رؤيا الشاعر حق وزيارته لرسول الله حق كما أن الجنة حق والنار حق.
وينشد الشاعر متغزلاً في وصف نور الحبيب() فيقول:
يبقى ( طه ) الأولاني ....
والقمر تالت وتاني ....

يا رسول الله يا .. باني ....
بالقيم أسمى المعاني ....

رغبة حققها السميع ....
أني أشاهدك يا شفيع ....

وأنت جايّ ْمِن البقيع ....
للمقام مُحْرِم بديع ....

موكبك في الشان رفيع ....
يا ربيع فاق الربيع ....

مكسبي فاق أي ريع ....
مكسبي الربح السريع ....

وأنت جاي مُحرِمْ لبيتك .....
بالشرف كوكب رأيتك ....

يومها بالأحضان لفيتك ....
بالقبل مشتاق مليتك ....

إن الشاعر لم يزل مبهوراً برؤياه () إنه أجمل من القمر عندما رآه حتى يتراجع القمر رغم جماله المبهر وضوئه المشع بكل هذا البهاء، إنه يصبح في مرتبة ثانية أو ثالثة بعد نور رسول الله() إن نوره لا يضاهيه نور القمر.
إنه نور القيم السامية والسماوية التي تبني أجمل المعاني، ولم يزل الشاعر مبهوراً برؤياه للرسول() ويصف هذه الرؤيا بأنه() أتاه من البقيع متجهاً لمقامه الكريم وهو بملابس الإحرام البيضاء البديعة وأنه كان في موكب جليل وكأنه الربيع يُزف إلى الكون بخضرته وثماره بل أن ربيع رسول الله فاق كل ربيع في الحياة ولذا فإنه ليس بمدهش أن يولد ويموت في شهر الربيع، وكأن كلمة (ربيع) في حد ذاتها رمزٌ لجمال الدعوة وبهائها، واستثنائها، يستثنى الربيع مثلما بين الفصول باعتدال طقسه مع الفارق طبعاً.
يؤكد الشاعر أنه بهذه الرؤيا قد كسب أعظم مكسب في حياته حتى ولو كان مكسباً مستمراً ودورياً منتظماً وتفيد كلمة (ريع) هذا المعنى، لأن الشاعر قد كسب مكسباً عظيماً وسريعاً في نفس الوقت وهي رؤية رسول الله().
لقد تمخض هذا المكسب عن أحضان وقبلات بلا حدود قد لقى الشاعر بها رسول الله()، فأي مكسب يطمع فيه الإنسان بعد ذلك؟
يستكمل الشاعر الأبيات والتي كتبها في مكة المكرمة بعد زيارة المدينة عام 1986.
بالصلاة ويا السلام ....
للحبيب بدر التمام ....

البشير خير الأنام ....
الشفيع يوم الزحام ....

الحبيب ماحي الظلام ....
أُمَّي .. علمنا الكلام ....

عربي .. والقرآن علام ....
معجزاته ع الدوام ....

حبل ليناً واعتصام ....
أول الرسل العظام ....

خاتم الرسل الكرام ....
نفذوا شرعه قوام ....

فهو يدعو للصلاة والسلام على حبيب الله الذي أشرق نوره على الكون مثل البدر ليلة التمام، إنه يؤكد كيف أن الرسول() خير الأنام وهو الشفيع لنا يوم القيامة.
وأنه النور الذي أشرق على الكون فمحا ظلام الجهل، وأن حكمة الله تجلت في أن ينزل قرآنه على الرسول (الأمي) لتثبت بذلك المعجزة، وأن اللغة العربية خير لغات الأرض لأنها لغة القرآن ولغة أهل الجنة، أنها دعوة للتمسك باللغة العربية مثل التمسك بالدين وبالقرآن الكريم وحيث معجزاته لا تنفد أبداً وستظل بلا نهاية حتى يوم القيامة تكتشفها الأجيال جيلاً بعد جيل، وأن الرسول() هو خاتم الأنبياء والمرسلين لذا فلا رسول بعده ولذا يجب التمسك بشريعة الله وتنفيذها حتى لا يغضب الله علينا، ولا حجة لأحد عندما يتهاون في ذلك، ويختم الشاعر قصيدته بأن هذا التمسك يكون عملاً وليس قولاً أو هو القول المشفوع بالعمل ذلك لأن نيل الجنة ليس بالشيء السهل ولا القليل وإنما يجب على الإنسان أن يبذل نفسه في طاعة الله ورسوله حتى ينال المرام يختم الشاعر مسك الختام:

اعملوا به مش كلام ....
وبكدا ننول المرام ....

صلوا دايماً ع الدوام ....
ع الحبيب خير الأنام ....


إن مسك الختام حقاً كما يؤكد الشاعر دائماً وطبقاً للمنهج الإسلامي وكما قال رسول الله() إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. وأشار إلى قلبه الشريف بيده وقال: الإيمان هاهنا ... الإيمان هاهنا إلا وإن في الجسد مُضْغَةٌ إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، وأشار لموضع القلب. فاللهم أصلح قلوبنا وكما قال البحراوي يرحمه الله: وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .. إنه خير الأنام.
9- نبي البِرَّ:
لم يزل البحراوي هذا العاشق الإلهي في العصر الحديث، يتغنى بحب الله وبحب رسوله() لا تلهيه مشاغل الدنيا ولا تغريه تجارته الواسعة
بأن يغترف من لذات الحياة، إنه يغترف من النبع الطاهر السرمدي الذي لا يزول أبداً ولا يفنى وهو نور الله وفيض حب أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد().
وفي قصيدته الجميلة (نبي البَرَّ) التي بين أيدينا نكتشف دائماً أن جمال البيان وفصاحة اللسان إنما هي هبة الله الرحمن الرحيم لشاعرنا الكريم – يرحمه الله ..
نبيُِ البِرَّ يا طه ....
شمايلك حلوه ما احلاها ....

وروض الجنة وبهاها ....
وشمس العزة وضحاها ....

في هذين البيتين السابقين يجمع الشاعر كل صفات الرسول() في كلمة واحدة بسيطة ومُعبرة ودالة.
فهذه (شمائل) الرسول أي كل صفاته (حلوة) وما أحلاها .. أي ليس أحلى منها في الكون كله فالكلمة في العامية المصرية (محلاها) تعني هذا المعنى وهي تقول عادة في مناسبات الفرح والوصف الجميل المبهر ثم يعود مؤكداً هذه "الحلاوة" وهذا الجمال البديع بأنه مثل: روض الجنة مثل بهائها مثل الشمس مثل الضحى لكنها شمس العزة والكرامة التي سطعت بمولد الرسول() ومن المأثورات المعروفة تاريخياً في التاريخ الإسلامي أنه عندما وُلد نبي الهدى() قد حدثت ظاهرة (كسوف الشمس) ورغم أن الإسلام والمسلمين فوق الدجل والخزعبلات وربط بعض الأحداث الكونية بالبشر إلا أن الباحثة(*) ترى أن ظاهرة كسوف الشمس يوم ميلاد الرسول() ليست من قبيل الدجل أو الشعوذة أو إشاعة الخرافة ولكنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى في عُلاه، إن فلسفة كسوف الشمس يوم مولد الرسول إنما تعني أن نور الإسلام أشرق على الكون كله بميلاد الحبيب المصطفى() وأن نور حبيب الرحمن يوم ميلاده غطى هذا الكون أقوى وأضوأ وأسطع من نور الشمس ذاتها وكأن الشمس خجلت من نفسها رغم نورها فتوارت تسجد لله عز وجل في هذه اللحظة النورانية الحقيقية المشرقة إشراقاً روحياً على العالم بأسره، ومن المعروف أنه ما من كائن كان ( حشرة – طير – شجرة – أي نبات – أي جماد مثل البحر والأرض والجبال) إلا ويسبح بحمد الله ونحن لا نفقه ولا نسمع تسبيحهم، لأن حواسنا قاصرة عن هذا الإدراك وقد كانت هذه هبة الله لنبيه سليمان(عليه السلام) فقط، وقصصه مع النمل والهدهد والشجر والجبال وغيرها معروفة، فهو وحده الذي كان يسمع ويفهم لغتهم، فهي مذكورة بنص القرآن وبما أُثر من حكايات في الآثار التاريخية المدونة في التاريخ الإسلامي واليهودي والمسيحي وليست قاصرة على الدين الإسلامي فقط – ونعود لحديثنا السابق – حيث ترى الكاتبة – أن كسوف الشمس كظاهرة وكآية من آيات الله عز وجل إنما تؤكد جلالته عز وجل وإعجازه في آياته الكونية حيث خجلت الشمس أو سجدت أو توارت يوم مشرق نور الإسلام بميلاد رسوله() وليس في هذا من الخرافة أي شيء، إن نور الإسلام – بميلاد (الرمز) والداعية الأول والأخير والرسول الكريم محمد() – "هذا النور" – قد غطى على نور الشمس يومها فأظلمت في ظاهرة الكسوف المعروفة علمياً.
وترى الكاتبة أنه لا ينبغي لنا أن نقف فقط عند حدود العلم في كل شيء، ولكن أن نتخذ من الظواهر العلمية الدلائل الربانية والآيات الكونية المعجزة ذات الارتباط بالوجود الأعلى والأسمى وهو " وجود الله سبحانه وتعالى" وفي هذا مالا يتعارض مع العلم ولا ما يتعارض مع الدين فالموضوع أبسط من ذلك بكثير ويدركه البسطاء بالفطرة وليست الأمور بحاجة إلى فزلكات وسفسطة وجدال ويمكن أن يؤخذ الأمر على هذا النحو من البساطة (لقد أشرق نور الإسلام مع ميلاد الهدى() فالكون كله والكائنات ضياء، وليسوا بحاجة لضوء الشمس يومها فكُسفت الشمس، إما سجوداً وتسبيحاً لله عز وجل، أو خجلاً ومواراة من نور الحق المنزل في نور مولده () لأن نور الشمس نور مادي، بينما نور الله ونور الحق ونور الخير ونور العدل ونور محمد() ونور الإسلام نور روحي معنوي، ولذا فالمعاني مجازية وهي قابلة لهذا التفسير المجازي) والله أعلم.
وفي هذا المعنى يبدع الشاعر في قصيدته (نبي البِرَّ) فيقول:
نور أزلي من الرحمن ....
ونور العلم والإيمان ....

وأُميٌّ هدانا بالقرآن ....
وعربــي خــللاّ ليـنا كــيان ....

نبي الخير بشير ونذير ....
ونور م الله وبدر منير ....

ولو بإيدي لا " روح له " وأطير....
على جناحات طير م الطير ....

وشمس الدنيا وهواها ....
وبدر العزة وسماها ....

وما بين بيته والمنبر ....
جمال الروضة وبهاها....

بالعودة للأبيات السابقة يتأكد لنا ما أشرنا إليه آنفاً عن نور الإسلام ونور
محمد() بأنه النور (الأزلي) أي السرمدي أي الذي لا يغيب أبداً أنه المستمر منذ بدء الكون وحتى نهايته.
وربما قبل بدء الخليقة وربما بعد نهايتها أيضاً " فالأزل" كلمة تعني الكثير وتحتمل من التفسير الكثير أنها تحتل اللانهايات واللابدايات، فمن منا يستطيع أن يجزم بحقيقة الأزل ؟ لا أحد ..
تماماً مثلما لا يستطيع أحد أن يجزم بموعد قيام الساعة حتى ولو ظهرت دلائلها مهما أُوتي من العلم ..  وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً(الاسراء: من الآية85) " فالعلم عند الله وحده سبحانه وتعالى، رغم نور العلم ونور الإيمان الذي أشار إليهما الشاعر، ولكن الشاعر يعني هنا العلم الديني والعلم القرآني والعلم الإعجازي المؤكد والدال على قدرة الله ولذا قَرَنَ الشاعر كلمتي (العلم والإيمان) ولعلها تذكرنا بالبرنامج الأشهر للدكتور العالم (د.مصطفى محمود) والذي كان يُذاع ويشاهد بالتليفزيون بانتظام لعدة سنوات في هذا التوقيت ولا ندري لماذا أوقف مسئوولو التليفزيون المصري هذه الحلقات القيمة النادرة ؟ عفواً هذه لمحة عابرة في الحديث، ونعود للشاعر الذي يشير إلى معجزة الرسول الأمي
() والتي كانت معجزته القرآن في بدء المعجزات وأهمها ولعل الكثيرين لا يقفون عند قدرة وقوة هذا الإعجاز فكيف للأمي أن ينطق ويرتل مثل هذا البيان (القرآن) هل الأمي يعرف شيئاً ؟
ولذا أطلقوا عليه – العرب في الجاهلية – "الساحر". إنه حقاً سحر البيان وسحر الكلمات وسحر اللغة وسحر الإعجاز القرآني، وحكمة الله تعالى أن ينزله على (النبي الأمي)، إن "البحراوي – الشاعر " حين يختصر هذه القضية المعجزة في جملة واحدة قصيرة إنما يدل على قوة وبلاغة المنطق وبساطة اللغة معاً (وأُميّ هدانا بالقرآن) لقد جمع الشاعر في هذه الجملة البليغة كل ما يمكن أن يُقال عن الإعجاز القرآني للنبي الأُمي() فالقرآن حافل وشامل ودستور عظيم وقد نزله الله على عبده الفقير الأُمي فأغناه به عن كل العالمين وهدى به أمة المسلمين. رحم الله الشاعر " البحراوي " البليغ البسيط الفصيح!
ثم يستكمل في إعجاز اللهجة العامية (وعربي خللي لينا كيان) وفي هذا ما تنطوي عليه ثقافة الآخر في النظرة إلى العرب، وهو يعني أن الله حين أرسل الرسالة المحمدية الخاتمة فقد أرسلها على نبي عربي بلسان عربي مبين ولم يرسلها على الغرب الذين يتحدثون باللغات الأجنبية وبهذا يُشرف اللغة العربية ويشرف أهلها فضلاً عن كونها لغة أهل الجنة، فما أعظمها من لغة وما أعظم كياننا نحن العرب عند الله حقاً لو أدركنا قيمتنا ودافعنا عن هذا الكيان الإسلامي ودافعنا عن لغتنا الجميلة ؟!.
إنها رسالة الخير كله كما أشار البحراوي، فالإسلام شمس الدنيا الحقيقية (شمس المعاني وشمس القيم) وهو الهواء والمتنفس الحقيقي وهو أعز الكرامات وأفضلها وأبقاها، ثم يصف جمال وبهاء الروضة الشريفة ويحدد موقعها بين مثواه ومنبره() ولذا فهي قطعة من الجنة لو يدرك الناس إنها الروضة الشريفة لذا يتمنى الشاعر لو ركب على جناح الطير وسافر محلقاً إلى الأراضي المقدسة.
ولعل الشاعر كتب ( وأطير على جناحات طير من الطير)(نبي البرصـ43) كي يفيد السرعة ولكنه كان مرتبطاً في إنشاده بوزن الأبيات وكلمات الشطرة الأولى والأخيرة (نذير وأطير) ذلك أن جناح الطير رغم أنه أسرع من الإنسان بالطبع إلا أنه ليس أسرع من الطائرة أو الصاروخ، وأعتقد أن الشاعر تمنى لو ركب طائرة أو صاروخاً في الحقيقة ليزور النبي() لكنه كان مضطراً لركوب الطير في الأبيات تمشياً مع اللغة في الأبيات وليس عجزاً منه أو دلالة حقيقية على (سرعة الطير) قياساً إلى سرعة الطائرة والصاروخ، لكن في هذا البيت جمال المزاوجة في اللغة بين كلمتي ( وأطير – م الطير)، ونستكمل مع البحراوي قراءة إبداعه المتألق بحب الله ورسوله():
شفيع المؤمنين مدداً ....
في يوم الحشر والزحمة ....

ولن ترضى لنا أبداً ....
بغير العفو والرحمة ....

إن البحراوي يشير ويؤكد عبر الأبيات إلى قضية "الشفاعة" يوم الزحام ويوم الحشر حيث لا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح، وحيث يفر المرء من أخيه ومن أمه وأبيه ومن صاحبته وبنيه، لكن الرسول() – سيكون شفيع المسلمين فيعفو الله سبحانه وتعالى ويرحمهم لشفاعة رسوله الحبيب().
ثم ينشد:
هديه من هدايا الله ....
وفيض للعاشقين وحياه ....

عليك يا رسول الله ....
سلام من المؤمنين وحياه ....

بقرآن ربي يهدينا ....
وبالسنة بيروينا ....

طبيب لينا بيشفينا ....

ينولنا أمانينا ....

يصف البحراوي الرسول() بأنه هدية الله لنا في الحياة، وما أعظمها من هدية، إنها فيض الله وكنزه لمن يعشق هذا العشق النوراني الروحاني الذي يعتبر بمثابة الحياة الحقيقية للإنسان. وكم من ميت على الأرض لا يدري أنه ميت ويظن أنه يحيا، فالموت هو موت الضمير وموت الأخلاق وموت النفس وموت الكرامة لمن لا يتمسك بدين الله وسنة رسوله () فهو الهدي الحقيقي وهي الحياة الحقيقية وهي الماء السلسبيل الذي يروي الظامئين، إن الشاعر يعبر عن "السُنة المطهرة" بأنها كالنبع يروي الظامئين ويهدي الحيارى في درب التيه والتوهان وإن فيها الشفاء لكل عليل، ومن الكنوز النبوية (الطب النبوي) وهو معروف والشاعر لا يقصد الشفاء من الأمراض الجسمية فحسب ولكنها الشفاء من كل علل النفس والروح، فمعنى الشفاء عند الشاعر يحتمل المعنيين القريب والبعيد، الواضح في النص وهو المعنى المباشر، والضمني وهو الغير مباشر والذي يُفهم من بين السطور كما يقال، إن معاني الشاعر الضمنية أعمق من مجرد الفهم الظاهري البسيط للأبيات فقد يفهم القارئ البسيط أن معنى "الشفاء" هو الشفاء من العلل والأمراض، وهو أمر وارد بالطبع، ولكن القارئ المتأمل الأكثر وعياً وأعلى ثقافة يستطيع أن يقرأ النص بعدة قراءات لأن فلسفة الشاعر التي تنطوي عليها خبراته في الدين والحياة تحتمل كل هذا.
ثم ينشدنا الشاعر في نفس القصيدة:
أنا يا رب مش قادر ....
أوفي المصطفى قدره ....

عظمته شيء من النادر ....
وأنا هايم في نور بدره ....

م البداية للنهاية ....
وأنت أنوار الوجود ....

نور منور للبرايا ....
نور إلهي بدون حدود ....

نور وجودك يا حبيبي ....
فاض علينا من زمان ....

لاجل خاطرك يا محمد ....
كل صعب الدنيا هان ....

لم يزل الشاعر يؤصل لمعنى النور، نور محمد() ونور الهداية، إن الشاعر منبهر بهذا النور ومأخوذ به للدرجة التي يشعر فيها بالعجز عن الوفاء بالوصف الذي يريده والذي يشعر به بداخله، فيحاول أن يجمع ما هية هذا النور زماناً ومكاناً (م البداية للنهاية)، (نور منور للبرايا)، (نور إلهي بدون حدود). إن الشاعر لا يرى حدوداً لهذا النور لأنه يفيض من عند الله.
ويرى الشاعر أن كل صعاب الدنيا تهون من أجل هذه الغاية السامية المشرقة وهي حب رسول الله().
ثم يستكمل الشاعر قصيدته موضحاً سعادة من يفوز بزيارة الرسول الكريم() وموضحاً كيف ينجلي هم الإنسان وحزنه عندما يرضي الله عنه ويكتب له زيارة بيته الحرام ومسجد رسول الله() فيقول:
يا هنا اللي زار مقامك ....
مستحيل ينضام في يوم ....

يتملى من نور مقامك ....
بالهنا ساب الهموم ....

يا حبيب الله يا هادي ....
يا ختام المرسلين ....

نلت بيك هدفي ومرادي ....
يا شفيع المؤمنين ....

كما يؤكد الشاعر مرة أخرى على قيمة " النور " فالنور يمتد ليشمل كل شيء حتى مقام الرسول() وتفيد كلمة (ساب الهموم) بالعامية معنى الترك والتخلي عنها، وأن من يزور مقام الرسول() فإن الله لا يخذله أبداً لأنه يحب الرسول ويزوره ولأنه() نبي الهدى وختام المرسلين وهو الشفيع وزيارته أسمى أهداف الإنسان في الحياة وأعز وأغلى ما يريد ويتمنى وأن من ينول هذه الغاية فإنه يستحق شفاعة الرسول() لما ورد في الأثر (من زارني نال شفاعتي) أو (استوجبت له شفاعتي).
ثم يستكمل " البحراوي" قصيدته النورانية ويختمها بالأبيات التالية:
في الحجاز نولنا مُنانا ....
لما روحنا مشتاقين ....

واستجاب الله دُعانا ....
في جوارك يا أمين ....

لا جل خاطرك يا رجانا ....
نصر ربي كان مَعَانا ....

حقق الرحمن مُنانا ....
بارك الرحمن خُطانا ....

فقد نال كل المنى بزيارته لـ (الحجاز) وهو الاسم القديم الذي اشتهرت به جزيرة العرب (المملكة العربية السعودية حالياً) وحيث كان يقال عن الحجاج دائماً أنهم سيذهبون للحج في الحجاز أو يقال عمن رجع بالسلامة من الأراضي المقدسة بعد أداء فريضة الحج بأنه (عاد من الحجاز) وهي كلمة مشهورة ربما حلت محلها الآن كلمة (السعودية) لكن الشاعر يثبتها في أبياته وبالتالي فإنه يحول دون اندثار (اللفظ المقدس) كلما قرئت هذه القصيدة وغيرها.
إنه – الشاعر – يؤكد أنه ذهب على شوق وأن الله حقق له الدعاء واستجاب له ونال ما يتمناه بزيارة رسوله()، وأن الله قد وفقه في رحلته المقدسة ونصره وبارك خطوه.
فاللهم اغفر للبحراوي وارحمه واسكنه فسيح جناتك واجعل اللهم قبره روضة من رياض الجنة وشفع به رسولك الكريم محمد()، كما كان يتمنى دائماً بحق زيارته لمقامه ولكعبتك المشرفة وبحق كلمة صدق نطق بها قلبه قبل لسانه فسالت نوراً مسطوراً.
10- أنا في ضيافتك يا ربي:
وقد كتب الشاعر هذه القصيدة كما يذكر في (بستان الورد) في أثناء رحلة العمرة ليلة القدر بمكة المكرمة يوم الجمعة 27رمضان 1416هـ الموافق 16فبراير1996م.
وهي قصيدة طويلة مكونة من ستة وسبعين بيتاً، وهي على هيئة رباعيات، كل أربعة أبيات تشترك في قافية وهي ثرية بالمعاني الفياضة التي تسكنه والتي تدور جميعها في إطار عذب من الأدب الإسلامي الذي يتمركز حول حب الله ورسوله وآل بيته وكعبته وأراضيه المقدسة، هذا المناخ الروحاني النوراني كان دائماً يطيب له فيغذي قريحته الشعرية ويلهمه بأجمل وأعذب وأبسط الأبيات في تركيبها وأغناها وأعمقها في معانيها ويستهل الشاعر قصيدته الملونة باللون الأبيض لون الطهر والنور والضياء والنقاء، أنه لون ملابس الإحرام العزيزة على كل مسلم فيقول:
من صغر سني وأنا ....
رَحَّال بإحرامي ....

للحج والعمرة سنوي ....
أحقق أحلامي ....

لمكة أم القرى ....
الحج إلزامي ....

وفـ مسجد المصطفى ....
الروضة إلهامي ....

إن الشاعر يشير إلى أن الله هداه إليه منذ الصغر، وأنه عبد رباني لم تأخذه شهوات الدنيا مثل كل الشباب وحين نراجع سيرة الشاعر نجد بدء رحلاته للأراضي المقدسة حيث الحج والعمرة إنما كان في شبابه (في الثلاثينيات من عمره).
فإن المراجع لتواريخ هذه القصائد يكتشف أنه كتب قصيدته (سفينة بتزغرط) في عام 1972م، والشاعر من مواليد 1934م كما ورد في الديوان، وهذا يعني أن هذه الزيارة للكعبة المشرفة ولرسول الله() إنما كانت وعمره وقتذاك – يرحمه الله – حوالي (38) عاماً، أي في عمر الشباب، إنه لم يذهب كحال بعض الناس في أواخر أعمارهم في الستين أو السبعين أو ما بعدها لأداء مناسك الحج، بعدما يعيش بعضهم حياته طولاً وعرضاً ثم يفكر – إذا مَنَّ الله عليه بالهدى والتوبة – أن يذهب للحج مغتسلاً من ذنوبه وآثامه. والبعض لا يذهب أصلاً ولا يقتنع بهذا الطقس أو قد يستخسر أمواله ويبخل بها على من وهبه إياها، فأصناف البشر كثيرة ومتنوعة وأعلاهم قدراً عند الله من تعلق قلبه بحب الله أو كما قال الرسول() في وصف واحد من سبعة يستظلهم الله بظله يوم القيامة ويوم لا يكون إلا ظله، من هؤلاء السبعة (شاب نشأ في طاعة الله)، والحديث عن الـ (شاب) وليس عن الـ (كهل) أوالـ (عجوز)، حيث إغراءات الشباب كثيرة مثل الفتوة والطاقة والصحة التي قد يصرفها فيما حرم الله .. الخ، لذلك فإن الشاب – (بكل ما لديه من قدرات وطاقات على العصيان وإتباع الشهوات والشبهات والإغواءات والشيطان) الذي ينشأ في طاعة الله يعني أنه يجاهد في سبيل الله بل يجاهد الجهاد الأكبر وهو (جهاد النفس) كما ورد في حديث رسول الله() في محاورته مع الصحابة عندما قال لهم(): (عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، فلما سئل: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله ؟ قال: جهاد النفس.) صدق رسول الله().
وحين ينشأ الشاب على طاعة الله فإنه يصبر على الطاعات وهو صبر عظيم لأنه يصرف فيه جهده وطاقته بدلاً من صرفها في الحرام، وإنه يصبر أيضاً على مقاومة (هوى النفس) وإغراءات الحياة بما يشجع على كل الفساد مثل المال والصحة، وكلاهما ابتلاء من الله عز وجل في مرحلة الشباب.
ومن المعروف أن الحاج البحراوي يرحمه الله كان ميسور الحال وقد مَنَّ الله عليه بنعمة المال، ولكنه كان يعمل بالآية الكريمة وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(الضحى:11). فكان يتحدث عن النعمة سراً وعلناً، وفيما كان سراً ما قاله عنه صديق عمره الشاعر والزجال: محمد إبراهيم مصطفى (أبو سعاد) بأنه " كان يرحمه الله يعطيني مما أعطاه الله من إعانات للكثير من الزملاء والأصدقاء الفقراء يساعدهم بها على القيام بأعبائهم في الحياة وكان دائماً ما ينفق في أوجه البر والخير والتقوى وكم كانت له من آيادٍ كثيرة وأفضال على الكثيرين وكثيراً ما كان يردد: المال مال الله وإنما أنا سبب من أسباب الله جعلني الله في طريق هؤلاء) راجع الجزء الأول من الدراسة.
وأما ما كان ينفقه من أمواله علناً فهو على الطاعات وفي زيارة الأراضي المقدسة، ومن المعروف أن هذه الرحلات مكلفة لمن لا يعمل هناك، فالبحراوي – يرحمه الله – كان يعمل في مصر، ويسافر للحجاز على حسابه الخاص بأموال مصرية وليس بما هيأه الله للبعض من العمل في " السعودية" فيزور مكة والمدينة من بين رحلاته هناك، أو يستكمل دينه باعتبار أن الغرض تحصيل حاصل ولأنه لن يكلفه الكثير فضلاً عن أن الله أوسع له في رزقه هناك فيقبض راتبه بالريالات أو بالدولارات، مما يتيح له فرصة الحج أو العمرة ولعله لو كان بوطنه الأصلي (مصر) لما ذهب ولما فكر أن يكمل دينه ولتعلل بضيق ذات اليد أو برر تكاسله بذكر الآية - عن الحج - وقال (لمن استطاع إليه سبيلاً) ... الخ
وعفواً إن تحدثت في هذا الأمر، فأنا لا أتهم أحداً بالذات ولكني أقر بعض الواقع الذي نراه وما دعاني لهذا هو استثناء البعض من هذه القاعدة، ومن هؤلاء المستثنين يكون الحاج البحراوي، لا باعتباره أدى الفريضة مرة واحدة ولا باعتباره أداها في نهاية عمره – يرحمه الله – لكن باعتباره قد تشوق إليها ونالها بفضل الله منذ شبابه وباعتباره اعتاد هذه الرحلة المقدسة وأحبها فصارت له مثل العادة وهي من أجمل وأروع العادات والعبادات لأن الإنسان لا تجري قدماه إلا لما يحب ولمن يحب فإنه يُسرع الخطى إليه يستحثه الحب والشوق، وليس أجمل من أن يستحث الإنسان الشوق والحب إلى الله وبيته ورسوله وأرضه، ومنذ شبابه ... وهذا ما أعنيه بفكرتي السابقة، والتي أثارها أول بيت من قصيدة البحراوي – يرحمه الله – (أنا فـ ضيافتك يا ربي):
من صغر سني وأنا ....
رحال بإحرامي ....

للحج والعمرة سنوي ....
أحقق أحلامي ....

لمكة أم القرى ....
الحج إلزامي ....

وفـ مسجد المصطفى ....
الروضة إلهامي ....

ويلاحظ من جُملة الشاعر (الحج إلزامي)، بأنه وكأنه قد أخذ عهداً على نفسه بالحج، والعمرة، رغم أن الله قد فرضها مرة واحدة على المسلم ولمن استطاع إليه سبيلاً، إلا أن الشاعر فرض هذا الإلزام على ذاته بذاته ليؤدي الطاعات ولينفق أمواله في سبيل الله باختياره الحُرّ وإرادته الحرة، إنه يذكرنا بالمؤمنين الأوائل في فجر الإسلام والذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (البقرة: من الآية261).
ويشير الشاعر بأن الله حين فتح عليه بالحج فقد فتح عليه بالإلهام أيضاً ففي "الروضة الشريفة" جادت عليه قريحته بهذا الشعر الرباني، وبهذا الأدب الإسلامي الرفيع المستوى، والبسيط الأداء والعميق المعنى والمغزى.
يستكمل الشاعر:
إلهمني يا ربي أجاوب ....
ساعة الملكين ....

وأشطر شيطان منتظرني ....
بالجواب نصفين ....

بالرحمة قبل العمل ....
يا رحيم يا معين ....

وأكرمني ساعة الحساب ....
والعرض يوم الدين ....

لم يزل الشاعر يدعو الله في الروضة الشريفة حيث تستجاب الدعوة- بإذن الله تعالى – وهو يدعو ما يخاف المرء منه ويعتبر مجهولاً بالنسبة له مثل ساعة نزول القبر، وانصراف المشيعين وحيث يتولى الملكين المعروفين بأنكر ونكير حساب الإنسان على أعماله فيسألانه عن اسمه "فلان" ، ودينه "الإسلام"، وكتابه "القرآن"، ورسوله" محمد عليه الصلاة والسلام"، ولذا فإن من الأدعية المأثورة:
(اللهم ثبتنا عند السؤال في القبر) أو ( اللهم ثبتنا عند سؤال الملكين ) لأنه يقال أن من لا يجيب بهذه الإجابات السابقة أو يتلخبط بفعل الشيطان الذي يتربص به حتى اللحظة الأخيرة فإنه يدخل جهنم وساء مصيرا، فمن يبتغي غير الإسلام ديناً ساء سبيلا وساء مصيرا.
لذا فإن الشاعر يخشى الشيطان ويدعو الله بأن يلهمه الإجابة السليمة لأن هذه الإجابة – كما أثر – تشطر الشيطان إلى نصفين، أي تهزمه إلى غير رجعة، فالإيمان وحده هو الذي يقهر الشيطان. كما قال الشاعر القديم:
(إذا الإيمان ضاع ....
فلا سلام فيمن لا يحيي دينا....)

ولم يزل الشاعر متخوفاً ألا يرفعه عمله – رغم صلاحه – إلى الدرجة التي تدخله الجنة – (فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقين) – لذلك فهو يدعو الله أن يرحمه ويعينه ويمن عليه بكرمه مرتين: مرة ساعة حساب القبر، ومرة أخرى حين يوم العرض الأكبر عليه، حيث تعرض أعمال الإنسان بكل العدالة فلا عدل فوق عدله يوم القيامة، ولكن تبقى رحمته تعالى التي وسعت كل شيء.
ولم يزل خوف الشاعر مسيطراً عليه في الأبيات التالية ولم يزل يدعو الله في الروضة الشريفة مستكملاً الدعاء مُنوعاً فيه والغاية واحدة، إذ يقول البحراوي (يرحمه الله):
عند السؤال والجواب يا رب ....
فقه قولي ....

وأجعلي يا رب قبري ....
روضة وأفسحهو لي ....

ويبقى نوره يا ربي ....
في عيوني لولي ....

أقبل رجايا يا ربي ....
يا رب حققهولي ....

إن الشاعر لا يدعو الله فقط بل يستحثه أن يقبله، ويرجوه ويلح في الدعاء، وهو من آداب الدعاء أن يُلح المرء فيه وعلى الأقل يدعو ثلاث مرات (سُنَّة) ولكن عندما يلح المرء في الدعاء فإنه كما في معنى الحديث القدسي "يظل العبد يدعو الله ويدعوه ويُلح في الدعاء حتى ليستحي الله أن يرد دعوته" ما دامت ليست بظلم لأحد" ومن الأدعية المأثورة عن رسول الله() دعاء القبر:
( اللهم وسع قبره أو اللهم أفسح قبره، واللهم اجعله روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار).
إن الشاعر يرجو الله أن يثبته عند السؤال في القبر وأن يفقهه في القول ويفسح له فيه وينيره حتى يصير (لولي) أي مثل اللؤلؤ.
وفي العامية (افسحهو لي) أي (أفسحه لي ، و(حققهولي) أي (حققه لي) يا رب. اللهم آمين، واللهم استجب لدعائه (رحمة الله)، ويستكمل الشاعر:
أنا في ضيافتك يا ربي ....
العمل ... رسمالي ....

وأنا مذ عرفتك يا ربي ....
أعرف .. الإجلال ....

بالتقوى بالله ....
زماني لي .. صفا لي ....

يا رب أكرمني فـ زمني ....
اللي فات والحالي ....

ويتذلل الشاعر إلى الله حيث الذل لله وحده هو منتهى العزة، إنه يعود يستسمح الله ويرجوه بأنه في ضيافته ومن كان في ضيافة الرحمن فما أكثر موائده ونعمه التي لا تحصى، أن الشاعر لا يحتسب لنفسه مالاً غير العمل، والعمل وحده وعمله هو "التقوى" وهي كفيلة بأن تجعل الزمان يصفو له، "فمن يتق الله يجعل له مخرجاً" وكما قال الرسول(): "عليكم بتقوى الله ثم أشار إلى موضع قلبه وقال: التقوى هاهنا .. التقوى هاهنا .. التقوى هاهنا" وهي إشارة لطهر النفوس والقلوب والصدور قبل أي شيء، وحيث الله وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ولذا يدعو الله أن يكرمه فيما مضى من عمره وفيما كان يعيش بما يعرفه الله عنه من تقوى، ونسأل الله أن يكرمه بها في قبره وفي الآخرة بإذنه تعالى.
ثم يعود الشاعر منشداً ومعدداً فضل الله ونعمه عليه عملاً بسنة رسوله وحيث أوصى الصحابة بمجالس الخير ومنها تلك المجالس التي يجلس فيها الأصحاب أو الأهل فيتذاكرون القرآن، ويتذكرون ويذكرون نعم الله التي أنعم بها عليهم من فضله العظيم، ويعمل الشاعر بهذه السنة فيقول:
الله آزرني ورازقني ....
وكارمني في حياتي ....

شرح لي صدري ويسر ....
أمري في ذاتي ....

فقه لي قولي في شعري ....
وفـ كل أبياتي ....

ونصرني زمني اللي فات ....
أيضاً وفي الآتي ....

يعدد الشاعر نعم الله التي لا تُحصى ويعترف بها ويعلنها صراحة شعراً بل يعتبر أن هذا الشعر هو نعمة من تلك النعم التي خصه بها فالله آزره (سانده وأيده) ورزقه (من حلال) وأكرمه وشرح له صدره ويسر له أمره وفقهه في قوله وفي شعره ونصره وهو واثق من نصره القريب أيضاً فيما يأتي في حياته لأنه على يقين من أن الله لا يخذل عباده المؤمنين المتقين.
كما يلاحظ في الأبيات السابقة أثر "القرآن الكريم" في لغة الشاعر، إن الشاعر قد استلهم من دعاء النبي موسى (عليه السلام) دعائه، وهو مما ورد في السنة المطهرة أيضاً أن ندعو بدعاء الأنبياء.
ثم يقول الشاعر:
أحللت عقده يا ربي ....
من لساني بقيت ....

فياض بخيرك لبيتك ....
يا غفور هليت ....

من مصر بلدي وحبايبي ....
عنهم .. لبيت ....

أشدو بفكري وشعري ....
لك في أعظم بيت ....

ولم يزل الشاعر معترفاً بنعمة الله عليه، واثقاً من أن الله قد مَنَّ عليه بقريحته وألهمه الشعر وحل عقدة لسانه كما فعل سبحانه من قبل مع موسى عليه السلام، يشير الشاعر إلى موطنه مصر وإلى رحلته المقدسة ملبياً طاعة الله ورسوله في الحج نائباً عنهم (ولعله حج عن بعض أهله) ولم يزل الشاعر يشدو في (أعظم بيت) ويقصد به بيت الله (الكعبة المشرفة).
ونلاحظ جمال اللغة في المفارقة بين كلمتي (لبيت) و (بيت)، إن الشاعر قد لبى نداء الله أولاً، ولبى الله دُعاءه بأن ألهمه الشعر في الحج وفي أعظم بيت على وجه الأرض (بيت الله) في مكة المكرمة وحيث الكعبة المشرفة.
ويعود الشاعر مستكملاً:
أنا في ضيافتك يا ربي ....
رحمتك تغنيني ....

الرحمة هيَّ حياتي ....
عمري كل سنيني ....

الرحمة من فوق الصراط ....
المستقيم تهديني ....

الرحمة تجعلها كتاب ....
يوم الحساب في يميني ....

في تلك الأبيات يؤكد الشاعر على قيمة (الرحمة) أي (رحمة الله) عز وجل، هذه الرحمة التي تغني العبد فلا يحتاج ولا يذل أبداً، وأنه يعترف بأنه لولا رحمة الله ما كانت حياته لأنه يستشعر رحمة الله طوال عمره وأنه رغم أنه يتق الله ويسير على الصراط المستقيم إلا أن هذا لا يحدث إلا بفضل الله ورحمته ولم يزل يدعو الله أن يظل رحيماً به حتى يوم الحساب ويوم العرض عليه فيجعل كتابه في يمينه لأن:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ (الحاقة:19)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(الحاقة:25) إن هذا المعنى الذي أورده الله (عز وجل) في كتابه الكريم بصراحة هو ما يخشاه الشاعر التقي.
إن الشاعر يستلهم دائماً أبياته من حفظه للقرآن الكريم، فلا نجد بيتاً أو مجموعة أبيات إلا وقد شملت معنى من معانيه، أو قيمة من قيمه أو فكرة من أفكاره أو دعوة من دعواته مما يدل على ثقافته الإسلامية الواسعة من القرآن والسنة، هذه الثقافة تغذي أبياته الشعرية، ويبسطها بالعامية للعامة حتى يصير الدين ثقافة شعبية عندما تردد الناس هذه الأبيات أو عندما تسمعها أو تقرأها.
ويستكمل الشاعر:
يا رب خلي الصراط ....
العرض يبلغ طوله ....

واجعلني أشرب كمان ....
من حوض نبينا وأنوله ....

وأحظى بظلال العرش ....
وفـ حماه وقبوله ....

وأبقى في معية شفيعنا ....
النبي وفي وصوله ....

نلاحظ في أول بيت في المجموعة السابقة دعاءً جميلاً للغاية وفيه فكرة تنطوي على أمل ورجاء وفيها تشبيه بليغ للغاية.
يا رب خلي الصراط ....
العرض يبلغ طوله ....

فمن المعروف لنا والمتوارث أو المأثور بيننا أن "الصراط المستقيم" إنما هو خيط رفيع طويل للغاية بلا بداية وبلا نهاية أو كأن بدايته الأرض ونهايته في السماء مثلاً أو ما بين الدنيا والآخرة – وهو مجرد تشبيه – فلقد احتار العلماء في تفسير هذا الصراط المستقيم؛ هل هو خيط مادي أم هو خط معنوي .. وحيث قيل أيضاً: أن الكافر لن يستطيع السير على هذا الصراط (لأنه سيصير مثل الخيط الرفيع للغاية) إلا قليلاً ثم يقع في النار وحيث تكون النار (نار الله الحامية) تغلي وتفور وتطالب بالمزيد وحيث لا تشبع أبداً من الكافرين والعصاة، وحيث يُسمع لها صوت دوي لا يستطيع احتماله أحد ....
وقيل: أن المؤمن لن يشعر بدرجة رُفْع – (من رفيع) – هذا الصراط، لأنه يراه واسعاً فسيحاً وسوف يمضي عليه بسهولة بل يركض عليه ركضاً حتى يصل إلى الجنة، لأن نهايته هو باب من أبواب الجنة.
إن الكافر والعاصي يتأرجح فوق الصراط ويراه رفيعاً مثل الخيط ويظل يتأرجح عليه حتى يقع في هاوية النار بينما المؤمن يراه فسيحاً فيركض فوقه حتى يؤدي به إلى الجنة، ولذلك فإن الشاعر يستلهم هذا الموروث الثقافي البليغ في بيته الجميل السابق الذكر ... إن خيال الشاعر قد جنح به لدرجة تخيل أن يكون عرض الصراط المستقيم مثل طوله .. وبذلك لا يصير صراطاً، إن الشاعر يأمل أن يتحول الصراط المستقيم من مستقيم إلى مربع، وقد يكون الأمر كذلك عند المؤمن فنحن لا نعلم، والله وحده أعلم.
كما يؤسس الشاعر في الأبيات أيضاً لبعض ما ورد في الأثر والدعاء والسنة مثل (حوض النبي) ويقال أنه سيكون في يوم العرض في الآخرة ومن شرب منه شربة واحدة فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وأن الرسول() هو الذي سيسقي المؤمنين الذين اتقوا الله في الحياة الدنيا بيده الكريمة ولذا فإن من الدعاء المأثور: "اللهم اجعلنا نشرب من يده شربة هنية لا نظمأ بعدها أبداً" و اللهم آمين يا رب العالمين وأنه يدعو أيضاً أن ينال الحظوة بأن يظله الله بظل عرشه ويوم لا ظل إلا ظله (راجع ما سبق فقد شرحنا هذه الفكرة من قبل) ولم يزل الشاعر يدعو أن يظل في صحبة الرسول() حيث لن يصل إليه وقت الزحام إلا من يوصله عمله الصالح فقط إليه.
ثم ينتقل الشاعر بدعائه إلى الناس وأهله وذريته والعالم فينشدنا:
ثبت يا رب القلوب ....
وأهديها .. للإيمان ....

أحبابي وأهلي وصحابي ....
مديونين .. عرفان ....

وقوي .. ذريتي ....
بالفضل والإحسان ....

ويدوم يا رب الرخاء ....
ويعم ع الأوطان ....

والأبيات بسيطة سهلة يدعو الشاعر فيها للناس جميعاً بأن يثبت الله قلوبهم، وتثبيت القلوب على تقوى الله هي الفضل العظيم، لأنه من المعروف أن كلمة "قلب" إنما من الفعل (قلب .. يقلب)، ولذا يقال أن أهواء الناس إنما تتغير وتتقلب كالقلوب؛ ساعة، في شأن وساعة في شأنٍ آخر ولا تدوم على حال ولذا فإن الرسول() كان يكثر من الدعاء له ولأصحابه بتثبيت القلب وتثبيت الدين والتثبيت عند السؤال وعند يوم العرض عليه سبحانه.
إنه يدعو لأحبابه وأهله وأصحابه، وأن تثبيت القلب لديهم يدعوهم للدين للديان الأعظم لأن تثبيت القلب هيَّ وَهْبَّة، وهِبَة من الله تعالى معاً، ويدعو الله بأن يقوي ذريته بالإيمان ثم يدعو لأبناء وطنه جميعاً أن يعم الرخاء عليهم.
لقد انتقل الشاعر من الخصوصية للعمومية، إنه لا يحب لنفسه فقط بل يحب الجميع ويتمنى الخير للجميع، إنها فضيلة "الإيثار" التي تقهر الحقد والحسد في النفوس، ثم يعود الشاعر في خشوع مستكيناً فنستشعر ضعفه إلى الله وذله إليه وتوجهه بصوت خفيض مستجيراً به متوكلاً عليه لا يرجو سواه، وهي صفات المؤمن الحق الذي يتواضع مع الله كلما عظم إيمانه، ويذل إلى الله ويخشع ولا يغتر، لأن العلم فتنة مثله مثل المال والبنون وزينة الحياة الدنيا، وإن العبد الذي يداوم على عبادة الله قد يترصد به الشيطان حتى يغويه بأنه وصل وصار عبداً ربانياً فينفذ إليه من هذه النافذة حتى يأخذه الغرور في النفس فإذا أخذه الغرور بدأ يرتكب المعاصي دون أن يشعر لذا فإن الشاعر يشعرنا بمنتهى الخضوع والذل والخشوع لله جل وعلا كما نقرأ الأبيات التالية.
أنا في ضيافتك يا ربي ....
يا كريم يا معين ....

سلمت أمري إليك ....
يا أحكم الحاكمين ....

بناجيك يا ربي لعشمي ....
والعشم مع مين ؟ ....

مع مجيب يستجيب ....
الدعوة م. الداعين ....

ندعيه بمحكم آياته ....
يستجيب في الحال ....

وإن عوزته أنوي الصلاه ....
واقترب كما قال ....

أسجد لا واسطه معايا ....
ولا دمغة ولا مرسال ....

أو .. أو .. أو أصرف وأنفق ....
في اللقاء أموال ....

نلمح في الأبيات كيف سلم الشاعر نفسه وأمره وكُليته تماماً لله عز وجل فهو الكريم الذي يعينه بداية، وهو أحكم الحاكمين (فهو عدل فينا قضاؤه وماضٍ فينا حُكمه) وأنه لا يتعشم إلا في الله وحده لأنه إن لم يتعشم في الله فلا يُرجى سواه وهو على يقين بالإجابة حين يدعوه.
ثم يعود مستلهماً القرآن في بعض السلوكيات في قوله تعالى:كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(العلق:19)، والمقصود به عدم طاعة الشيطان عند إغوائه لنا، وأن قهر الشيطان لن يكون إلا بالسجود والصلاة والاقتراب لله، حيث يكون العبد في أعلى مراتب الاقتراب من الله عند السجود، وهو أمر معروف للمسلمين، فالشاعر هنا لا يسجد لله فقط عند قهر الشيطان ليقترب منه ولكنه حينما يريده ويطلبه في أي مطلب سواء لقضاء منفعة أو لدفع معصية فليس عليه إلا أن يسجد ويقترب.
ثم تتبدى خفة ظل الشاعر وبساطته في عرض قضية اجتماعية في منتهى الأهمية والخطورة وهي (الوساطة) أو (الرشوة) ودون أن يعلن عن الثانية صراحة – وإن كان قد كتب في هذا الموضوع في قصائد اجتماعة(*) أخرى – فالشاعر حين يقول:
أسجد لا واسطه معايا ....
ولا دمغة ولا مرسال ....

إنه يقصد أنه ( لا وساطة ) في الإسلام بين العبد وربه، وتتبدى خفة الظل في (ولا دمغة) ، ( ولا مرسال ) ... حيث يشير ضمنياً وبشكل مهذب إلى قضية (الوساطة) في المصالح الحكومية أو قضاء الحاجات عموماً أو حتى (وساطة) الفقراء والغلابة من الأميين عندما يسألون الله بالدعاء عبر (واسطة) مثل: بعض أولياء الله الصالحين أو آل بيت النبي() مثل: سيدنا الحسين، أو السيدة زينب أو السيدة عائشة .. الخ وحيث يذهبون إلى الأضرحة ويسألون الله الدعاء عبر هؤلاء الأولياء الصالحين وهي بدعة ينهي الإسلام عنها حيث لا حجاب بين العبد وربه ولا وساطة، ففي الحديث القدسي ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بما كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء فلن يضروك إلا بما كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إن الشاعر قد قرأ القرآن ووعاه ودرس الحديث واستوعبه وهضم الفكر الإسلامي فصار مكوناً لثقافته قولاً وعملاً فلما ألهمه بالشعر ومن عليه بقريحة تنطوي على هذا الأدب الإسلامي الرائع القيمة والمضمون فقد استلهم ما حفظه من قرآن وما وعاه من السنة والحديث فوظفه عبر أشعاره توظيفاً جيداً في بساطة ويسر وسهولة وكثافة في المعنى فما نقرأ بيتاً أو مجموعة من الأبيات حتى نكتشف أن وراءها كنزاً من معين الإسلام الذي لا ينصب، إن الأبيات في مضمونها ومعناها عادة ما تعود بنا إما إلى آية قرآنية أو إلى حديث شريف أو إلى حديث قدسي أو إلى دعاء من أدعية الأنبياء والمرسلين أو إلى عادة إسلامية أو نسك من مناسك الزاهدين الواصلين مما يعكس سعة ثقافته الدينية وفطرته الإسلامية السليمة التي شربت ونهلت ووعت فأوعت فأنتجت وأبدعت وأجادت وعلمت، ودعت إلى الله عبر تداول هذه الأشعار وترديدها في المنتديات
ففي الأبيات السابقة كما بينا أنه لا يؤمن بالوساطات ولا بالرشوة فقد (لعن الله الراش والمرتش) ويؤكدها بقوله:
أو .. أو .. أو أصرف وأنفق ....
في اللقاء أموال ....

إنه ينوه بذكاء شديد عبر بيت واحد كيف يدفع بعض الناس أموالهم لقضاء حاجة لديهم أو لقاء مسؤول قد يرفض مقابلتهم أو يحتاج لوساطات أو .. أو .. ولكنه يفعل فعلاً طيباً وصادقاً وسهلاً وبسيطاً حين يود قضاء حاجته دونما وساطة دونما إنفاق دونما رشوة وكلها ليست من الدين في شيء ..
إنه يفعل فقط ما أمره الله به هكذا بكل هذه البساطة والفطره وعذوبة المعنى والفعل (اسجد واقترب) إنهما كلمتان لو تحولتا من القول للفعل لقامت عليهما حضارات وأمم لو وعاها الحكام والناس، فكل منهما تعني شأناً عظيماً ... فالسجود لله عز وجل تؤلف فيه الكتب، والاقتراب من الله سبحانه وتعالى تقوم عليه حضارات بشرط (الصدق المطلق) مع الله ومع النفس.
ويستكمل الشاعراً واصفاً في الأبيات التالية هذه التجليات:
أدخل صلاتي التقيه ....
فوراً يكلمني ....

وىخد وأدي وأحسبن ....
ع اللي ظالمني ....

وأدعيه يجيب دعوتي ....
ذ يسقيني ويطعمني ....

وأفوز وانول الرضا ....
وألقاه يطمني ....

في تلك الأبيات نستشعر هذه النفحات الصوفية وحيث تتجلى تجليات الشاعر في صلاته، إنه أيضاً يستلهم معنى الحديث بأن من يريد أن يكلم الله فيكلمه ويسمعه، فما عليه إلا بالدخول في الصلاة، وإن كلام العبد مع الرب هو كلام في المجاز والمطلق فإن العبد لا يسمع سمعاً مادياً أن الله يكلمه لكن قد يستشعر هاتفاً في نفسه يقول له: افعل كذا أو لا تفعل كذا عندما يصل في إيمانه وصدقه مع الله إلى هذه الدرجة من الشفافية والتماهي حتى تصير ذاته موصوله بالله تعالى فيحبه الله ويصير أقرب إليه من حبل الوريد وينادي في الملائكة أن تحبه وتنادي الملائكة في العباد أن يحبوه ويظل العبد يتقرب إلى الله بالصلوات والعبادات والطاعات على هذا النحو حتى يرضى الله عنه وحتى يدعوه فيستجيب لدعائه ويصير تعالى بصره الذي يرى به وسمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها .. إنها أسمى وأرقى منزلة للعبد، أن يدعو الله فيجيب دعوته، وهكذا وإلى هذه الدرجة وصل الشاعر ييرحمه الله – إنه يُظلم من العباد فلا يقتص لنفسه منهم وإنما يفوض أمره لله ويوكله وهو المطلع على نفوس البشر وخباياها وخائنة الأعين وما تخفي الصدور، إن الشاعر يتوكل على الله ويحتسب أجره عند الله حين (يتحسبن) على من ظلمه ويتركه لله عز وجل ليقتص منه بعدله الذي يراه، فلا يخذله الله بل يستجيب لدعوته لأنها ليست بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب، وقد قيل في هذا في المأثور الديني أيضاً أن الله لا يرد دعوة المظلوم حتى ولو كان فاسقاً أو عاصياً، ولذا حذر السلف منها فليس أبشع من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والظلم أنواع والظلم كثير وليس هنا مجال الحديث عنه، ولكن وكأن الشاعر يحذرنا من الظلم وينبهنا إليه حين ينقل لنا تجربته الخاصة عندما (يتحسبن) على من ظلمه في مناجاته لله بعد الصلاة.
واخد وادي وأحسبن ....
ع اللي ظالمني ....

وأدعيه يجيب دعوتي ....
ذ يسقيني ويطعمني ....

وكأن الشاعر يؤكد لنا مجدداً بأن لا أحد يظلم أحد إلا بما هو مكتوب عند الله، وأنه لا رزق في يد العباد تمنحه أو تمنعه عن بعضها البعض وإنما (الأرزاق بالله) والله وحده هو الذي يقتص من الظالم لو تسبب في قطع الرزق مثلاً، ولكن الله يفتح على العبد الرباني من لدنه فيطعمه ويسقيه لأن الله لا يمنع رحمته عن عباده المتقين والمخلصين.
ثم يكمل الشاعر ونحن معه في هذه الرحلة نشعر بأننا ضيوف معه نصاحبه على مائدة الرحمن:
أنا في ضيافتك جاي ....
من آخر الدنيا ....

قاصد رعايتك يا ربي ....
يا كريم في الفانيه ....

وهون السكرات واجعلها ....
لحظة في ثانية ....

واجعل طلوع الروح ....
عليا هواينا ....

في تلك الأبيات ينتقل الشاعر لقضية أخرى مثيراً إياها وقد لا ينتبه لها الكثيرون وهي (الموت وسكراته) وحيث إن للموت سكرات تختلف بين المؤمن والعاصي والكافر وفي ذلك قيل الكثير من المأثورات ولو تتبعنا حياة من حولنا من أهلنا أو أصدقائنا ومما نسمعه منهم ممن شهد موت قريب له أو صديق أو جار ... الخ
سوف نسمع الكثير، فمنهم من يقول عن "فلان ما" لقد عانى كثيراً في موته، وتحدث عن حشرجات الألم وطلوع الروح والمعاناة وقد يرافقه من حوله ولا يفهمون أن ما يحدث له هو حشرجات وسكرات الموت إلا بعد أن يموت فعلاً، ومنهم من يقول: لقد كان طيباً أو صالحاً ولم نشعر بموته لقد مات وهو بيننا بسرعة وسهولة ويقال (طب ساكت)، أو يقال: لقد ابتسم ومات ونصف عينه مغمضة (وهو ليس السائد، حيث أن طلوع الروح من صاحبها تفتح عينه عن آخرها مما يستدعي تسبيلها، وهذه مسألة معروفة لكن بعض الصالحين المتقين لا يحدث لهم هذا ولا يعانون كثيراً، ويقال في الأثر عن طلوع الروح في الكافر بأنها مثل الشوك نسحبه على الحرير، وعن طلوع الروح في المؤمن بأنها تخرج إلى بارئها سلسة طيبةيَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30) (سورة الفجر) ويبان الرضا والسرور على وجه صاحبها، وقضية الروح ليس من المهم أو المفيد الجدال فيها إلا ما قد وصلنا من الأثر فقط  وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي(الاسراء:85).
لذلك يدعو الله الشاعر بأن يهون عليه سكرات الموت ويتمنى أن يجعلها الله مثل اللحظة أو الثانية وتفيد كلمة (هُوايَّنا) بالعامية أي (هينة وسهلة) حتى لا يتعذب عند خروج الروح إذ يقال بعض الناس كم تعذبوا واحتنقوا وتحشرجوا وتبرزوا وتبولوا وقاءوا عند طلوع الروح وكلها تعتبر عورات للميت وقد يتناولها البعض بالحديث وقد يتسترون عليها، وهي وإن كانت أمور طبيعية بيولوجياً إلا أنها تختلف بين بعض الناس وبعضهم، وقد ترجع لأسباب تتعلق بالغذاء قبل الموت وزمنه وهل هضم أم لا .. الخ ؟
لكن عادة ما تربط العامة بين تقوى الإنسان وصلاحه بحالة موته البيولوجية وما يترتب على خروج الروح من (قئ أو إسهال أو بول .. الخ) وبين كونه كان شريراً أو ظالماً أو ... الخ وحالة موته الفيزيقية، وفي هذا يقال عن بعض الصالحين الأتقياء والورعين أنهم شوهدوا قبل موتهم وكأنهم (منورين) مثل البدر أو يقال عن أحدهم: كان وجهه أبيض منور مشرق مثل اللبن الحليب، ويقال عن العاصي: غضب ربنا باين على وجهه أو مرسوم على وجهه وهي مقارنة بين الروح الطيبة والروح الشريرة .. أو النفس الذكية والنفس الخبيثة.
ولأن هذه مأثورات متواترة كثيراً فهي مما يشغل بال الكثيرين ولعلها تشغل بالنا إذا فكرنا فيها من الناحية المضمونية وليست الشكلية على النحو الذي فكر فيه شاعرنا من حيث إشارته لسكرات الموت ... الخ ودعائه لنفسه بأن يهون الله عليه.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أنه قيل عن الشاعر يرحمه الله تعالى بأنه عندما توفي إلى رحمة الله فقد كانت لحظات موته سهله هنيه.
ويستكمل الشاعر:
أنا في ضيافتك يا ربي ....
يا رؤوف يا عزيز ....

شاكر لنعمك عليا ....
للعقل والتمييز ....

وبمدح سيدنا النبي ....
نولتني التقريظ ....

وأي نقص فـ حياتي ....
بالتقي التعزيز ....

يعود الشاعر في هذه الأبيات يثير فكرة " حمد لله وشكره" على نعمته، أنه هنا يشكره على نعمة "العقل" ونعمة "القدرة على الاختيار" لأن الإنسان لا يستطيع أن يميز بين المواقف إلا إذا امتلك هذه القدرة العقلية فيميز بين "الصواب والخطأ" كما يميز بين "الليل والنهار" مثلاً، ويميز بين "الخير والشر" كما يميز بين "الأبيض والأسود" ويميز بين "الحق والباطل" أو "الحلال والحرام" أو الأصدقاء أو أي مسائل أخرى، فإنه يندرج تحت معنى وقيمة "التمييز" الكثير لأنها "نعمة عقلية" يمن الله بها على بعض عباده فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء وكان الله بعباده عليماً خبيراً.
إن الشاعر لم يزل يمدح رسوله الكريم() وبهذا المدح قد نال التقريظ، لقد أحبه الناس وأثنوا عليه واجتمعوا حوله ونال احترام الجميع لسمعته الطيبة بأنه من عشاق رسول الله وأنه محب للإسلام ولدينه ولرسوله وهذا في حد ذاته يكفي للإنسان لكي يثني عليه من حوله ويحبونه ويجبلونه حتى لو اختلفوا معه في الرأي، لأن الفضائل لا يستطيع لأحد أن ينكرها أو يشتبه في أمر صاحبها حتى لو كان عدوه وأراد النيل منه، فهو في حقيقة نفسه يعلم أن الآخر معه الحق لكنه ينكره عليه ظاهرياً، لقد كان كل أصدقائه يعتبرونه داعية إسلامية عبر أزجاله وفي ندواته وجلساته.
ثم يؤكد الشاعر أن الله يعززه دائماً فيما يحتاج إليه ويقف إلى جواره ويؤيده وينصره وكلمة (بالتقى) في العامية المصرية تعني (أجد).
يستكمل الشاعر واصفاً بعض المشاعر المقدسة في الحج وهي الطواف بالكعبة وتوحد المسلمين حولها خاصة ليلة القدر:
في الكعبة تلقى النظر ....
كما طواف وصلاه ....

مليون مواطن وأكثر ....
في رعاية الله ....

الكل طمعان في ليلة ....
ألف شهر حياه ....

الله مجمع قلوبهم ....
قمة المناجاة ....

من الملاحظ أن الشاعر قد التهب وجدانه بهذه القصيدة في ليلة الجمعة في السابع والعشرين من رمضان عام 1416هـ، وقد تأججت قريحته وفتح الله عليه بالوحي والإلهام في هذه الليلة المباركة (ليلة القدر) والتي هي خير من ألف شهر، ورغم أن الأحاديث لم تؤكد قطعاً أنها في هذه الليلة تحديداً لحديث رسول الله(): التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، وأضافوا في الأثر أنها في الليالي (الوتر) لأن الله وتر يحب الوتر، أي الليالي الفردية مثل الحادي والعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين. لكن بعض العلماء والفقهاء رجحوا أنها في السابع والعشرين، وقد جرت العادة في احتفاليات العالم الإسلامي في هذه الليلة وهكذا يصير الزحام بلا حدود في عُمرة رمضان خاصة أكثر من مثيلاتها طوال العام.
ولذا فإن الشاعر يؤرخ ويؤصل لهذه الفكرة أو القيمة الإسلامية العظيمة (الطواف والصلاة في ليلة القدر خاصة)، ولا يستطيع الشاعر العد ولذا يحاول أن يكسب فكرة العدد الكبير قيمتها فيقول (مليون مواطن وأكثر) وهو ليس العدد تماماً، قد يقل وقد يزيد لكنه على آية حال كناية عن كثرة العدد التي تكاد تقترب من اللانهائية في الإحصاء وحرصاً على وزن البيت الشعري.
إن كل هذا الحشد العظيم من المسلمين المعتمرين ببيت الله قد جمع الله قلوبهم وألفها وقد اجتمعوا جميعاً على فكرة الهدف الواحد والأمل الواحد وهو مناجاة الله سبحانه وتعالى ودعائه في هذه الليلة المباركة التي تنزل القرآن فيها والملائكة يسبحون بحمده، إنه الاجتماع الاستثنائي في العالم أجمع الذي كان سبباً في إسلام إحدى أشهر صحفيات العالم وهي إيفون ريدلي الهولندية المسيحية والتي تحولت إلى داعية إسلامية بعد ذلك عبر شاشات التليفزيون والتي تحدثت عنها وتناقلت خبر إسلامها الكثير من الفضائيات ومن الجدير بالذكر في هذا المقام الاستشهاد بما قالته "ريدلي" ونشرته إحدى المجلات بعد الترجمة والتعريب فهي تعترف:
" إن أكثر تجربة عاطفية مؤثرة أستطيع أن أرويها اليوم، هي يوم أن كنت في طريقي إلى الكعبة، وقتها لم أتمكن من دخول الحرم لشدة الزحام من الكتل البشرية التي كانت تزحف وتتدافع من أجل الدخول، كانت حالة من الاضطراب البشري، وفجأة انطلق صوت الآذان منادياً للصلاة، وخلال ثوانيٍ معدودة اصطفت هذه الكتل البشرية المتزاحمة في صفوف معتدلة واحداً وراء الآخر في سكون تام، لا أعتقد أن أكبر جيش في العالم يمكنه أن يفعل ذلك بالانتظام الذي رأيته، وبدأت أصرح داخل نفسي: لا يوجد جيش أكثر طاعة وأقوى نظاماً من جيوش الله سبحانه وتعالى. ولكن للأسف لقد فشلنا في أن نعكس صورة هذا الاتحاد خارج أماكن عبادتنا، وعجزنا عن إظهار نفس القوة في العالم ولو فعلنا لما استطاع أحد أن يتجرأ على غزو بلادنا وأراضينا أو أن يتجاوز حدودنا ولأصبحت شعوبنا أكثر احتراماً وتقديراً، يا للأسف نفتقد هذه القوة خارج مساجدنا وأماكن عبادتها"(1).
إن هذه الصحافية الهولندية المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد تأثر وجدانها واهتزت مشاعرها لما رأت من منظر اتحاد المسلمين عندما نودي للصلاة، لقد أثارتها وحدة صفوف المسلمين على هدف واحد في وقت واحد تاركين كل انشغال وكل لغو وكل عشوائية لينتظموا في صفوف كالبنيان المرصوص، فإذا كان هذا الموقف ألهب مشاعر هذه المرأة الغربية فما بالنا نحن المسلمين ؟ لقد ألهب هذا المنظر مشاعر شاعرنا البحراوي – يرحمه الله – وألهب وجدانه وألهم خياله فصوره وأبدعه شعراً بسيطاً في ظاهره عميقاً في معناه غزيراً في دلالاته.
هاهو يحدثنا عن الطواف والصلاة وطمع المسلمين في أن ينالوا خير ليلة القدر التي تساوي ألف شهر كما وصفها المولى عز وجل في محكم آياته إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5).(سورة القدر).
إن المسلمين جميعاً يدعون الله في هذه الليلة ويناجونه لأن الدعاء في هذه الليلة مقبول بإذن الله ولذا فإنهم منصرفون إلى العبادة والمناجاة عن كل شيء في مشهد قدسي روحاني مؤثر وعظيم.
ويعود الشاعر لوصف المشهد حول الكعبة وقد تأثر به كل التأثر فهو يعود ليؤكده ثانية مفصلاً إياه:
مليون مواطن ؟ نعم ....
من كافة الأجناس ....

جايين وشادين رحالهم ....
لك يا رب الناس ....

داعيين تجنب حياتهم ....
الوسواس الخناس ....

طالبين لسيدنا النبي ....
الوسيلة أساس ....

يشير الشاعر إلى موكب العمرة المقدسة في رمضان وكيف تجمعت كل أجناس المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وقد شدوا رحالهم إلى الله جلا وعلا يدعونه أن يجنبهم الشيطان هذا الذي يوسوس في الصدور دائماً ليحيد المسلم عن الحق والخير والفضيلة التي حثه الإسلام عليها. أنهم يدعون للرسول()، أيضاً فيطلبون من الله أن يؤتي نبيه المختار الوسيلة والفضيلة، كما في الدعاء المأثور عقب أن يفرغ المؤذن من الصلاة: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد وصلى الله وسلم على رسول الله) إنه هذا الدعاء الذي يحرص عليه المسلمون عادة حتى ينالوا شفاعة الرسول() كما ورد في حديثه الشريف: " من دعا لي بالوسيلة استوجبت له شفاعتي".
ثم يوضح الشاعر في الأبيات التالية ما هي الوسيلة التي نطلبها للرسول
الكريم() ويختم قصيدته بهذا المعنى فينشدنا مكملاً ما سبق ذكره:
أصل الوسيلة مكان ....
علوي وفي الجنة ....

درجة لسيدنا النبي ....
ومعاه حا نتهنى ....

يا سيد الكونين ....
حتنول ما تتمنى ....

وَيَّا .. الوسيلة النبي ....
حيكون شفيع عنا ....


يوضح الشاعر أن " الوسيلة" هذه هي أرفع مكان وأعظم مكانة في الجنة وهي الدرجة التي وعده الله بها، وإن دعاءنا ليس معناه أننا إذا لم ندعُ له فلن ينالها – معاذ الله – إن الله وعده بها ووعد الله حق كما أن الجنة حق وكما أن النار حق وكما أن القيامة حق، لكن معنى دعائنا أننا نحب الرسول ونتمناها له ونؤمَّن على وعد الله فهي جزء من إيمان المسلم الصادق والسليم وإن كل ما يحبه الله يجب أن نحبه وكل ما يبغضه ويكرهه يجب أن نبغضه ونكرهه فهذا الدعاء من المؤمنين للرسول بمثابة تأمين على الدعوة وبخاصة عقب الآذان ولذا فالشاعر يؤكد أن (الوسيلة) لسيد (الفضيلة) أمر مفروغ منه فيقول مخاطباً الرسول خاتماً أبياته الرائعة:
يا سيد الكونين ....
حتنول ما تتمنى ....

أي أنك يا سيد العالم أجمع وسيد الدار الأولى والدار الآخرة (الكونين) سوف تنال ما تتمناه، وسوف تشفع لنا من هناك من مقامك العالي الرفيع في الجنة. فاللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه اللهم المقام الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، واللهم شفعه بنا وشفعه بشاعرنا البحراوي " يرحمه الله واسكنه فسيح جناته".
11- ليلة القدر:
لم يكتف شاعرنا الصوفي المؤمن الحاج البحراوي يرحمه الله – بأن يذكر "ليلة القدر المباركة" في بعض أبيات قصائده فأفرد لها قصيدة كاملة لعلها تروي بعض ظمئه المتشوق دائماً للأنوار القدسية والسابح أبداً في ملكوت إشراقاته البهية، لذا فقد جادت عليه القريحة الملهمة المعطاءة بقصيدة مستقلة خاصة بليلة القدر حاملة نفس الاسم وهي تقع في ثلاثين بيتاً في ست مجموعات، أي كل خمسة أبيات تكون خماسية، ويقول مطلعها المستلهم من القرآن الكريم:-
هِلَّي علينا يا ليلة القدر ....
هِلَّي لفجر ولياليه عشر ....

بحق صبري كتير ع الصبر ....
وصلاتي من شفع ووتر ....

هاتي العفو الحب الهادر ....
هِلَّي بكرم المولى الوافر ....

هِلَّي بخير وعطاء القادر ....
هِلَّي وهاتي الشرف النادر ....

بعد العسر هاتي لنا اليسر ....
هِلَّي علينا يا ليلة القدر ....

إن شاعرنا – يرحمه الله – يناجي ليلة القدر وقد حولها في خياله من (ليلة تعني الزمن) إلى مُخاطب مؤنسن إنه يحدثها ويخاطبها كما يخاطب الإنسان إنساناً آخر إنه يستخدم هنا تقنية (تكنيك) أنسنة الأشياء أو في حالتنا (أنسنة الزمان).إنه يدعوها أن تهل علينا مستدعياً قسم المولى عز وجل في كتابه الكريموَالْفَجْرِ(1)وَلَيَالٍ عَشْر(2)وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ (الفجر1 : 3).
إنه يرجو الله أن يريهيها وتهل عليه بحق صبره الكثير وقد صوره بأنه (فاق حدود الصبر) وهو متشوق إليها ويدعو الله في صلواته ونوافله وتراويحه بعد العشاء الشفع والوتر.
إنه يتقرب إلى الله بالصلوات وبالصبر وبالفرض والسنة حتى ينالها ويتمنى هلالها عليه لما لها من خير لا يعلمه إلا الله فهو أكبر من أن يُحصى أو يعد إن فيها العفو وفيها يتجلى كرم الله عز وجل الذي يفوق الوصف وإن من يمنح رؤيتها يمنح هذا الشرف العظيم الذي لا يختص به إلا الندرة من عباده المخلصين.
ولم يزل الشاعر مستلهماً من قرآنه الآيات فها هو يطلب اليسر بعد العسر كما ورد في آياته الكريمة: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً(6) (الشرح5 : 6).
ويستكمل الشاعر معدداً خيرات الشهر العظيم (رمضان المبارك) الذي تقع فيه ليلة القدر.
انتصاراتنا في (بدر) إيمان ....
وبقى لنا بالفتح كيان ....

زي العاشر من رمضان ....
ليلة النور ليلة القرآن ....

ليلة القدر يا أعظم ليله ....
ليلة الفتح يا ليلة أصيلة ....

أنا نفسي وما بيدي حيلة ....
تتجمع بقى شمل العيلة ....

تعتصموا بدستور العمر ....
حبل الله معجزة الدهر ....

إنه يذكرنا بمعركة "بدر"، هذه المعركة التي كانت في شهر رمضان المعظم وانتصر فيها المسلمون على الكفار رغم قلة عدد المسلمين مقارنة بالكفار الذين كانوا أضعافاً مضاعفة، لكن الله أمدهم يومئذ بجنود لم يروها وأيدهم بنصره في الشهر الكريم.
كما يشير إلى الفتح (فتح مكة) حيث نصر الله وفتحه على المسلمين وبفتح مكة ودخول المسلمين في دين الله أفواجاً وبهذا أيدهم بنصره وأكمل لهم دينهم كما جاء في القرآن الكريم إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3)(النصر1-3).
وهاهي انتصارات المصريين في العاشر من رمضان في (حرب أكتوبر 73) على اليهود وعبور خط بارليف العظيم وتحطيم الأسطورة التي روجها اليهود بأنه الحصن الذي لا يقهر، إن انتصارات كثيرة قد حدثت في الشهر العظيم شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة:185).
ويبثنا الشاعر أمانيه بأن تتجمع الأمة العربية جميعاً وأن يتحدوا على كلمة واحدة ودستور واحد هو كتاب الله عز وجل "القرآن" كتاب التوحيد فهو العاصم من كل فتنة لمن اعتصم به كما ورد في آياته الكريمة  وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (آل عمران:103)
فإن الاعتصام بكتاب الله هو معجزة المعجزات وبه يكون النصر كما فعل المسلمون الأوائل في عهد الرسول والخلفاء الراشدين والصحابة عليهم رضوان الله جميعاً.
ويعود الشاعر مخاطباً ليلة القدر:
هلي علينا بكل رخاء ....
من أجل الناس البسطاء ....

هلي أمان لجل الفقراء ....
السراء مطلب ورجاء ....

يكفي بلادي سنينها طويلة ....
هَمّ وغَمّ ونكسة ورذيلة ....

نكسة ووكسة وستين نيلة ....
ضاع بسببها شباب العيلة ....

هلي علينا وزيحي القهر ....
وارحمي كل الناس م الفقر ....

إنه يدعو ليلة القدر ويرجوها أن تهل ليعم الرخاء وتهل بالنعم على الفقراء والبسطاء ويتذكر بعض الأحداث السياسية التي وقعت في مصر في الخامس من يونيو عام 1967م وسببت الأحزان للشعب والقهر لذا يتمنى أن تهل عليهم حتى يدعو كل الناس فينزاح القهر والفقر معاً. ثم يستكمل في مجال آخر:
انتي يا ليلة دهب وهاج ....
هلي علينا بأقوى علاج ....

للتعمير ويا الإنتاج ....
من أجل الشعب المحتاج ....

هلي وهاتي حلول جذرية ....
دستورية .. واقتصادية ....

عيشة هنية .. حياة أبدية ....
من أجل الوحدة الوطنية ....

هلي نعيش سعداء العمر ....
هلي علينا يا ليلة القدر ....

إن الشاعر لم يزل يخاطبها ولم يزل يتمنى ويطوف به الخيال كل مطاف فيجنح به في جميع المجالات سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إنه يتخيل ماذا لو هلت ليلة القدر، فدعا كل الشعب بما يحب ويتمنى، بالقطع سيدعو الفقراء ليصيروا أغنياء، والفرقة تتحول إلى وحدة وسوف تعمر البلاد ويزيد الإنتاج لسد حاجة الشعب المحتاج إن هذا لو يتحقق كله لصارت كل الناس ومصر والشعوب جميعاً سعيدة بلا شك.. ذلك أن ليلة القدر بلا شك هي أقوى من السحر لأن الدعوة فيها مستجابة مهما كانت فماذا لو دعا شعب بأكمله ؟ وكل فرد له مطالبه وأمانيه على كافة المستويات ؟؟ لقد حلم الشاعر حلماً جميلاً بلا شك. ويستمر الشاعر المنبهر بليلة القدر:
ليلة القدر لنبي له قدر ....
خير علشانه جاي بالغمر ....

هاتي هواكي المليان عطر ....
هلي وهاتي معاكي الستر ....

وكفاية يا عظيم يا كريم....
ييجي كام حرب عذابها أليم ....

كام فينا مفقود ويتيم ....
بالشهداء أرحم يا رحيم ....

واكفينا شر مصايب الدهر ....
متعنا الباقي م العمر ....

إنه يتذكر أن هذه الليلة قد اختص بها الله عز وجل نبيه محمداً عظيم القدر والشأن() ولذا فقد اختصه بهذا الخير الفياض حين أنزل فيها القرآن، وحين وصفها المولى عز وجل: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5).(سورة القدر من 3 : 5).
إن الشاعر يستشعر عطر ليلها وفيض سترها على العباد، ويعود الشاعر مناجياً الله متذكراً عذابات الحروب التي مرت على الأمة العربية مثل حرب 48، 56، 67، 73، 90، ....الخ
إن الشاعر توفي يرحمه الله قبل أن يدرك حرب أمريكا وتدميرها العراق فقد يرحمه الله من ويلات هذه المشاعر ولو أدركها لفاضت قريحته بأبيات حزينة مؤلمة.
إن الشاعر يستشعر آلام الأمة العربية من فقدان أبنائها ويُتم أطفالها فكم من شهداء استشهدوا في تلك الحروب ولعله يتمنى من الله أن يرحمنا بالضعفاء فينا والشهداء، ولم يزل الشاعر يدعو الله أن يكفينا شر مصائب الدهر وأن يمتعنا فيما بقي من العمر وهي من أدعية الرسول() وما ورد في الأثر مما نستشعر معه ثقافة الشاعر الإسلامية في كافة المناسبات وكأنه قارئ موسوعي الثقافة، ويستكمل الشاعر أمنياته القومية والوطنية:
نفسي لوطني فـ "ليلتين قدر" ....
خيرهم يبقى فـ ألفين شهر ....

لاجل نزيح الدين والفقر ....
كل الشعب البيض والسمر ....

بملايكة والروح وياهم ....
وبإذن الرحمن مسراهم ....

وسلام دايماً من مولاهم ....
يا إلهي ننعم بلقاهم ....

بالخير لبلادنا بدون حصر ....
لاجل عزيزة العالم مصر....

هلي علينا يا ليلة القدر
وكما يقال (وشر البلية ما يضحك) وهكذا فعل بنا الشاعر بمنتهى خفة الظل المصرية، لقد أبدع وصور الأماني الجسام على المستوى القومي بأنها يمكن أن تحدث فقط بـ (ليلتين قدر).
إن القارئ لهذا البيت خاصة لابد أن يضحك وبخاصة إذا استحضر خفة ظل الشاعر وإذا استحضر المفارقة المسرحية مع الفارق طبعاً (في إحدى مسرحيات المهندس الساخرة من الفقر وعندما مَنَّ الله عليه بالغنى، فوضعوا له في صحن فطوره (طعمياية واحدة) وبجوارها شوك وملاعق وسكاكين "وسفرجي" وعربة فاخرة يُقدم عليها الفطور ولما رأى هذا كله وقبل أن يكشف الأغطية فرح وظن أنه الغنى والثراء والطعام والشبع ثم اكتشف الحقيقة المرة أنه ضرورات " الإتيكيت " والريجيم " فراح مندهشاً ومن التبكيت ما يصير أقرب للتنكيت فراح يردد: (طعمياية واحدة يا ظلمة يا جعانين .. طيب خليهم اثنين ) ثم راح يردد هذه الجملة بأكثر من أسلوب ساخر والمعنى واحد ..).
ورغم اختلاف المعنى الوارد في المسرحية المهندسية وما ورد على لسان البحراوي، إلا أنني عندما قرأت هذا البيت ضحكت وتذكرت على الفور نجم الكوميديا المهندس في هذا الموقف المبكت المنكت .. فلتقرأ ثانية بيت البحراوي ونتمعنه لنقف على منتهى خفة ظل الشاعر رغم أن القصيدة دينية وهذا لا يتنافى مع الأدب الإسلامي فهو أدب لا يقوم على الجفوة والغلظة والجفاء بل يحتوي على الدعابة واللطف أيضاً وكم للرسول() من مواقف دعابة وفكاهة كثيرة تبسم فيها ونبتسم لها لذا يقال (النبي تبسم).
لقد ضاق الشاعر بهزائم الوطن وفرقته وفقره وهمه وغمه ونكسته ووكسته وأحزانه وطال صبره، لذا لم يعد يرى أن هناك حلولاً لهذه المشاكل إلا إذا فتح الله على الناس جميعاً بـ (ليلتين قدر) وكل ليلة بألف شهر إذن فالليلتين قدر خير بالطبع من ألفين شهر، ولنا أن نتخيل مع الشاعر خفيف الظل كم من الخير يمكن أن يعم في(ألفين شهر) وبالحساب نكتشف أن ألفين شهر تساوي 166.6 سنة أي ما يقرب قرنين إلا ثُلُثاً من الزمان من الخير والنصر والعزة هذا لو نُوَّلْنا (ليلتين قدر) ! أي يعم الخير علينا وعلى أولادنا، ومن يدري ربما كانت حسابات الأيام والشهور بالحسابات الربانية مختلفة عن حساباتنا كما ورد في آيات أخرى أي يعم الخير للأبد فقط بـ (ليلتين قدر).
رحم الله شاعرنا البحراوي الذي تمنى – بعدما فاض الصبر والقهر – ليلتين قدر، وبهما تُسدد جميع ديون مصر، ويصبح كل الناس أغنياء في الدلتا وجنوب الوادي (البيض والسمر)، وبالطبع في هذين الليلتين القدرتيين الرائعتين ستحوطنا الملائكة وسينزل سيدنا جبريل ملك الملائكة كما ورد بالآيات:  تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5).(سورة القدر). فما أجمل حياتنا مع الملائكة الأطهار الأبرار الكرام، وما أجمل هذا السلام الذي سننعم به على أرض وطننا العربي ومصرنا العزيزة (عيزة العالم) وهذا الخير الفياض..حقاً كما تمنى الشاعر، وكما نتمنى جميعاً ننشد معه (هلي علينا ياليلة القدر).
12- سيدنا محمد():
وتقع هذه القصيدة في تسعة وأربعين بيتاً جاءت جميعها على هيئة رباعيات – كما تعودنا من الشاعر، لكنه لم يلتزم فيها بقافية ثابتة، لقد اتحدت الأبيات الثلاثة الأولى في قافية واحدة ثم جاء البيت الرابع في قافية مختلفة بينما كان متفقاً مع البيت الرابع دائماً من كل رباعية، وبهذا كتب الشاعر هذه القصيدة في اثنتي عشر مجموعة كل منها تشتمل أربعة أبيات – كما ذكرنا – باستثناء المجموعة السابعة التي أضاف لها بيتاً فصارت خماسية بدلاً من رباعية، ولعل لهذا مبرره لدى الشاعر كما سنرى، أو حتى ربما جاءت هكذا بشكل عشوائي وكان بحاجة لإضافة هذا البيت.
ينشدنا الشاعر في مطلع القصيدة:
وعيني بتحضن .. مكان الجمال ....
وموقع رسول السلام والجلال ....

بأسمى وأعلى .. وسام الكمال ....
ببشر البشاير .. وحُسن الخصال ....

بضرب المظالم بحكم الحلال ....
لأعظم رجال التاريخ .. في النضال ....

شفيع القيامة .. في يوم الزحام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

نلحظ هنا كيف يثني الشاعر على رسول الله الكريم() ويمتدحه بحسن الخصال وبالتميز بالكمال واختصاصه بالشفاعة يوم الزحام ..الخ، ثم يستكمل منشداً:
محمد رسول البشر أجمعين ....
بأعظم رسالة .. إلى العالمين ....

بعلم وشريعة .. لدنيا ودين ....
بحق وحقيقة بأمر المعين ....

وامتع بفكري جهاد اليقين ....
وجهد الصحابة في عهد الأمين ....

بنوره وخيره لكل الأنام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

يشير الشاعر إلى الرسالة المحمدية التي تحتوي على التشريع الإسلامي إلى جانب العلم، وكيف هي صالحة للدنيا والدين معاً، إنه يؤكد بكلمتي (لدنيا ودين) عدم فصلهما عن بعضهما كما ينادي العلمانيون والملحدون ذلك أن الإسلام إنما هو (دين ودولة) معاً.
إنه يشير أيضاً إلى (جهاد الصحابة) في عهد رسول الله وكيف نشرت الرسالة المحمدية نورها وخيرها على كل العالم.
ونلحظ أنه يختم دائماً الشطرة الأخيرة (الثامنة من رباعيته)
بالصلاة والسلام على رسول الله، لعله يكسب ويكسبنا هذا الثواب العظيم لقول
الرسول(): (من صلى علي مرة، صلت الملائكة عليه عشراً، ومن صلى عشراً صلت عليه مائة والله يضاعف لمن يشاء).
وفي رواية أخرى: (من صلى علي في ملأ صلت عليه الملائكة في ملأ خير منه) فما أجمل الصلاة والسلام على رسول الله، ولعلها دعوة من الشاعر بترطيب ألسنتنا دائماً بذكر الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم.
ويواصل الشاعر:
بفضل الإله .. اللي نوره هداني ....
ومن بطن أرضه بفضله كفاني ....

وقَزُّه(1) وقطنُه بخيطهم كساني ....
بنيلهِ رواني .. بعذبه سقاني ....

وألهم لساني بأسمى المعاني ....
بكل النعايم سعدني في زماني ....

بحب النبي الرفيع المقام ....
محمد عليه الصلاة والسلام....

لم يزل الشاعر يواصل تأصيل قيمة الاعتراف بفضل الله وحمده وشكره، عملاً بالآية: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى:11). وعملاً بالحديث القدسي: (من شكرني زدته) فإن فضيلة الشكر واجبة على العبد في السراء والضراء، وكما ورد في معنى الحديث: كل ما يأتي من عند الله خير، فإن أصاب العبد خيرٌ كان خيراً له وإن أصابه شرٌ حط عنه من خطاياه، وفي هذا يؤكد الرسول() بأن عدالة الله هي فوق العالمين جميعاً وأن الله لم يظلم أحداً، فأقدار الناس متساوية لكنها متفاوتة في نسب توزيعها فقد يمنح الله الإنسان الرزق ويحرمه الولد، أو يمنحه الصحة ويحرمه السعادة وهكذا كما فسرها الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي يرحمه الله. فإن ابتلاء الله للإنسان هو من نعمه عليه أيضاً لذا يجب على المرء أن يحمد الله في كل الأحوال في (السراء والضراء) وأن يؤمن بقدره (خيره وشره)، وهكذا نجد أن الشاعر في معظم أبياته يؤصل دائماً لهذا المبدأ ويؤسس لهذه القيم.
إنه يحمد الله على الرزق (ومن بطن أرضه بفضله كفاني) ويحمده على الكسوة والستر ( وقزه وقطنه بخيطهم كساني) ويحمده على ماء الشرب المتوفر لدينا وهو نعمة لا يستشعر بها إلا من يعيشون في بلاد جافة لا تجري فيها الأنهار، لكن الله اختص مصر وبعض بلدان أفريقيا بهذا النهر العظيم (أطول أنهار العالم) فكم من بلاد ماتت شعوبها من الجفاف وماتت زروعها وجفت ضروعها، إنها النعمة التي لا يشعر بها إلا من حُرم منها.
وفي هذا المقام أسوق قصة قصيرة حدثت لي عندما سافرت للتدريس الجامعي في المملكة العربية السعودية الشقيقة وكان من بين المشكلات التي صادفتني مشكلة المياه، فمن المعروف أن المياه هناك مياه معدنية ومياه مُحلاه، رغم أن الحكومة توفر هذا كله لكن شعوري بأني كلما عطشت في الكلية مثلاً اضطررت لشراء كوب الماء المعقم الصحي (من المياه المعدنية) وكانت تباع، ثم شراء المياه وبالطبع كانت تخصص له ميزانية، لم تكن المسألة تعني عندي أمراً مادياً فالحمد لله كانت الرواتب مرتفعة ويُغطي الدخل مصروفاتنا والحمد لله ويزيد وندخر منه..
لكن كان إحساسي بقيمة المياه في أول ذهابي هو الصدمة بعينها (هنا نشتري المياه)، كل شيء له ثمن، الغربة ليست في الاغتراب فقط ولكن في حرماننا من نعمة المياه التي أنعم الله علينا بها في مصر من نهر النيل العظيم وعلى الرغم من شعوري بهذه النعمة دائماً إلا أن شعوري بها تزايد أكثر وأكثر وأنا هناك، فضلاً عن أن نوع المياه هناك لمن لا يعتاد عليها كانت تسبب خشونة في الجلد مما لم نعتده في مصر، وكانت عسرة في الغسيل وتعرفنا على مشكلات ليست لدينا في بلدنا مما كان يجعلنا دائماً نقول سبحان الله والحمد لله، لقد رزق الله هذه البلاد المقدسة بوفرة البترول ورزقنا نحن بوفرة المياه العذبة، إنها العدالة الإلهية بلا شك، ليس بين البشر فقط لكن بين الأوطان أيضاً. فالثروات متفاوتة: هذه التي تغني بها الشاعر ... وعذراً للمداخلة، وأعود لقصيدة الشاعر: سيدنا محمد() وكيف ساق فيها قيم الاعتراف بالفضل لله وحمده وشكره على نعمائه، فهو - سبحانه - المنعم علينا بكل النعم والتي قد لا نشعر بها لوجودها في حياتنا كشيء عادي ومستمر، مثل: الماء والشمس والهواء والضوء وقد حرمت منها بلاد كثيرة.
إن الشاعر يعترف بفضل الله عليه في أن مَنَّ عليه بالنعم الكثيرة ومنها
نعمة (الإلهام) حيث يُلهمه هذه الأبيات الزجلية الإسلامية والتي تنطوي على المعاني العظيمة ما بين تهذيب وتوحيد ومعاملات وذكر وخشوع ومحبة لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم().
في المجموعة التالية من الأبيات يقول الشاعر:
وفكري بيرفض سلوك العصاه ....
وطبع الشُقاه الأبالسة الطغاه ....

وأكره طريقهم طريق السفاه ....
دعاة المصايب بواغي البغاه ....

أبو جهل كابر .. إلى منتهاه ....
بجهله اللي كان ضد نور الحياه ....

محمد حبيبي وماحي الظلام ....
عليه الصلاة وأزكى السلام ....

إن الشاعر في تلك الأبيات يؤكد (رفضه) للعصيان بل يؤكد رفض طريق العصيان ورفض كل ما يتعلق به فهو يرفض السلوك ذاته وأصحابه وكل من يسير فيه وكل من كان على رأسه مثل أبو جهل هذا المكابر المغرور رأس الكفر ومعقل الشرك والعياذ بالله، إنه يرفض المعصية و (هذا رفض اختياري) ونفهم من ذلك كيف يعلي الشاعر من قيمة الإرادة الإنسانية الحرة القادرة على الرفض والقبول والقادرة على التمييز بين العلم والجهل والصواب والخطأ والقادرة على الفهم والاستيعاب وعلى قول كلمة(لا) التي تعني الرفض بصراحة ومباشرة ووضوح، ذلك أن هؤلاء العصاة هم من الظالمين الباغين المتجاوزين لحدود الله فإنهم لا يسعون إلى رضا الله، فلا يحبهم الله بل ويطبع بالكفر على قلوبهم، ويزين الشيطان لهم أعمالهم ... ولم يزل الشاعر يؤكد رفضه وكراهيته لنماذج أخرى فيقول:
وأكره كمان اللي عامل شجاع ....
وعامل مراكبي وناصب شراع ....

يشوفني يعاملني معاملة رعاع ....
ويخلق ما بيني وبينه صراع ....

ولولا الوظيفة لفلس وجاع ....
ولازم حيبقى نهايته الضياع ....

لأنه وصولي وناكر نظام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

إن الشاعر ينتقل إلى نموذج آخر من النماذج المرفوضة والمرذولة والمكروهة، إنه يشير إلى من لا يحسنون المعاملة مع بعضهم ومن يسخرون من الآخرين لمراكزهم الاجتماعية ويظنون أنهم خير منهم لأنهم – مثلاً – موظفون فيحتقرون من ليسوا في وظائف مثلهم: (يشوفني يعاملني معاملة رعاع ) وكأن الوظيفة هي التي تمنح الإنسان قيمته ومكانته رغم أن الأمر ليس كذلك فماذا لو سلبت من هذا المغرور وظيفته ومركزه مثلاً ؟
( ولولا الوظيفة لفلس وجاع ) وكأن الشاعر يريد أن يقول له أن الوظيفة التي تتباهى بها – وتجعلك تغتر في نفسك وتعامل الآخرين معاملة سيئة لن تدوم لك، وإنما الدوام الحقيقي للخلق الكريم (فالدين المعاملة) كما أوصانا الرسول(e) ومن ينسى تعاليم الرسول ونظامه الذي علمنا إياه فهذا هو الجاهل ومصيره الضياع، والضياع الذي يقصده الشاعر هو الضياع الحقيقي ليس في الدنيا فقط ولكن قد يكون في الآخرة وهذا هو المهم وقد يكون في الدارين (الأولى والآخرة معاً).
لأن هؤلاء الوصوليين قد يتمادون في غرورهم وظلمهم وسطوتهم يمهلهم الله لعلهم يتراجعون فلا يتراجعون، فيتركهم في ضلالهم وغيهم أنهم أنانيون وصوليون انتهازيون منافقون وأفاقون لذا يتركهم الله في ظلماتهم يعمهون.
ثم يواصل الشاعر عتابه لهذا النوع من البشر الذين بأيديهم بعض مصالح الناس ولا ينجزونها وإنما يعوقونها ويتعبون معهم البشر الذين يقعون تحت أيدي رحمتهم، والله وحده الرحيم بالعباد. فيقول:
وليه تبقى دايماً سبب في الآهات ....
عشان بكره تخلص مع الإنجازات ....

لسوف تؤجل .. ميعادي اللي فات ....
وتفتح لي درجك وبتقوللي هات ....

وعملك ده هايف تقوم به البنات ....
ولو حد تاني .. مايمكث ساعات ....

وطبعك نهى .. عنه خير الأنام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

إن الشاعر لم يزل مستاءً من عدم آداء الموظفين لأعمالهم بأمانة فيتعبون أصحاب المطالب، ويطالبون بالرشوة وهي أعمال تافهة بسيطة تقوم بها أي بنت ولا تستحق كل هذه المعاناة لكنهم لطمعهم تتراجع لديهم قيمة إتقان العمل ويتبنون الكسل وويبتغون الرشوة وعدم النزاهة والأمانة ... وكلها صفات نهانا عنها الرسول الكريم().
ويواصل الشاعر معدداً صفات أخرى وطباع مرذولة لم يأمرنا بها الرسول الأمين محمد() فيعلن كراهيته ويعلن رفضه لكل هذه النماذج ويؤكدها في الأبيات التالية:
وأكره كمان .. اللي طالع يهلب ....
ونازل بيهبر وداير يشنب ....

وعدة مناصب .. وخيبة يخيب ....
بيخطف ويشفط وماشي يقلب ....

مموت ضميره .. وطبعه يشيب ....
وقال إيه مصلي .. وطاهر وطيب ....

ورغم المناصب ح يخلص قريب....
وألعن نهاية .. نهاية التسيب ....

وياما نهى عنه .. خير الأنام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

هنا يذكر الشاعر من الخصال السيئة التي نهى عنها الرسول() خصيلة (السرقة)، إنه يسرق في كل وقت وفي كل حال وليس معنى السرقة أن يسرق مثلاً الإنسان سرقة علنية كما يحدث في الشوارع أو في الزحام في المواصلات أو حتى من البيوت، إن الشاعر يشير لنوع أخطر وأسوأ من أنواع السرقة وهي من خلال الوظيفة والمناصب مثل الغش والتزوير في الأوراق الرسمية واستغلال مراكزهم أسوأ استغلال، هؤلاء النصابون هؤلاء الذين ماتت ضمائرهم أو باعوها للشيطان، ثم إنهم أيضاً اللصوص المنافقون إنهم الذين يتظاهرون بالصلاح والتقوى ويتخفون تحت هذه الأقنعة لكي يخدعوا الناس وما يخدعون الله ولا الناس وما يخدعون إلا أنفهسم لأنهم معروفون وحيلهم مكشوفة وفي النهاية سوف يلقون أسوأ مصير وعدهم الله به فالله وعد المنافقين وعداً أليماً وعذاباً عظيماً لأنهم إخوان الشياطين وإخوان الكافرين وقد لعنهم الله في كتابه الكريم فالله ورسوله برئ منهم ومن أفعالهم وسوف ينالون الجزاء والعاقبة السوأَى عما قريب وإن طال الزمان.
ثم ينتقل الشاعر إلى رفضه لنموذج آخر من العصاة وهو نموذج خطير جداً لأنه يمثل طغاة التاريخ وولاة الأمور في الأوطان الذين يبيعون شعوبهم وأوطانهم وأراضيهم ..الخ
إنه يقول فيهم:
ونكره جميعا .. حرامي الشعوب ....
بيشرط وعلني جميع الجيوب ....

مقاوح وغاوي .. طريق الحروب ....
وجالب لشعبه وناسه الكروب ....

وخاين لوطنه .. مخادع كذوب ....
وعاش الهزيمة يغيظ القلوب ....

وأنكر شهامة جيرانه الكرام ....
حبايب محمد عليه السلام ....

من الواضح أن الأبيات السابقة تنطوي على رموز سياسية، وعلى وجهة نظر الشاعر وتوجهاته الأيديولوجية السياسية تجاه ما يعتقده في هؤلاء الرموز السياسيين الذين يقدمهم بأنهم يسرقون شعوبهم ويسوقونهم في طرق الحروب بدلاً من السلام، هذه الحروب التي تستنزف من قوت الشعب وعمرانه وهي حروب خاسرة خادعة لا يجني منها الشعب إلا الهزيمة وتبديد الأموال.
ثم يعود الشاعر مؤكداً كراهيته لكل من يخالف سنة رسوله الكريم() ومن لا يسير على نهجه المستقيم فيقول:
وأكره كمان .. اللي مالُه أمان ....
جهول المبادئ .. سليط اللسان ....

بيهبش في عرضي ..وأرضي جبان ....
وياكل في خيرها .. وضد الكيان ....

حقودي حسودي بحقده ملان ....
وناكر لديني .. اللي كالشمعدان ....

وكاره بطبعه .. رسول الأنام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

هنا يُعدد الشاعر بعض صفات من يكره الرسول() ولذلك فهو يكرهه من هذه الصفات: عدم الأمان،الجهل، بذاءة اللسان وهو ما نطلق عليه بالعامية (طويل اللسان أو قليل الأدب أو متبجح) وهي كلها قيم يرفضها الإسلام ويرفضها الله ورسوله، إن الشاعر يكره أيضاً من يتحدث عن الأعراض ويخوض فيها بالسوء مستلهماً المبدأ الإسلامي الذي نزل فيه نص صريح في القرآن الكريم فالذين يرمون المحصنات ويقذفونهم بالجهل والسوء لهم عذاب عظيم من عند الله. إنها قيم الجبناء، إن الأبيات أيضاً تنطوي على رموز اجتماعية لفئات من البشر تعيش بيننا في هذا الوطن يأكلون من خيره وينعمون بخيراته لكنهم ينهشون أعراض المسلمين ويحقدون عليهم ويحسدونهم على نعم الله التي أنعم عليهم بها وينكرون على المتدينين تدينهم رغم أنه واضح وقد شبهه الشاعر بالشمعدان ولعل هذه الكلمة (الشمعدان) جاءت لضرورة القافية، فالشمعدان يضيء في الظلام وينيره مبدداً ظلمته وجهالة الناس فيه كما فعل الإسلام في عصر الجاهلية. ويستكمل الشاعر الرقيق الذي يحب الجمال ويحث عليه ويكره كل ما هو ضده قائلاً:
ويحكى ان ليلنا .. مظلم طويل ....
ويشعر ويرمز .. ومن غير دليل ....

ويصرخ ينوح .. ويشعل فتيل ....
يروج وينفث .. سموم الدخيل ....

وضد العقيدة .. وكاذب عميل ....
آمنا برسولنا .. الرؤوف الأصيل ....

عظيم الشمايل إمام الكرام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

إن الشاعر يصف هؤلاء المحبطين للعزائم ذوي المشاعر الانهزامية الذين يرددون بأن (ليلنا مظلم وطويل)، إنهم هؤلاء الذين يبكون ويصرخون وينوحون على الأطلال كمن يُشعل الحرائق، وفي هذا المعنى قال العرب قديماً: "معظم النار من مستصغر الشرر" إنهم هؤلاء الذين يروجون الإشاعات الباطلة، وينفثون سمومهم في كل مكان، في محاولة لهزيمة عزائم المسلمين، إنهم هؤلاء الدخلاء على الإسلام أو الذين يشجعونهم، هؤلاء ضد العقيدة الإسلامية وضد الشريعة إنهم كاذبون مُدَّعون أفاقون وعملاء الصهيونية العالمية ورجالهم في كل مكان، وليس العميل هو الذي يكون مع الأعداء جهرة ولكن العميل هو أيضاً الذي يعادي الإسلام ومبادئ الرسول() في الخفاء وبما يصفه الشاعر فيه من قيم الرأفة والأصالة وعظمة شمائله فهو (إمام الكرام) ()، وما زال الشاعر متأثراً بهؤلاء العملاء المنتشرين بيننا فيعددهم عبر الأبيات مؤكداً كراهيته لهم فيقول:
وأكره طريق .. الشيطان الرجيم ....
وغمزة عيون .. الحقود اللئيم ....

إيماني كياني .. أكون في السليم ....
واعيش ابن مصر الأصيل الكريم ....

وأدعي يصونها .. الحكيم العليم ....
بحق الرسول .. الرؤوف الرحيم ....

رسول الشفاعة .. عظيم المقام....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

في الأبيات السابقة يلخص الشاعر قوله بأن أي طريق للشيطان الرجيم الذي لعنه الله عز وجل هو طريق خاسر، ولكن ماذا يقصد الشاعر بـ (غمزة عيون الحقود اللئيم)؟ هل هؤلاء من الأعداء دائماً ؟ أم من هؤلاء الذين ينتمون بالاسم فقط للإسلام وليس في سلوكهم من الإسلام شيئ بل ويسيئون للإسلام والمسلمين ؟ إن المعنى يمكن استقراء دلالاته على أكثر من مستوى، فالحقد ليس قاصراً على الأعداء فقط بل من أنفسنا وفيما بيننا ينتشر هذا الحقد وكلمة (اللئيم) تنطوي على الخبث والمراوغة والكذب وكلها صفات مرذولة للمنافقين وهي صفات شيطانية لذا فإن الشاعر يؤصل بأنه يكره طريق الشيطان وفي المقابل يؤكد العكس بأن إيمانه كله وكيانه كله في سلامة المقصد والهدف وما تنطوي عليه النوايا والأسارير. ولقد وفق الشاعر في استخدام الكلمة العامية الفصحى (في أن واحد): "أكون في السليم" وهي كلمة ذائعة الانتشار بيننا وتعني بأن صاحبها يسير على الخط المستقيم والنهج القويم لأن السلامة تعني (البُرء) من كل ما هو دنيء وحقير على مستوى القول والفعل.
إنها صفات المسلم وصفات المصري (ابن مصر) فإن مصر
النجابة يدين لها بالفضل أبناؤها الكرام البررة الأصلاء والذين قال فيهم رسول الله(): بأنهم مرابطون وخير أجناد الأرض.
ويدعو الشاعر لوطنه مصر معبراً عن أصالته وانتمائه القومي وحبه لها مستشفعاً برسوله()، وفي هذا ما يؤكد قيمة "حب الوطن" وقيمة "الولاء والانتماء العروبي الإسلامي". ثم يختم الشاعر قصيدته في الرباعية التالية بقيم الحب والنزاهة والشرف والعطاء والصدق، والكرامة، فيقول:
وأحب السياسي النزيه الشريف ....
بيدي(1) وقلبه لوطنه نضيف ....

وعمره ما يكذب ما يعرفشي زيف ....
مؤدب مهذب مؤصَّل لطيف ....

معزز مكرم لناسه أليف ....
دا شئ لو لقيته ربيع في الخريف ....

وقدوة في أمة .. رفيع المقام ....
محمد عليه الصلاة والسلام ....

إن الشاعر لا يريد أن يختم قصيدته "بالكراهية" للمعاني السلبية التي عَدَدَّهَا والتي تتنافى مع روح وجوهر الإسلام وقيمه، بل هو يعود للفطرة، والفطرة مجبولة على (الحب) وعلى قيم الخير والجمال والنبل والعطاء، إن الشاعر يؤكد أن الخير لم يزل قائماً كما قال الرسول() "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم الدين" (صحيح).
وأن هذه القيم الإيجابية (قيم الإسلام) إنما هي الوجه الحقيقي له والمعادل الموضوعي لكل ما هو عكس ذلك.
ويؤصل الشاعر لهذه القيم خاصة في (الرجل السياسي) ذلك أنه رمز للأمة وقدوتها وهو ولي الأمر وهو الراعي الذي قال فيه الرسول الكريم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" (صحيح).
إن الشاعر يشبهه بأنه مثل "الربيع يحل في الخريف" وهو تشبيه بليغ ويمنحنا الدلالة على (الاستحالة) إن وجود الربيع في الخريف ظاهرة لا يمكن أن تحدث فهذا فصل مُناخي له صفات خاصة به كلنا نعرفها، وذاك فصل آخر يختلف تماماً عنه فإذا كان الربيع يمنح الأرض خضرة بفضل الله عز وجل وقدرته ويكسوها اخضراراً وحيث تبدو الأرض في أبهى حُلتها وتكسوها الزينة والأزهار وتكتسي بالسندس الأخضر ... الخ
فإن الشاعر يصور وجود (السياسي) النظيف الأصيل النزيه الشريف والذي يتسم بكل هذه السمات الجميلة، أن الشاعر يصوره بأنه مثل الربيع قد حل على الخريف فبدد قحطه وجفافه وزوابعه وتساقط أوراق أشجاره ليحل محلها الخضرة والألوان والنضرة والبهاء.
إن الشاعر لا يقصد إذن (استحالة) وجود هذا السياسي بل يضمر فعله وماذا يقدم لوطنه وعلى ماذا ينطوي عطاؤه، إنه مثل الربيع كما لو حَلَّ في الخريف، وهو تشبيه بليغ فصيح ينطوي ضمنياً على التحول الإيجابي الممكن للشعوب بفضل الله عز وجل الذي سبب أسبابه في البشر فجعل فيها هذا السياسي الذي يتسم بهذه السمات فيصير قدوة وما أجمل أن يكون القائد قدوة، إنه إذن يمتثل لقدوته الأعلى للرسول العظيم الشأن الرفيع المقام محمد()
وبهذا نلحظ أن الشاعر قد وفق توفيقاً حسناً من عند الله فقد بدأ قصيدته بالحب للرسول وعدد بعض صفاته ثم ختمها بالحب أيضاً ليؤكد أن "الحب" هو الأساس في الدين وأن "الكراهية" هي الاستثناء لقد عدد الشاعر سمات القدوة مستلهماً قدوة الرسول()، وأنه الراعي الأول لأمة الإسلام ثم راح يؤكد أيضاً عكسها مستعرضاً بعض المعاني المرذولة والمرفوضة التي يكرهها ثم ختمها بالتفاؤل وعودة للأصالة ولمنبع الحب الأصلي حب النبي الرسول().
رحم الله البحراوي – شاعر الحب والحكمة والعزة والجمال.
12- جواب من الآخرة:
في هذه القصيدة تتجلى روعة إيمان الشاعر بالحياة الآخرة، ومن المعروف أن الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان المهمة وبدون الإيمان به لا يكتمل إيمان المؤمن، وكما قال الرسول الكريم(): " لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"(صحيح).
وهي غير (أركان الإسلام) الخمسة التي قال فيها الرسول() بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وصوم رمضان والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلاً.
إن أركان الإيمان تؤصل للعقيدة وأركان الإسلام تؤصل للعبادات التي تؤكد هذه العقيدة، والشاعر البحراوي – يرحمه الله – لم تفت عليه فائتة في ديوانه دون أن يلفت النظر إليها، أنه حدثنا عبر أزجاله بهذا الأدب الإسلامي بكل ما ينطوي عليه من مضمون عقائدي أو (عباداتي) – إن جاز التعبير – وبما يؤصل لأركان الإيمان والإسلام معاً – كما استعرضنا آنفاً – وكما سيتجلى فيما بعد في حديثه عن الرُسل الكرام عليهم السلام وفي هذه القصيدة (جواب من الآخرة) يؤكد هذا الركن الأساس من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر، والقصيدة مطولة تقع في مائة وتسعة عشر بيتاً على هيئة رباعيات ما عدا مجموعة الأبيات الأخيرة فقد جاءت خمسة وصارت خماسية وهو الأسلوب الذي يتبعه الشاعر عادة في بناء قصائده الزجلية.
إن مجموع أبيات القصيدة إنما ينطوي على حكمة بالغة وقد تعدد فيها أسلوب الكاتب وتنوع ما بين الوصف والتخيل والوعظ والنصح والإرشاد والتذكير والترهيب والترغيب، إنها "رحلة النور والحياة بين ظلمتين، ظلمة الرحم وظلمة القبر" (1)، إن القصيدة تنطوي على فكر فلسفي صوفي إسلامي شديد البلاغة كثيف المعاني وكأنها اختصار لكل قصائد الشاعر. ولقد وظف الشاعر ثقافته الإسلامية عبر الأبيات توظيفاً محكماً مستلهماً القرآن الكريم تارة والحديث النبوي الشريف تارة أخرى، والأدعية المأثورة من الأحاديث القدسية في حالة ثالثة في تنوع غزير ودال، ففي القصيدة دعوة للحاق بركب الصالحين، ودعوة لله عز وجل بالتمسك بدينه حيث لا ينفع المسلم إلا عمله الصالح ودعوة للفرار إلى الله (اختيارياً) قبل الموت المحتم (اضطرارياً).
إن في القصيدة ما تقشعر منه الأبدان في حالة تمثلها وهو حق مبين، حيث الموت (حق) وهو الحق الوحيد من بين صنوف الحق التي لا يحبها العبد أو لا يحب ذكرها، إنما أبيات الشاعر قد جاءت للتذكرة وللتنبيه وللتحذير، إنها نصيحة من الإنسان المؤمن لأخيه المسلم، وحيث إن الإيمان النصيحة، والتدين الحقيقي ينطوي على نصح المؤمن لأخيه المسلم.
إن عنوان القصيدة بداية (جواب من الآخرة) يثير دهشة المتلقي لأول وهلة ويثير بذلك تساؤلاته حول الكيفية التي بنى عليها الشاعر قصيدته، وليس حول الهدف منها ...
بمعنى أن المعاني واضحة عند القراءة المتعمقة لها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لدى القارئ هو: كيف كتب الشاعر هذه القصيدة؟ إن القارئ للقصيدة المتمثل لمعانيها والذي يعيش في أجواء هذا النص – بالذات – إنما يتساءل: هل هو خيال الشاعر ؟ أم هي رؤيا رآها؟ أم هو تبشير من الله عز وجل على هيئة إلهام مَنَّ الله به على عبده الصالح ؟ أم هي حالة قد تقمصها الشاعر الزاهد في حلم من أحلام اليقظة في حالة زهد وتصوف وتذكر ورجوع وخشوع ؟ ربما كانت مرآة لمواجيدَ وإشراقاتٍ روحية لواحدٍ من أصحاب الأحوال؟
لا ندري .... والعلم عند الله وحده، ربما أخبر- المرحوم – البحراوي أحداً عن ملابسات هذه القصيدة، ذلك لأنها تختلف عن بقية القصائد من حيث أنها تتعلق بزمن مستقبلي أو (تصور ورؤيا مستقبلية) حين كتبها الشاعر وهو حي يُرزق على ظهر الحياة، بينما القصيدة بكل ما تنطوي عليه تُشعر القارئ وكأنه كتبها بعد موته وبعد حسابه أو كتبها من قبره إنها (رسالة من القبر) وفي هذا ما ينطوي على الإلغاز المحير ويستدعي التساؤلات التي ذكرتها، ولعلنا بالولوج في عالم وأجواء هذه القصيدة – الخاصة جداً – نقف على المعاني ودلالات الأسئلة التي ذكرتها بشكل أوضح.
إن الشاعر يستهل القصيدة بقوله المدهش بداية:
مريت بتجارب شتى ....
ضمنها سكرات الموت ....

والموت الكاس الداير ....(1)
على كل الناس بيفوت(2) ....

وملايكة(3) وإنسي وجنيَّ ....
كل الملكوت حيموت ....

والعاصي الناكر يحيَ ....
راح ييجي ولو مفروط (4)....

يشير الشاعر إلى تجربة الموت وهو حَيَّ وكأنه عاشها ولتقريب المعنى: نسمع أحياناً من يقول " لقد مِتُ وصحيت(5)" أو يقول " لقد عشت الموت وكُتب لي عمر جديد" وهذه بعض تجارب لبعض الناس ممن يمرون بتجارب بيولوجية أليمة ويوشكون على الموت فيها مثل: المرض والحوادث .. الخ والعياذ بالله، ثم تكتب لهم إرادة الله النجاة، ويقال لهم أو يقولون على أنفسهم " ما زال في العمر بقية " أو "عُمر الشقي بقي" وما شابه كل بحسب ثقافته، لكن هناك فئة من هؤلاء يمتازون بالشفافية فيؤثرهم الله ببعض آياته وتتجلى لهم صور من العالم الآخر لم يكن ليراها لولا صدقه وإيمانه وشفافيته وهي ما يطلق عليها (سكرات الموت) حيث تسيطر الروح بأشواقها وأحلامها على الجسد بماديته وكثافته وحيث تتصل بالبرزخ الفاصل ما بين الدارين (الأولى والآخرة).
فيرى ويستشعر ما ينتمي للآخرة وليس للدنيا ولعل شاعرنا مر بهذه التجربة كما يذكر في أبياته (سكرات الموت) لكننا لا نعلم متى حدث له ذلك ولعل المعاصرين للشاعر والمقربين منه في ذلك الوقت يعرفون هذه التجربة أو لعله – يرحمه الله – حكى عنها لأحد، أو اختزنها في ذاكرته ونفسه وأطلعنا عليها عبر أبيات هذه القصيدة الرائعة ذات الحكمة والفلسفة المختصرة لكل شيء في الحياة والآخرة معاً.
إن الشاعر يؤكد بإيمان لا شك فيه بأن الموت هو هذه الكأس الدائرة على البشر، والتي لابد أن يتجرعها الجميع، والموت لا يقتصر على البشر فقط بل على كل الكائنات الحية وحين تفني الحياة جميعها كما ورد في الآيات الكريمة في أكثر من موضع ما يدل على هذا الفناء الكامل للحياة إنه أحد شروط قيام الساعة بنصوص صريحة.
إنه يشير إلى بداية القيامة الصغرى على الإنسان وهي تبدأ مع دخوله القبر ومع سؤال الملكين (ناكر ونكير).
إنهما الملكان الموكلان بسؤال الميت في قبره بعد أن يقبض روحه ملك الموت (عزرائيل) عليه السلام. وهو وارد في السُنَّة المطهرة وسبقت الإشارة إليه في بحثنا هذا ويستكمل الشاعر:
في القبر حيلقى جزاؤه ....
شيء أقوى من النبوت(1)

لو يسمعني ويقرالي ....
من قبل ما يأكله الحوت(2)

ويسيب الدنيا ويرحل ....
الواحد للملكوت ....

يشير الشاعر إلى جزاء العاصي في القبر حيث تضربه الزبانية وهم الموكول إليهم تعذيب الميت في القبر إذا كان من الكافرين أو العصاة – والعياذ بالله – وهو يشبه الموت الذي يلتهم الإنسان كأنه الحوت وذلك لقدرة هذا الحيوان على الابتلاع والخطف في ثوان فالموت عند العامة كما يصفونه (حوت جبار) ويُقال في الأمثال : "الموت حوت".
ويبدأ الشاعر في بث تحذيراته لإخوانه من المسلمين بقوله:(لو يسمعنى ويقرالي)(1)، وينطوي هذا التحذير على قرب حلول اللحظة المحتومة وهي (الموت) وحيث لا يدري أي منا بموعده ولا متى يحل به، فالموت أقرب إلينا من حبل الوريد، وفي هذا تقول العامة في بلاغة موجزة عن الإنسان بأنه "نَفَسْ طالع ونَفَس نازل" أي الشهيق والزفير وأن الإنسان قد يأخذ شهيقاً فيدركه الموت فلا يستطيع أن يرد الزفير، فالموت هذا (القضاء المحتم)، وهذا الحق علينا جميعاً، ولا يعرف صالحاً أو فاسداً، وهو الذي لا نعلم ولن نعلم موعده وهذا من رحمة الله – عز وجل – بنا حتى لا يتعذب الناس بانتظاره مهما طال العمر.
ويثير الشاعر في جزالة اللفظة (ديمومة) الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وعودة الكل إليه في النهاية، هذه القضية التي تنطوي على قيمة (التوحيد) بالله عز وجل فهو وحده مالك الملك لا شريك له وهو الأول وهو الآخر وإليه الكل يعود ويؤول بعد الزوال الدنيوي. ثم يفسر الشاعر لأهل الدنيا ماهية الدنيا ويقف بهم على حقيقتها في وصف بليغ موجز:
يا إخواني يا أهل الدنيا ....
الجنة حداكو (2)عذاب ....

الجنة عذاب في الدنيا....
بالرغم من الأحباب ....

علشان(2) الدنيا الفانية ....
جنتها سراب(3) في سراب....

والفانية ما تبقاش جنه ....
ومصيرها فراق وخراب ....

يصف الشاعر حقيقة الدنيا لأهل الدنيا ويقصد بهم عُشاقها والمتمسكين بها والذين يتخيلون أنها الجنة، ولا يستشعر الدنيا كذلك إلا المرفهون المنعمون بها من الأثرياء أما الفقراء الذين يتعذبون بالفقر والجوع والمرض .. الخ، فلا يستشعرون الدنيا (جنة) أو بها أي نعيم، بل إنهم يقفون على حقيقتها أكثر من الأغنياء ويدركون فلسفتها أكثر من الأثرياء وكثير منهم يود الرحيل عنها لأنه يستشعر كده وكدحه وشقاءه فيها، ولذا فإن حديث الشاعر في تلك الأبيات ينطوي ضمنياً على صنف الفئة التي يخاطبها، وإن لم يتضح هذا بشكل مباشر، بل بشكل خفي غير معلن، لأن الفقير والمتعب والمريض وغيرهم ممن ينتمون بشكل ما لهؤلاء الفئة من البشر لا يستشعرون أن الدنيا جنتهم لأنهم لا يرون فيها سعادتهم بل يرون فيها عذابهم، إنما الدنيا (غرورة) ويغتر بها الأغنياء والمترفون لكثرة ما أنعم الله عليهم من النعم وبدلاً من أن يحمدوا الله فإنهم يغترون بدنياهم ويحسبونها دائمة أبداً، هذه هي الفئة المخدوعة بتفكيرها وعقلها وأوهامها ولم يخدعها أحد إلا شيطانهم، هذه الفئة تلك التي يخاطبها الشاعر فيخبرهم بأنها عذاب رغم وجود الأحباب فيها ذلك لأنها فانية وأن جنة الدنيا إنما هي سراب خادع وكما قال الشناوي (ظمأ وجوع). وطالما أن (الدنيا فانية) فهي إلى زوال وليست على حال ديمومة وبالتالي فإن مصيرها الخراب والفراق إن آجلاً أو عاجلاً .. ويمضي بنا الشاعر ونمضي معه عبر فلسفته الزاهدة المستنيرة الشفافة فنقرأ:
العمر بساعة(1) وثانية(2) ....
مهما تكون الأسباب ....

شفتوش (1) عمركوا(2) فيه واحد ....
القبر نادا(3).. لُه .. وغاب ؟ ....

أو زَوَّغَ(4) أو أَجَِّلّها(5) ....
أو شفعت له الأنساب ؟....

أو لما نادى له استأنف(6)....
أو ناقض(7) بالأتعاب ؟ ....


أو عارض(8) والا استشكل(9) ....
أو قاوم بالإرهاب ؟ ....

أو .. أو .. أو .. أو إلى آخره ....
الموت في الدنيا شراب....

كل المخاليق شاربينه(10) ....
مش باقي غير الأوَّاب(11) ....

لازم تلتف الساق(12) ....
الموت في الدنيا شراب ....

الموت بين الطهارة والتشهد:-
أخبرنا النجل أحمد البحراوي في هذا الشأن بقصة مدهشة ذات دلالة ومغزى: (أن الحاج عبد الفتاح البحراوي قبل موته بثلاثة أيام بدأ يمتنع عن الطعام إلا الزبادي فقط، مما أدى إلى هبوط عام ونوبة "سكر" وأزمة مما استدعى نقله فوراً للمستشفى بالزقازيق وأمر الأطباء بحجزه بالعناية المركزة، وفوجئنا برفضه الطعام تماماً وكأن معدته رافضة كل شيء، مما اضطر الأطباء لإجراء "حقنة شرجية" لعلها تساعد على فتح الشهية، لكنه ظل رافضاً الطعام وكان يعيش هذه الأيام القليلة على المحاليل فقط (الجلوكوز) وما
ينصح به الأطباء لكنه رغم ذلك كان منتبهاً ولم يغب عنا لوعي لكنه لم يتحدث إلا ذكراً وتسبيحاً ويتشهد باستمرار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويلهج بالدعاء ويصلي على الرسول()، وهكذا باستمرار ويكرر مايدعوه وما يقوله من التسبيح والتشهد والذكر والصلاة على الرسول().
وبالطبع لم يخطر في بالنا أنه كان يودعنا أو أن الموت ينتظره بعد ساعات وقد أوشكت ساعة الرحيل، فلم يكن مريضاً هذا المرض الشديد الذي يقعده أو يطول به أو ينبئ بفراق قادم...
وآخر موقف جمعني به ليلة رحيله كان برفقتي ابني هشام فلما رآني طلب أن أقربه منه وقال: هاته لي حبيبي وظل يدعو له ويقبله ويحتضنه كثيراً ويدعو لنا وخرجنا من عنده قبيل الفجر بقليل وكان معه بعض إخوتي، اتصلوا بي بعد الفجر مباشرة وأخبروني أن البقاء لله وأنه قد خرج السر الإلهي بالطبع صدمنا الخبر جميعاً لكننا كنا نسترجع رفضه للطعام وذكره وتسبيحه وتشهده وكأنه كان يعرف أو يشعر بأنه سيلاقي ربه.. وسبحان من له الدوام. وبدون تعليق.
قضية حتمية الموت:
يؤكد الشاعر حتمية الموت بحتمية العمر المقدر للمرء باللحظة وبالثانية لا يقدم الله ولا يؤخر، وفي الحديث القدسي " يولد المرء وقد كتب له يوم مولده ويوم موته ورزقه وقدره: أسعيد أم شقي؟ ".
إذن فالقضية مفروغ منها ومحسومة عند الله قبل أن يولد، ولذا تقول العامة في حالة من الإيمان الكامل: "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين" وبعض دعاة التنوير والعلمانية وأشباههم يعتقدون أن هذا المثل يدعو للتواكل و الضعف والاستسلام ويظنون أن العامة إنما يقولون هذا المثل العامي للتدليل على العجز والانسحاب. من الحياة والخضوع والذل للأقدار، بينما هو في حقيقة الأمر للتدليل على (الإيمان بالله وبأقداره).
ويؤكد الشاعر في هذا الصدد: بأن الموت علينا حق، بل هو حق معلوم بالساعة والثانية بلا تقديم ولا تأخير.
إنه يستلهم النص القرآني:لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(لأعراف:من الآية34)
ولذا فالشاعر يتساءل في خفة ظل ساخرة مستدعياً بعض المواقف الحياتية التي يستطيع الإنسان فيها تغيير أو تبديل بعض المواعيد أو تأجيل بعض الأحكام، لكن هذا لا ينطبق على الموت إطلاقاً فيقول: هل رأيتم أبداً أن أحداً ناداه الموت واستطاع أن يتجاهله أو يغيب عنه أو هرب منه أو أَجَّل الموعد لموعد آخر مثلاً أو استغل شفاعة نسبه وحسبه وجاهه كما يفعل في الدنيا للهروب من حكم حياتي ؟ هل تمكن إنسان من قهر قدرة المحتوم ؟
ولم يزل الشاعر – يرحمه الله - مواصلاً بخفة ظل متناهية وساخرة وهو يتصور الموت – كقضية – لا يجوز معها الاستئناف أو النقض أو زيادة أتعاب المحاماة أو المعارضة أو تقديم استشكال أو المقاومة بفعل إرهابي وإجرامي أو ... أو ... أو ... الخ
إن الشاعر قد أبدع وبرع وهو يقدم إشكالية الموت كقضية حتمية وحيث لا مفر على الإطلاق مقارناً بينها وبين القضايا الحياتية التي يجوز فيها التأجيل والنقض والاستئناف والاستشكال والمقاومة واستئجار المحامين وزيادة الأتعاب والاحتماء بالأنساب والأصهار .. الخ
فرق شاسع بين قضيتين وبين ما يحدث لكل منهما، واحدة في الحياة يجوز معها ما يجوز والأخرى حيث الموت وحيث العدم وحيث التوقف وحيث لم يعد يجوز ما كان جائزاً من قبل، فتوقف الأنفاس لا يعني التوقف الفيزيقي فقط لحياة هذا الإنسان بل يعني توقف كل السلوكيات التي كانت متزامنة مع حياته وكانت تستدعي الدعوى إن جاز التعبير لرفع القضية والاستمرار فيها ..
لذا لجأ الشاعر بتوفيق كبير من الله وبسخرية بالغة وخفة ظل – وشر البلية ما يضحك – لأن يوظف هذا على حد سواء في بلاغة رائعة ومبهرة.
أنه يؤكد كيف أن الموت هو الكأس التي يشربها جميع العباد وحيث يؤوب الجميع إليها ويعودون، إنها قضية الديمومة للواحد الأحد القهار التي استهل بها أبياته من قبل.
ويعود الشاعر مستلهماً من النص القرآن: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (القيامة:29) ويستمر الشاعر متخذاً من الحقيقة (الموت) دافعاً للنصح:
وفـ ساعته لازم ينساق ....
لله رب الأرباب ....

مهما يا اخوانا تعيشوا ....
العمر مالوش غير باب ....

يدخل منه المواليد ....
ينشالوا م. الباب شُياب(1) ....

يا اولادي يا كل اصحابي ....
ما بقاش(2) في الجَدَّ عتاب ....

إنه يتحدث عن المرء كيف يُساق إلى حتفه المحتوم وحيث لا حقيقة إلا حقيقة الموجود رب كل الوجود، وبالتالي فإن المرء مهما عاش وطال عمره فلابد له من موت، ولكل عمر نهاية وإن طال، ويصور الشاعر أن للعمر باباً يدخل منه الطفل حين يولد ويخرج منه إن آجلاً أو عاجلاً مهما شاب وطال عمره أو ابيض شعره بالشيبة، لم يزل الشاعر ينادي بحنان على أولاده ومن في مقامهم وعلى أصحابه يؤكد لهم أن الموضوع جد خطير ومهم وكبير ولا يجب أن يعاتبه أحد أو يلومه على هذا النصح كأن يقول أحدنا للآخر: ما هذا الكلام يا أخي ؟ لماذا التشاؤم ؟ عش الحياة أو الحياة حلوة، نحن في الدنيا، دعك من الآخرة، دعك من الحزن والغم والنكد..
إن البعض يتشاءم من هذه السيرة ويعاتب صاحبه وقد يظنها من الفأل السيء، إن لهو الدنيا يغريه فيدفعه لعتاب صاحبه على هذا الحديث، لكن الشاعر الذي استقى الخبرة والحكمة ووعى الدنيا وعركته الحياة وتلاحم معها في إيمان لا يشوبه شك إنما أخذ على عاتقه الدعوة إلى الله بكل أساليبها عبر الترهيب والترغيب والوعيد والإنذار والتهديد حتى يفيق الناس من سكرتهم في الحياة الخادعة الزائلة.
لقد أخذ الشاعر الأمر بجدية لأنه جاد (الشاعر والموضوع نفسه) وهو ناصح أمين عملاً بقول رسول الله() عندما سئل: "لمن النصيحة يا رسول الله؟ فأجاب لله وللمؤمنين" (صحيح)، ويستكمل الشاعر رسالته في النصح عارضاً وموضحاً ومعدداً الأسباب:
في إيديكو(1) م. القبر رسالة....
على هيئة أي جواب ....

إبليس في الدنيا بيغوي ....
واخذ على نفسه كتاب(2) ....

بغواية كل العالم ....
إلا العبد الأواب ....

يا اصحبابي ارجعوا للمولى ....
وسعت رحمته أبواب ....

بأن هذه هي رسالة القبر بين أيدينا جميعاً، فلنفهمها كما يحلو لنا أن نفهمها فهي حقيقة موجودة ومذكورة بنصوص قرآنية صريحة، بأن الشيطان الرجيم (أبليس اللعين) قد أخذ على نفسه عهداً وميثاقاً بأن يغوي بني آدم وأعلن هذا في تحدٍ سافر وجرأة ووقاحة أمام رب العالمين فجاءه رد رب العزة – جل وعلا – بأنه قد يفعل ويفلح لكنه لن يفلح أبداً مع العبد العابد التائب إلى الله – سبحانه وتعالى – هذا هو العبد المؤمن الذي يقهر أبليس بإيمانه ولا يقهره أبليس، وتفيد كلمة (اَوَّاب) التي استخدمها الشاعر لتوضيح كثرة التوبة فـ (الأوبة) هي من (آب) أي رجع وعاد وتاب إلى الله عز وجل، والأواب هو العبد الذي يتوب باستمرار، أي يراجع ذاته ويحاسبها على كل كبيرة وصغيرة ولا يرضى عن نفسه أبداً لأنه مخطئ ولأن سمات النفس (الأمر بالسوء) وهو من الشيطان إلا من يستعصم بالله ويستغفره ويسترحمه ويكثر من التوبة والدعاء لله بأن يقبل توبته، وللتوبة منازل أربعة كما هي معروفة في الإسلام وأعلاها درجة (التوبة النصوح) أي التي لا يأثم المرء بعدها، وسُبلها كثرة التقرب لله بالاستغفار والندم فيصير العبد (تواباً) و(أواباً)، هذا هو المعنى الذي يثيره الشاعر، وقد شئت التوضيح لا للإسهاب وإنما للدلالة على الفرق بين (العبد الأواب) و (التواب) فالأول أعلى درجة من الثاني لأنه في الحالة الثانية قد يتوب ثم يرجع للمعصية إنما (الأواب) هو الدائم العودة إلى الله وليس العودة إلى المعصية، لذا كان الشاعر موفقاً في الحديث عن صد غواية الشيطان ليس بالتوبة فقط باللسان كأن يقول الإنسان: استغفر الله العظيم وتبت إليك يا رب، ثم عندما تحل ملابسات أية معصية أخرى أو المعصية ذاتها التي تاب عنها قبلاً، استشعر ضعفاً في نفسه ومال ميلاً وهوى هُوِيّاً فلم يقاومه ولم يستمسك بالعروة الوثقى وهي الاعتصام بكتاب الله بما أحل من حلال وما حرم من حرام، فيقع في الخطأ ثانية وهو يقول فيما بينه وبين نفسه: هذه ستكون المرة الأخيرة وبعدها سأتوب (كما يفعل اللصوص وتجار المخدرات مثلاً) هنا قد يكون العبد منتوياً للتوبة، ولا نشكك في نواياه على أحسن تقدير. ولكن من أدراه بأية ساعة سيموت ؟ وبأن القدر سيمهله حتى يتوب بعد عصيان ؟ فهل أَمَن َمكر الله ؟ إنه لا يأمن مكر الله إلا الكافرون.
فقد توافيه المنية وهو على هذه الحالة من العصيان واتباع إغواء الشيطان الذي غرر به فزين له عمله وزين له التوبة أيضاً وهي من أفاعيل الشيطان وحيله خاصة مع المؤمنين وليس مع العصاة، لأن العاصي ليس بحاجة مستمرة لإغواء الشيطان فهو واقع في المعصية ومستمر فيها لكن المؤمن هو الذي يتعب الشيطان معه لأنه لا يغويه بسهولة لقوة إيمانه وبالتالي فإنه يغريه بالتوبة ويأتي إليه من بين صراطه المستقيم كما وعد نفسه وعاهدها منذ بدء خلق آدم وطرده من الجنة بعصيان وقسمه على ذلك.
لذا فإن الشاعر استخدم كلمة (أواب) للدلالة على التوبة النصوح والرجوع لله عز وجل وهي أبلغ من كلمة (تواب)، ويعود الشاعر يكرر منادياً أحبابه بالرجوع للمولى عز وجل فقد وسعت رحمته كل شيء، وهو الرحيم الغفور وقد وردت آيات الرحمة والمغفرة بطول القرآن الكريم وعرضه لتمثل إغراءً للمؤمنين بالرجوع إليه في مقابل بث الشيطان لغوايته في نفوسهم، إن الشاعر يختم رباعيته هذه بطلب رحمة الله ومغفرته منادياً بحب كل من يحبهم ليؤكد لهم بأن رحمة الله فوق عذابه، وأن العبد يدخل الجنة برحمته فوق عدله وأن رحمته هي الباقية والحقيقة والتي لا يقارن بها زيف الشيطان وإغواءه. ويستكمل الشاعر مخاطباً الساقطين في اللهو واللذات المغترفين من المتع الزائلة ساخراً منهم فيقول:
طلاب المتعة الفانية....
مجانين مجانين مجانين....

والدور راح ييجي(1) عليكم ....
وتجوني(2) مع الجايين ....

راح تيجوا(3) فُرداً فرداً(4) ....
وتسيبوا(5) الدنيا الفانية ....

سبحان المولى الآمر ....
بيجيبكم عندي في ثانية ....

وتحسوا بأن كلامي ....
من واقع له قوانين ....

وقانون منزل وسماوي ....
م. الله رب العالمين ....

إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن)( 6) و (ياسين)(7) ....

بالعمل الصالح فوزوا ....
بالقسط وبالموازين ....

يصف الشاعر طلاب المتعة الدنيوية الزائلة بأنهم (مجانين) ثم يتخيل الشاعر بأنه في القبر ولم يزل يخاطبهم مؤكداً بأن كلاً منهم سيأتي عليه دوره في الموت وسوف يأتونه في القبر أو في الآخرة بعد أن يشيعوا للقبر أو لدار الخلود والبقاء، ويذكرهم بأن كل فرد سيأتي وحده دون أهل أو أصحاب أو أحباب إنما سيأتي فقط بعمله الذي فعله في الدنيا، وقد استلهم الشاعر هذه الأفكار من نصوص قرآنية صريحة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (عبس:34).
وسوف يترك الإنسان كل مغريات الدنيا التي كانت تغريه فيها، وأنه إذا أتى أمر الله فإن الإنسان يلبي الأمر في لحظة، ثانية، ولو استطاعت أوزان الشاعر أن تسعفه لأخبر بأن تلبية النداء تكون في جزء من الثانية أو الفيمتو ثانية التي اكتشفها العالم المصري أحمد زويل، فحسابات الله السماوية الإلهية تختلف عن حساباتنا الأرضية وسوف يشير الشاعر لها في موقع لاحق من القصيدة.
ولم يزل الشاعر يستلهم أبياته من حفظه الآيات الكريمة في قلبه، فإنما يشير بقوله: (المولى الآمر) إلى قوله سبحانه وتعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ(النحل: من الآية1).
ولقد فسر فضيلة الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) باعتباره فعل ماضي، بأنه فعل أتى وحدث وفعل واقع وقع في علم المولى سبحانه وليس بحساباتنا حتى لا يدع مجالاً للشك فلم يقل – جل وعلا – (سوف يأتي أمر الله) بل أكدها بقوله تعالى (أتى أمر الله) بالفعل الماضي الذي يفيد الوقوع فعلاً والانتهاء منه.
ولذا فقد استلهم الشاعر الآية الكريمة ليؤكد أن آيات الله هي القانون والدستور الأعظم والذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (فصلت: من الآية42)
ويؤكد هذا التفسير قوله في البيت التالي:
إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

إنه لا يدعو للقراءة فقط وإنما لتدبر معاني القرآن العظيم، وفهمها ومعايشتها لأنها الحياة الحقيقية وما أجمل قول الشاعر (عيشوا الرحمن ويس) إنها جملة تساوي في جمالها مليون بيت كتبه أعظم شعراء العالم، فما أجمل أن يعيش الإنسان القرآن، إن كلمة (عيشوا) دعوة للحياة داخل كلمات ومفردات القرآن، دعوة لمعايشة سورة (الرحمن) على سبيل المثال وسورة (يس)، هذه المعايشة الحقيقية وهذه الحياة الروحانية الجميلة الرائعة العذبة ما أجمل أن نعيش القرآن ونتمثل آياته وكما سئلت عائشة عن خلق الرسول() فقالت(رضي الله عنها) باختصار وفي عبارة موجزة جزلة: "كان قرآناً يمشي على الأرض"، أي أن الرسول() كان يعيش القرآن في كل مواقفه وسلوكياته وحياته وهو قدوتنا الأعلى الذي يجب أن نقتدي به حتى نعيش معاني القرآن العظيم ونشربها وتمتزج بأرواحنا وأفعالنا.
وحين يدعونا الشاعر الأصيل المؤمن – البحراوي – بدعوته لأن نعيش القرآن ونتعايش معه ونتدبر آياته فهي دعوة إلى الله إنها دعوة للفرار منه إليه، من عذابه إلى رحمته من جحيمه إلى جنته.
الله الله الله عليك يا بحراوي – رحمك الله – لقد كنت بحق الله داعية إلى الله عبر أزجالك السهلة الرائعة وما أجمل أن نردد في نفوسنا هذا البيت للداعية البحراوي؛ كما قاله بكل هذه الطلاوة والعذوبة:
اقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

فما أجمل أن نردد دائماً هذا البيت نسترجعه في ذاكرتنا، ونعيه في وجداننا ونرطب به لساننا ونتوقف دائماً متأملين معانيه ونكرر ونكرر:
إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

استشعر وكأن القلم هنا يقف فوق السطور، استشعر وكأن هذا البيت هو خلاصة وجه الضوء، ومسك الختام، استشعر بأنه هنا يجب أن يستقر القلم ويستقر مطاف القلم فوق السطور، استشعر وكأنه القول الفصل الذي لا فصل بعده وأن هذا البيت هو (لُبُّ الديوان) أو (بيت القصيد) كما يقال، لكني مضطرة للاستمرار فلم تزل بقية الأبيات ولم تزل بقية القصائد الدينية الإسلامية الرائعة فسامحوني أيها القراء، إن اضطررت إلى الاستمرار في هذه الرحلة الروحية والمتعة التي لا أود أن تنتهي، لكن لا تنسوا أبداً ترديد هذا البيت حتى تتشبع به أرواحكم ويصير سلوكاً وعادةً وليس قولاً إنشائياً جميلاً فقط .. فلنردد معاً ثانية:
إقروا القرآن وآياته ....
عيشوا (الرحمن) و (ياسين)....

ذلك حتى نفوز بالعمل الصالح وحيث العدالة المطلقة عنده سبحانه وتعالى، وحيث ميزانه الأعلى الذي لا يبخس أي امرئ حقه أبداً، بل ستكون رحمته فوق ميزان عدله لو علمنا، وستكون شفاعة رسوله() لو فهمنا وقدرنا وعملنا بما يستحق جلال وجهه الكريم.
ويستكمل الشاعر الروحاني الصوفي مسترسلاً في ملحمته، الثرية بالمعنى وليس فقط بعدد الأبيات، فكم من قصائد جوفاء تقوم على خواء وهكذا البشر، وكم من بيت يزن ألف بيت مما يدعون ... ثم ينشدنا البحراوي في طيبة ويسر:
وأنا كنت حداكو(1) باسأل ....
الجنة دي حتكون فين(2) ؟ ....

من يوم ما قابلت الباري(3) ....
وأنا شايف بالاثنين ....

السما والأرض حداكم(4) ....
من كون الله شبرين ....

والشبر في علم الخالق ....
تمشوه في صاروخ سنتين....

ويومين في الآخرة يساووا ....
في سنينكو(5) كما الألفين ....

واليوم من عند الخالق ....
كالألف سنه ع العين ....

وكمان الفكر الناكر ....
وأنتم عارفينه(6) منين؟ ....

من عالم جاحد كافر ....
أو ملعونين بين الدارين (7)....

ويتساءل الشاعر في تلك الأبيات عن طريق الجنة، ويتخيل وكأنه قابل (الباري) رب العزة – جل وعلا – ويؤكد أنه لم يكن مغمض العينين بل مفتوحهما وكأنه لا يحلم ولكنه الإلهام الروحي الرباني الذي يختص به بعض عباده الصالحين الأتقياء والواصلين، وما زلنا لا نعلم كيف كانت لُقيا الشاعر بالباري سبحانه كما وصفها في الأبيات وليس لنا أن نسأل فهي تجليات العبد الصالح والتي يؤكد فيها وكأن السماء والأرض معاً في كون الله لا تساوي إلا (شبرين) هكذا رآها واستشعرها الشاعر كما أراه الله إياهما له، ثم يوضح لنا أن (الشبر) الواحد عند الله ليس بالطبع بحساب الأطوال عندنا ولا بمقاييسنا أنما الشبر الواحد في حساباتنا يمكن أن يقطعه (الصاروخ)(1) في عامين.
أن الشاعر يثير قضية كونية إلهية تتعلق بقدرة الخالق العظيمة الجبارة والتي لا يعلو عليها شئ ولا يمكن لعقل الإنسان البشري القاصر والمجرد أن يتخيلها بقدراته المحدودة مهما بلغ من العلم.
ويثير أيضاً قضية أخرى علمية هي النسبية الزمنية بين زمن الله وزمن البشر، ومقاييس الله ومقاييس البشر، وحيث لا مقارنة على الإطلاق، وحيث يتنزه المولى عن عقد مقارنة خاسرة وكافرة فهو وحده مالك الملك ومُلكه لا يُحصى ولا يعد ...
إن الشاعر في البيت القائل:
والشبر في علم الخالق ....
تمشوه في صاروخ سنتين....

إنما يؤسس لإعمال العقل وإطلاق الخيال كما يشاء للإنسان ومهما جمح به فكيف لنا أن نتخيل أن الأرض بكل ما فيها وما عليها من جبال ومحيطات وسهول و .. و .. ... الخ و أن السماوات بكل ما فيها وما تضمه من كواكب نعلمها ولا نعلمها، كيف لنا أن نتخيل أن كل هذا يمكن أن يتضاءل ويتقزم ويظل يتقزم ويتضاءل حتى يصل إلى "شبرين" فقط؟ إن الشاعر حاول تقريب الصورة إلى ذهن الإنسان وهيهات أن نتخيل مهما أوتينا من جموح الخيال وجنوحه ...
ثم يعود ليشير إلى هذا الشبر الواحد بحسابات رب الكون سبحانه وتعالى ويستكمل الأبيات مستوحياً من القرآن الكريم بأن اليوم الواحد (كوحدة زمنية) عند الله إنما يساوي ألف سنة مما نعدها، ولقد وردت الآيات صريحة في هذا الشأن:وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(الحج: من الآية47).
ثم يعود الشاعر منبهاً ومشيراً إلى هؤلاء الملحدين والعلمانيين الذين ينكرون وجود الله عز وجل بعد كل هذه الآيات الدالة على عظمته سبحانه وقدرته.
ويؤكد أن هؤلاء العلماء الجاحدين الكافرين إنما يلعنهم الله في الدنيا والآخرة، وإنما يتركهم الله في ضلالهم وفي غيهم يعمهون حائرين، ولو اجتمعوا على أن يخلقوا جناح بعوضه فما استطاعوا إليه سبيلاً.
ويمضي الشاعر معدداً صفات هؤلاء الكفار المنكرين لوجود الله عز وجل فيقول فيهم:
في الدنيا كمان والآخرة ....
العاصي قراره مكين ....

ناكر لطلوع الروح ....
| لله رب العالمين ....

والروح في طلوعها كأنك ....
مضغوط وما بين جبلين ....

وشهيق وزفير لك داخل ....
من ثقب الإبرة " العين "


أو كما عصفور يتقلّى ....
في الزيت وعلى الجنبين ....

وطلوع الروح وعذابها ....
محتاجة لوصف يومين ....

العاصي والذي منه ....
يهرب من عمله لفين(1) ؟

والكل هايورد(2) فيها ....
بكتاب محكم ومتين ....


تجربة طلوع الروح:
يشير الشاعر لمكانة العاصي سواء في الدنيا أو الآخرة، هذا الذي ينكر الروح ووجودها ثم يشير إلى تجربة طلوع الروح (خروجها من الجسم) وكأنه عاشها وقد استلهمها من الموروث الديني وكأن الإنسان – حينها – ينضغط ما بين جبلين، ولنا أن نتخيل حين يجثم الجبل فوق صدر إنسان مثلاً، وهو مثل أحياناً يردده العامة عندما يتحدث عن (الهَمَّ) فيشير بأن الهَمَّ جاثمُ فوق صدره كأنه الجبل، وهو وصف مجازي لنا أن نقارن مثيله بفكرة طلوع الروح (وهي حق) لكن وليس من حقنا السؤال عنه:
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي(الاسراء: من الآية85).
كما يمضي في تصويره حول عمليتي الشهيق والزفير كأنها – الأنفاس – تخرج من ثقب الإبرة – من ثقب النني في العين، فمن المعروف أن الروح عندما تخرج تخرج من العين كما ورد في الأثر (والله أعلم).
ولعله لهذا السبب تفتح عين المرء بعد خروجها ساعة الموت، وأياً كان الأمر لنا أن نتخيل كيف تخرج الروح على مستوى الأنفاس من ثقب الإبرة، ولنا أن نتصور ذلك إذا تصورنا كيف يشعر الإنسان أحياناً بالاختناق فيقول: لا أستطيع أن (آخذ نفسي) ويقصد أريد: أن أستنشق ...
ربما كثيراً ما نسمع هذه العبارة خاصة من المرضى بضيق الصدر (التَنَفس)أو الربو وحساسية الصدر – شفاهم الله وعافاهم – وربما لا يستشعرها إلا من مر بهذه الحالة فيقول: أشعر بأن الهواء لا يكفيني أو أشعر بالاختناق أريد هواء نقياً أو أكثر من ذلك، إن هذا الاختناق يعد حالة عادية بالمقارنة لمن يأخذ شهيقه وزفيره من ثقب إبرة وليس من فتحتي الأنف الموصلتين للشعبة الهوائية فالشعبتين فالرئتين (بيولوجياً) فماذا على مستوى التنفس من ثقب إبرة؟
أحاول توضيح ما يقصده الشاعر تفصيلاً لأن الشاعر ألقى بيتاً في غاية الأهمية والعلمية ولا يستوقف إلا من يتأمل البيت ويغوص في معانيه ويتمثل الحالة ويتخيل الموقف .. ما بالنا إذن بطلوع الروح وليس التنفس، فلعل الروح أعظم من مجرد عمليتي الشهيق والزفير اللتين يعتادها كل البشر.
ولم يزل الشاعر مستمراً في وصف طلوع الروح في محاولة لتقريب الصورة للمستمع أو القارئ لخطورة وقيمة هذا الموضوع وأهميته في حياة كل إنسان كي يتعظ منه فيشبهه بالعصفور الذي يُقلى في الزيت ويُقلب على الجنبين؛ فما أرق العصفور بين الطيور أي أنه لا يحتمل شيئاً لرقته ورهافته وقد ضرب العصفور مثلاً مستلهماً من أمثال العامة، فهو يضرب للرقة وللضعف ولعدم الحيلة رغم قدرته على التحليق والطيران والحرية، ثم يؤكد بأنه لن يستطيع وصف ذلك (طلوع الروح) ولا وصف عذابها مشيراً أن هذا الوصف ربما يستغرق منه يومين. ولنا أن نتخيل ما معنى يومين كما قال الشاعر؟ أن كل يوم يساوي أربعاً وعشرين ساعة، واليومين يساويان ثمانية وأربعين ساعة ولنا أن نتخيل أن يحدثنا إنسان عن (طلوع الروح) حديثاً متصلاً لمدة ثمانية وأربعين ساعة ..
إنه شئ صعب، بل مستحيل وقد لا يفي بالغرض، وقد يقول قائل ربما قال الشاعر ذلك احتساباً ومراعاة للقافية، لكني أحسب أنه قالها للتدليل على عظمة هذا الفعل الذي يختص به الله سبحانه وتعالى ويمثل إعجازاً من معجزاته ولا يستطيع أحد أن يحيط به أو يستشعره إلا حينما يمر بتجربة الموت نفسها حينها سوف يعلم ..
مع ملاحظة أن الشعور بالموت وطلوع الروح يتفاوت ما بين المؤمن والعاصي والكافر، وقد ذكر الكثيرون من العلماء اجتهادات في هذا الشأن وهناك أحاديث
للرسول() يمكن الرجوع إليها في مراجعها الأصلية.
يعود الشاعر ليؤكد (حتمية الموت) كقضية مُسلمُ بها أو مفروغ منها وحيث لا مهرب لأحد منها خاصة العصاة الذين لا يستطيعون الهروب من أعمالهم الظالمة فالموت حق على الجميع كما وردت بشأنه آيات الله المحكمة وبيناته هدى للناس، ويستكمل الشاعر وقد تصور نفسه فوق المغسلة بعد الموت ورأى ما يحدث فيقول:
وكلامي من فوق غُسلي ....
صوت الرحمن بينادي ....

بيقول لي (1)يا عبدي جاوب ....
عن عملك في الدنيا دي ؟ ....

فين مالك ؟ فين أمجادك ؟ ....
والصوت النادي الشادي ؟ ....

فين سمعك وكمان(2) شوفك ؟(3) ....
ليه خوفك ظاهر بادي(4) ؟ ....

يستشعر الشاعر صوت الرحمن يناديه بعد موته وهو لم يزل فوق (المغسلة) للطهور الأخير من الدنيا وأدرانها وحيث يُسأل المرء عن عمله فقط وحيث لا قيمة للمال ولا للشهرة ولا معنى للسمع والبصر فأين ذهب كل هذا؟ الآن لا معنى لأي شيء كان في الدنيا، الآن هي خشية الله وحده سيدة الموقف. ويستمر الشاعر:
الحق يا كل إخواني ....
الموت الذل البادي(5) ....

المال أنا مسؤول عنه ....
رغم أنه فـ إيد أولادي ....

لميت(6) المال ما نفعني ....
غير الأعمال يا اسيادي ....

عملي ولوحده(7) معايا ....
موجود في القبر قصادي ....

يخبرنا الشاعر بمدى إذلال الموت لصاحبه وحيث لا ينفعه إلا عمله فقط إذا كان عملاً صالحاً، ويثير الشاعر قضية الأمانة ومسؤولية الإنسان عن المال وتربية الأولاد ...
إن الشاعر لم يشر صراحة إلا (للمال) لكنه أشار بمهارة إلى تربية الأولاد ضمنياً، بمعنى أن الإنسان إذا لم يربِ أولاده التربية الإسلامية الصحيحة التي أمرنا بها الله في عباداتهم وسلوكهم وجميع شئون حياتهم بما فيها كيفية إنفاق المال، فإنه يتعرض للمساءلة من الله عز وجل وحيث يُسأل المرء عن عمره فيما أفناه وعن ماله فيم أنفقه وضيعه (صرفه) وعن صحته فيم بذلها!
نعم إن المرء سوف يُسأل عن كل هذه الأمانات وحيث المال مال الله وسبب من أسباب الله في الدنيا، وحيث المال ابتلاء من الله وكذلك الصحة وكذلك طول العمر الذي يغري بالعصيان كما يفعل المال بصاحبه، وحيث يُسأل المرء عن أوجه إنفاق هذا المال هل في الحلال أم في الحرام؟ وكيف ربى أولاده من هذا المال ؟ وكيف أوصاهم بهذا المال، فإذا لم يحسنوا إنفاقه حلالاً فقد وقع وزره على المربي، لذا فإن الشاعر – رغم حُسن تربيته لأولاده – لم يزل متخوفاً يخشى الله أن يُسألَه عن هذا المال من خلال أولاده عملاً بقول رسول الله(): "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل في بيته راعٍ ومسؤول عن رعيته والمرأة في بيتها راعية ومسؤولة عن رعيتها ..الخ"(حديث صحيح).
يؤكد الشاعر أنه لا ينفع المال مهما بذل الإنسان جهداً في جمعه، وإنما ينفع المرء ويرافقه عمله الصالح في قبره. ثم يستكمل الشاعر ليبث مضمون هذا الأدب الإسلامي العظيم موضحاً بعض صفات الإنسان التي لا تنفعه مثل (البخل) فهؤلاء البخلاء الذين كانوا يكنزون الذهب والفضة في حياتهم أين ذهبوا؟ ذهبوا جميعاً للقبر، وماذا أخذوا مما كانوا يكنزونه ؟ لا شيء ... الكل يأخذ معه عمله فقط وبحسب نوع العمل ويقول في هؤلاء:
وبخيل الدنيا مصيبة ....
قبره من عمله فاضي(1) ....

أيام الدنيا قضاها ....
شال(1).. حط(2) .. وكله على دي(3) ....

ودخلت القبر لوحدي ....
وما فيش غير عملي معايا ....

اسمي بقى اسمه الميت ....
سابني والمال وضنايا ....

في الرباعية السابقة يشير الشاعر إلى جزاء البخيل الذي ظل يجمع ويَلَّم المال كله فوق بعضه وقضى حياته يجمع في المال بحيث صار هذا هو شغله الشاغل وهمه الحياتي فلم يعمل عملاً صالحاً لذا فقد صار قبره فارغاً من العمل الصالح رغم ثرائه في الدنيا وجمعه الأموال.
ويشير كيف دخل البخيل القبر (فهو يتحدث على لسان البخيل) الذي لم يأخذ من ماله شيئاً، ولقد تحول اسمه من (أي اسم كان يحمل الوجاهة والسيادة مثلاً) إلى لفظة (الميت) فقد ترك المال وتركه المال وحده لم يعد ينفعه، وكذلك ضناه (أولاده)، لم ينفعه أحد (لا المال الذي جمعه ولا الضنا الذي جمع له المال) ولم ينفقه في أوجه الخير كما أوصاه الله تعالى في آياته الكريمة: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (النساء:38).الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (البقرة: من الآية262).
إن الشاعر حين يؤكد في أكثر من موضع على عدم نفع المال لصاحبه فإنه ليس ضد من يحاول الكسب والترزق إنما هو ضد من يلهيه هذا المال عن ذكر الله وعبادته فيصبح المال شغله من دون الله فيأتي يوم القيامة خاوي الوفاض من عمله الصالح وحيث كان المال غايته وليست وسيلته.
إن الشاعر أشار بمهارة وضمنياً إلى قضية جدلية في غاية الأهمية ولعلنا بحاجة إليها في هذا العصر بخاصة، إنها رؤية استشرافية للشاعر ودعوة وتنبيه وتحذير في نفس الوقت، إنها قضية: سيطرة المال على الإنسان، بمعنى آخر: هل المال وسيلة أم غاية؟
بالطبع هو وسيلة عند العقلاء والحكماء والمؤمنين، لكنه غاية عند الماديين والوصوليين الذين يستبيحون أي شئ وصولاً للمال وبالتالي يكون جمع المال هنا وسيلة للعصيان بدلاً من كونه وسيلة لكسب رضا الله سبحانه وتعالى.
قد يقول قائل. بإنني أُحَملَّ النص والأبيات فوق طاقتها ولكن الحقيقة أن النص يحتمل كل ذلك لكثافة المعنى وجزالة الفكرة التي تنطوي عليها مخيلة الشاعر.
ولنا أن نتساءل ببساطة مثلاً عن: غنىٌ دخل الجنة وآخر دخل النار ؟ رغم إن كليهما كان يجمع المال؟ هذا هو الفرق بين الذي جمع المال فأكرمه الله بالنعمة فقام بآداء واجبه تجاه الله كما أمره الله بأن وزع الزكاة نصاب الفقراء وساعد المحتاجين واليتامى وأنفقه في وجوه الخير عامة ما بين الزكاة والصدقات وغيرها، وبين غيره من كان يكنز المال كما نرى ونسمع ليبني بيوتاً وقصوراً ويظل يشتري هنا وذاك ويدخر في المصارف (البنوك) و.. و .... و ... ولا ينفق في سبيل الله شيئاً، ولا يخرج الحق المعلوم للسائل والمحروم الذي أمر الله به ...
إن الله منحه النعمة لكنه رفض النعمة، والرفض هنا لا يعني الرفض (المادي) بل الرفض الحقيقي الرفض (المعنوي) أي في الآخرة بمعنى أنه سيأتي في القبر – كما أشار الشاعر – (مصيبته قبره من عمله فاضي ) لقد رفض النعمة بمعنى الرفض الحقيقي لأنه لم يحمد الله عليها ولم يخرج حق الله المعلوم الذي أمره به في رزقه وقسمه لعباده المحتاجين عند هذا الثرى.
ثم يطرح الشاعر ضمنياً قضية جمع المال نفسه:
كيف يجمع الإنسان ماله ؟
لو جمعه حلالاً طيباً لأتى به عمله يوم القيامة صالحاً لكنه يجمعه بخبث ومن بحرام، إنه مثلاً يرتشي أو يزور أو يسرق (بأي أنواع من السرقة) أو يستغفل الآخرين مظنة منه أنه فعل شطارة وهو محتال نصاب ... الخ، هذا هو الذي يأتي قبره خالياً من العمل الصالح ...
إن القضية محسومة وببساطة أكثر : إن من يحرص على المال الحلال ويراعي قيمة (الحلال والحرام) سوف يدعوه هذا الإيمان إلى الحلال في كل شيء، سيكون مطعمه حلالاً وملبسه حلالاً وتربية أولاده من حلال وبالتالي سيراعي حق الله في الزكاة وفي نصاب الفقراء والمحتاجين.
أما إذا أتى بالمال حراماً فلن يهمه أن يخرج الزكاة أو لا يخرجها لأنه في الأصل يجمع مالاً حراماً وما بني على حرام فهو حرام وهو باطل ...
قد يقول قائل هناك من يجمع المال من حرام ثم ينفق منه على مشاريع تبدو في الحلال كبناء مدرسة أو الصرف على اليتامى أو موائد الرحمن ... الخ كما سمعنا عن فعل بعض الراقصات ..
وهو أمر يدعو للضحك وهو أقرب للنكتة منه إلى أي شئ آخر ... إن الله اشترط – أصلاً – أن يكون مصدر المال حلالاً طيباً لا تشوبه شائبه ...، و " إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" كما قال رسول الله() فالقضية محسومة.
ونعود لنستكمل معاً الرحلة مع شاعرنا عبر أبياته التي تستوقفنا معانيها بالتحليل والمناقشة للوقوف على المضمون القيمي الإسلامي الذي ينضح من كل بيت لتؤلف فيه كتبٌ وليس كتاباً واحداً...
لم يزل الشاعر يشرح لنا ما يحدث للإنسان في قبره مفصلاً بعض التفصيلات ومُقدماً تجزيئاً لعله يؤكد ويوضح الصورة التي سقناها آنفاً فيقول على لسان البخيل الثري الذي دخل قبره:
وكمان(1) سبت(2) الملاكي(3) ....
والشقة فـ أعلى سرايا(4)....

والفرش وآخر عظمه....
للرمل مصير ونهاية ....

والكاس والطاس والهبرة(5) ....
واليغمة(6) ورثها سوايا ....

والبيت سكنوه من بعدي ....
ونهايتي ككل نهاية ....

كل المخاليق(7) تركوني ....
حبشوا(8) بالمونة(9) ورايا ....

والمونة ما تركت منفس ....
خايفين لارجع دنيايا ....

مقرئ وصوان ومظاهر ....
تبذيركم شايفه حدايا(10) ....

كان بالتكاليف(11) صدقتم(12) ....
ولغاية القبر كفاية (13) ....

يعدد الشاعر كيف ترك البخيل الدنيا فقد ترك السيارة والقصر الفخم العظيم وفراشه الوثير وأصبح مصيره الدفن في الرمال والتراب.
لقد ترك ما كان يشتهيه في الدنيا وما كان يعيشه، ترك الخمر التي كان يعاقرها والتدخين والسرقة والنهب وقد ورثه غيره بعدما قضى عمره فيه، بيته لم يعد بيته وصارت نهايته في قبره هذه النهاية المحتومة التي لا مفر منها مثلها مثل نهاية البشر جميعاً ولا خلاف على ذلك ولا شك في هذا ... إنه يقين الله وحق الله.
ثم يرسم الشاعر بقلمه صورة تأخذ بمجامع القلوب خشية ورجفة ورهبة من الله عز وجل، إنه يصور كيف تشيع الناس جنازة المرء حيث مثواه الأخير، وكيف ينزلونه القبر ثم يغلقون القبر عليه ويسدَّون فتحته فلا يبقى فيها أي متنفس له، وكأنهم خائفون من رجوع الميت أو يقظته وعودته مرة أخرى للحياة...
بالطبع إن فلسفة إحكام القبر على الميت إنما تنطوي على معنى يتعلق بعدم نفاذ الرائحة النتنة حيث يتعفن وينتن ويبدأ الدود عمله في جسمه ويتعلق أيضاً بعدم السماح للكلاب والذئاب وبعض الحيوانات بأن تنبش وتدخل للجثة فهو حرص من الأهل على حُرمة الجثة لكن الشاعر إنما أراد بث المعنى المجازي في شدة حرص الأهل على الميت وكأنهم خائفون من عودته للحياة لأنهم سيرثونه وينعمون بماله ومعنى رجوعه ربما حرمانهم من هذه المتعة.
ثم ها هو الشاعر يصف خيمة العزاء الكبيرة التي ينصبونها للميت (الصوان) وحيث الشيخ قارئ القرآن، أنه ينتقد كل هذه المظاهر وهذا التبذير الذي لا داعي له وحيث يرى من منطلق (أن الميت قد مات ودفن وانتهى الأمر)، و (أن الحيّ أبقى من الميت) كما في المعتقد الشعبي ولذا فإنه لا داعي لهذا البذخ في الموت كما لو كان احتفالاً وهي من العادات والتقاليد وليست من أصول الدين وليس فيها ما جاء بنص قرآني أو حديث شريف، ويقترح الشاعر أن هذه المبالغ التي تعتبر تكلفة لا داعي لها من الأولى بها الصدقات للفقراء والمساكين وذوي الحاجة..
فلم يزل الشاعر يؤثر "الصدقة" كقيمة يجب أن توزع على أهلها بدلاً من ترف لا طائل من ورائه ليس من الإسلام في شئ وإنما هو مظاهر خادعة كاذبة وأموال تصرف فيما ليست أهلاً له من الناحية الشرعية والإسلامية.
ويعود الشاعر ليصف مشاعر الميت في القبر مستلهماً حديث الرسول ودعاءه المشهور عن القبر: اللهم ثبتني عند السؤال في القبر، وكما نقول اللهم ارحمنا من ضمة القبر ووحشة القبر وظلمة القبر .. الخ.
يقول الشاعر:
القبر له ضمة (1) كبيرة ....
وعذاب الضم شديد ....

فيه ضمة بتبقى عسيرة ....
تفضل ضماك(2) لبعيد ....

والضم عذابه حقيقة ....
والمعنى هلاك ووعيد ....

للأفاك واللي منافق ....
للماجن والعربيد ....

للي بيخونوا عهودهم ....
للعالي(1) العامل(2) سيد ....

للمتكبر على ناسه ....
وفـ نظره الخلق عبيد ....

للناهب أو للسالب ....
لجهنم عمر مديد ....

للمحتال والنصاب ....
القر(3) لهيبه يزيد ....

يصف الشاعر ضمَّة القبر وهي واردة في الأثر ومعروفة لدى فقهاء المسلمين كما ورد في دعاء النبي() بأن يقيه الله ويرحمه من ضمة القبر وعذابه والسؤال ... الخ.
ولكن قد قيل في هذا الشأن ما ورد ذكره لدى الشاعر بأن الضمة قد تكون قوية وعسيرة (صعبة) وشديدة فهي نوع من أنواع العذاب الحقيقي الذي يطبق على العبد مثل جبل يجثم على صدره فهو هالك هالك لا محالة من الفرار وهو وعيد من المولى عز وجل المنتقم الجبار، وقد لا يكون الأمر كذلك فقد تكون ضمة القبر حنونة ومريحة وهذا يترتب على حسب عمل الإنسان إن كان صالحاً طالحاً أو صالحاً.
يصور الشاعر تلك الضمة الخاصة بالعمل غير الصالح ويقول لمن تكون هذه القسوة وهذا الوعيد وهذا البطش .. إنها يكون للأفاك والمنافق والماجن والعربيد والخائن والمتعالي المتكبر الذي يعتقد أنه السيد وبقية من حوله عبيد لديه، إنها تكون للسارق واللصَّ والمحتال والنصاب، وكل هؤلاء سوف يَحمِى عليهم في نار جهنم وساءت لهم قراراً ومصيراً.
ثم يعود الشاعر مقارناً تلك الضمة بأخرى يسيرة هينه حنونة، ويفسر لنا لمن هذه الأخرى فيقول:
وكمان (1) فيه ضمة يسيرة ....
المؤمن بيها سعيد ....

وكأنه في روضه من الجنة ....
وحديث الجنة أكيد ....

القبر يا روضة م الجنة ....
أو حفرة لهيبها شديد ....

فوقوا(2) يا اخوانا يا عالم ....
القبر وعيده وعيد ....

إنها الأخرى ضمة القبر للمؤمن، يستشعرها كما ذكرها الرسول في حديثه وكأنه في روضة من رياض الجنة فيسعد بها ويندم أنه لم يأت القبر قبل ذلك، فالقبر يكون على حالين بحسب عمل الإنسان، إما روضة من رياض الجنة تسر صاحبها ويهنأ بها سعيداً وإما حفرة من حفر النار، لذا يدعو الشاعر الداعية إلى الله إلى الإفاقة والاستفاقة من خداع الحياة قبل أن ينزل المرء لقبره وحيث الوحدة والوحشة ولا أنيس ولا جليس وحيث الظلمة وحيث كل ما يُتَوَعَّدُ به الظالمون.
يستكمل الشاعر مؤكداً أنه لا يأتي بهذا الحديث من عنده بل هو من لدن خبير عليم وورد ذكره في القرآن والأحاديث الشريفة فيقول بشيراً لسورة الحجرات (3):
وهي سورة الحجرات فيها....
قرآن من ربي مجيد ....

والمعنى أياته بديعة ....
مضمون السورة فريد ....

كل القرآن وآياته ....
من عند الله ترشيد ....

أحكام إعجاز في بيانه ....
للمؤمن أقوى رصيد ....

لو نستوعب إعجازه ....
| تفسير .. تدبير .. ترديد ....

والمعنى يا أهل الدنيا ....
كالشعلة بيان بيقيد ....

ويؤكد الشاعر على آيات سورة الحجرات البديعة ذات المضمون الفريد كاللؤلؤ المنثور التي تعلم الناس الهداية وترشدهم، ثم يعود مؤكداً بأن كل القرآن هداية للناس أجمعين ففيه الأحكام والإحكام والإعجاز هذا البيان الذي نزل على رسوله الأميَّ، ويؤكد الشاعر أن المشكلة تكمن فينا ويدعونا لأن نستوعب هذا الإعجاز، القرآني و أن نتعرف على التفسير وأن نتدبر قول الله وأن نتداول القرآن فيما بيننا في مجالسنا ونردده ليس هذا الترديد الببغائي ولكن بفهم المعاني والوقوف عليها والعمل بها فهي مثل الشعلة التي تضيء الظلام، ويستمر الشاعر في تنبيهه محذراً القوم من غفلتهم:
واللي (1) في الغفلة فـ غفله ....
إن ماصحاش(2) يبقى بليد(3) ....

وإن صحصح(4)له .. واولاده ....
التقوى لهم بتفيد(5) ....

التقوى الورث(6) الدايم ....
بتعيش الورثة فـ عيد ....

وليخشَ(7) الناس لو تركوا ....
ذرية تقوى تفيد ....

وكأن الشاعر يقول: وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(يّـس:17).
أو يقول: "اللهم بلغت اللهم فاشهد”، فمن ظل في الغفلة فهو في غفلة من أمره فإن لم يستيقظ منها فهو أبله وغبي، وإن استيقظ فلنفسه وأولاده فالتقوى حتماً سوف تقيه وتقيهم من جهنم ومن عذابات القبر ومن الويل والوعيد الذي توعَّد به الله العصاه، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن عمل سيئاً فعليها، إن الإنسان لا يقدم عمله إلا لنفسه، حتى ما يقدمه للآخرين فإنه لنفسه في النهاية لأنها حسنات تُحسب له في ميزان العادل. وكما قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8) (الزلزلة) ويؤكد الشاعر أن الميراث الحقيقي الدائم للإنسان إنما هو ميراث التقوى وكما ورد في الحديث، وعلى الإنسان أن يحرص على هذا الميراث لأولاده من بعده لأنه العيد الحقيقي والفرح الحقيقي والسعادة الحقيقية وإنما الخوف والخشية أن يترك العبد ذرية من بعده ضعيفة الإيمان، ضعيفة التقوى، هذا هو ما يجب أن يخاف عليه الإنسان من بعده وليس أن يتركهم فقراء أو محتاجين فالغنى الحقيقي هو غنى الأتقياء والثروة الحقيقية هي ثروة التقوى وخشية الله.
ثم يستكمل الشاعر مصوراً أحداث القبر بقلمه:
الروح رجعت لي فـ قبري ....
ناكر ونكير قدامي ....

يا أخوانا يا أهل الدنيا ....
أبليس ملعون وحرامي ....

عايز يسرقني في ثانيه ....
أسلوب مكشوف إجرامي ....

سالوني جاوبت عليهم ....
وإيماني كان إلهامي ....

يتصور الشاعر أو يصور لنا كيف عادت له الروح في قبره وكيف رأي الملكين (ناكراً ونكيراً) وكيف حاول الشيطان الملعون أبليس أن يخاتله ويسرقه من نفسه المجبولة على الإيمان والطاعة وهو يرد على أسئلة ملكي القبر ناكر ونكير وكيف حاول الشيطان أن يصده ويسلبه إيمانه وتقواه لكنه فشل معه، فقد كان إيمانه القوي الراسخ المتين معينه بعون الله، وثبته الله في القبر عند السؤال حتى نفعه الله بعمله الصالح وقهر أبليس مدحوراً مذعوراً، ثم يمضي الشاعر معدداً بعض أعماله الصالحة التي رافقته في القبر وثبتته عند السؤال وشهدت له وما زال الشاعر يصحبنا في رحلة داخل القبر لكنها رحلة داخل روضة من رياض الجنة ورحلة داخل قبر مضيء ومنير بعمله الصالح، ويعترف الشاعر:
م. الدنيا نفعني صلاتي ....
وزكاتي شايفها أمامي ....

والحج وطاعة ربي ....
حققوا في الآخرة مرامي ....

عملي في الدنيا شفيعي ....
حقق في الجنة مقامي ....

والجنهة دي(1) كانت هدفي ....
ودعائي ونور أحلامي ....

يخبرنا الشاعر كيف نفعته صلاته وزكاته وحجه إلى بيت الله وطاعته لربه وكيف تشفع له عمله الصالح وحقق له ما يصبوإليه ، إنه يرى مقامه في الجنة، وقد كانت هي هدفه الأسمى ودعوته المستجابة والنور الذي كان يأتيه دائماً ي أحلامه. فاللهم اسكنه فسيح جناتك واغمره برحمتك يا رب العالمين، والحقنا به وبأمثاله من الصالحين الواصلين.
يعود الشاعر لينشدنا كيف أسعده الله وحقق له رجاءه وآماله ودعاءه:
المولى بكرمه وحلمه ....
حقق سعدي وإلهامي ....

وحبايبي ومن وياهم(2) ....
نُلت مع احبابي مرامي ....

يا احبابي يا أهل الدنيا ....
العمر حداكو (3) ثواني ....

والدنيا غروره وفانيه ....
ونعيمها الزايل فاني ....

يستشعر الشاعر روعة الصحبة مع أحبابه ممن سبقوه إلى الجنة وممن عمل عملاً صالحاً فقد جمعه الله بهم، وينبهنا الشاعر – نحن أهل الدنيا – كيف أن العمر لحظات معدودة، وكيف تغرنا فيه الدنيا الفانية وحيث نعيمها إلى زوال وفناء ويجب أن ننتبه لذلك قبل فوات الأوان حتى لا نغتر بها أو بعمر طويل فيها فهي تأخذنا بغتة وحيث لا ندري.
ثم يعود الشاعر لنصح الناس ووعظهم:
اعملوا للآخرة يا عالم ....
الآخرة نعيم رباني ....

ونعيم الجنة الدايم ....
من حظ العبد الباني ....

والفاحت(1)دايماً نازل ....
لجهنم نازله شيطاني ....

والفاحت قصدي الواصل ....
في الدنيا "وكاني وماني(2) "....

واللي بيهف (3) ويهبر(4) ....
غافل وحقير وأناني ....

واللي بينصب ويزور ....
في الدنيا سلوكه شيطاني ....

والساكن عند المالك(5) ....
بقروش ببلاش بيعاني ....

المالك عمر جهده ....
وبَنَى بحسناته أماني ....

يشير الشاعر على الناس أن يعملوا لآخرتهم ويحسنوا أعمالهم حيث النعيم الإلهي الحقيقي وليس الخادع المزيف الذي تعيشه الناس في الدنيا.
وحيث النعيم في الجنة هو النعيم الأزلي المقيم الذي يستحقه فقط الإنسان المعمر الذي يبني وكما يقول المثل (الفاحت نازل والباني طالع) فقد استلهم الشاعر من هذا المثل العامي فلسفة الشعب وحكمته فإن من يحفر حقاً (من يعمل السيئات) إنما يحفر حفرته إلى جهنم وساءت مصيراً وإن من يبني ويعمر كما أمرنا الله أن نعمر في الأرض ونعمر مساجده فإنما هو الواصل إلى الجنة بإذنه.
ويصف الشاعر هذا (الفاحت) أو الذي يحفر بأنه قد يكون واصلاً في الدنيا وذا جاه ومنصب وكما يقال (ياما هنا وياما هناك) وتفيدها كلمة (كاني وماني) ولكن يفعل ذلك بأساليب غير مشروعة، إنه يصل لأهدافه أو رؤسائه بالزيف وبالسرقة وبالنصب وبالتزوير والرشوة، والوشايات الحقيرة وكلها صفات ليست من التقوى في شيء، بل إنها من الغفلة والحقارة والدونية والأنانية. ويضرب الشاعر لنا مثلاً بهؤلاء المُلاك الذين يبنون العمائر مستغلين الفقراء والشباب الذين لا يمتلكون حتى قوت يومهم، يشير الشاعر ضمنياً إلى أزمة الإسكان في مصر باعتبارها أزمة ضمير وليست أزمة اقتصاد. ويستكمل الشاعر في ختام قصيدته صارخاً في هؤلاء الغافلين والمغفلين يدعوهم لأن يفيقوا قبل الندم وحيث لا ينفع الندم بل العمل الصالح فيقول:
فوقوا واصحوا م الغفلة ....
والحق ادوه(1) لاصحابه ....

واللي(2) بنى(3) منكم ينقل ....
ويسيب(4) البيت من بابه ....

واللي مالهوش(5) في الزرعة ....
يرحم مالك بيعاني ....

وكتاب الله في الآخرة ....
السُنَّة نعيم وأماني ....

وبإذن الله راح اوضح ....
أكثر في جوابي الثاني ....

يدعو الشاعر معشر القوم من المسلمين: أن أفيقوا من غفلتكم، واعطوا كل ذي حق حقه حتى تتحقق العدالة، ومن بنى بيتاً بغير حق فعليه أن يتركه ويرحل تحقيقاً للعدالة، ومن ليس من حقه هذا المحصول فليدعه لصاحبه، وهذا مثل شعبي (اللي مالهوش في الزرعة) وهو يطلق على إعطاء كل ذي حق حقه بالعدل، وهو يقصد نشر الرحمة والشعور بآلام الناس ومعاناتهم والكفالة الاجتماعية والعدالة ...
إن الشاعر في نهاية قصيدتة يبثنا كل القيم الجميلة قيم العدل والرحمة والخير والأمان والسلام والجمال ...
إنه يبثها عملاً بكتاب الله وسنة رسوله() حيث هما النعيم المقيم وأماني المرء التي يصبو لتحقيقها، هذه رسالة الشاعر الحليم والداعية إلى الله (البحراوي) يرحمه الله.
13- فوازير رمضان:
في هذه القصيدة يقدم لنا البحراوي ابتكاراً جديداً وإبداعاً في الأدب الإسلامي ليؤكد لنا موهبته الفذة في تناول الطرح الإسلامي لأية قضية في الحياة. فالبحراوي فقط لم يتحدث عن حبه لله ورسوله() وكعبته وملائكته ورسله وإيمانه باليوم الآخر، بل إنه يؤكد لنا كيف يكون الإسلام ديناً ودنيا، ها هي الفوازير الرمضانية المسلية التي تساهم في النمو العقلي والوجداني لأنها تقوم على التفكير وإعمال العقل والتلاعب بالألفاظ أو المفارقات أو استرجاع الثقافة للربط بين مواقف ومواقف أو بين علاقات متجانسة أو غير متجانسة ما بين الزمان والمكان مثلاً أو الإنسان ... الخ
إن البحراوي في قصيدته المطولة حول فوازير رمضان يقدم لنا إبداعاً إسلامياً وأدباً حقيقياً جديراً بأن نتوقف عنده ونعتبره قدوة بدلاً من الفوازير الفارغة كتلك التي تقدم في التليفزيون لفلانة وعلانة وفلان وعلان وتصرف لها الآلاف بل الملايين في الشهر الكريم وبدلاً من إعلاء الإعلام لقيمة الصيام في رمضان عبر إعلام هادف يقدم لنا فوازير العري والخلاعة "الشخلعة والهِشَُّكْ بِشَّكْ "في عز الشهر الكريم وبعد إفطار المسلمين وبعد أذان المغرب والدعاء بأن يرحمنا الله، لكن التليفزيون يأبى علينا الرحمة فيقدم فوازير لإفساد الصيام.
إن فوازير البحراوي نتاج أدبي حقيقي قائم على كتاب الله وسنة رسوله وعلى العلم والثقافة الإسلامية وهي مَثلُ يجب أن يحتذى ويوظف، ونداءٌ موجه إلى المسؤولين عن الإعلام وكيفية الارتقاء بعقول أبنائنا والمشاهدين لأنه يقوم على القيم السامية ويرسخ لهدف نبيل وتربية سليمة ومتعة هادفة ففي قصيدته المطولة فوازير رمضان يقدم لنا مقدمة يومية ثم نهاية يومية أيضاً وبينهما تقع الفزورة اليومية حتى نهاية الشهر الكريم في ثلاثين يوماً، وقد تراوحت أبيات الفزورة الواحدة ما بين الرباعيات والخماسيات، وقد احتلت الرباعية عدداً كبيراً من الفوازير كما سنعرضها.
ولكي لا نلجأ للتكرار فإننا سنشير للمقدمة والنهاية مرة واحدة – كما فعل البحراوي يرحمه الله في ديوانه بستان الورد – ثم نكتب فزورة كل يوم ونتعرض لها بالمناقشة والتحليل والوقوف على المضمون.
المقدمة اليومية:
فوازير السنه دي ....
عظيمة وفريدة ....

وأسماءها واضحه ....
وفكرة جديده ....

بتحكي معاني ....
| أماكن سعيده ....

وفيها المنارة(1) ....
وكعبة مجيده ....

وروضة(2) وزمزم (3) ....
معالم أكيدة ....

رصدنا عشانها ....
جوائز عديده ....

نوضح كمان ....
نقول رمضان ....

و (حجر)(4) إسماعيل ....
وعرفات مكان ....

(بقيع)(5) الصحابه ....
و (غار)(6) الأمان ....

وأزهرنا فيها ....
عظيم الكيان ....

نفكر .. وندعي ....
في وقت الأدان ....

في هذه المقدمة اليومية يوضح لنا الشاعر، أن هذه الفوازير عظيمة ومتميزة حقاً – وهو معه الحق في ذلك – وأنها تنطوي على فكرة جديدة وتضم مجموعة من الأسماء المقدسة والأماكن والأزمنة مثل المنارة والروضة وزمزم وحجر إسماعيل والبقيع وغار ثور والأزهر الشريف وغيرها، وكلها معالم إسلامية ويشير للمصحف الشريف والسبحة التي تعد أداة من أدوات ذكر الله عند المسلم وأحد رموز التقوى، والورع يحملها خاصة إن عمل بها كما يشير للبقيع حيث مقابر الصحابة رضوان الله عليهم وغار ثور الذي احتمى فيه الرسول() مع صديقه أبى بكر الصديق هرباً من الكفار في رحلة الهجرة المقدسة ويدعونا الشاعر لإعمال العقل والتفكير عند الأذان حتى يلهمنا الله الهدى بالإجابة الصحيحة.
نهاية الفزورة اليومية:
وادي حنا(1) قولنا نصف الحل ....
في الفوازير ....

وباقي النصف يا أحبابي ....
وما هو كتير(2) ....

وجوائز الحل ويانا(3) ....
وما لها نظير ....

يشير البحراوي إلى أنه في المقدمة وفي الفزورة ساعد على الفهم وعلى الوصول للحل بتوضيح المعلومة المراد اختبارها لدى المسلم وبهذا يكون قد قدم نصف الحل وما بقى على المستمع إلا الوصول للنصف الآخر، وهي دعوة لإعمال الفكر وإيجاد العلاقة بين الارتباطات داخل الفزورة أو الكلمات الدالة عليها حتى يكون الفوز وهناك جوائز تنتظر المسلم حين يقدم الحل ليس لها نظير ولعل هذه الجوائز تنطوي على قيمتين قيمة مادية وهي الأرخص مهما غلت، وقيمة معنوية روحية تؤصل لفكرة السعي وبذل الجهد في سبيل المعرفة الإسلامية، وهذا في حد ذاته يستحق الثواب والجزاء من عند الله وهو مالا يقدر بمال ولذا فهو ليس له نظير عند الشاعر وهذا هو هدفه الأسمى (القيمة الإيمانية المعرفية).
* فزورة اليوم الأول: والآن فلنجتمع معاً لنستمع إلى هذه الفوازير الإسلامية الجميلة ونحفظها لأولادنا وننشرها بيننا:
زي(1) البلد من جواها(2) ونعيمها حياة

من مصر يركبها القاصد لبيت(3) الله

وفوقها سبحان القادر منها لِسماه(4)
يومين يا دوبك(5) وبتوصل من غير معاناه

سيدنا نوح اللي صنعها كانت مأواه
من كل زوج ركب فيها النوع وياه

لازم (6) نحدد درجتها قبل ركوبها
وفـ بحرها وفـ مرساها سبحان الله

والشاعر يصف (شيئاً ما) يسأل عنه ويمنح القارئ أو المستمع بعض المعلومات التي توصل إلى الحل ففي هذه الفزورة يقول بأنها مثل مدينة كبيرة، يمكن ركوبها من مصر بقصد حج بيت الله وأنه فوقها السماء مباشرة وسبحان القادر، وبعد يومين تصل بسلامة الله وقد صنعها بداية نبي الله نوح عليه السلام ووضع فيها من كل زوجين اثنين من الأنواع الموجودة وقتئذ مثل الطيور والحيوانات، ولكنها لها درجات الآن وعلى من يركبها تحديد الدرجة التي سيكون فيها وأنها ترسو في البحر ... بالطبع واضحة ومفهومة... فما هي .. ؟؟ إنها (........) ...... وتنتقل للثانية.
فزورة اليوم الثاني:
ونحمد ربنا القادر على الإحسان
هدانا المولى بمحمد وبالقرآن

وبين القبر والمنبر أعز مكان
عبير أحسن من العنبر من الرحمن

ونسجد فيها نتعطر أمان وإيمان
مكانها قطعة م الجنة لبني الإنسان

حديثها في الصحيح (1) باين لنا واضح
يا رب أوعدنا ندخلها كمان وكمان (2)

وفي هذه الفزورة يشير الشاعر بعد حمده لله تعالى على هداه وإحسانه إليه أنه يسأل عن مكان يوجد بين القبر(3) والمنبر (4) وهو مكان عزيز على كل المسلمين تفوح منه رائحة العبير أزكى من العنبر وهي من عند الله عز وجل فليست هذه الرائحة عطور عطوراً إنسانية أو بشرية إنها روائح من الجنة لأنها فعلاً قطعة من الجنة وقد ورد ذكرها في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، إنها (........)؟
فزورة اليوم الثالث:
نشوفها نلاقيها في غاية الجمال
يلألأ ضياها يزيل الضلال

ويقصدها دايماً حميد الخصال
يلبي نداها ينول المنال

صمودها بيوحي بكل الجلال
طوابقها عاليه عليها الهلال

وبهجة لقاها(5) في عظمة نداها
وأشهر رجالها الصحابي بلال

هنا يصف الشاعر بناءً رائعاً مقدساً بما يوحي به معناه وهدفه، فالجمال ينطوي على جمال الإسلام وضوؤها يزيل الضلال ويدفع للهدى والتقوى وهي مقصد كل ذي خصال حميدة أن هذا البناء صامدٌ يوحي بالهيبة والجلال ويتكون من عدة طوابق يعلوها الهلال في النهاية، أنها رمز ينطلق منه نداء الحق وأشهر من وقف عليها هو الصحابي الجليل بلال بن رباح والذي شهد عذاباً من الكفار لم يشهده أحد وهو لم يزل ينطق (أحدٌ .. أحدْ) حتى أعتقه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) ووعده الرسول() بالجنة .. إنها(....).


فزورة اليوم الرابع:
وأقول حبيبي بيشبه له للكون معلــوم
واللي مالوهشي(1)حبيب زيه(2) عايش محروم محروم

ولما بيهل هلاله نتمنى يدوم
لياليه جميلة وفـ سماها مصابيح ونجوم

يسهر على ضيه(3)الأحباب ينساها النوم
واللي(4) بيسهر على ضيه ما يشيلشي(5)هموم هموم

ونعيش في نوره ونتهنى فيه نستنى(6)
سبحانه من أبدع صورته واحد قيوم

إنه شئ حبيب إلى قلوبنا جميعاً وله مواعيد معلومة مثل الكون، يبدأ بالهلال فينير الدجى في الليالي بجوار النجوم في السماء، وعلى ضوئه يسهر الأحباب يجافون النوم وينسون الهموم إنه نور من المولى وسبحانه من أبدعه وليس سواه القادر على مثل هذا الإبداع الرائع .. إنه ( ......... ).
فزورة اليوم الخامس:
م(7).الجماد أو م. اللولي أو م. المرجان
بنشيلها(8) دايماً ويانا(9) مع كل أدان(10)

علشان نسبح بعددها شكر وعرفان
ونصلي ع الهادي محمد أعظم إنسان

وعددها في الكفين مكتوب قُدره وبيان
كل الخلائق في العالم صنع الرحمن

ولو نشيل منها(11)التلتين(12)تبقى في أمان
سبحان من أبدع اسمه في عددها إيمان

يسأل الشاعر عن شيء مصنوع من اللؤلؤ أو المرجان أو أي جماد آخر، نحملها معنا عادة عند الآذان كي نسبح بها بعدد حباتها نشكر الله ونصلي على رسوله (وأعتقد أنها معروفة منذ البيتين الأولين) لكني سأكمل. ويشير الشاعر لإعجاز الرحمن في صنعه فيقول الشاعر أن (عددها) مكتوب في كفي الإنسان وهو صحيح فإذا نظر كل منا إلى كفيه وجد مكتوباً في أحدهما الرقم 18 وفي الآخر الرقم 81 وبجمعها معاً يصبح العدد (99) ويقال في الثقافة الشعبية أنها دالة على إعجاز الله أن جعل هذا الرقم عند كل البشر دلالة على أسمائه الحسنى الـ(99) المعروفة لدينا وحيث الإسم الأعظم لا يعرفه إلا الواصلون، الذين يدعون به فتستجاب الدعوة.
ويشير الشاعر لهذه المعلومة كما أنه يؤكد لو أننا أخذنا أو طرحنا ثلثي هذا الرقم لصار العدد أيضاً كاملاً للتسبيح وهو الـ (33) ومن المعروف أننا نكبر (11) مرة ونحمد (11) مرة ونسبح (11) مرة ثم عند المئذنة وهي خارج العدد نقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله[]).
إن هذه الفزورة تنطوي على قيم ذكر الله ومفرداته وأدواته وإعجاز خلقه بين ظهرانينا وبالطبع قد عرفت الحل إنها (...).
فزورة اليوم السادس:
لما هجم (أبرهة)(1) ....
هو ورجاله انداس(2) ....

من (طير أبابيل)(3)اللي كان ....
حجاره فوق الراس(4) ....

و(هيَّ) عظمه والعظمه ....
عند الحجيج احساس ....

فيها الحجر عند الطواف ....
من الجميع ينباس ....

رابضه وشاهده ....
على الطواف للناس ....

روعة وزينه وجوا ....
في عيوني ماس ....

وسايعه بالحب العظيم ....
لكافة الأجناس ....

ومن شروط الإيمان ....
الحج ليها أساس ....

في هذه الفزورة يشير الشاعر إلى حجر مقدس حاول الملك أبرهة الأشرم أن يهدمه فما أصابه إلا الهزيمة بطيور أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل وهي طيور من الجنة قذفت عليهم قذائف صغيره وبمثابة حمم ناسفة لأن هذا الحجر المقدس عند كل المسلمين والحجاج وحوله يكون الطواف من كل أجناس البشر بالحب والتوحد وأن إسلام المسلم لا يكون إلا بالحج إليها ... فما هي ؟ (....) معروفة جداً.
إن الشاعر يلخص في الفزورة القصة المشهورة ويؤرخ لتاريخ الإسلام وما قبله ويعززه مستلهماً من القرآن والحديث ويقدم المعلومة في ثوب معرفي وعلمي ومُسلٍّ ظريف في آن واحد، دون أي تزيد أو خروج وفي هذا تكمن روعة هذه الفوازير التي نتمنى أن يتبناها التليفزيون المصري بدلاً من هذا الهلس والخواء والانحطاط الذي يقدمه في برامج مستمرة منذ سنوات يقف فيها مجموعتان من الممثلين يتبادلون الإشارات مثل الخرس وفي النهاية وبعد ضياع الوقت لنتعرف على اسم فيلم ساقط لقصة هابطة لمخرج من مخرجين "الهِشَّكْ بِشَّكْ" والا "الراقصات ع الصفين"
أو يضيعون وقت الشباب وربات البيوت في اللهاث وراء الإعلانات المضللة والفوازير التي تعلن عنها شركات النصب والتزوير والاحتيال من (زيرو تسعمائة) وما أدراك ما هو؟ مستغلين حاجة الناس وتعلقهم بالسراب والآمال فيعبئون لهم الوهم عبر إعلانات مضللة ليربح الملايين من أصحاب شركات الهواتف بعد مشروع الخصخصة الذي استهلك واستنفذ من قوت الشعب الفقير الكادح وراء لقمة العيش الحلال.
أليست هذه هي فوازير رمضان التي يقوم عليها التليفزيون المصري ويرصد لها الملايين كل عام لتعلو بناءات وأرصدة أصحاب المليارات وليزداد الفقير فقراً وحقداً أيضاً في معظم الأحيان حين تغيب العدالة؟
هذه هي فوازير إيمانية يقدمها البحراوي على سبيل المثال ومن أمثاله يوجد الكثير.. هل تلقى صدى لديكم أيها الرعاة المسؤولين عن رعاياكم وضحاياكم في التليفزيون المصري والفضائيات؟ هل تلقى صدى لديكم أيها المسؤولين عن الرعية المستغلون جهل وسذاجة وفقر الرعية الذين لا يملكون من وسائل الترفيه إلا التليفزيون ويجلسون أمامه بعد عناء يوم طويل أما آن لكم أن تكفوا عن تزييف الوعي وقتل القيمة والتشويش على الإيمان؟ وحيث يكون المسلم صائماً طوال اليوم وقد أفطر وصلى ودعا لله عز وجل بأن يهديه سواء السبيل .. الخ. فإذا ما جلس هو وأسرته إلى التليفزيون طالعته البرامج الحقيرة والوضيعة والمستخفة والمسفة ... ارحموا الشعب يرحمكم الله.
فزورة اليوم السابع:
صاحبه امتثل للخليل( ) والده بصبر جميل
أيام ما كان لسه(2)في صلبه الحبيب(3) قنديل

وفداه إله الكون بكبش بديل
والنحر أصبح لنا في محكم التنزيل

من الجماد إنما عامر نهار مع ليل
ومكان في قلب الطواف شاهد علينا أصيل

مكان وطاهر وظاهر بجوار الكعبة
مكان لجد النبي في الدنيا ماله مثيل

يحدثنا الشاعر في هذه الفزورة عن مكان مقدس مشيراً إلى بعض المعلومات التي توصلنا للحل السليم حيث صاحب هذا المكان هو من امتثل لوالده الخليل إبراهيم عليه السلام صابراً على ما يتوقع أن يصيبه، لكن الله سبحانه وتعالى فداه بكبش وصارت من السُنَّة أن تنحر الأضحيات إحياءً لهذه الذكرى المقدسة.
إن هذا المكان يعمر ليلاً ونهاراً بالمصلين فهو مكان طاهر وظاهر لجواره الكعبة وهو يشهد صلاة الحجاج أنه لجد النبي(e) ... فما هو (....) ؟
رحم الله البحراوي صاحب الدعوة الصادقة والهدف النبيل والمعلومة التي تحسب في ميزان حسنات المسلمين والمعرفة الحقة التي تشفع للإنسان يوم الحساب.
فزورة اليوم الثامن:
من أجل سيدنا إسماعيل ابن الخليل أعلام
وبإذن ربي الكريم الواحد العلام

نبع الزلال منها .. للأمة .. للإسلام
كرامة لاجل النبي وجده يومها غلام

أنا لما اكون عندها بملابس الإحرام
أشرب ومن نبعها يشرب معايا كرام

وياما أيضاً شفت بإذن ربي آلام
وانا لما اعيش جنبها كأني في الأحلام

يحدثنا الشاعر عن نبع زلال لأمة الإسلام أكرمنا الله به إكراماً لطفولة النبي إسماعيل(عليه السلام) وعادة ما يشرب منها الحجاج بملابس إحرامهم فهي للشرب وللاستشفاء كما ورد بشأنها أحاديث صحيحة للرسول(e)، إذ قال عنها: (.....) هي لما شُربت له .. فما هي ..؟ إنها ( ....) معروفة جداً طبعاً. إنها فوازير يسيرة وسهلة وعذبة ومعلمة ومربية وتنطوي على قيم ومعانٍ وعبادات واعتقاد وأيديولوجية إسلامية رفيعة المستوى. إنه هو الأدب الإسلامي بحق وليس أدب السفسطة والغوغاء ومحطمي قيم الإسلام من دعاة التحضر الحائزين على نوبل اليهودية والتي تشترط في الأدب أن ينطوي مضمونه على معاداة الإسلام وتحقير شأن المسلمين والصحابة وآل بيت
الرسول(e).
فزورة اليوم التاسع:
من يوم ما بدأ الخليل سيدنا إبراهيم البُنا(1)
مع إسماعيل الذبيح أصبح له(شَنَّه وَرَنَّه)(2)

يبوسه(3) سيدنا النبي المصطفى ويتمنى
ويوم لُقاه(4) ننسعد كأننا في الجنه

ندعي(5) الإله الكريم نستقبله ونتهنى
ذ ولو بايدي أنا لأمسكه وأستنى(6)

ويوم خلاف القبايل(7)شاله(8) الحبيب بإيديه
وبحكمة المصطفى هو اللي كان البَنَا(9)

يحدثنا الشاعر في هذه الفزورة عن شئ جماد لكنه مقدس كما ورد في تفاصيل الأبيات دون أن يُعلن هذه القدسية بوضوح لكنها مفهومة عبر السياق الأدبي إنها قدسية أصيلة تعود لزمن بعيد منذ بدأ البناء إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل وقد أخذ ( هذا الشيء ) صيته وشهرته منذ هذا العهد (عهد إبراهيم وإسماعيل) وقد قبله الرسول(e) ذلك أنه من الجنة، ومن يحظى بشرف تقبيله فقد حظي بشرف عظيم وغفرت له ذنوبه، لذا يتصارع المسلمون عليه أثناء الحج وهو التصارع المحمود ويتمنى كل حاج لو يبقى عنده ويظل أبداً ولا يبرحه نظراً لما يمنحنا الله من خيرات لا يعلمها إلا هو عندما نلمسه أو نقبله فقد حمله الرسول(e) عندما اختلفت القبائل في عهد الرسول(e) عند بنائه واحتكموا إلى الأمين (e) فآل إليه البناء بفضل من الله عظيم .. فكما بناه إبراهيم قديماً فقد أعاد البناء الرسول الحبيب محمد(e) ومن هنا مُنح هذا الشرف والقداسة .. فما هو؟ إنه (......) سهلة طبعاً.
فزورة اليوم العاشر:
فيه ليله واحده كفايه تسعد الإنسان
وبيجزي فيها الإله الواحد الحنان

وعظمة العظمه فيه. أنزل القرآن
وفرض فرضه العظيم وشرط للإيمان

وهلاله بيهل رسمي للأمم ويبان
وفيض عظيم للبرايا من بني الإنسان

للمحتاجين م. الخلايق قمة الإحسان
ومنحه للمؤمنين م الواحد الرحمن

يتحدث الشاعر هنا عن شيء زمني أي له علاقة بالزمن لأن به ليلة واحدة تكفي لإسعاد الإنسان (راجع ما سبق) ففي هذه الليلة تستجاب الدعوات، وفيها نزل القرآن وتحتفل الدول الإسلامية بهلول هلاله وفيه يكثر الخير وفيه فُرض فرض على المسلمين، بل هو شرط للإسلام، فما هو ..... ؟
فزورة اليوم الحادي عشر:
مكان كان مفضل لعالي الصفات
وجبريل نزل فيه بكل الثبات

وفيه قال إقرأ.. قرا الآيات


آياته اللي صبحت لنا معجزات


شريعة الزمان اللي جاي واللي فات
لكل الخلايق من الكائنات

سلام لك يا (طه) في شهر الصيام
شفاعة محمد من الأمنيات

هنا يتحدث الشاعر عن (مكان) أيضاً له قداسته وكان يفضله الرسول(e) فيمكث فيه للتعبد وفيه نزل عليه جبريل الروح الأمين بالقرآن الكريم وسأله هذا السؤال الشهير: اقرأ ... ورد عليه الرسول(e) – قبل البعثة المحمدية – ما أنا بقارئ ؟ وعاوده قائلاً: إقرأ وهو يرد ما أنا بقارئ ؟ ومرة ثالثة حتى قال يعلمه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(العلق:1). تلك الآية الشهيرة من سورة العلق وهي أول آية نزلت من القرآن الكريم وقصتها معروفة لدى كافة المسلمين، وكانت المعجزة العظيمة حيث تنزلت سورة للقراءة ودعوة للمعرفة على النبي الأميَّ محمد() فما هو هذا المكان الذي نزل فيه القرآن في شهر الصيام؟ (أنه .....).
فزورة اليوم الثاني عشر:
اثنين وثالثهما الواحد القهار
في الهجرة حاروا (أمامه) غشيت الأبصار

أبصار عيون الضلالة قمة الكفار
وحصن آمن وهادي للنبي المختار

هو وصديقه العزيز المعصومين م النار
وباض حمام الحما ونام أمام الغار

وبأمر ربي الكريم العنكبوت ستار
العنكبوت والحمام جنود عظيم قهار

يحدثنا الشاعر أيضاً هنا عن مكان مقدس نستدل عليه من كلمة (أمامه) فنتساءل أمام ماذا؟ ويمنحنا الشاعر دلالات المكان المقدس وما ارتبط به مما يعرفه المسلمون جيداً في الآيات والأحاديث فقد استلهم الشاعر من القرآن جو الفزورة في البداية (اثنين وثالثهما..)وهي من قوله الله تعالى:إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا(التوبة: من الآية40)
لقد أغشى الله أبصار الكفار الذين كانوا يترصدون خطوات الرسول() في هجرته المعروفة من مكة إلى المدينة مع صديقه أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقد اختبأ في هذا المكان المقدس الذي هداهما الله إليه وعشش الحمام أمامه ونسج العنكبوت وقد سخرهما الله بعلمه وبرحمته وبفضله العظيم على رسوله الأمين() وآمنهما من خوف وصرف عنهما أعداء الدين ... إنها قصة معروفة ومشهورة وفيها من العبر والدروس الكثير، هكذا قد أحياها البحراوي – يرحمه الله – في الفزورة لنتساءل ما اسم هذا المكان المقدس الذي شمله الله برعايته وتدبيره لأنه أراد للهجرة وللدعوة أن تستمر ...؟ أنه (....).
فزورة اليوم الثالث عشر:
في السعي ما بينهم(1) ننول حسنات
ومن شعائر رافع السموات

في الرايحه(2) والجايه(3) مع الدعوات
ننعم بفيضه وفيها نغتنم خيرات

وفي التطوف قمة البركات
الله على العظمه وعلى الضمانات

بركات إله الكون علينا تفيض
يتجلى رب البرايا يقبل الدعوات

يسأل الشاعر هنا عن جمادات من عناصر المكان المقدس أيضاً ومن بين شعائر الحج، فالمسلمون يسعون بينهما (بين هذين الجمادين) حيث المكان والمسافة بينهما طاهرة مقدسة وتقبل فيها دعوات المسلمين فيدعون الله ويغترفون من فضله العظيم، إنها بركة من بركات المولى عز وجل في هذه الشعيرة المقدسة في الحج وقد ضمنها لنا الله سبحانه وتعالى في أحاديثه القدسية وقد نزلت فيهما الآيات القرآنية في قوله تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (البقرة:158).
أعتقد أني اضطررت لحل الفزورة عند التحليل .. كما أعتقد أنها كانت سهلة أيضاً.....! أنهما ( .............. ) ؟
فزورة اليوم الرابع عشر:
على أرضه تلقى الحجيج كالحشر بالخلجات(1)
والسيئات تتبدل فوق منه بالحسنات

كالمشط واسنانه تلقى المؤمنين اخوات
لا فرق بينهم ولا توجد عليه درجات(2)

يتباهى بينا الكريم لملايكة(3) السماوات
وساعتها تنزل علينا الرحمة والآيات

والرحمة اسم لجبل موجود على أرضه
الله على عظمته والرحمة والآيات

يصف الشاعر هنا مكاناً مقدساً يكتظ بالحجيج وحيث يتساوى الجميع فوقه كأسنان المشط لا فرق بين سيد ومسود يقفون في ملابس الإحرام كلهم لا يرجون إلا رضا الله عز وجل وطاعته، وفوق هذا المكان المقدس يتباهى المولى سبحانه وتعالى بالحجيج لملائكته الكرام كما في الحديث القدسي، وعليه يبدل الله سيئات المؤمنين إلى حسنات وتتجلى أعظم آيات الله في رحمته بنا، هذه الرحمة التي اشتق منها اسم جبل في الأراضي المقدسة فما هو هذا الجبل؟ (إنه ...) وقد قال فيه رسول الله(): " الحج ... ؟؟ ".
فزورة اليوم الخامس عشر:
وجمعنا مغربنا وعشانا عليكي
والكل فوق منك سواسيه فيكي

ودعينا رب الكون نعود ونجيكي
وذكرنا رب العزه فوق أراضيكي

والكل بعد الحج مارر بيكي
يا رب بارك فيكي وفـ أهاليكي

في الليل ونقينا الحصى لأبليس
يا أرض يا طاهره وبتنا(4) عليكي

يصف الشاعر هنا مكاناً وأرضاً مقدسة طاهرة وفيها يجمع الحجاج في صلاتهم بين المغرب والعشاء ويدعون الله ويذكرونه ويسبحونه وحيث الجميع سواء ومن هذه الأرض يجمع الحجيج الحصى الذي سيرجمون به أبليس اللعين وقد يبيت البعض فوق هذه الأرض في ليلتهم تلك، فما هي هذه الأرض المقدسة المباركة ....؟ ( إنها أرض ...)
فزورة اليوم السادس عشر:
ونحرنا(1) فيها فدونا وهدينا
ورجمنا من فوقها الشيطان بايدينا

وبالأماني والهنا اتهنينا
ودعينا رب الكون ننول أمانينا

فكينا(2) إحرامنا وكمان قصينا(3)
يا رب نرجع ثاني مع أهالينا

ليلتين عليها من ليالي الجنه
مع الإيمان عمر الهموم ما تجينا

يتحدث الشاعر أيضاً عن أحد الأماكن المقدسة التي تشهد مناسك الحج، في هذه ، في هذا المكان ينحر الحجيج ذبائحهم من الأضاحي (الفدو) هذه السُنَّة المتبعة منذ افتداء الله إسماعيل عليه السلام بكبش من السماء، وفوق هذا المكان يتم رجم الشيطان ويدعون الله أن يغفر لهم ويستجيب لدعائهم وبعد الانتهاء من هذا الطقس المقدس يتحلل الحجاج من ملابس الإحرام ويقصرون شعرهم إعلاناً بقضاء مناسكهم، لقد قضى الشاعر هناك ليلتين من ليالي الجنة في طقوس إيمانية تجلي الهموم ولا تعرف طريقها لقلب المؤمن والحاج ... ترى ما اسم هذا المكان؟ ( إنه ........).؟؟
فزورة اليوم السابع عشر:
لو راح اكتب مش حا.. وفي(4)
حق صاحبه في الكتابة

نفسي أغني لاجل(5) صاحبه
مش مهاوداني(6) الرابه

كان زمان من جذع شجره
تحت منه له مهابه(7)

أصبح الآن في المساجد
نصعده لاجل الخطابة

لاجل سيد العالمين
حن له سمع الصحابه

والنهارده في المجالس
نلتقاه لاجل النيابه

أول الصاعدين عليه
كنت أنت يا حبيبي

يا حبيب العاشقين

قلبي بيك مغرم صبابه

هنا يسأل الشاعر عن شيء له مكانته وقدسيته أيضاً في الإسلام لا يمكن للمرء أن يوفيه حقه لا نثراً ولا شعراً ولا غناءً، وكان يصنع قديماً من جذوع الأشجار لكنه ينطوي على جلال ومهابة ووقار وهو في المساجد يصعد عليه الخطباء لإلقاء الخطبة وهو اليوم في المجالس النيابية وكان أول من صعد عليه هو سيد البرية وسيد الخلق أجمعين حبيبنا وحبيب الشاعر() .... فما هو هذا الشيء ؟ ( إنه ........). ؟
فزورة اليوم الثامن عشر:
وعربي فـ صناعته ودي من سماته
ويجلس عليه اللي حافظ آياته

وربي بيكرم جليسه في حياته
وجنه عظيمه يشوفها فـ مماته

وله يوم معين وساعة إجابه
وشكله المربع دا ميزه في صفاته

وصوت أعلى يقرا عليه القراءه
مجود مرتل بمحكم آياته

يتحدث الشاعر أيضاً عن شيء مقدس في حياة المسلمين ويستمد قداسته من المعنى الذي تنطوي عليه قيمته الإيمانية فهو وسيلة لشيء عظيم وعبادة من العبادات التي حث الرسول() عليها.
إنه عربي الصناعة وهي إحدى سماته الذي يشتهر بها، بمعنى أن الأصل فيه (الصناعة العربية)، ويجلس عليه من يحفظ آيات القرآن الكريم ليرتلها وحيث يجود الله بكرمه وبخيره على من يجلس عليه ويرزقه بالجنة عند الممات، إنه مربع الشكل وهي إحدى صفاته أيضاً .. فما هو؟ ( إنه ......... )
فزورة اليوم التاسع عشر:
نِشِدّْ الرحال(1) له ونعتز بيه
وبكره(2) المشاكل تروح(3) من عليه

في أول صلاتنا اتجهنا إليه
ومسرى الرسول العظيم كان إليه

مكان الطهارة وضمن الصدارة
وصلى الرسول بالرسل جوا فيه

يا رب البرايا أزوره زياره
وع المصطفى فيه أصلي عليه

إنه واحد من الأماكن المقدسة التي تُشد الرحال إليها كما ورد في حديث
الرسول()، لكن للأسف الشديد هناك من المشكلات السياسية الضخمة ما يتعلق به فتمنع الزيارة عنه ويتمنى الشاعر زوال هذه المشكلات حتى نستمتع بزيارته كما نزور الكعبة المشرفة، ويوضح الشاعر بأنه كان قبلة المسلمين بداية قبل أن تتحول القبلة للكعبة وأنه مكان طاهر يتصدر الأماكن المقدسة والطاهرة حيث صلى فيه الرسول() بمجموعة الأنبياء فيه في الإسراء والمعراج.. فما هو ............ ؟
فزورة اليوم العشرين:
وفي السلم والحرب روح الميدان
وأسرع من الصوت(3) تهز المكان

وتركبها دايماً في رحلة إيمان
ومن مصر توصل في ساعتين زمان

وجايز(4) في ساعة ودقائق كمان
وعفشك بيركب معاك بالميزان

تهلل تكبر وتدعي الإله
ونحمد وصولها لبر الأمان

يسأل الشاعر عن اختراع حديث يستخدم في السلم والحرب، ويركبها المسافرون في رحلتهم المقدسة للحج، كما يتحدث عن سرعتها فهي تقطع المسافة من مصر للحجاز ربما في ساعتين أو أقل، إنها لا تحمل المرء وحده بل ركائبه وعفشه أيضاً وفيها (يهلل) الحجاج ويكبرون ويدعون الله ويحمدونه على سلامة وصولهم بالسلامة ... إنها الـ(........)!؟
فزورة اليوم الحادي والعشرين:
نحبه .. نعزه .. حديثه أكيد
يحب اللي جاي له هناك من بعيد

ولو زرته تبقى في زيارته سعيد
ولو تبقى عنده كأنك في عيد

و (مصعب) و (حمزه) منامهم فريد
وغزوة باسمه وفيه كام شهيد

قريب مكانه لقبر الرسول
مدد يا إلهي أزوره وأزيد

يتحدث الشاعر ويسأل عن شيء ومزار يُسعد الإنسان ومصعب هو مصعب بن عمير وحمزة هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول وسيد الشهداء وفي هذا المكان كانت غزوة وسميت باسمه وذهب فيها شهداء كثيرون وهذا المكان المقدس قريب جداً من قبر رسول الله في المدينة المنورة. فما هو ........ ؟
فزورة اليوم الثاني والعشرين:
له ألف عام من الزمان فقه لبني الإنسان
واللي بناه المعز لدين بنى الأوطان

على مدار الزمان في القاهرة العنوان
نابض وعامر لنا بالحب والإيمان

وياما(1) خرج لنا عظماء كبار الشان(2)
دعوتهم الموعظة والحكمة والإحسان

علماء دعاه للوطن فيضهم في كل مكان
هو (الشريف) للوطن بالعلم والقرآن

يتحدث الشاعر عن مكان عظيم الشأن عمره ألف عام أمر ببنائه الخليفة
المعز لدين الله، وبالتالي فهو يقصد الفاطمي كما نعلم، إنه يوضح بعض المعلومات
التي تقودنا لبقية المعلومة وموقعه بالقاهرة العامرة النابضة بالحب والإيمان، وقد
تخرج منه علماء عظماء ودُعاهَ لهم شأن عظيم يدعون بالحكمة وللموعظة الحسنة ،
إن دعوتهم تفيض في كل مكان وهو يلقب بالشريف لما له من فضل يمتزج فيه العلم بالقرآن ..... فما هو ........؟
فزورة اليوم الثالث والعشرين:
لما نزور المدينة المكان موجود
مرقد لآل النبي و(حليمه) أم الجود

مزار لكل الصحابة من أمم ووفود
بعد الرسول في المدينة المزار مقصود

الأرض فوقها الإشارة تحت منها لحود
ولو بإيدي لأفرش أرضها بورود

عشان بأحب اللي فيها حب ماله حدود
نفسي أموت واندفن جنب النبي المسعود

أنه يتحدث عن مكان مشهور وهو مقابر معروفة فيها آل بيت النبي والسيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول() هذه المرأة الكريمة التي أكرمته حين عطفت عليه وتكرمت بإرضاعه طفلاً وقد رفضته المرضعات غيرها لفقره فأكرمها الله وأغناها الله من عنده وأنزل عليها الخيرات، إنها القصة المعروفة يشير إليها الشاعر ضمنياً بكلمات بسيطة لكنها دالة وموحية بالقصة وما تنطوي عليه لمن يقرأ دينه ويتمعن فيه.
إن الفزورة تسأل عن مكان هو "مزار" مقدس يزوره الناس بعد زيارة قبر رسول الله()، إنها منطقة مقابر لشهداء عظماء ويتمنى الشاعر كما يتمنى كل إنسان لو استطاع أن يفرشها بالورد لغلاوتها على أنفسنا ومكانتها السامية بل يتمنى أن يُدفن بجوار النبي() في هذه المنطقة الشريفة المقدسة بأجساد هؤلاء الأشراف .... فما هي .....؟
فزورة اليوم الرابع والعشرين:
رسول البرايا نظر في عُلاه
وقلب بوجهه الشريف في سماه

نزل أمر ربي إلى مصطفاه
وحدد مكانها العظيم في الحياه

ونقصدها دايماً في وقت الصلاه
فرادى وجماعه ونحظى برضاه

وسُنة محمد أمل في حياتي
وقرآن ربي فيه الشفاه

إنه يتحدث ويسأل هنا – أيضاً – عن موقع ومكان مقدس وإنما يستمد قداسته لصلته بالله عز وجل وبالرسول()، وقد استلهم الشاعر من القرآن َقدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا(البقرة: من الآية144).
وقد كانت حيرة الرسول() فهداه الله سبحانه وتعالى ونزل فيها القرآن الكريم محدداً مكانها العظيم، ثم ها نحن نقصدها في وقت الصلاة سواء أكنا نصلي أفراداً أم في صلاة الجماعة، ها نحن نتبع سنته وها هو القرآن فيه الشفاء من كل حيرة وفيه الهدى فقد هدانا إليها ... فما هي .......... ؟
فزورة اليوم الخامس والعشرين:
مآذن جميله عليها الهلال
نداء منها صادر بأمر الجلال

نلبيه نصلي ننول المنال
وأول صحابي نادَى به (بلال)

وفوراً نلبي النداء الحلال
وفي الحال يصلي حميد الخصال

يا ويل اللي يسمع ولا يلبيهوش
ينكد حياته يتوه في الضلال

إنه يسأل هنا عن نداء يمثل حالة روحية مقدسة لأنه نداء الله لنلبي أوامر الله حتى ننول رضاه، إن أول من قام بهذا العمل هو الصحابي الجليل بلال بن رباح (رضي الله عنه) الشهير وهذا النداء يستوجب التلبية فوراً ويتبعه الصلاة، وإلا فالويل لهؤلا الذين يسمعونه ولا يلبونه وقد استلهم الشاعر عباراته من القرآن الكريم في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُون (5)َ. (سورة الماعون).
هذا الويل يتوعد الله به من لا يلبي في الحال ويسهو عن الصلاة، فما هو هذا النداء .... ؟ (سهلة جداً).
فزورة اليوم السادس والعشرين:
كما ألف شهر هديه لـ (طه)
وقرآن ربي نزل في بهاها

وسورة عظيمه بتحكي شذاها
وأمة (محمد) بتعشق هواها

وفيها الملايكه مع (الروح) بتنزل
إليناا بإذن الإله من سماها

يا رب تقبل دعائي وقيامي
في ليلة عظيمه ومالناش سواها

يسأل الشاعر هذه الليلة عن ليلة توازي ألف شهر، أهداها الله سبحانه وتعالى للرسول محمد() ويصفها وصفاً بديعاً مقرباً الفكرة للعقول ويكشف عنها رغم أنها مفهومة من أول الشطره.
فيقول عنها بأن القرآن قد نزل فيها ولذلك فإن إحدى السور العظيمة تحكي عنها وكل المسلمين يعشقون هذه الليلة حيث تنزل فيها الملائكة والروح فيها بإذن ربها من كل أمر كما ورد في القرآن، ها هو الشاعر يستلهم مفرداته من القرآن الكريم: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(سورة القدر: 4).
ويدعو الشاعر أن يقبل الله دعاءه وقيامه فيها فهي المرتجى ..... وقد حدثنا الشاعر عنها باستفاضه في مكان آخر من قبل ..... فما هي ........ ؟؟
فزورة اليوم السابع والعشرين:
آياته عظيمه وقرآن مجيد
نزل ع (الرسول) م. العزيز الحميد

وفيه م. الآيات الهلاك والوعيد
لزنديق وكافر وملحد عنيد

ومضمون عظمته أنه معجز فريد
كأنه النهارده نزل من جديد

لكل زمان م. الحفيظ المعيد
وحفظه وصانه عشانا(1) أكيد

يسأل الشاعر بوضوح شديد جداً من أول شطره لآخر شطرة عن كتاب المسلمين المقدس الذي نزلت به الآيات وحيث تتوعد الكافرين الملحدين، هذا القرآن المعجز الفريد الذي يتحدى الزمان والمكان ويظل إعجازه متجدداً على الدوام وقد حفظه رب العزة من أجل المسلمين ... فما هو ............ ؟
فزورة اليوم الثامن والعشرين:
قماش أو قطيفة عظيمه سليمه
وطاهره وشريفه ولو كات (1) قديمه

ومنقوش عليها مساجد كريمه
ونستقبل القبلة فوقها بعزيمه

ورغم المقاس في المكان ليها قيمه
نؤدي عليها الصلاه العظيمه

وفوقها صلاتي ثوابها عظيم
في حضرة إلهي ما أعظمها شيمة

يتحدث عن شيء مصنوع من القماش أو القطيفة، وهو طاهر وشريف حتى ولو كان قديماً بالياً ويتميز بنقوش للمساجد الكريمة فوقه ونقف عليه مستقبلين القبلة لتأدية الصلاة التي تجلب لنا الثواب العظيم، ذلك أننا نقف عليها بين أيادي الله ... فما هي....؟
فزورة اليوم التاسع والعشرين:
كأنها زي القلم بين صوابعك

ولو راح أوضح – عيدان أو عروق

بنزرع شجرها ويتباع في سوق
وسنّه حميده .. نشيلها .. نروق

تنظف سنانك يا مؤمن يا ذوق
وليها في حياتها وعلينا حقوق

ولولا المشقة لكان (الرسول)
أمر بيها لينا في ساعة الوضوء

يسأل الشاعر عن شيء نمسكه بين أصابعنا مثل القلم فهي مثل العيدان أو العروق وهي من نبات شجري يُزرع ويباع في الأسواق وهي من السنة المطهرة التي حث عليها الرسول لتنظيف الأسنان وعظم الرسول من شأنها لذا فإنها ذات حق علينا ويستلهم الشاعر حولها حديث الرسول(): "لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"(صحيح). فما هي ..... ؟ إنها واضحة في حديث رسول الله().
فزورة اليوم الثلاثين:
وقبل ما يهل علينا بنأدَّى(1) زكاه
وحرام نصوم يومه الأول كما أمر الله

بيهل ومعاه الأفراح والأجر إياه
وفيه نكبر ونهلل غير المناجاه

الله يعيده على الأمة فرْحة وهِمَّه
ويعود بخيره ويكفينا شر المعاناه

الله على الأعياد الله عز وأمجاد
الله يكتر أيامه الله الله

يختم الشاعر في الفزورة الثلاثين آخر أيام رمضان المعظم فيسأل عن حدث مهم يتعلق بزمن الفزورة ليختم بالفرح والسعادة كل فوازير الشهر ...
يوضح أننا قبل موعده نخرج الزكاه، وقد حرم الله صوم يومه الأول لأنه فرحة وفيه نكبر ونهلل ونناجي الله ونبتهل إليه بالفرح وندعو الله أن يعيده علينا دائماً بالخير والفرح ويكثر من أيامه وأمجاده وعزته وأفراحه ..... إنه يعقب بالطبع آخر ليلة من ليالي رمضان المعظم ... فما هو .......... ؟
وكل عام وأنتم بخير
حل الفوازير مرتبة:
1- السفينة 16- مِنى.
2- الروضة النبوية الشريفة 17- المنبر.
3- المئذنة أو المناره. 18- كرسي السورة.
4- القمر. 19- المسجد الأقصى.
5- المسبحة. 20- الطائرة.
6- الكعبة الشريفة. 21- جبل أُحد.
7- حجر إسماعيل. 22- الأزهر الشريف.
8- بئر زمزم. 23- البقيع.
9- الحجر الأسعد. 24- القِبلة.
10- شهر رمضان. 25- الأذان.
11- غار حراء. 26- ليلة القدر.
12- غار ثور. 27- المصحف الشريف.
13-الصفا والمروة. 28- سجادة الصلاة.
14- جبل عرفات. 29- السواك.
15- أرض مزدلفة. 30- العيـد.
15- المدينة المنورة:
ويفرد الشاعر قصيدة خاصة بالمدينة المنورة حيث هاجر الرسول إليها وعاش بها وأحبها وأحب أهلها الذين نصروه وأحبوه ثم دفن فيها، وتتكون القصيدة من ستة عشر بيتاً عبارة عن ثنائيات، يستهلها هكذا:
لوح شد رحالي تاني للمدينة
مش راح اشبع من حلاوة نور نبينا

للهوى فيها إيمان هالل علينا
يا جمال الطهر فيها فـ أبهى زينه

من نعيمها ونورها بنمتع عينينا
بالحبيب الغالي بالسيره الأمينه

من خلاصة النور ومبعوث العنايه
من عبير المصطفى الغالي علينا

فها هو الشاعر يشد رحاله مرة أخرى للمدينة المنورة، إنه لا يشبع أبداً من حلاوة نور المصطفى() إن هواءها مشبع بالإيمان حين يهل عليه إنه الجمال والطهر وهي أبهى الزينات التي تمتع العيون إنه نور السيرة الغالية للرسول الأمين() إنه خلاصة وجه الضوء ومبعوث العناية الإلهية إنه عبير محمد المصطفى().
إن الشاعر يصف ويسرد ويكرر وينوع إمعاناً في تأكيد مكانة المدينة المنورة المقدسة مدينة رسول الله().
إن وصلت هناك يا صاحبي إمشي فيها
تلقى نور النور وفيض الخير ماليها

زينة البستان ونعمة ربي فيها
بالنعيم والخير إله الكون راعيها

والنفوس بهواها رب الكون شافيها
والعليل يوصل يلاقي سعده فيها

فيها طهر الطهر والأنساب يا صاحبي
والبقيع بالأهل والأحباب عليها

لم يزل الشاعر مأخوذاً بالنور والدهشة وفيض الخير الذي يستشعره أثناء سيره في المدينة المنورة أنه مأخوذ بسحرها وبهائها وروعتها وجمالها إنها نعمة من الله على أرضه بل هي النعيم المقيم يرعاها الله عز وجل ويحميها ويشفي فيها قلوب الناس ونفوسهم ذلك أن أرضها المقدسة تحتوي الأجساد الطاهرة، إنه طهر الطهر وما أجمر التعبيرالذي يسكبه الشاعر في أبياته، إن بها البقيع الذي يرقد فيه آل بيت النبي وأحبابه().
ويستكمل الشاعر معدداً أوصاف المدينة ونعاتها:
المدينة أصل ناسها ناس كرام
يوم ما هبوا ورحبوا بخير الأنام

يوم ما طلع البدر فيهم بالتمام
يوم ما هاجر والتقى في ناسها السلام

وتعود ذاكرة الشاعر التاريخية عبر (تكنيك الفلاش باك) السينمائي
إلى الوراء مسترجعاً أهم حدث تاريخي في تاريخ الرسالة المحمدية
والدعوة الإسلامية وهي الهجرة من مكة إلى المدينة تلك التي قام بها الرسول الكرم() وصاحبه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) كما أمره الله عز وجل بعدما أوذي من كفار مكة وهاجر سراً إلى المدينة و .. و .... بقية القصة معروفة ... وهناك في المدينة المنورة حيث استقبلهما أهلها بالبشر والترحاب والأناشيد وغنت بنات النجار:
" طلع البدر علينا ....
من ثنيات الوداعِ ....

وجب الشكر علينا ....
ما دعا لله داعِ ....

أيها المبعوث فينا ....
جئت بالأمر المطاعِ ....

جئت شرفت المدينة ....
مرحباً يا خير داعِ ...."

منذ شروق البدر فيهم ..منذ تلك اللحظة التي أَهَلَّ فيها رسولنا
الكريم() عليهم وقد سعد به أهل المدينة وتشرفوا بزيارته فأحبوه وأيدوه وسالموه وناصروه ... الخ ويستكمل الشاعر بقية الأحداث عبر أبياته ليؤصل مؤرخاً لنور التاريخ المشرف والمضيء:
من ساعتها النور في طيبه ع الدوام
والتحالف والتآخي والوئام

الشفيع للأمة في يوم الزحام
طيبي يا طيبه بطبيبي والمرام

يؤكد الشاعر أنه منذ تلك اللحظات منذ أشرق نور محمد() وقد آخى بين المهاجرين والأنصار (المهاجرين من مكة معه) و (الأنصار هم أهل المدينة المنورة) وهي مدينة طيبة لذا يقال عنها طيبة وسوف يشفع الرسول للجميع يوم القيامة ويدعو الشاعر لأهل المدينة بأن يطيبوا (يبرءوا) عبر الطبيب الأعظم وعبر الطب النبوي وينولوا مراهم، وليس المقصود بالطبيب هنا والبرء هو الشفاء من أمراض وعلل بدنية بل المقصود هو المعنى فالبرء الحقيقي من الأمراض النفسية مثل الكفر والنفاق (الكذب والحقد والادعاء ...الخ إنها صفات مرذولة وأمراض تدل على سلبيات النفس، لكن الله شفى أهل طيبة منها. ويستكمل الشاعر في وصف المدينة المنورة:
يا كرام الكون يا عايشين في النعيم
يا اهل طيبه الطيبة بأعظم مقيم

للعليل في القرب يكفيه النسيم
يكفي وصله بالشفيع طه الكريم

إنه ينادي على أكرم الكون أجمع هؤلاء الذين ينعمون بالنعيم الحقيقي إنهم أهل طيبة الطيبة الذين أعزهم الله عز وجل بإقامة النبي() بينهم ثم يعود الشاعر حانياً رقيقاً عذباً ليؤكد بأن المريض يشفيه فقط مجرد وجوده بجوار الرسول() إن مجرد الصلة بينهما كافية للشفاء.
شفاهم وشفانا الله وشفى أمراض المسلمين. ويختم الشاعر قصيدته بحنان الرسول وحبه لأمته وشفاعته لها.... فيقول:
مش هيرضى لأمته غير النعيم
الرؤوف طه اللي موصوف بالرحيم

يا إلهي الوسيلة وأعلى درجة

مش كفاية للحبيب أعظم نعيم

قيمة " النعيم" عند الشاعر:
ونلاحظ تكرار صفة (النعيم) كثيراً في الأبيات، هذا التكرار الذي يفوق أي كلمة أخرى طوال القصائد كلها مما يدهش المتلقي، ترى هل يقصد الشاعر ذلك قصداً؟ أم كانت الكلمة (النعيم) تأتي هكذا تلقائية خلال الأبيات؟ ربما هذا أو ذاك، فالنعيم هو الكثرة والوفرة من النعم وهي صيغة مبالغة ونلاحظ المفارقة ما بين النعيم في البيت السابق والنعيم في الشطر الأخير لنهاية القصيدة فالأولى تخص أمة محمد() فإن رسولنا لن يقبل لنا إلا النعيم ذلك لأنه الرحيم بأمته لذا فالشاعر يدعو هو الآخر ويردد دائماً بأن (الوسيلة) وهي الدرجة العالية الرفيعة المقام والرفيعة الشأن في الجنة – كما نردد في الدعاء دائماً عقب الآذان – بناءً على رحمة محمد() بأمته لن تكفي، إن الشاعر لا يبدو معترضاً بل يبدو تواقاً للأفضل فهو يتمنى للرسول ما هو أعلى وأفضل وأجمل وأكمل من الوسيلة لو كان ذلك موجوداً لكن الله عز وجل جعلهما المنتهى في علمه ولذلك فهي أعلى درجة حيث لا علو بعدها وهي أكمل وأرفع وأعظم و .... حيث تحجب كل القصور الذي كان قبلها (قصور المعنى).
فالشاعر حين ختم الأبيات بهذا الدعاء إنما هو على سبيل التمني من المخيلة البشرية التي مهما وصلت لن تصل إلى خيال المطلق ونعيم الجنة عند الله عز وجل لذا فإن تكرار كلمة النعيم خلال أبيات وقصائد الشاعر إنما هي دالة وتفيد الترغيب دائماً في العمل الصالح الذي يُجازي المرء به في الآخرة بنعيم مقيم، فاللهم عدنا بنعيم الجنة وحقق أماني الشاعر وأمانينا النعيم الدائم فما نعيم الحياة بباق لنا بينما نعيم الجنة هو الخلود، حيث البقاء الإقامة والديمومة بعد زوال نعيم الدنيا المزيف، وكل (نعيم) في الدنيا مهما علا ومهما غلا فهو زيف في زيف لو علمنا.
فاللهم حقق وعدك وارحم عبدك واسكنه فسيح جناتك وعده بنعيمها.
16- الأزهر الشريف:
الجامع الأزهر الشريف، هذا الصرح الإسلامي العملاق، هذا البناء العظيم الشأن، منارة العلم والفكر وزاد العلماء ديناً ودنيا...
الأزهر الشريف ألهم شاعرنا الفياض فكتب فيه قصيدة مطولة لا تقل روعة وبهاء عما كتبه من قبل، تقع قصيدة البحراوي في اثنتين وسبعين بيتاً مقسمة على اثنتي عشرة مجموعة كل منها تضم ستة أبيات بحيث تشكلت في النهاية إلى سداسيات وهي من أشكال الزجل المعروفة المريحة للسمع والتي تحد من الشعور بالملل لدى المتلقى كما تمنح الشاعر حرية التنقل بين القوافي دونما التزام بقافية محددة قد لا ينتظم المعنى الذي يريده.
يبدأ الشاعر قصيدته عن الأزهر الشريف موضحاً تاريخ بنائه ضمنياً بالرجوع إلى عهد من بناه وهو الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أي في عهد الدولة الفاطمية من العصور الإسلامية، وهكذا يستهل الشاعر مطولته الزجلية:
بالمعز لدين إلهي ....
وبأيادي جدود كرام ....

اتبنى في سنتين لوطني ....
صرح عاليٍ ع الدوام ....

اتبنى الحصن المحصن ....
من زمان من ألف عام ....

في التاريخ قوه وكرامه ....
وبالمبادئ للكرام ....

لاجل تقريب المذاهب ....
بالشريعة للأنام ....

أزهر الأزهار في بلدي ....
قوة يحميها السلام ....

وفي الأبيات السابقة يوضح الشاعر تاريخ بناء الأزهر منذ ألف عام، هذا الحصن الإسلامي العظيم الذي استهدف تقريب المذاهب الإسلامية الأربعة عبر الدرس والتحقيق وحيث يؤكد العلم أنه لا تعارض بينهم بل تكامل. ومن الكلمات الجميلة للشاعر (أزهر الأزهار) فقد اشتق الفعل من الاسم ونسبه إلى الزهور حتى يمنح العبارة جمالاً وعطراً في نفس الوقت. ويستكمل الشاعر:
يا بركته علينا هللي ....
لاجل خير الإنسانية ....

يا عظمته فينا حلَّي ....
يا حضارته العالمية ....

الأساس وضعه (الصقلي) ....
(جوهر) الروح الأبية ....

أزهري الخير والتجلي ....
للشريعة الإسلامية ....

كعبتي ترحال وحِلّي ....
أزهري أعظم هديه ....

أزهري للدنيا قلعة ....
حصن م الذات العلية ....

هنا يؤصل الشاعر للقائد (جوهر الصقلي) الذي دخل مصر وبناها في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، فقد أمر الخليفة القائد ببناء هذا الجامع الشريف ليكون منارة للإسلام وللمسلمين في مصر، فمن المعروف أن مصر دولة فرعونية ثم قبطية وتعاقبت عليها الملل والنحل حتى فتحها عمرو بن العاص ونشر فيها الإسلام ومنذ ذلك الحين صارت مصر دولة إسلامية تدين بالإسلام وتؤمن بالله الواحد الأحد وبرسوله محمد() بعد عهود من الشرك والظلام والوثنية عاشتها في ظل الاحتلال الأجنبي اليوناني والروماني والبطلمي و ...الخ
ويلاحظ جمال الكلمات وتناسقها ما بين (هلّي ، حلّّي ، والتجلي) وهي عامية فصحى في ذات الوقت فـ (هلي) من هَلَّ إهلالاً تشبيه بهلول الأشهر الكريمة وفق التقويم الهجري حيث يعرف بدء الشهر بهلال القمر في السماء، و (حِليَّ) من حَلَّ يحل إحلالاً وحلولاً وهو يعني حضور الشيء وسكناه ويقال (حَلَّ بأرض) أي جاءها وسكنها وحط رحاله عليها .. وهنا مقابلة بلاغية في استخدام متضادين (الترحال والحل = الإقامة) الخ، و (التجلي) من كلمات الصوفية الجميلة وهي مأخوذة من لفظ الجلالة (لا إله إلا الله) ويقال تجلي وتجليات أي سمت روحه وعفت وشفت وعاشت في رحاب الله، والشاعر يصف الأزهر بأنه كالقلعة الحصينة التي ألهم الله خلفاءهُ في أرضه فأمروا القواد ببنائها حماية للدين ورفعة لشأن المسلمين. ويستكمل:
معجزات الله آياته ....
في تاريخ الازهر بيان ....

ع البسيطة نشوف راياته ....
في العصور عبر الزمان ....

أزهري للعلم جامعه ....
في الوضوح زي الأدان....

مشعلي الأزهر ونوره ....
أزهري كالشمعدان ....

جامعة بتقرب شعوبنا ....
نبضها علم وإيمان ....

الإله بارك وجوده ....
أزهري أعظم كيان ....

يصف الشاعر روعة الأزهر الشريف ومكانته المقدسة عبر الأزمنة التي مرت عليها فهو الجامعة الشهيرة التي تؤصل وتؤرخ وتدرس العلم لكافة أجناس الأرض من الشعوب الإسلامية للعرب وللناطقين بغير العربية أيضاً، إنه وسيلة مهمة للتقريب بين الشعوب لنشر العلم الإسلامي في جميع أفرعه، وإن الله ليبارك وجوده ويحميه على مر العصور من كل شر. ويستكمل الشاعر الداعية:
يا إله الكون كتابك ....
علم في الأزهر ونور ....

دعوته حب وتآخي ....
للشعوب الحرة دور ....

أزهري ضد التمزق ....
وحدته عبر العصور ....

لما حاوصف مش هاوفي ....
أزهري شوره وشور ....

أزهري العسل المصفى ....
مملكة وسط الزهور ....

للأمم يبقى المناره ....
والإدارة والشعور ....

يشير الشاعر إلى أهم أساس بني عليه الأزهر الشريف وهو الأساس الديني، فهو عمارة وعمران أُسّست على تدريس كتاب الله الذي ينير درب الحائرين ويدعو للحب والتآخي والوحدة والشورى والإدارة ... لقد استطاع الشاعر وفق كلمات بسيطة أن يجمع كل تعاليم الحكم الإسلامي أو السياسة الإسلامية في الحكم والتي نزل بها القرآن ليؤكد ثانية وثالثة وللمرة الألف في وجه الآثمين أن الإسلام (دين ودولة)، ولا يمكن فصل السياسة عن الدين أو فصل الدولة عن الدين كما ينادي أصحاب الدعاوي الهدامة الذين يريدون تقويض الشريعة الإسلامية التي شرعها المولى عز وجل.
إن كتابات البحراوي دعوة وصيحة في وجه طغاة التاريخ، لذا يجب التوقف عند كل بيت وتمعن معانيه عبر يسر الكلمات وسهولتها التي تنطوي على معانٍ عظيمة في كل سلوكياتنا وعباداتنا وشؤون حياتنا، ويستكمل الشاعر البحراوي (يرحمه الله):
أزهري فارد شراعه ....
في بحورنا شمال يمين ....

يرتوي منه الخلايق ....
من جميع المسلمين ....

من شعوب أفريقيا واسيا ....
أو هناك في قلب صين ....

تلقى م الأزهر قياده ....
في الرياده بارزين ....

حاملين أعظم شهادة ....
مليانين علم ويقين ....

أزهري علماء ونعمه ....
علم م العلم المتين ....

وكأن الشاعر يخشى ألا تُفهم أبياته في المجموعة قبل السابقة فيعود مؤكداً المعنى وموضحاً ومفسراً بكل وصف مشيراً إلى سعة الأزهر لشعوب المسلمين من أجناس الأرض المختلفة (أفريقيا – آسيا – الصين ) إنه قِبلة للعلم والعلماء يؤمها طلاب العلم والرفعة من أقاصي الأرض وأدانيها شمالها وجنوبها، إن من يتعلم في الأزهر يغترف من بحور العلم ويحمل أعظم شهادات الدنيا لأنها قائمة على أصول الدين بداية.
ويستكمل الشاعر:
قاوم الأزهر بقوة ....
في الوطن كل الفساد ....

بالآيات الحجة قامت ....
أقوى من أعتى العتاد ....

أي كبوة نمر بيها ....
أزهري يمل البعاد ....

أي حاكم يلتجئ له ....
دوغري(1) بينول(2) المراد ....

يلقى بيه كل انتصاره ....
أزهري زهر البلاد ....

أزهري جامعة بلادي ....
للبنات ويا الولاد ....

هنا يلفت نظرنا الشاعر إلى " التحديات" التي تواجه رسالة الأزهر الشريف مثل التعدي وتجاوز حدود الله أو تحديات العلمانيين والملحدين عبر دعاويهم المضللة، إن الأزهر يواجه تحديات بلا شك لأنه رمز من رموز الدين الإسلامي وكل ما يواجه الإسلام من تحديات ينعكس بدوره في جانب كبير منه على الأزهر ورسالته للنيل منه. ويستلهم الشاعر الحكمة العربية (لكل جواد كبوة)، ويوضح أن أي كبوة يمر بها مجتمعنا إنما يتصدى الأزهر برجاله لها وحين يلتجئ الحكام لبعض فتاوى علماء الأزهر فإنهم يفتونه بالعلم السليم والرأي السديد والحكم الصواب الذي لا يوصل إلا إلى النصر المبين لو اتعظ من يتعظ.
كما يشير إلى تعليم الإناث إلى جانب تعليم الذكور في جامعة الأزهر، وبذلك يشير الشاعر إلى قضية مهمة في التعليم بأن التعليم في الإسلام ليس حكراً على الذكور دون الإناث ولو كان الأمر كذلك، لما فتح الأزهر أبوابه لتعليم الإناث، إن هذا ينطوي على قيمة عظيمة وهي (حقوق المرأة في الإسلام) وكيف منحها حق التعليم والتعلم لتنفع نفسها وأولادها وبيتها وزوجها وتفهم أصول دينها وتربي أبناءها التربية السليمة لقد اختصر البحراوي كل هذا المعنى العظيم في جملة موجزه معبرة (للبنات ويا الولاد) وبالطبع هو لا يعني الاختلاط بينهما لكنه يعني حق التعليم لكل منهما بدليل وجود كليات للبنات خاضعة لجامعة الأزهر لكنها مستقلة عن كليات البنين.
وينتقل الشاعر لقضايا أخرى تناولها الأزهر:
قَنِنَّ الأحكام بحكمة ....
وبخلاصة العارفين ....

أزهري حصن المعارف ....
مؤمنين به موقنين ....

كل أوراقه وبحوثه ....
زاد على مر السنين ....

دارسينه منين يا عالم ؟ ....
من شعوب العالمين ....

حجته إيمان تصدي ....
للغزاة الملحدين ....

مهما عابوا في رجاله ....
الرجال فيه مؤمنين ....

من هذه القضايا (تقنين الأحكام الإسلامية وفق الشريعة) ومنها إجراء البحوث العلمية بالدراسة وفق الحجة المشروعة، والتي بها يستطيع مقاومة الغزاة ويتصدى لهم، ويشير الشاعر في نهاية هذه الأبيات إلى قضية من قضايا التحدي التي تواجه الأزهر وهي محاولة بعض الآثمين العيب في رجاله ومحاولة النيل من علمهم أو الترصد لهم والتشكيك فيهم وتصيد الأخطاء أو افتعالها دونما أساس وإلصاق التهم بهم وفق ما قد يتراءى لأهوائهم الضالة ... كما نسمع ونقرأ في مواقف كثيرة، لكن رجال الأزهر المؤمنين أرفع من هذه الصغائر وأعلى شأناً من هؤلاء دعاة التنوير والتحضر وهم (الحقراء) دونهم. ويستكمل الشاعر موضحاً بعض الرموز الذين تخرجوا في جامعة الأزهر:
ياما خرج لاجل وطني ....
في السياسة فالحين ....

والتصدي للمفاسد ....
مهما كان المفسدين ....

كلنا فاكرين (كليبر) ....
واللي قتله يبقى مين ؟ ....

اللي قتله يبقى (حلبي) ....
أزهري حر ومتين ....

والإمام(1) منه ورفاعه(2) ....
م الأئمة الطيبين ....

التاريخ عمال بيكتب ....
منه ناس متخرجين....

يشير الشاعر إلى أنه في الأزهر الشريف قد تخرج القادة والعلماء والسياسيون البرزه المشهورين أمثال الإمام محمد عبده هذا العالم الجليل المصلح الديني والسياسي والاجتماعي والشيخ رفاعة الطهطاوي وغيرهم ممن سجل التاريخ أسماءهم، ويشير إلى أن غزاة التاريخ الذين حاولوا غزو الأزهر مثلما فعل (كليبر) أحد قواد الحملة الفرنسية حينما دخل هو وجنوده المعتدون الآثمون بأحذيتهم لتدنيس الأزهر الشريف، فقد انتقم الله منه وقُتل شر قتله على يد (سليمان الحلبي) هذا الشاب الأزهري الثائر ممن حمل كتاب الله وعمل به عملاً بقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ(المائدة: من الآية45).
 مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة: من الآية194).
ثم يثير الشاعر قضايا سياسية ذات علاقة بالأزهر الشريف:
أزهري صرح المقاومة ....
والتاريخ شاهد أمين ....

منه كان سعد(3) وعرابي(4) ....
في السياسة معدودين ....

واذكروا الأفغاني أيضاً ....
والدعاه الفالحين ....

حَيَّوا في الأزهر شيوخه ....
م الأئمة الواصلين ....

لو راح اذكر كل واحد ....
مِنُّهم نحتاج سنين ....

اذكروا القرآن وحفظه ....
في قلوب المخلصين ....

فالأزهر الذي تخرج منه القائد سعد زغلول، قائد ثورة 1919م وزعيم الأمة في هذا الوقت والذي وحد الجبهة الداخلية للمواطنين جميعاً من المسلمين والمسيحيين والأزهر الذي خرج لنا أيضاً القائد العظيم أحمد عرابي زعيم الثورة العرابية 1882م والذي التقى بالخديوي في قصره محتشداً بجماهير شعبية وقال له بشجاعة وبسالة قوله المأثور: "لقد خلقتنا أمهاتنا أحراراً ولن نستعبد بعد اليوم ..."
وإن تاريخ جمال الدين الأفغاني محفور في الوجدان المصري والتاريخ العربي ... إن هؤلاء وغيرهم ممن تخرجوا من الأزهر إنما شهدوا التربية الإسلامية الحقة التي تؤسس على بنيان التقوى والشجاعة ولا رهبة إلا من الله عز وجل، يقول الشاعر إن الأزهر خرج الكثيرين ممن يصعب عدهم وذكر مآثرهم العظيمة، لأن هذا يحتاج لوقت طويل كي نوفي هؤلاء حقوقهم علينا إنهم باختصار (حملة القرآن الكريم) والداعين بدعوته من المؤمنين المخلصين. ويستمر البحراوي (يرحمه الله):
احتفالنا مش كفاية ....
لو حنقعد للصباح ....

أزهري محتاج لحقه ....
ألف عام عزه وكفاح ....

بحق حي على الصلاة ....
بحق حي على الفلاح ....

احتفالنا عام يا دوبك ....
أيها الإخوه الملاح ....

فـ القرى فـ كل العواصم ....
كل أنواع البطاح ....

للدول أيضاً نسافر ....
أزهري أقوى سلاح ....

يشير الشاعر إلى أن تاريخ الأزهر تاريخ طويل وتاريخ عميق ورسالته أكبر وأعظم من أن نوفيها حقها في ليلة احتفالية واحدة بمناسبة ذكرى مرور ألف عام على بنائه ... ولنا أن نتخيل كم من المآثر تمت في ألف عام ... فكيف نوفيه حقه؟ بالطبع إنه شيء مستحيل ويشير الشاعر إلى هذه الاستحالة بأننا لو حسبنا حق نداء (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فقط في ألف عام فلن نستطيع أن نتخيل حق هذا الحق علينا لمدة خمس مرات في اليوم ومائة وخمسين مرة في الشهر ثم علينا أن نضاعف العدد حتى نصل لألف عام ... فإذا كان حق هذا النداء لمرة واحدة كبيراً فما بالنا بندائه آلاف آلاف المرات عبر ألف عام؟ إنها دعوة للتخيل كم حق (حي على الصلاة .. حي على الفلاح في ألف عام) لو أنصتنا ؟
ويثير الشاعر قضية أخرى خاصة بالاحتفالية بأننا يجب ألا نكتفي بهذا الاحتفال في القرى والمدن والعواصم بل يجب أن نسافر لكل بطاح الدنيا لننشر دعوة الإسلام والدعوة إلى الله من خلال رجال الأزهر ورسالة الأزهر لأن هذا أقوى سلاح يمكن أن نقاوم به أعداء الإسلام والمسلمين، أنه نشر الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان ولذا يجب علينا شد الرحال دائماً، فيوضح ذلك:
الرحال تنشد دايماً ....
منا للبيت الحرام ....

نعتمر ونحج صحبه ....
فيها وننول المرام....

والزيارة للمدينة ....
واجبه دايماً للمقام ....

للحبيب المصطفى سيدنا ....
الشفيع يوم الزحام ....

والرحال للقدس أيضاً ....
للقداسة للسلام ....

أزهري ضمن المفاخر ....
علم قائم ع الدوام ....

إن الشاعر استلهم حديث رسول الله(): حول شَدَّ الرِحَال ففي الحديث الشريف (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)(متفق عليه)(1),حيث الزيارة واجبة، ويتمنى الشاعر لو شُدت الرحال للأزهر أيضاً فهو مفخرة وعزة للإسلام وللمسلمين، وكأن الشاعر يود القول لو أن الرسول() أدرك الأزهر في عهده() لأمر بشد الرحال إليه أيضاً، لكن بُني بعد رحيل الرسول() بأعوام طويلة وفي عهد الدولة الفاطمية، والحقيقة التي لا جدال فيها أن الرحال تُشد فعلاً للأزهر لتلقي العلم عبر الطلاب الذين يأتونه من كل بقاع العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ليدرسوا فيه وينهلوا من فيض العلم والنور معاً، حيث نور العلم وشمس الإيمان وعلى هذا المعنى يدلل الشاعر بقوله في آخر مقطوعة من القصيدة منشداً:
العلوم والنور في الازهر ....
جوه(1) بلدي للكرام ....

كعبة العلم فـ بلادي ....
نور منور للأنام ....

أزهري الزهراء(2) مزهر ....
للشعوب من ألف عام ....

للبسيطة صرح عامر ....
بالكتاب حفظ وعلام ....

من غير الأزهر يا عالم ....
يبقى ع الدنيا السلام ....

اجعلوا الأزهر في توبه(3) ....
الجدير بالاحترام ....

يشير الشاعر للأزهر باعتباره (كعبة العلم) في مصر المحروسة، ويشير إلى نسبته للسيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول() – رضي الله عنها – فقد اقترح تسميته بالأزهر الشريف نسبة إليها، ومن هنا جاء أصل التسمية ويؤكد دوره الريادي في المنطقة العربية وليس في مصر وحدها وأنه لولا هذا الدور لضل الكثير من العباد لأنه الذي يخرج العلماء والذين يتلقى العلم على أيديهم الطلاب من أبنائنا ... ويبدو أن الشاعر – يرحمه الله – في نهاية القصيدة قد أتعبه ما يحدث للإسلام ورجاله وخاصة التحديات التي تواجهه فقال مقولة مختصرة مكثفة المعنى وبليغة المحتوى وكأنه يقول: عيب عليكم ما تفعلون ... ويوجه نداءه لكل من يسيء إلى الأزهر ورجالاته العظماء قائلاً: (اجعلوا الأزهر في توبه الجدير بالاحترام) إنه نداء ودعوة تنطوي على المرارة والسخرية معاً والاستنكار إنها دعوة لتجريم وتحريم كل ما يواجه الأزهر الشريف من اعتداءات فكرية، حيث يمثل رمزاً عالياً رفيع الشأن من رموز الإسلام ولذا يجب أن يوضع في مكانته اللائقة به وهي ثوب الجلال والهيبة والتوقير والتبجيل وكل ما هو جدير بذلك.
إدانة وشجب للتحديات المصرية لرجال الأزهر الشريف:
استشعرت وأنا أقرأ هذا البيت وكأن الشاعر يقول – لمن يتعدى على جلال قدره ومنزلته في الإسلام – عيب عليكم ... اخجلوا من أنفسكم ... وكأنه يقول صارخاً: يا ناس يا "هووه" أفيقوا من غفلتكم يرحمكم الله عيب ما تفعلونه .. عيب .. عيب .. عيب ...
ويحضرني في هذا المقام ما يحدث من حقارات وسفالات وقلة أدب من بعض الكتاب الضالين والمضللين دعاة التنوير الذين راحوا يسخرون من فضيلة الإمام الجليل مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور الفاضل الكريم: (علي جمعة) الذي أفتى بأن الصور والتماثيل حرام وأن الكلاب نجسة ... وقامت الدنيا في مصر ولعلها لم تقعد حتى الآن...
فمنهم من راح يتهمه بأنه يدعو للتخلف والعودة للوراء ومن الصعاليك من الكتاب من راح يسخر وكتب اسمه هكذا (جمعة) بدون أي ألقاب وبدون تبجيل أو احترام ومنهم من راح يرسم رسوماً كاريكاتورية تسيء للإسلام والمسلمين وللأسف بعض الجرائد المثقفة والتي كنت أعتقد أنها أكثر احتراماً من ذلك تنشر هذه الحماقات والرزالات والسفالات بدعوى حرية الرأي وإن كل رأي يعبر عن صاحبه والجريدة أو المجلة غير مسئولة....الخ
ذكرتني قصيدة البحراوي وبيته الأخير خاصة فيها بهذه الإساءات للمفتي الجليل الذي نسى هؤلاء الكتاب والشبان الصعاليك من الصحفيين أن المفتي لم يجتهد في هذه الفتوى ولم يفت، إنه فقط أعلن الحقيقة وفق النصوص الصحيحة للحديث الشريف للرسول()بأن الملائكة لا تدخل بيوتاً فيها صور أو تماثيل، ولم يخبرنا الرسول() بأن أحاديثه صالحة لزمان دون زمان وإلا قد أشار لذلك، لكننا نشأنا وعلمنا وتعلمنا إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولم يقتصر على زمن الرسول حتى نقول لفضيلة الإمام اجتهد أكثر يا فضيلتك وفصل لنا فتوى بالمقاس كي تناسب الحضارة الفرعونية وتناسب أذواق الفنانين التشكيليين الذين يرسمون العري والعار ويتباهون به عبر لوحاتهم وفي معارضهم كان يجب على فضيلة المفتي أن يفتي على مزاج هؤلاء، هذا العالم الجليل الأزهري والذي تعلم ودرس الدكتوراه وما بعد الدكتوراه وحاضر وله منتدياته الدعوية الشهيرة، ومجالسه الدعوية بالمساجد هذا العالم الجليل الفاضل لم يفت بل فقط أعلن نصوصاً صريحة تفيد التحريم، وحيث لا اجتهاد مع نص حتى يدعوه دعاة التحرر والانفلات إلى أن يحاول مرة أخرى ويفكر ويجتهد لأننا لا نعبد هذه التماثيل وإنها ليست أصنام وهي للزينة لأن ذلك سيتعارض مع دخل مصر من السياحة، ولأن الفتوى ستهدم جزءاً من الاقتصاد المصري فضلاً عما سيصيب الفنانين التشكيليين من إحباط لأنهم يا حرام لا يعرفون ما الحرام من الحلال !
إن هؤلاء الصعاليك الذين كتبوا ساخرين من أحد أعلام وعلماء الأزهر والمسلمين لن يطاولوا قيمة وقدر ومكانة فضيلة الإمام الدكتور (علي جمعة) ..
لقد درس وعلم وتعلم وأتقن وصلى وعبد الله وهو ليس من هؤلاء المدجنين الذين تسوسهم الحكومات وتسيسهم ليفصلوا لها فتاوى بالتفصيل – وعلى حسب الأمزجة والأهواء – حتى يضمنوا ولاءهم ومراكزهم ومناصبهم ...
وإن العالم الجليل لم يسع للأضواء ولا للشهرة كما قال هذا الصحافي الصعلوك في إحدى الجرائد فالأضواء والشهرة هي التي سعت إلى علمه وقدره ومكانته ولو لم يستحق ما التفت إليه أحد ... وحتى هذه لم تعد محسوبة بالعدل فللوصول أيضاً معايير أخرى ...
هذا الإمام الجليل الذي تطاول عليه الكثيرون هو من رجالات الأزهر وعلمائه الأفاضل ها هم اليوم يسخرون منه ويقذفونه بالطوب وهو يقف شامخاً بإيمانه وبعلمه كالنخل العالي يُلقي لنا بأطيب الثمر. وها نحن نلوم على الدانمارك لأنها أساءت
للرسول()؟ إنه من الأولى بنا أن نلوم على أنفسنا وصحافيينا وعلى كتابنا وكتاباتنا ولا نسخر من علمائنا حتى لا يفعل الغرب بنا ما يفعل ...! وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(الطلاق: من الآية2)
أنا لا أصادر على رأي أحد ولكن إذا كنا مدعوين للحوار فلنقرع الحجة بالحجة، ونسوق الرأي بالرأي ويكون الحوار منهجياً وعلمياً وبهدوء وبلا غوغاء أو تشنج أو سخرية أو قلة أدب، وليكن الحوار العقلاني حول الموضوع وليس قذفاً وسباً للرموز التي هي على رأسها رموز الأمة إن شئنا الحقيقة، لأنهم رموز الدين الإسلامي....
إنه في النهاية مفتي ديارنا وهو على رأس ولاة أمورنا له منا كل التبجيل والتوقير والاحترام وله منا خالص الاعتذار نيابة عن السفهاء وكما قال رسول الله(): "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
لو كان الحاج البحراوي حياً لكتب ألف قصيدة في هذا الموضوع ولكتب في كل قصيدة ألف بيت وبيت....
رحمك الله يا بحراوي يا مؤمناً يا أصيلاً ماذا لو كنت بيننا الآن وشهدت معنا هذه المهازل تارة من الإساءة لرسول الله؟ وتارة من إهانة المصحف الشريف؟ وها نحن في عقر دارنا نسيء إلى ولاة أمورنا ولمن؟ نسيء إلى فضيلة مفتي الديار الإمام الجليل والعالم الورع سيادة الدكتور: "علي جمعة"!
رحم الله البحراوي والشعراوي، الذي قدم استقالته ورفض الوزارة أو رفض الرشوة التي قدمت له من أجل تفصيل فتاوى تناسب العصر وأذواق مسلمينا هذه الأيام... رحم الله الشعراوي الذي كان يخشى الله واليوم الآخر ورفض جاه الدنيا طمعاً في جاه الآخرة ورضا الله.
وعفواً لهذه المداخلة فقد بلغ الذل والمهانة مبلغاً لم يعد من السهل السكوت عليه، فالساكت عن الحق شيطان أخرس كما قال رسول الله()، وكما قال أيضاً: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان ..."
فاللهم قوَّ إيماننا جميعاً ...
لقد كان البحراوي مثلاً يحتذى بيننا في محاولة التغيير، كم كان يسعى للتغيير بالكلمة الداعية للحق ولله ولكل خير البشرية ... أعود لأردد بيت شعر البحراوي في هذه الآونة وفي خضم هذه الأحداث المؤسفة:
اجعلوا الأزهر في توبه(3) ....
الجدير بالاحترام ....

أزجال البحراوي حول الأنبياء:
وكُتب شاعرنا – يرحمه الله – مجموعة قصائد خاصة بالأنبياء عليهم السلام وقد عنون كل قصيدة باسم نبيَّ منهم فكتب على التوالي في:
آدم، إبراهيم، إسماعيل، إدريس، هود، نوح، لوط، صالح (عليهم السلام أجمعين).
وكتب في أبناء آدم (قابيل وهابيل) وكتب عن الطاغية التاريخي المشهور (قارون) الذي كفر وطغى في عهد موسى عليه السلام فنال عقاب الله كما نعرف..
أعجبتني كثيراً فكرة تناول الأنبياء أو المشاهير أو الأماكن المقدسة أو ... الخ. عبر القصائد، فهي بمثابة دروس تعليمية وأسهل في استرجاعها لما تنطوي عليه من موسيقى بين الأبيات وبعضها، وموسيقى الكلمات وإيقاع اللحن الذي يساعد على الترديد والحفظ...
لكن البحراوي – يرحمه الله – لم يسعفه العمر حتى يكتب عن البقية وأحسب لو أن الله أمهله في العمر قليلاً لكتب لنا عن أيوب وموسى وعيسى وغيرهم ... لكن ما شاء الله كان وما قدر فعل، لعلها البداية قد وضعها لنا هذا الشاعر الداعية الصوفي المؤمن ولعلها دعوة للإخوة من الشعراء ممن يسيرون على الدرب أن يكملوا المسيرة، إن هذه القصائد يمكن أن تُلحن وتغنى ويمكن أن تكون من بين الأنشطة التربوية في مدارسنا ... ولم لا ؟ نحن بحاجة حقيقية لمثل هذه القصائد التعليمية البسيطة ويمكن أن تنتجها الشركات المتخصصة في شرائط مسجلة أو تتبناها الفرق الإسلامية والإنشاد الديني التعليمي والشركات المتخصصة في أدب الأطفال الإسلامي وإنتاجها وتصويرها وتسجيلها على اسطوانات (C.D) واسترجاعها عبر الكمبيوتر .... إنها دعوة وأتمنى أن أجد من يتحمس لها وينفذها ...
إني لا أدعو لذلك إحياء لذكرى البحراوي فقط فهو الراحل الحي بيننا – لكنْ تدعيماً للأدب التربوي الإسلامي وإشهاراً له بدلاً من هذا الإسفاف الذي يملأ الأسواق.
لقد كتب البحراوي – يرحمه الله – عن الأنبياء بما لم يتوفر كثيراً لغيره – في حدود علمي – بالشعر، وهذا جديد واستشراف للمستقبل يحسب له، نعم قد قرأنا بعض قصائد لشوقي وللهراوي ولأحمد نجيب ولأحمد زرزور ولبعض الإخوة من الشعراء العرب ولمن ذاع صيتهم مثل أحمد سويلم وعلي الشرقاوي وغيرهم، لكن على مستوى شعر العامية والزجل لم أقرأ إلا للبحراوي لذا فإن له حق الريادة في هذا المجال المتفرد، غير أن هؤلاء الشعراء الذين ذكرتهم كتبوا شعراً للأطفال بشكل عام وكتبوا أدباً جميلاً وقصصاً شعرية وفي الأخلاق والطبيعة والإسلام مما يمكننا من الوقوف على بعض جوانب الأدب الإسلامي لديهم للأطفال، لكن لم أقرأ تحديداً قصصاً عن الأنبياء كما فعل البحراوي، لقد كتبوا عن الرسول() فقط.
والآن ننتقل لقصائد البحراوي الزجلية في الأنبياء عليهم السلام، ولن أراعي الترتيب تماماً كما ورد في ديوان (بستان الورد) لأسباب فنية تتعلق بالشكل والمضمون خاصة بالبحث، لكنه عموماً قد بدأها بـ (سيدنا آدم عليه السلام) ولنبدأ كما بدأ.
17- سيدنا آدم (عليه السلام):
تقع القصيدة في عشرين بيتاً على هيئة رباعيات، ويستهلها البحراوي بقوله:
كل ما في الكون بحاله ....
كله من صنع الإله ....

الملايكه وكل ما هو ....
نبض ناطق بالحياه ....

كل عظمه في حياتنا ....
قدرته ومافيش سواه ....

بالإرادة كلمه منه ....
بالمشيئة "كن" فكان ....

عَلمَّه الأسماء جميعها ....
حجته كانت معاه ....

سبحان من خلق فسوى، وسبحان من ألهم فأبدع، بأمره. هكذا يقصد البحراوي أن يقول، إنه يبدأ بقيمة(التوحيد بالله) ثم تأتي بعدها أي قيمة أخرى، إنها القيمة العليا التي تتجلى فيها قدرة الله عز وجل حيث يقول للشيء (كن فيكون).
إنه يؤرخ لقصة (خلق آدم) عبر هذه القدرة المتميزة والمتفردة بلا ثان – لله عز وجل - ويختصر خلق الكون جميعاً بما فيه من مخلوقات بهذه القدرة الإلهية (كن فيكون).
إنه يعبر عنها بكلمات دالة مثل: المشيئة، الإرادة، الكلمة ... الخ، فها هو (سبحانه وتعالى) بمشيئته فقط وإرادته وحده وكلمة منه كان آدم أبو البشر جميعاً. وقد علمه
الله الأسماء جميعها لحكمة يعلمها وحده وفي هذا قد استلهم الشاعر من القرآن الكريم:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:31).
ويستكمل الشاعر:
الخلافه له ولينا ....
منحه كانت له كبيره ....

لاجل ما تكون المسيرة ....
موعظة لأعظمها سيره ....

والملايكه من حوارها ....
من كلامها فـ شبه غيره ....

ربنا قال للملايكه ....
انبئوني عن الأسامي ....

والملايكة نور بيحكي ....
قوة المولى القديره ....

قضية الخلافة الإنسانية في الأرض:
يثير الشاعر قضية من أهم وأخطر القضايا التي يتغافل عنها الناس في الأرض ولا ينتبهون لها ليقدروها ويعطوها حق قدرها، إنها قيمة وقضية (الخلافة) أي خلافة الله لبني آدم على أرضه، هذه الخلافة التي منحها بداية لأبينا آدم(عليه السلام) هذه الخلافة أو هذه الأمانة أو هذه المسئولية العظيمة التي أشفقت الجبال من حملها بعد الرفض وحملها الإنسان كما في الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب:72).
إنما استخلف الله آدم في الأرض ليحمل هذه الأمانة، ولقد وهبها الله لآدم ثم لبنيه من بعده، إنها هذه المنحة الإلهية الربانية من خالقنا العظيم لنا نحن الضعفاء إنما ليقوينا بها وليكرمنا بها لأن فيها كرامتنا وعزتنا الحقيقية، فإذا كان الله قد أكرم آدم بها فكيف ينكرها بنوه؟ هذه هي القضية التي حاول أن يثيرها الشاعر العالم والداعية ضمنياً. فماذا عن الملائكة، لقد استشعر وكأن الملائكة غارت من آدم، لكن تجلت هذه الغيرة وتجسدت لدى أبليس وحده ولولا هذه الغيرة ما كانت قصة طرده من الجنة، لقد امتثلت كل الملائكة للأمر الإلهي إلا أبليس الذي أبى وتكبر غيرةْ وحقداً على آدم (الإنسان) المخلوق من الطين.
قضية العلم والمعرفة:
إن الشاعر أيضاً يثير قضية (العلم والمعرفة) هذه القضية التي ينكرها على الإسلام المنكرون، بل إن العلم هو بداية الكون والتعليم هو بداية التكوين الرباني لآدم في قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:31).
إنه النص القرآني الصريح يستلهمه الشاعر ويوظفه في بيته الشعري مثيراً قضية (العلم/المعرفة/التعليم) وكأنه يرد على كل الدعاوي المغرضة ضد الإسلام.
قد تكون الأبيات في تداعياتها التلقائية على مخيلة الشاعر موظفة دونما قصد أو اختياراً لكننا عند تحليل المضمون لاستخراج القيم التربوية الإسلامية التي ينطوي عليها الأدب الإسلامي لا يمكن تجاهل أي مفردة دالة تستوجب التحليل خاصة مما هو مستلهم من القرآن الكريم والحديث الشريف لأنه بيان لا ينطق عن الهوى، إنه لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:42).
ولعل القيمة العالية لأزجال البحراوي – بالعامية – إنما تكمن في حقيقة الأمر وجوهره لهذا الاستلهام المتقن لآيات الله والموظف جيداً عبر البناء الشعري للقصائد في الوزن والقافية، وإن شذت بعضها فجاءت على هيئة نثر حر مقفى.
إن البحراوي لم يكتب أي كلام والسلام ولم يكتب على سبيل الإنشاء من محسنات بديعية وجناس وطباق وتشبيه واستعارة ... الخ
لكن البحراوي – يرحمه الله – كان يكتب حقاً "أدباً إسلامياً" يؤصل له، ويدعو إلى الله من خلاله في ندواته، ويخطو به خطوة في الطريق إلى رضا الله وإلى جنته، ويؤسس لمدرسة في الزجل تستمد من الأدب الإسلامي مفرداته وقيمه ومبادئه ونهجه وتعاليمه لتحقيق أهدافه العليا.
قضية التحليل والتحريم الأولى في الإسلام:
ولنستكمل قراءة قصة آدم عليه السلام لنؤكد ما ذهبنا إليه .. هذه القصة المستلهمة من القرآن الكريم كيف صاغها البحراوي شعراً عامياً أو زجلاً ؟ يقول البحراوي:
كل شيء في الجنه حتى ....
الأكل م. الرحمن مباح ....

جنة المأوى العظيمه ....
السكن لاهل الملاح ....

إلا شجره واحده كانت ....
خارجه عن كل السماح ....

وسوس الشيطان وكان له ....
بالغوايه .. ما أراد ....

الشيطان أسّ البلاوي ....
والمآسي .. والجراح ....

ها هي القصة المعروفة وها هو البحراوي يؤصل لها عبر أبياته ليؤصل لقيمة في غاية الأهمية منذ بدء الخلق وهي قيمة (التحليل والتحريم). لقد أحل الله لآدم في الجنة كل شيء كل شيء ... أباح له السكن والطعام والشراب والتنقل والمتعة .. إنها الجنة وما أدرانا ما الجنة لو نعلم ... ثم استثنى الله عز وجل – من كل هذا المباح والمحلل له شيئاً واحداً، وهي الشجرة المحرمة أو المقدسة أو ما ادعى الشيطان له بالوسوسة بأنها شجرة الخلد ومن أكل منها فإنه يعيش ملكاً طوال عمره خالداً لا يبلى كما ورد بالقرآن:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى(طـه:120).
إنها قضية (التحليل والتحريم) منذ البداية، والتي يترتب عليها طمع البشر والذي جُبل عليه الإنسان منذ عهد آدم، فإن الإنسان عادة مطبوع بهذا الطمع يريد كل شيء ولا يحب استثناء أي شيء، إنها طبيعة الشهوة الآدمية لكنها لم تكن من تلقاء نفسه بل من وسوسة الشيطان، لذا فإن التحريم ينطوي على رغبة الإنسان في شيء قد حرمه الله وبالتالي فإنه يطمع فيه ويحاول الوصول إليه فإذا وصل إليه ثبت عصيانه لله ... فمن تسبب في هذا كله بدءاً من عملية النزوع بعد الإدراك والوعي بهذا الشيء؟ إنه الشيطان ... إنها غوايته التي تقهر إرادة الإنسان كما قهرت آدم بداية إلا من هداه الله لذا فإن الشاعر يحذر وينصح ويؤكد على فعل الشيطان هذا كما قال:
الشيطان أُسَّ البلاوي ....
والمآسي والجراح ....

ولم يزل الشاعر يثير قضايا وقيماً أخرى فيقول في الرباعية الأخيرة من القصيدة:
نزلوا منها لاجل نبقى ....
في الشقا المكتوب علينا ....

وإن فلحنا أو سعينا ....
للنجاح يبقى بإيدينا ....

جنة الخلد العظيمة ....
بالعمل والحق لينا ....

والإيمان لازم بقلبك ....
مش أماني أو تمني ....

زي ما قال المشفع ....
صاحب السيرة الأمينه ....

يشير الشاعر إلى قضية (الشقاء والكدح) في الأرض الذي كان تبعة لنزول آدم عليه السلام بداية وخروجه من الجنة إلى الأرض.
يستلهم الشاعر هذه الفكرة من النص القرآني: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (البلد:4).
وقد كتب علينا الله أن نعبده ونحمده ونسعى ونعمل من أجل كل شيء (الحصول على الرزق) بداية و(النجاح أو الفلاح) نهاية ... وقبل كل شيء فالعبادة هي طريق الفلاح الحقيقي وأصل كل نجاح حتى نصل للجنة مرة أخرى التي طردنا منها بفعل إغواء الشيطان لأبينا آدم (عليه السلام).
إن عصيان الله ليس بالشيء السهل ولا الهين على الله وإن الله إذا غضب على الإنسان بطش به سريعاً وشديداً وحيث لا يؤمن غضب الله، وقد يؤجله ويمهله لكنه لا يهمله ولا ينساه كما تقول الحكمة (يمهل ولا يهمل)، لذا فإن الشاعر يبث الدعوة للحصانة ضد غضب الله علينا كما أغضبه آدم بداية هذه الحصانة هي الإيمان والتقوى، بحيث يكون فعلاً لا قولاً وبحيث تقر في القلوب ويصدقها العمل والشاعر حين يختم بقوله:
والإيمان لازم بقلبك ....
مش أماني أو تمني ....

إنما يستهلم من أحاديث الرسول(): (ليس الإيمان بالتمني لكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل). (حديث صحيح).
وفي رواية أخرى أشار(): بيده – الكريمة – إلى موضع قلبه الشريف قائلاً لأصحابه رضي الله عنهم: " التقوى هاهنا ... التقوى هاهنا" (حيث صحيح).
ولذا فإن البحراوي في البيت الأخير من قصيدة (آدم عليه السلام) يعطينا الدرس والعبرة والعظة من قصة (آدم) بأن يتبع منهج الرسول() حيث التقوى والإيمان يكونان حقيقة في القلب وتنبع منه عن يقين ثابت لا يتزعزع ولا ينفذ إليه إغواء الشيطان حتى نستحق شفاعته().
هكذا يقدم لنا البحراوي في المختصر المفيد روشتة علاج .. وطريقاً إلى الجنة ... فمن ينتصح ؟ رحم الله – البحراوي – الداعية الإسلامي للتقوى وللإيمان وللجنة.
18- سيدنا إبراهيم ( عليه السلام ):
وتقع القصيدة في إحدى وعشرين بيتاً مقسمة إلى ثلاث مجموعات، بكل مجموعة سبعة أبيات على النحو التالي:
اللي ينظر ع الخريطه ....
يلقى مصر أم الحنان ....

أم للعالم بحاله ....
جوها فيه الأمان ....

مصرنا الغالية الأصيلة ....
والتاريخ شاهد عيان ....

مصر أم الألف مدنه(1)....
في الأصالة والإيمان ....

أم (هاجر) و (ماريا) ....
أمهات كالشمعدان ....

مصر جنة ربي لينا ....
صرح نابض له كيان ....

والكيان بالحب عامر ....
للجميع علم وبيان ....

يشيد الشاعر بمصر العظيمة أم الدنيا والحنان والاحتواء والأصالة والأمان والإيمان ... يؤكد ذلك الشاعر في تفنيد تاريخي مبرراً إشادته بمصر وكأنه يقول: ولم لا ... ؟ ....ولكنها الحقائق التاريخية ...
ويتخذ الشاعر من هذه الحقائق (مدخلاً) لقصيدته عن سيدنا إبراهيم ... إنه يطرح في البداية (مصر) كمفتتح وكأنها لغز يلقيه ليقول السامع: ما علاقة مصر بإبراهيم (عليه السلام) ؟ هل سيحدثنا عن إبراهيم النبي (عليه السلام) أم عن مصر ؟
إن الشاعر يقصد ذلك ولعله يذكرنا بشعراء العرب القدامى الذين كانوا يفتتحون قصائدهم ومعلقاتهم الحماسية والحروبية بأبيات من الغزل مثل قصيدة بانت سعاد الشهيرة أو بالوقوف على الأطلال، ثم نكتشف أنه لا علاقة البتة بين الغزل في مطلع القصيدة وبقية مضمونها الحماسي أو في الحروب والمعارك التي تصورها.
إن الشاعر هنا لا يتغزل في امرأة بل في وطن هو مصر الغالية علينا جميعاً، ولعل غلاوتها لم تأت من فراغ لكن تاريخها العظيم فرض نفسه علينا حقاً .. هاهو الشاعر وكأنه يدعونا لسياحة دينية عبر مساجدها بحكمة واحدة (أم الألف مئذنة) فهل هناك من بلد أكثر منها عدداً في مآذنها ... ما معنى ذلك ؟
إنها دليل الأصالة والإيمان .. إنها ليست مساجد حديثة لكنها منذ قرون عدة ومنذ الفتح الإسلامي . إن عدد مآذن مصر ومساجدها يفوق كل البلدان العربية.
ثم يأخذنا الشاعر لتساؤل جديد حين يقول: أم (هاجر) وأم (ماريا)، إن السامع الذي لا يعرف من هاجر ومن ماريا سوف يتساءل عنهما .... من هما ؟
لذا قلنا سابقاً إن هذه القصائد يجب أن تضمن ضمن الأنشطة التربوية للطلاب في المدارس ولم أقل ضمن المناهج باعتبارها من (الزجل العامي) وهو بالطبع لا يضمن في الكتب حرصاً على سلامة الفصحى. لكننا نتحدث بالعامية، حتى المثقفون منا يتحدثون بالعامية إذا لا غبار في الأمر لو علمناهم هذا الأدب الإسلامي عبر الأزجال؟ إنها من جملة الأمر...
فالطفل الذي يسمع ويسأل: من هاجر ؟ من ماريا ؟ بالطبع سيخبره الكبار بأن هاجر هي جارية مصرية أم إسماعيل عليه السلام ابن إبراهيم أبو الأنبياء، وقد كانت جارية سارة زوجته الأولى والتي أهدته لها ليتزوجها لأنها لم تنجب وقد يحكي له بقية القصة، ثم فليعلم أن (مارية) هي مارية القبطية وهي أيضاً جارية مصرية أهداها للرسول() المقوقس ملك مصر في ذلك الوقت، وقد تزوجها الرسول() بعدما أسلمت .. وقد صارت من اللوائح الإسلامية – إن جاز التعبير – أن يتزوج المسلم من مسيحية على أن ينسب الأولاد للأب المسلم.
إن الشاعر حين يثير ذكر اسمين علمين في التاريخ من النساء الشريفات وهما هاجر وماريا: فإنهما بنات مصر وهما أمهات مشرقات في صفحات التاريخ فقد أنجبت هاجر لإبراهيم ابنه إسماعيل وقد أنجبت ماريا للرسول() ابنه إبراهيم لكنه (توفي صغيراً) لحكمة يعلمها الله، بألا تكون للرسول() ذرية من الصبيان حتى لا تورث النبوة، ولا يتشكك أحد في الأمر ...
إن البحراوي حين يثير ذكر هاتين المرأتين إنما يثير ذكر تاريخ وبطولات وحكايات وملاحم قامت عليها شعوب وحضارات، لذا ينبغي ألا ننظر للكلمات باعتبارها مجرد كلمة مذكورة وينتهي الأمر عند ذكرها في بيت في قصيدة ... بل إن بعض الكلمات ذات الدلائل المعنوية والتاريخية تصلح لكي تكون ملاحكم في حد ذاتها.
إن البحراوي لم يبدع زجلاً فقط وإنما أثار قضايا وأثار تاريخاً وأثار حكاية حضارة وحكاية شعوب وحكايات إيمانية دائماً.
إنه قد يلقى (كلمة) لكنها كالشعلة تضيء جوانبها وتكشف عن أسرار وأسرار وكلها في دهاليز الإيمان وأعماق الروح وخلجات الوجدان، فهاجر حكاية نسل شعب المسلمين، ومارية حكاية تآخٍ بين المسلمين والمسيحيين. فهل هذه كلمات يسيرة يمكن إغفالها والمرور عليها مرور الكرام... ؟؟
أحسب أن الباحث لابد أن يقرأ بإمعان وإتقان فالقراءة لدى الباحث المتخصص تختلف عند القارئ العادي لأنها فن ومتعة وإلهام جديد وإبداع يخرج من أحشاء الإبداع الأصلي عند التحليل والتفسير والرؤى وتعدد القراءات ... ولعليَّ أفعل ذلك حين أقرأ لمن يستحقون القراءة .. أو لمن كتبوا شيئاً يستحق أن يُكتب عنه ثانية فهناك الغث وهناك الثمين، والمطابع تزج إلينا كل يوم بآلاف الصفحات بل ملايينها .. لكن أيها يستحق أن تطأه الأقلام والوقوف عنده بالإشادة وأيها يستحق أن تدوسه الأقدام ؟
هذه هي القضية التي فجرت الأبيات الأولى لقصيدة البحراوي – يرحمه الله – عن إبراهيم عليه السلام حين طالعتني كلمات قليلة لكنها مثيرة للدهشة والتساؤل ومثيرة لاستنفار الذاكرة ومثيرة للبحث وللجدل أيضاً في بعض مواضعها ... لكن هذا موضوع آخر لن أتوقف عنده الآن ولنستكمل النص معاً:
كان أبوه نجار بيصنع ....
الصنم لاجل العباده ....

والقبيلة بتشتريه ....
يعبدوه يبقوا فـ سعادة ....

والخليل ينصح أبوه ....
ده صنم خالي الإراده ....

للصنم عدة أسامي ....
غير كدا كان له سياده ....

بيت النيه وحطم ....
كل أصنامهم إباده ....

إلا واحد سابه منهم ....
يسألوه يحكي الإفاده ....

واسألوه إن كان بيعقل ....
يحكي ينطق بالشهاده ....

أليست هذه الأبيات ملخص لتاريخ كامل ولشعب عاش من آلاف السنين منذ بدء الخليقة ؟ أليست هذه الأبيات مستلهمة من نصوص القرآن في الجانب الكبير منها ومن التراث المأثور في جانبها الآخر ؟
ألستم معي أن البحراوي في مثل هذه القصائد ليس زجالاً فقط وإنما مؤرخ إسلامي؟
ترى هل أبالغ في رؤيتي ؟ لا أعتقد .. عندما نحلل الأبيات نقف على الكثير مما خفي وأعلنه الشاعر بالإشارة فقط لبعض عناوينه ...
لكل قاعدة شواذ:
فها هو "آذر" أبو إبراهيم عليه السلام كان يصنع التماثيل ... ما معنى ذلك حين نعلمه لأولادنا مثلاً ؟ إن الأب كان كافراً ومن صلب الكافر خرج المؤمن بل خرج (النبي إبراهيم عليه السلام ).
إنها تصريح من الشاعر – الذي استلهم من القرآن – بأن لكل قاعدة شواذاً ...
قد يكون الأب عالماً والابن جاهلاً والعكس ولذا قيل المثل: (يخلق من ظهر الجاهل عالم) أو العكس. إنه يشير أيضاً لقضية (الحياة الوثنية) في هذا العصر، ثم يشير لبعد اقتصادي مهم وهو بيع الأصنام والاتجار فيها وعليها يترتب بعد معرفي أهم وهو عدم تعقل الناس وعدم تفكيرهم فيما يفعلون وجهلهم بالتوحيد ووحدانية الله وعبادته وحده.

قصة تحدي نبي الله إبراهيم عليه السلام لأهله وعشيرته:
يشير الشاعر إلى أنواع الأصنام حيث لم تكن صنماً واحداً مثلاً لنقول إنه نموذج لإله واحد عند الكفار والمشركين بل أن للصنم عدة أسماء كما ورد في الآية الكريمة:
 أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى(20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى(22)إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23)(النجم)
إن القصيدة تصور كيف كانت سطوة هذه الأصنام وكيف كانت لها السيادة في هذا العصر الوثني الجاهلي قبل الإسلام، إنها تشير لمعالم حياة بأكملها ومعالم شعب وقصة التحدي وقصة الإيمان وبداية نشر الإسلام الأول على يد إبراهيم عليه السلام، فهو أول المسلمين وأبو الأنبياء.
ويشير الشاعر إلى قصة (التحدي) أو قضية الثورة على عبادة الأصنام عندما فكر إبراهيم (عليه السلام) وهداه الله إلى كون الأصنام لا تنفع ولا تضر فراح إلى معبد قومه وحطمها إلا كبيرهم ... كما يشير إلى سخرية الحوار بينهما، وكيف سخر إبراهيم من آبائه – وأجداده وتاريخهم العريق في عبادة الأوثان وهو الشاب الصغير !!
فقد ترك إبراهيم صنماً واحداً ليؤكد لهم أنه لا يسمع ولا يعقل ولا يفهم وإن كان كذلك فليسألوه من فعل ذلك بآلهتهم ؟ إنه يريد منهم أن يستدلوا بالمنطق وبالعقل على وجود الله سبحانه وتعالى ...!!
ويقدم لهم تجربة واقعية ملموسة عن عجز هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر إذ كيف يصنعُونها ويعبدونها ؟ ولماذا لم تشهد وتنطق على من حطم الآلهة الأخرى ؟ إن البحراوي قدم تاريخ شعب وملحمة كفاح إنسان تحدي كل شيء حين استخلفه الله في أرضه وحمله الأمانة والمسئولية والدعوة ليصير أبا الأنبياء وأبا المسلمين جميعاً. إن صموده وتحديه لأهله (أبيه) ولقومه دعاهم بالطبع لأن يقتلوه ويحرقوه بالنار، وقصة هذه المحرقة بحاجة لقصيدة مطولة غير هذه القصيدة لندرك أبعادها وكيف كان عمقها ولهيبها وسطوتها و .. و .. .(يمكن الرجوع للكتب الدينية التي أشارت للنار التي أعدها الكافرون لحرق إبراهيم)، لأن في وصفها يمكن تفهم الإعجاز الإلهي الذي حدث بنجاة إبراهيم (عليه السلام) من هذه النار لذا يقول البحراوي – يرحمه الله -:
ربنا حقق نجاته ....
معجزه مالهاش مثيل ....

جه لمصر وخد معاه ....
زوجة من أرضك يا نيل ....

جنب بيت الله تركها ....
نبع زمزم سلسبيل ....

حقق الله للخلايق ....
دعوة الشيخ الجليل ....

والحجيج أفواج بتيجي ....
تمشي مشوارها الطويل ....

لاجل يحظوا بعفو ربي ....
رحمته مالهاش مثيل ....

بعد دا ممكن تقولوا ....
يبقى مين هو الخليل ؟ ....

نلاحظ أن الشاعر لم يذكر النار إطلاقاً في القصيدة لكنه أشار إلى (النجاة) و (المعجزة) ليتساءل القارئ أو السامع الذي لا يعرف القصة: نجاته من ماذا ؟ وما هي المعجزة، وكأن القصيدة دعوة للتساؤل والبحث عن المعرفة الدينية.
يشير الشاعر إلى رحلة إبراهيم عليه السلام عندما حل بأرض مصر وتزوج هاجر برغبة سارة رضي الله عنها ثم كيف تركها في الأراضي المقدسة (بجوار الكعبة) ولقد اختار هذا المكان تحديداً لأنه بيت الله ولتكون في رعاية الله، ثم كيف تتجلى قدرة الخالق – الذي لا يتخلى أبداً عمن يلتمس عنده الأمل والرجاء – ويفجر لها ولرضيعها بئر زمزم التي تعد في ذاتها معجزة أخرى مستمرة منذ مئات الدهور منذ ميلاد إسماعيل عليه السلام وهي لم تنضب أبداً ومستمرة في عطائها، وعندما ردمت بفعل هجر الناس لها، وبفعل المناخ الصحراوي وعوامل التعرية الجغرافية أوحى الله إلى عبد المطلب جد
النبي() بحفر زمزم وجاءه هذا الوحي ثلاث مرات في المنام وذلك قبل ميلاد الرسول بزمان فأعاد حفرها، وفي مكة يوجد (بيت الله وزمزم) ويأتي الحجيج كل عام طمعاً في عفو الله عز وجل وطلباً لرحمته منذ بني إبراهيم الكعبة (بيت الله) هو وإسماعيل ورفع قواعده ...الخوَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة:127).
يطرح الشاعر تساؤله في نهاية القصيدة وكأنه يسخر ممن لا يعرف القصة ويقف على أبعادها فمن المأثور أن للأنبياء ألقاباً اشتهروا بها فيقال إبراهيم الخليل أي خليل الله ويقال إسماعيل الذبيح لأن الله فداه بذبح عظيم ويقال الوجيه عيسى لأن الله وصفه بأنه وجيه في الدنيا والآخرة ويقال يوسف الصديق لأنه كان يصدق الرؤيا يراها في المنام وأتاه الله من فضله معجزة تفسير الأحلام، ويقال موسى الكليم لأنه كليم الله أي كلمه ويقال محمد حبيب الله() ... إنها ألقاب، وخلف كل لقب تقبع حكاية يجب أن يعرفها كل مسلم ومن العار ألا نعرف تاريخنا وأنبياءنا كما قال البحراوي يرحمه الله معاتبنا في تهذيب رقيق:
بعد دا ممكن تقولوا ....
يبقى مين هو الخليل ؟ ....

19- سيدنا إسماعيل عليه السلام:
يؤصل البحراوي في هذه القصيدة الدينية التربوية لمجموعة من القيم التهذيبية التي تستمد تعاليمها من روح الإسلام، كما يؤرخ لواقعة شهيرة ومعجزة إلهية خلال أبياته فيقول في مطلعها:
الجمال في الطاعة دايماً ....
والمثل والامتثال ....

قوة الدين الحنيف ....
عز فينا واكتمال ....

والحرام مبغوض محرم ....
واللي مرغوب الحلال ....

ويا طاعة الوالدين ....
عز لينا عَ الدوام ....

والدعاء بالرحمة ليهم ....
فيه وصولنا للكمال ....

فيه إله الكون ينجي ....
والضرر شيء م. المحال ....


قيم الطاعة للأبوين:
يشير الشاعر إلى جوهر الجمال الحقيقي، فقيمة الجمال عنده في الطاعة والتهذيب مع الوالدين واكتمال الأخلاق إنما بما حث عليه الدين ...
إن الشاعر يبدأ القصة الخاصة بـ (إسماعيل) عليه السلام من نهايتها وليس بدايتها، بمعنى آخر إنه يبدأها بالدرس المستفاد منها وبالقيمة التربوية التي قدمها الله قدوة للأجيال في التربية خلال قصة إسماعيل مع إبراهيم ليعلمنا ويحث على طاعة الوالدين، وأن في هذه الطاعة عز الابن وإكرام الله عز وجل له في حياته ولذا يجب على الإنسان طاعتهما مهما حدث منهما ومهما بلغت به الثقافة أو علا شأنه وارتفعت قيمته ومكانته بين البشر جميعاً فلن يكون العز الحقيقي عند الله وفي الآخرة إلا بطاعتهما ورضاهما عنه والدعاء له ومن حقهما عليه أن يدعو لهما بالرحمة أحياءً وأمواتاً، فمن حديث الرسول(): "ينطقع عمل ابن آدم إلا من ثلاثة صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". وفي القرآن الكريم:  فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (الاسراء:23).
إن الشاعر يؤكد فلسفة تربوية غاية في الأهمية هي أن طاعة الآباء إنما هي منجاة للأبناء، أي تنجيهم من كل شر ومن الأهوال، فما من عبد أطاع والديه (فيما عدا الشرك بالله) إلا وكتب الله له النجاة وسلامة الطريق أو الصحة أو تجاوز الأخطار والمصائب وكما يقال بالعامية ( يا بركة دعاء الوالدين) وما من عبد عصى أهله أو أغضبهم أو لم يراع مشاعرهم وفعل بهم ما يغضب الله أو ما حرمه الله إلا وأغلقت في وجهه الأبواب وتعذب في الدارين؛ الأولى والآخرة ونال عقاب الله، إن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر والمحرمات.
إن البحراوي يؤصل لهذه القيمة بداية ويعدها مدخلاً وفلسفة تربوية تنطوي عليها قصة إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام. يقول البحراوي (يرحمه الله):
لما شاف الرؤيا نفذ ....
الخليل أمر الجليل ....

وامتثل للذبح طاعة ....
صاحب الصبر الجميل ....

الذبيح الأولاني ....
جد للهادي الأصيل ....

ربنا صانه بفدوه ....
كبش م الرحمن بديل ....

صلي للرحمن وانحر ....
حكمته مالهاش مثيل ....

حكمته للأمة سايره ....
رحمته لابن الخليل ....

يحكي الشاعر القصة مختصرة والتي نعرفها جميعاً والتي وردت في القرآن الكريم، تلك الرؤيا التي رآها نبي الله إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ابنه إسماعيل، فقد استلهم الشاعر القصة كما جاءت في الآيات: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(الصافات:102).
ولقد امتثل الغلام إسماعيل (عليه السلام) للأمرين، أمر الله عز وجل وأمر أبيه، لقد امتثل للذبح أي للموت دونما جدال أو مناقشة أو تشكيك ...
إنها قمة الطاعة، ولعل الله ضرب بها مثلاً ليؤكد لنا عظمة شأن الآباء ومدى قوة حقوقهم على الأبناء إن الله لم يضرب لنا مثلاً عادياً كأن يطلب الأب من ابنه السفر لمكان ما أو دخول كلية ما أو الزواج من فلانة دون فلانة أو مشروع ما ....الخ.
إن الله ضرب للمسلمين هذا المثل ليؤكد أنه أقسى وأقصى ما يمكن أن يطلبه الآباء من أولادهم ... ؟ ليؤكد الصعوبة والاستحالة في نفس الوقت.
ثم كيف كانت الكيفية ؟ أن الكيفية نفسها التي كانت عبر رؤيا .. لماذا ؟ أن الله لم يظهر لإبراهيم يُرِهِ رؤية عين لكنه أراه في المنام، أي أن الأمر كان قابلاً للتشكيك والاحتمالات من قبل الابن، بمعنى أنه أمر قابل للمناقشة فيما بينهما ... هل يذبح الأب ابنه لمجرد رؤيا رآها ؟ إنها تجربة في غاية القسوة والاستحالة إن الحكاية نحكيها لأولادنا ونعرفها جميعاً دونما وعي بها كما يجب، ولو تمثل – كل منا – ماذا يعني أن يرى مناماً بأنه يذبح ابنه ويتخيل إنه سينفذ هذا الأمر على سبيل تنفيذ الرؤيا أو الوحي ... أنه موضوع غاية في الصعوبة والقسوة إنها قمة التضحية التي يقدمها كل من الأب والابن طاعة لله عز وجل، بل إن الصعوبة على الأب ربما تكون أكثر، فلو تخيلنا أن الولد ذبح فعلاً، فكيف سيتحمل الوالد الحياة بعد هذه التجربة؟
إنها تجربة أصعب وأقسى من إمكانية تخيلها ... ومع ذلك فقد شرع إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام، فقد ذهبا فعلاً إلى الجبل في البراري ومعه السكين وبالفعل (تلَّهُ للجبين) أي شرع في التنفيذ لكن هنا قالت السماء كلمتها وفداه الله بذبح عظيم (كبش أنزله من السماء) فأي طاعة تلك؟ وأي فلسفة تربوية؟ وأي تهذيب تربوي ديني إسلامي أدبي؟ وأي أخلاق كانت أخلاق الرسل (القادة والقدوة). وأي حق للآباء على الأبناء ؟
إن الشاعر قد أصل لكل ذلك عبر أبياته الموجزة ثم أشار إلى معلومة مهمة بقوله (الذبيح الأولاني) ولم يخبرنا من الذبيح الثاني في بقية أبيات القصيدة؟ أليس في هذا ما يدعو للتساؤل: من الذبيح الثاني؟ فهل المفترض أن ثقافة الشاعر الدينية الواسعة قد منحته هذا التواضع والاكتفاء بالإشارة إلى (الذبيح الأولاني) باعتبار أننا قطعا – جميعاً – نعرف من الذبيح الثاني ؟ أم أنها دعوة للتساؤل ودعوة للبحث والتفكير وإعمال العقل ؟ باعتبار أنه ليس الجميع يعرفون أن هناك ذبيحاً أول وذبيحاً آخر، فالمشهور أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، لكن واقع القصص الديني يشير إلى أن الذبيح ليس واحداً بل هما اثنان، فأما الذبيح الآخر – الذي أشار إليه البحراوي ضمنياً عبر التساؤل الخفي الذي يجب أن يطرحه السامع للقصيدة - فهو عبد الله بن عبد المطلب والد محمد()، وهي قصة معروفة ترجع للعصر الجاهلي حيث نذر عبد المطلب "جد النبي" نذراً إذا تحقق فسوف يذبح ابناً من أبنائه وكان له عشرة أبناء ذكور، فلما تحقق أمله واستقرت القرعة على عبد الله وكان أصغرهم وكان أحب أولاده إلى قلبه فقد أشارت عليه العرب بأن يفتديه بالإبل وهكذا ظل يجري القرعة على أعداد الجمال التي سيفتديه بها وهو يعدها عشرة، عشرين، ثلاثين حتى استقرت على مائة من الإبل، فذبحها إكراماً لحياته ووفاءً لنذره وفداءً لعمره، ولذا أطلق عليه الذبيح الثاني لما هو مأثور عن إسماعيل عليه السلام أنه الذبيح الأول...
هكذا أطلق البحراوي كلمة واحدة مثيراً بها قصة بكاملها تنطوي على ألف معنى ومعنى للقارئ المتأمل. وفي الأبيات يعود الشاعر مستلهماً الآيات الكريمة إحياءً لسنة عيد الأضحى بالدعوة للصلاة والنحر عقب صلاة العيد
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) (سورة الكوثر).
يؤكد الشاعر كيف أن حكمة الخالق ما زالت مستمرة وسوف تستمر إلى ما شاء الله درساً في الطاعة وقمة في الامتثال لله عز وجل وللآباء وللأبناء وكيف يرحمنا الله بهذه الطاعة كما رحم الله الأب وفدى ابنه ليحيا له، إن رحمة الله بالأب وبالابن كانت عظيمة، وكانت جزاءً للطاعة. ويستكمل الشاعر في الجزء الثالث والأخير من القصيدة:
قام بنَى(1) البيت ويا(2) أبوه ....
بيت مُعَظَّم م الأزل ....

أصبح البيت قبله لينا(3) ....
بيه(4) صلاتنا بتكتمل ....

كان زمان قبل الحضارة ....
كنا نركب له الجمل ....

النظر له م العباده ....
والطواف فيه الاستفاده ....

ربنا يحقق مرادنا ....
حجنا هو الأمل ....

والإيمان مش(5) بالتمني ....
الإيمان يبقى العمل ....

ويستلهم الشاعر قصة بناء البيت الحرام (الكعبة) من القرآن، حيث بنى إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام الكعبة المشرفة، هذا البيت الذي صار قبلة للمسلمين يحجون إليه كل عام من كل حدب وحدب.. الخ.
ويشير الشارعر إلى قيمة نسبية تتعلق بالتقدم الحضاري وهو (الوصول إلى بيت الله) فيقارنه ما بين الزمن القديم قبل اختراع الطائرة والسفن والباصات وما بعد عصر الثورة الصناعية والحضارة حيث شهدت المواصلات تقدماً كبيراً، ويشير إلى أن السفر قديماً كان فوق الجمال (الإبل) وكان هذا بالطبع يستغرق مسيرة شهور، ولذا كان للحج مشقة كبيرة ولعل هذا كان يستوجب ثواباً أعظم (والله أعلم).
لكن الحج الآن أصبح يسيراً بسبب سهولة المواصلات الآن مثل السفينة والباص والطائرة.
يعود الشاعر في نهاية الأبيات ليؤكد أن الحج عبادة وأن رحلة الطواف حول الكعبة والدعاء في منتهى الخضوع لله، بها يمحو الله سيئاتنا ويبدلها حسنات ويغفر لنا، حيث الحج هو أمل المسلمين دائماً، إن من لا يذهب يتمنى أن يكرمه الله، ومن ذهب يظل متشوقاً إليه ملهوفاً عليه متمنياً الرجوع إليه مرات كما كان يفعل الحاج البحراوي يرحمه الله وكما حكى عنه أصدقاؤه المقربون (راجع آراء الأصدقاء فيه).
ويختم الشاعر قصيدته مؤكداً ومستلهماً من الحديث الشريف بأن الإيمان هو " ما وقر في القلب وصدقه العمل." (صحيح).
20- سيدنا إدريس (عليه السلام):
يستفتح الشاعر القصيدة بالدعاء لله عز وجل والتوحيد فيقول:
يا إله الكون يا عالم ....
بالبرايا .. أجمعين ....

رحمتك سبقت عذابك ....
يا إله العالمين ....

يا رحيم ساعة عقابك ....
يا إلهي يا معين ....

ضمن أسماؤك يا ربي ....
الغفور ويا(1) الرحيم ....

يا إلهي إنت وحدك ....
واحد الكون المبين ....

تقع القصيدة في عشرين بيتاً على هيئة خماسيات كل خماسية منها في مجموعة مستقلة بقافية واحدة كما اعتدنا من الشاعر، يؤكد الشاعر على قيمة (وحدانية الله) وعلى علمه الذي أحاط بكل المخلوقات وهي مستلهمة من القرآن  أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً(الطلاق: من الآية12).
كما يؤكد على قيمة (رحمة الله) التي تسبق عذابه وهي فوق عدله وأن من بين أسمائه الغفور والرحيم لأنه الواحد وحده في هذا الكون، ثم ينتقل للأبيات التالية موضحاً كيف يرسل الله الرسل لهداية البشر أجمعين فيقول:
الرسل والأنبياء ....
للبرايا مبعوثين ....

اسمهم رسل الهداية ....
والجميع بيك مؤمنين ....

كل واحد له رسالة ....
للقبائل مصلحين ....

من زمن من عهد آدم ....
عزمهم إيمان متين ....

في كتاب محكم آياته ....
من إله العالمين ....

يؤكد الشاعر قيمة من قيم الإيمان بل وأحد شروطه وأركانه وهي: الإيمان بالرسل، الذين أرسلهم الله جميعاً، لأنهم رسل الله إلى هداية البشر وإخراجهم من ظلمات الكفر والشرك والعصيان إلى نور الإيمان بالله والتوحيد وعبادته، ويشير إلى أن كلاً من هؤلاء كانت له دعوة ورسالة للإصلاح منذ عهد آدم عليه السلام وأنهم يتَّسمون بسمات لا توجد في عامة البشر لأنهم تقابلهم صعاب وتحديات عظيمة لذا فإن مِن سماتهم الإرادة والعزم المتين والصبر حتى يمكنهم مواجهة كل الأزمات والتحديات في سبيل الدعوة، ويوضح أن القرآن دستور المسلمين كافة قد أوضح لنا ذلك لذا يجب الرجوع إليه دائماً، وحيث يحكي لنا أساطير الأولين ويحكي لنا عن بعض الرسل:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ(يوسف:3).
ومن هؤلاء الذين ذُكروا في القرآن الكريم إدريس عليه السلام ويستلهم الشاعر ما ورد حوله مبدعاً أبياته:
ضمن آياته الشريفة ....
كان صديقاً نبياً ....

من ولاد(1) سيدنا آدم ....
كان بشير للإنسانية ....

ربنا حقق مراده ....
رفعه للرفعة العلية ....

في حديث الإسرا(2) كانوا ....
في السما الرابعة معيّه....

رَفَعَهُ مولانا وحفظه ....
قبل ما تجيله(3) المنيه ....

نلاحظ أن القرآن الكريم لم يشر تفصيلاً لقصة إدريس عليه السلام كما ورد حول إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام .... لذا فإن الذي وصلنا حوله يعد إشارات لكنها دالة ومعبرة وتنطوي على مضامين قيمية روحية وتربوية عالية وفي البيت الأول في المجموعة السابقة استلهم الشاعر بيانه من بيان القرآن الذي ورد بشأنه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً(مريم:56).
وأنه كان أحد أبناء آدم عليه السلام وكان مبشراً بالدعوة إلى الله عز وجل وقد رفعه الله لمرتبة عالية. ومن المأثور لدينا أنه كان يعمل خياطاً لكن الشاعر لم يشأ ذكر ذلك، ولعل الشاعر يوثق لأبياته بالآيات القرآنية ولا يعتمد على ما دونها كثيراً إلا ما هو شائع، وهذه تحسب للشاعر يرحمه الله فهو لا يخلط بين القرآن والحديث والأثر، فلعله يخشى ألا يكون الأثر صحيحاً مائة بالمائة.
ويشير الشاعر إلى لقاء الرسول() بنبي الله إدريس في السماء الرابعة، كما ورد في حديث الإسراء والمعراج (وهي قصة معروفة لكافة المسلمين) كذلك فقد ذكر حديث الإسراء في القرآن الكريم سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(الاسراء:1).
وقد ورد تفصيلاً في الحديث الشريف للرسول() أنه التقى بمجموعة الأنبياء لكنه لم يلتق بهم كلهم في سماء واحدة فقد التقى ببعضهم في سماء دون سماء أو أعلى من سماء حتى وصل للسماء السابعة .. وقد صلى بهم() في المسجد الأقصى ... الخ
وكان إدريس عليه السلام ممن التقى بهم في السماء الرابعة – كما ذكر الشاعر – مما يدل على ثقافته الدينية العالية وسعة إطلاعه الذي ألهم بيانه – وقد رفعه الله درجة عالية رفيعة قبل موته.
ويلاحظ أن الرفع لإدريس يختلف عن رفع عيسى عليه السلام، فالرفع لإدريس هو رفعة شأنه وعلو منزلته في الحياة الدنيا، أما رفع عيسى فهو كما قال الله عنه في كتابه الكريم وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (النساء: من الآية157).
فرفع عيسى أي أنه لم يقتل ولم يصلب كما تقول اليهود وغيرهم، لكن الله رفعه إليه عندما مات لأن أنبياء الله منزهون عن القتل والصلب لا كما يشاع بين غير المسلمين، ويشير الشاعر إلى ميلاد إدريس عليه السلام فيقول:
والميلاد كان جوا بابل ....
عاش هناك عيشة اليقين ....

في اللغات ويا(1) العلوم ....
غير كدا حكمة ودين ....

والفلك في علومه عالِم ....
نابغة في حساب السنين ....

في دروسه ياما بشّر ....
بالنبي والمرسلين ....

صلوا ع المختار نبينا ....
الشفيع طه الأمين ....

وكما يشير الشاعر فقد وُلد في بابل، ومن المعروف أنه كانت لأهل بابل حضارة عظيمة عرفت بالحضارة البابلية وهي بالعراق مثل الحضارة الآشورية على ضفاف نهري دجلة والفرات – أعادها الله منصورة لشعبها ولوطن المسلمين – والحياة الحضارية تتطلب الكثير من المعرفة مثل اللغات والعلوم والفلك والحكمة إلى جوار علوم الدين، وهكذا كان إدريس عليه السلام نابغة في كل هذا فقد بعثه الله لشعب متحضر وليؤكد أن الدين ليس ضد الحضارة بل يحث عليها بالسعي للعلم والمعرفة واكتساب اللغات التي تؤهل القوم للوقوف على ما هو عند الأعداء إنه حوار الحضارات الذي ينادون به هذه الأيام إنه موجود منذ آلاف السنين، أنه قبل الإسلام ومنذ نبيه إدريس عليه السلام.
ولقد بشر إدريس في تعاليمه ودروسه بالنبي الخاتم() كما بشر بالمرسلين بعده.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين – رحم الله البحراوي – الشاعر والعالم والداعية والفقيه.
21- سيدنا هود عليه السلام:-
تقع القصيدة أيضاً في عشرين بيتاً – مثل سابقتها – مقسمة إلى مجموعات أربع، وكل مجموعة تضم خمسة أبيات بقافية واحدة، فصارت خماسيات، يقول في مطلعها:
الرغد والعز لازم(1) ....
له ضريبة م الإيمان ....

والإيمان أعظم ضريبة ....
فيه صيانة(2) للكيان ....

والكيان محتاج صيانة ....
بالإيمان يبقى لنا شان ....

والكيان من غير إيمان ....
هش(3) على مر الزمان ....

والتاريخ لينا(4) بيحكي ....
والسير فيها البيان ....

بمعنى آخر أن للحضارة – (أي حضارة) – شقين أو أساسين تقوم عليهما:
أحدهما: مادي، والآخر: معنوي:
ولا يمكن أن يطلق اسم حضارة إلا باكتمال هذين الشقين أو الأساسين معاً، فإذا كان التقدم يعني رغداً في العيش وسعة في الرزق ويُسراً في الحال ومقومات النعيم جميعها دونما إيمان بالله واهب كل هذه النعم، فإن الله يبشر بزوالها إن آجلاً أو عاجلاً، لأن الكفر بوجود الله واهب البشر كل هذه النعم، يُعد بطراً و أول أساس من أسس الزوال اللاحق أو الهدم، كما في حضارة الغرب الآن، وكما في حضارات الأمم السابقة التي ذكرت في القرآن وبدل الله جناتها خراباً وأهلك حرثها وزرعها ونسلها وأبادها في لحظة وأرسل عليها رياحاً فاتكة وأعاصير لا يقوى عليها أحد .. الخ موعظة للبشر لكن البشر لا يتعظون من القصص، لذا كان سبحانه وتعالى يرسل إليهم الرسل والأنبياء، للإصلاح وللتبشير وللترهيب والإنذار.
بمعنى آخر إن الحضارة المادية فقط لا تعد حضارة بالمعنى الصحيح للحضارة وإنما تعد تخلفاً وجهلاً وشقاء ورجعية وأما الحضارة الإسلامية فقد قامت وعُدت من أعظم حضارات العالم وأشرق نورها ما يربو على ستة قرون لهذا السبب القائم على التوحيد أولاً، وبالتالي فهي حضارة إيمان وعمل، قولاً وفعلاً، وحضارة تؤسس للعدالة والتراحم والمحبة والخير والمساواة والتكافل و .. و .. الخ لأنها تقوم على العمل والعبادة بحيث يصير كل منهما وجهاً للآخر.
لكن فئة من الناس في بعض الحضارات تنسى الخالق وتغتر بالعلم الذي وهبها إياه وتغتر بقدراتها وتظن أنها فاعلة كل هذا من دون الله، فيؤدي هذا إلى الإلحاد والعياذ بالله والكفر والعصيان وهي دالة على الانهيار القريب حتى ولو أمهلهم الله إلى حين، وهذا ما يشير إليه الشاعر ويؤكده عبر الخماسية الأولى بالعامية السهلة فقد شبه ضريبة الرغد والعز بالإيمان ثم عاد يؤكد أنها أعظم ضريبة لأن فيها الصيانة للإنسان وإلا أصبح الإنسان هشاً سهل الكسر، والجملة جميلة بسيطة موحية ذلك أن الخواء الروحي هو أعظم خواء وهو الخواء الحقيقي حيث يشعر الإنسان رغم ثرائه ورغد عيشه أنه يبحث عن شيء ما ولا يدري أين يجده ولا كيف يجده ولا بأي ثمن يشتريه، إنه شيء معنوي محسوس هو اليقين بالله، لأن الإنسان بطبعه مفطور على الانتماء لقوة أعظم من كل شيء يدعوها ويصبو إليها ويخافها ويحبها ويرجوها .... وهي اليقين بالله عز وجل فإذا ما ضاع منه هذا الانتماء الروحي صار كيانه هشاً سهل الكسر في أية لحظة صعبة، أو موقف ابتلاء.
حقاً لقد أبدع البحراوي في وصف هذه القضية ومحاولة توصيلها للعامة عبر الزجل، إنها قضية من أخطر قضايا البشرية على الإطلاق خاصة في زمن التقدم العلمي والحضارات، وما أحوجنا في هذا العصر (عصر) إلى ترديد وفهم هذه الأبيات السابقة وتمثل معانيها بداخلنا وتأملها جيداً، لأنها تنطوي على المدد الروحي الوجداني الذي يعد بمثابة أحد شقي الحضارة – الذي أشرنا إليه – هذا المدد الروحي الذي يجعل للإنسان المتقدم المتحضر جذوراً ثابتة في الأرض وأشواقاً مثل أشواق الملائكة وإلا فلماذا يزداد انتحار أعداد هائلة من السويدين ومن الأمريكان وفي الغرب عموماً كما تشير الإحصائيات رغم التقدم الحضاري المذهل.. ؟؟
لقد صار لديهم كل شيء (بالريموت كنترول) لكنهم يفتقدون الإيمان بالله، والانتماء الروحي إليه لذا يشعرون باليأس والقنوط من ترف الحياة رغم توفر أسباب السعادة لهم من وجهة نظرهم فينتحرون !! ولماذا يشعر المسلم الحق رغم فقره بالرضا والسعادة لأنه دائماً يقول: (الحمد لله)، يقول الحمد لله في السراء والضراء ويقول بالعامية: "الحمد لله على كل اللي يجيبه ربنا، كله كويس "وهو حديث طيب مأخوذ عن حديث شريف حول الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.
هكذا أبدع لنا البحراوي في وصف هذه القيمة قيمة الاكتمال الروحي بالإيمان بالله حيث هو الصيانة الحقيقية للمرء من نوازل الزمن ومصائبه ومحنه وأزماته وجراحه ..
فما من إنسان يضيق ويتبرم ويشكو ويتأزم ويعترض ويعاتب الله في نفسه أو يتمرد على قضائه إلا ويزيده ضنكاً من العيش أكثر فإن الله سبحانه وتعالى فوق عباده لا يعانده أحد بل يجب أن يشكر في كل حال، وما من إنسان يشكر الله ويحمده ويعبده حق عبادته إلا ووجد الله بجواره وأوجد له من كل ضيق مخرجاً .. وليس هناك من مخرج إلا بتقوى الله.
ثم إن الإنسان عليه بالصبر سواء رضي أم لم يرضَ، لأنه ليس أمامه إلا هذا الخيار إذا وقعت له مصيبة – والعياذ بالله – فماذا هو فاعل أمام إرادة الله؟
فليكن صبره برضاه وباختياره، لأنه لن يغير من واقع الأمر شيئاً إذا أراده الله:
 وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ(البقرة: من الآية216).
لذا فإن الشاعر عندما يحكي التاريخ الفائت للأمم والشعوب والحضارات التي زالت والحضارات التي أرسل الله لها الرسل، فإنما ليوثق لكل هذه المعاني مجتمعه فلا انفصال بينها، الدين كُلُ واحد، وكتلة واحدة، (روح وعقل وجسد) معاً.
يستمر الشاعر في وصف نموذج حضاري من تلك الحضارات التي ورد ذكرها في القرآن وهي حضارة قوم هود عليه السلام:
والسَّير كانت بتوصف ....
جسمهم مليان .. كبار ....

والنعيم والصحة فيهم ....
عزهم كان الشعار ....

كان لهم أصنام كثيرة ....
ضمنها كان (الهتار)....

والخلود اسم القبيلة ....
انبعث منها الرسول ....

جاي لهم ومعاه نصيحة ....
فيها تصحيح للمسار ....

الاغترار بالقوة والصحة:
ويتضح من الأبيات كما يصف الشاعر أن هؤلاء القوم كانوا يتمتعون بالقوة والصحة للدرجة التي كانوا يتباهون بها ويشعرون بعزتهم مما دعا لغرورهم بهذه القوة، وقد استلهم الشاعر المعنى من الآيات الكريمة وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(هود:52).
هكذا وردت ذكر القوة كإحدى مميزات قوم هود ومن المعروف أن القوة تحمي أصحابها وتدعوهم للغرور وقديماً سئل فيلسوف: أيهما أقوى الحق أم القوة ؟ حيث للحق قوة أيضاً، لكن الحق إن لم تكن له قوة تنصره فقد يضيع رغم أنه قيمة قوية في حد ذاتها، ولذا قال الرسول():(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(حديث صحيح)، رغم أن كليهما مؤمن، ولا يقصد بمعنى القوة والضعف في الحديث قوة الإيمان أو ضعفه لأن الرسول() لم يقارن بين مؤمنين اثنين لكن بين القوة والضعف، بمعنى المؤمن الذي يدافع عن حقه وعن دينه أحب عند الله من المؤمن الذي يؤمن جداً، وشديد الإيمان لكنه لا يملك من أدوات القوة ما يجعله يدافع عن دينه وعن حقه، وفي معنى الحديث :" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان"(صحيح)، ما يفسر القول السابق وكلمة أضعف الإيمان لا تعني ضعف الإيمان حرفياً لكن تعني إن هذا هو أقل شيء يستطيع المؤمن أن يفعله أي أن ينكر المنكر بقلبه في نفسه فلا يقر عليه ولا يؤمن به ولا يجزم بصحته ولا يعتقد فيه .. وهذا ضعف مقارنة إلى القوة التي تملك التغيير، ولعل خضوع هذه المعادلة للمنطق والفلسفة إلى حد كبير يصعب فهمها على البعض لكنها محاولة متواضعة للاجتهاد والتفسير والتقريب، فالشاعر حين استلهم وصف قوم هود عليه السلام من القرآن فقد استلهم أهم عنصر كانوا يتميزون به وهو "القوة" كما وردت في الآية، هذه القوة كانوا يستنصرون بها وهم عبدة للأوثان، فقد كانوا كفاراً إذن ومشركين لكنهم أقوياء ومن ذلك كانت قوة التحدي، ما بين قوة إيمان هود عليه السلام وقوة القوم، هذه القوة التي كانوا يحتمون فيها بكفرهم وضلالهم، لذا فإنه عندما خاطبهم هود عليه السلام أغراهم بما يحبونه وهي القوة فقال كما في نص الآية:
 وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(هود: من الآية52).
ويقصد أن الإيمان بالله لن يضعفكم بل سيقويكم أكثر، وبدلاً أن تكون قوتكم في الباطل تكون في الحق (ولا تتولوا مجرمين) أي لا تحسبون عند الله من المجرمين الآثمين بل من المؤمنين.
لقد وضع البحراوي – يرحمه الله – عينه وفكره على لُب قضية قوم هود عليه السلام ووقف على أهم ما كان يميزهم فخاطبهم بذات الأسلوب وأغراهم بما يؤثر فيهم وهي (القوة).
ومن المعروف في هذا الصدد أن كل رسول قد بُعث لأمته بإعجاز ما ولو رُصدنا فيما يكمن هذا الإعجاز لتبين لنا أنه دائماً يكون من جنس ما برع فيه القوم حتى يفهموه ويستشعروا معه العجز والضعف فعلى سبيل المثال بُعث عيسى بمعجزة الطب حيث كان يشفي الأبكم والأعمى والأبرص (بإذن الله) بل ويحيي الموتى (بإذن الله) ذلك أن قومه نبغوا وتفوقوا في الطب فجاءهم بإعجازه فيما تفوقوا فيه فلم يتفوقوا عليه إنهم لم يستطيعوا إحياء الموتى ...!
كذلك عندما بُعث موسى لقومه وكانوا يشتهرون بالسحر فقد كانت معجزته في عصاه التي تحولت إلى ثعبان يلقف كل ثعابينهم فجاء سحره أقوى وجاء سحره حقيقياً بينما كان سحرهم وهماً يسحرون به أعين الناس كما ورد في القرآن ..
وعندما بُعث محمد() بمعجزة القرآن الكريم فقد تمثلت المعجزة في كونه أُمياً وفي أن قومه لم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله ولو اجتمعوا له رغم براعتهم في الشعر وبيانه وفصاحته ...
هكذا وبنفس الأسلوب كان قوم هود – كما يذكر الشاعر ويؤصل لهذه المعلومة المهمة – أنهم أقوياء يتميزون بالصحة وقوة الأجسام مثلما نطلق حالياً على من يزاولون رياضة كمال الأجسام والتي لا يمارسها إلا من هو مؤهل جسمياً وصحياً لها هكذا دعتهم هذه القوة للمُضي في طغيانهم وغرورهم وظنوا أنه لا غالب لهم لذلك سخروا من هود من وعظه لهم ومن تحذيراته ومن دعوته كلها، ويذكر الشاعر موقف قومه منه في هذه الأبيات:
لعنة الأصنام شديدة ....
غير ما وصفوه بالجنون ....

سخرية وعِند(1) وآسية(2) ....
غيرها مين رايح يكون ؟ ....

كل مجد وكل عون ....
لأ .. وزادوا في التحدي ....

قدموا لنا ولجدودنا ....
فين عذابك ياللا فين ؟ ....

كانت الصيحة المبيدة ....
للتحدي .. للمجنون ....

يوضح الشاعر في الأبيات السابقة قيمة: الجهاد في سبيل الله المتمثلة في دعوة هود عليه السلام وأصحابه الذين آمنوا معه، هذه القيمة التي تدعو أصحابها إلى تحمل الأذى والعذاب في سبيل نشر الدعوة والصبر عليها حتى يأتيهم نصر الله ويؤيدهم بقوته التي تفوق كل قوة ولا راد لها لقد اتهموا هوداً بالجنون وهددوه بلعنة الآلهةإِنْ نَقُولُ إلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ (هود: من الآية54). وهي أصنامهم التي لا تضر ولا تنفع وسخروا منه وعذبوه واستمروا في التحدي والعناد حتى جاء أمر الله فأبادهم جميعاً ونجا هود ومن معه كما ورد في القرآن الكريم: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (هود:58).  أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ
هُودٍ(هود: من الآية60).
وهكذا يستلهم الشاعر أبياته وأدبه وقيمه من مضامين القرآن الكريم ليختم قصيدته في هود عليه السلام:
انهلك كبر القبائل ....
والتاريخ شاهد عيان ....

والرياح قامت ما خلت(1) ....
أي كافر راح ما بان ....

يعني لو سمعوا النصيحة ....
كان زمانهم في الأمان ....

كان زمانهم ذكرى عطرة ....
للإيمان جوا الزمان ....

وبحروف النور صنعنا ....
لكل منهم شمعدان ....

قدرة الله عز وجل فوق كل جبروت:
يشير الشاعر كيف أهلكهم الله سبحانه وتعالى فقد أرسل عليهم الريح العاصفة فلم تترك منهم واحداً وقد نجى الله هوداً وأصحابه ممن تبعوه فقط.
ويختم الشاعر بالتمني المستحيل مستخدماً (لو) إذ يقول: " لو كانوا قد سمعوا النصيحة ما حدث لهم ذلك" وفي هذا القول نصح ضمني أيضاً للسامع أو القارئ وكأنه يذكره بهؤلاء القوم وما حدث لهم لأنهم لم يستمعوا للنصح، فهي دعوة ضمنية من خلال قراءة التاريخ بأن نأخذ منه العبرة والموعظة لنعتبر بها، وهي دعوة مفتوحة لكل عاصٍ مغرور متكبر عنيد، فليرحمنا الله برحمته وليجعلنا من هؤلاء الذين آمنوا وعملوا عملاً صالحاً.
22- قصيدة: سيدنا نوح ( عليه السلام ):
يتناول الشاعر قصة نبي الله نوح (عليه السلام) في قصيدته التالية المكونة أيضاً من عشرين بيتاً على هيئة خماسيات ويبدأها بالتمهيد عبر الدرس المستفاد من القصة أي من النهاية ثم يفسر لنا القول تباعاً؛ وفيها يقول البحراوي:
بالحكمة والموعظة ....
ممكن يكون لك قول ....

بالحسم والمعرفة ....
للناس تعيش موصول....

والصبر أعظم طريق ....
صاحبه يكون مقبول ....

يا فرحة اللي صبر ....
والأهل والأحباب ....

بالرحمة والمغفرة ....
كل الذنوب بتزول ....

يؤصل الشاعر لمجموعة من القيم التربوية الإسلامية تجعل الإنسان مقبولاً في حياته بين الناس ومحبوباً وهي الحكمة والموعظة والحسم والمعرفة والصبر ويؤكد على الصبر مرة أخرى وحيث يغفر الله بعد ذلك كل الذنوب برحمته.
ففي البيت الأول يشير إلى أن سمتي الحكمة والموعظة تجعل للإنسان مكانة بين الناس بمعنى أن يكون متزناً عاقلاً متعظاً وواعظاً لذا فقد قرن الشاعر الحكمة بالموعظة وهي مستلهمة من القرآن الكريمادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: من الآية125).
وتفيد قيمة الحسم ألا يكون الإنسان متردداً وإنما يتخذ قراراته في حزم وثقة بعد دراسة الأمور وبشجاعة وبمعرفة ويرافق كل هذا الصبر...
فما علاقة هذا كله بقصة نوح عليه السلام ... لماذا اختار الشاعر " الصبر" في قصة نوح عليه السلام وأكد عليها وأثارها ...
إن الشاعر يضع عينه وقلمه على أبرز مضمون لكل قصة – كما ذكرنا من قبل – وكما استلهمها من القرآن، لذلك فقد تحدث عن قيمة "القوة" في قوم عاد سابقاً ويحدثنا عن قيمة الصبر في قصة نوح .. فلماذا ؟ من المؤكد أن هذا وراءه حكمة ومعرفة وفلسفة وسوف يتضح لنا ذلك بقراءة الأبيات؛ يقول البحراوي:
ودي(1) سيرة اللي صبر ....
مذكورة في القرآن ....

عبرة لكل البشر ....
ودي حكمة الرحمن ....

وموعظةً فيها آية(2) ....
للجميع وبيان ....

اختاره لاجل(3) اللي(4) عكفوا ....
يعبدوا الأوثان ....

لجل الهدايه وحسنه ....
من رحيم حَنَّان ....

يذكر الشاعر سيرة نوح باعتبارها سيرة "للصبر" ذُكرت في القرآن، وهي عبرة لمن يعتبر وهي حكمة أيضاً وموعظة تحمل في طياتها العلامة والإعجاز أيضاً فلقد هيأ الله نبيه (نوح) عليه السلام من أجل الدعوة لقوم كانوا يعبدون الأصنام، وأراد نوح أن يهديهم وأن يبدل الله سيئاتهم حسنات.
ويستكمل الشاعر:
لكن الرجال كذبوه ....
وعظموا الأصنام ....

وزادوا في عندهم ....
بالكفر . والآثام ....

والفقرا سيبهم ياسيدنا ....
واحنا لك أعلام ....

وطال عليه الزمان ....
في النصح والإرشاد ....

ألف الإ خمسين سنة .....
ودي حكمة العلام ....

وهكذا يُكذب الأنبياء دائماً ويُتَّهْمون لتكون عظمة الدعوة إلى الله ولتعلو قيمة الجهاد في سبيله، مع زيادة جرائمهم وآثامهم، لقد دعوه إلى ترك الفقراء كي يسيودوه إذا ما تبع ملتهم لكنه لم ييأس أبداً وكم صبر عليهم، هنا تتجلى قيمة "الصبر" في أروع صورها، لقد ظل يدعوهم ألف عام إلا خمسين سنة أي 950 عاماً وهو رقم عظيم بالنسبة لعصرنا، إننا لا نعرف أن أحداً عاش أكثر من مائة عام أو مائة وعشرة وعلى الأكثر مائة وعشرين فيصير معجزة، ذلك أن الجسم والشكل والهيئة والملامح وكل شيء يتغير بيولوجياً في الإنسان ولنا أن نتخيل معنى أن يعيش الإنسان فقط مائة وخمسين عاماً ... هل يمكن أن نتخيل شكله ومنظره وهيئته مهما كان يتعاطى من حبوب وعقاقير للصحة والشباب ...؟
هل لنا أن نتخيل إنساناً بلغ من العمر المائتين؟ أعتقد أنه صعب هذا التخيل؟ فما بالنا لو تخيلنا نوحاً وقومه لمدة 950عاماً، إن هذا الرقم يمثل حد ذاته إعجازاً أي إعجاز في الخلق والخليقة والشكل والهيئة و ... الخ وإعجازاً في الصبر وقيمة الصبر نفسها، لذا فإن المعجزة في قصة نوح كانت "الصبر" إن قيمة الصبر أوردها الشاعر بداية في مطلع الأبيات لتكون قدوة لكل من يريد أن يصبر ودعوة وسَنَّة، فلن يصبر أحد في العالم بمثل صبر نوح على قومه وصبر أيوب على مرضه وفقده ولده وأمواله وصحته ولم يزل يحمد الله ...!
لقد ضرب الله لنا الأمثلة دائماً، ما فاتت على القرآن شاردة ولا واردة إلا أحصاها الحق – جل وعلا – في كتابه المبين.
من هنا جاءت حكمة الصبر وقيمته والدعوة إليه ... فمهما بلغ صبر الناس جميعاً فلن يصبروا بمثل صبر نوح أو صبر أيوب، فالقصيدة دعوة للصبر وما أعظم قيمته ... يستمر الشاعر مستكملاً بقية القصة وموضحاً جزاء القوم وجزاء الصبر:
دعا الإله العظيم ....
واحد قدير قهار ....

ع الكافرين اللي زادوا ....
كفر واستكبار ....

فلك الحياة اتصنع ....
لاجل الطوفان انهار ....

وكان مصيره الحياة ....
مع كل نوع اثنين ....

وكان مراته وابنه ....

مشركين كفار ....

باسترجاع الأبيات السابقة الخاتمة للقصيدة نجد إشارات سريعة ومكثفة لبقية القصة، فها هو نوح يدعو الله أخيراً بعد الصبر، فيستجيب الله له بقهر القوم بالطوفان المعروف جزاء كفرهم واستكبارهم، وبينما ينجو نوح بسفينته التي صنعها كما أمره الله تعالى ويحمل فيها من كل نوع زوجين (ذكر وأنثى) الطيور والحيوانات والدواب، ما استطاع أن يحمله، من ذلك أنه سيذهب مكاناً آخر يُعمره بعدما أهلك الله هذه البلاد الكافرة ولقد كانت زوجته وابنه من بين هؤلاء وقد أمره الله بتركهما لأنهما ليسا من أهله لأنهما كافران عصاة.
في نهاية القصيدة يبرز لنا الشاعر قيمة مهمة وهي الانتماء الأسري أو الانتماء للأهل إنه لا يكون للمشركين وإنما للصالحين وكما ورد في القرآن فإن نوحاً عندما أخذته الشفقة على ابنه وأراد أن يأخذه معه حتى لا يغرق في الطوفان ودعا الله بذلك فقد أجابه المولى سبحانه: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ(هود: من الآية46).
وهنا يؤكد القرآن ويؤكد الشاعر بالتالي بأن النبوة والأبوة والتبني إنما للصالحين المؤمنين، ومن يشذ عن ذلك فإنه يستحق عقاب الله دونما استثناء، فها هو ابن نوح وهو نبي الله المختار ... وها هي زوجته ... لكن الله لم يرضَ عنهما، وقد كان بإمكان الله سبحانه وتعالى أن يهديهما إلى الحق المبين فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولو على سبيل إكرام نوح عليه السلام، لكن الله سبحانه وتعالى تعالت حكمته أراد أن يضرب للناس مثلاً فقد يكون من أبنائنا عدواً لنا ومن أزواجنا وزوجاتنا كما ورد في الآيات الكريمة: ا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (التغابن: من الآية14).
وعلى هذا فقد وفق الشاعر لطرح هذه القضية ضمن السياق التربوي الدعوي والتهذيبي بداخل القصة، لأنها من أساسيات قصة نوح عليه السلام ومن الدروس المستفادة عند حَكْيِ وسرد هذه القصة ويجب التوقف عندها بالتأمل، حيث هذا الدرس لا يمثل القاعدة وإنما الاستثناء ...
وكأن الله وكأن الشاعر يريد أن يقول:
كل شيء جائز، كل شيء قابل للحدوث وأن لكل قاعدة استثناء.
فها هو ابن نوح كافر، يخرج من صلب أبيه النبي التقي الصالح صاحب الدعوة التي استمرت لـ 950 عاماً.
أي أنه قد يخرج من أصلابنا هذا وذاك .. وما علينا إلا البلاغ والصبر والمحاولة.. أعاننا الله ووفقنا ووفق أولادنا جميعاً لخير ما يريده الله ويرضاه، ورحم الله البحراوي شاعراً ومؤرخاً وفيلسوفاً وبارك له في أبنائه وذريته.
ولننتقل معاً إلى قصيدة أخرى.
23- سيدنا لوط (عليه السلام):
يقول البحراوي – يرحمه الله - في مطلعها:
فيه كبائر م الذنوب ....
العذاب عنها شديد ....

أي إنسان يرتكبها ....
تلتقاه كافر عنيد ....

والحلال ربي أحَلَهُ ....
والحرام إثمه أكيد ....

والشيطان مهما يقول لك ....
ع الحرام وعليه يدلك ....

يتركك بعد ارتكابك ....
للمعاصي يا بليد ....

هذه قصيدة مهمة للغاية، ومناسبة لهذا العصر تماماً وكأننا عدنا لعصر لوط عليه السلام، وتنبع أهمية هذه القصيدة من كونها دينية في المقام الأول لكنها تعالج قضية اجتماعية وخلقية في منتهى الخطورة حيث تشير إلى علة قوم لوط عليه السلام وهي الفاحشة، إذ يأتي الرجال بعضهم بعضاً شهوة من دون النساء ... أو النساء يما بينهن من دون الرجال ... والحالتان ضد الطبيعة والفطرة التي فطرنا الله عليها وهي زواج الرجل بالمرأة وسكناه إليها، وما يخرج عن هذه القاعدة إنما يعد شاذاً ويمارس شذوذاً حراماً قد نهى الله سبحانه وتعالى عنه وحرمه في كتابه المبين. إنها الفاحشة المبينة.
لذا فإن الشاعر قد استهل قصيدته بالحكمة والموعظة والدرس المستفاد من قصة لوط عليه السلام، فالشاعر أشار إلى (اللواط) – والعياذ بالله – باعتباره من كبائر الذنوب التي حرمها الله ووعد فاعلها بالعذاب الشديد ولعنه في الدنيا والآخرة، إن الشاعر يؤصل ويزكي قيم "الحلال" التي حث الله عليها وهي الزواج الحلال المشروع الذي كفله الله لعباده وحث عليه لتكوين الأسرة وحيث غاية الزواج التناسل والتناكح أيضاً لما يتحصل فيه المرء من متعة ولذة ويفرغ فيه شحنته الانفعالية وطاقته الجنسية التي فطره الله عليها وأودعها به، لكنه – سبحانه – حدد له حدود ممارستها عند حدود الحلال، ونظم له قواعدها فهي بين (ذكر وأنثى) فما بالنا وما يحدث اليوم ............. ؟
لقد نجح كلينتون رئيس أمريكا السابق لأنه دافع عن حقوق الشواذ فأيدوه ... أليست هذه إحدى آفات العولمة؟.
وها هي شبكات الإنترنت ومواقع الفساد الشيطانية تغري شبابنا بالحرام .. أليست هذه إحدى موبقات الأمركة واليهودة والصهينة والعولمة ؟ فلتسموها كما شئتم..
وها نحن نسمع عن مسؤولين كبار للأسف في الدولة وفي مواقع مسئولة عن التربية اللامؤسسية ينتمون إلى قوم لوط – والعياذ بالله – والكل يعلم والكل يغمض عينه ... بل وتصر الدولة على توليهم مناصبهم الرفيعة وتقليدهم أرفع الأوسمة تحت شعار الحرية؟ فأية حرية تلك ؟ حرية الحرام!
ونسمع عن هذه الظاهرة في بعض الدول الإسلامية والتي تطبق شرع الله وقصة الدكتور الشهير الذي تم الاعتداء على ابنه ورفع قضية وطالب المحكمة بالعدالة فلم يأخذ حقاً ولا باطلاً بل أُسيء له وكيلت له الاتهامات .. الخ هذه القصة ليست ببعيدة وليس من السهل أن تنساها الذاكرة ... أن بعض الدول للأسف تعتبر هذا شيئاً عادياً لا ينتمي للعيب ولا للحرام بل يطلقون عليها حب التجربة ... فأية تجربة بالله عليكم ؟ فماذا أبقينا من قوم لوط ...؟ نعم نحن بحاجة للوط في هذا الزمان البشع !
ماذا لو بعث لوط فينا من جديد؟
إنها قضية من أخطر القضايا والآفات الأخلاقية والاجتماعية التي تصيب المجتمع وكم سمعنا عن مشاهير، بل الأخطر من ذلك ما ينادون به من ذلك وما ينادون به من حقوق لهم في دول العالم المتحضر والمتقدم ويصدرونه إلى بلادنا الإسلامية عبر مؤتمرات حقوق المرأة وحقوق الشواذ!
بل والأخطر من ذلك أن بعض الأفلام العربية صارت تروج لمثل هذا الخلق الوقح والمرذول وهذا الفعل الحرام مقدمة تبريرات ضمنية مزيفة ودعاوي تحررية انفلاتية كما رأينا في فيلم الكشاف والذي حصل على إحدى الجوائز، حيث تروج إحدى شخصيات الفيلم لهذه العادة وتبرر هذا السلوك بأنه رغماً عنها وليس بيدها حيلة في أمرها وأنها مرغمة على ذلك مضطرة له فلا داعي للوم والعتاب وصب جام الغضب على أمثالهم معذورون يا حرام!.
إنه السُم الذي يبثه الإعلام المصري لترويج الرذيلة عبر دراما هابطة وقصص تافهة لغسل عقول الشباب ... أليس في هذا ما يمثل تحدياً من المسلمين أنفسهم للإسلام....؟ أليس العدو فينا وبيننا ؟
أنا لم أخرج عن نص القصيدة التي ناقشها البحراوي قبلاً – يرحمه الله – بل هو في صلب الموضوع ... لقد ركبنا الشيطان وأغوانا وراح يهز قدميه بدلال وانتصار إلا من رحم وعصم ربي ...
ويستكمل البحراوي قصيدته المهمة:
والكتاب بالذكر يحكي ....
عن قبائل كافرين ....

الرسل نزلت عليهم ....
كانوا عنها معرضين ....

والقصص م المولى عبرة ....
للأمم م المؤمنين ....

وفـ الهلاك ويا العقاب ....
والثواب جوا الكتاب ....

عبرة للأجيال حتفضل ....
فينا على مر السنين ....

هكذا يعود البحراوي ويذكرنا بأن القرآن الكريم حكى لنا عن الكافرين من الأمم والعصاة والذين حللوا الحرام لأنفسهم وحرموا الحلال، وكيف كان هذا سبباً لإرسال الرسل لتنذرهم وليعتبروا لكنهم لم يفهموا ولم يرجعوا ولم يعتبروا فحق عليهم عذاب الله وإن عذابه لشديد..
لقد أهلك الله قوم لوط بكفرهم وعصيانهم وفاحشتهم وطغيانهم، أليس في هذا عبرة للأجيال حتى يعتبروا ؟ ويستكمل الشاعر في ختام القصيدة:
والرسول قال النصيحة ....
طبعكم إشراك مبين ....

اتركوا السوء من حياتكم ....
والزموا الخلق المتين ....

الرجال مش للعيال ....
وألا حتى للرجال ....

اتركوا سلوك المصايب ....
والزموا الشرع الحلال ....

وانكحوا جنس البنات ....
شأن كل الصالحين ....

هل هناك توضيح أكثر من ذلك ؟
إن الشاعر يستلهم من الآيات ما ورد بشأن قوم لوط: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (لأعراف:81).
لقد نصحهم نبيهم لوط عليه السلام وأخبرهم وأوضح لهم بأن سلوكهم هذا إنما هو فاحشة مبينة وهو عصيان ومن الكبائر ..... ولقد دعاهم لتركه والإقلاع عنه ودعاهم للخلق القويم السليم والعودة للطبيعة والفطرة فالرجال لم يخلقوا للرجال ولا للعيال وإنما خلقوا ليتزوجوا وينكحوا النساء شأن كل الصالحين ..
إنه شأن الفطرة السليمة ..
إنه شأن قيمة "الحلال" التي يحث عليها الإسلام وكل الأديان ....
فاللهم أرنا الحلال حلالاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وجازَ البحراوي خيراً عن دعوته الصالحة للفطرة السليمة، وجنبنا وذريتنا وذريته الحرام وأولاد الحرام ... آمين يا رب العالمين.
24- سيدنا صالح (عليه السلام):
تقع القصيدة في عشرين بيتاً – مثل سابقتها – في أربع مجموعات على هيئة خماسيات ....
يقول البحراوي – يرحمه الله – في مطلعها:
الشرك كان في القبائل ....
من غير الإحساس ....

والكفر وأصحابه زايل ....
مهما عاش .. انداس ....

لو فكروا في نفوسهم ....
مين خلق الأجناس ....

وفـ نفس كل الخلايق ....
فيه إله رحمن ....

سبحانه واحد أحد ....
أساس لكل أساس ....

يشير الشاعر إلى طبيعة العصر والقوم الذي بعث فيهم نبي الله صالح عليه السلام، فقد كانت القبائل تدين بالكفر وتشرك بالله – والعياذ بالله – هذا الكفر الذي حتماً سيزول ولو بعد حين مهما عاش لحين من الدهر.
ونلاحظ جمالية الأسلوب في الكلمتين المتضادتين (عاش) و (انداس)، ويشير الشاعر إلى قيمة (الفكر) أي التفكير والتدبر في خلق الله .. من خلق كل هذا العالم بكل أجناسه؟
لو فكر وتعقل وتدبر الإنسان لأدرك أنه الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وهكذا يعود الشاعر لتأكيد قيمة (وحدانية الله) وتأصيلها في بداية القصيدة، ثم ينتقل للأبيات التالية حيث يعرض جغرافية المنطقة التي بث فيها صالح دعوته لقومه فيقول:

وقبيلة اليوم ما بين ....
أرض الحجاز والشام ....

نحتوا البيوت م الحجر ....
بهندسة وإحكام ....

وعاشوا ويا النعيم ....
بيعبدوا ... الأصنام ....

لكن الرسول منهم ....
قام قال لهم دا حرام ....

لازم العبادة تكون ....
للواحد .... العلام ....

يشير الشاعر إلى أن هذه القبيلة عاشت ما بين أرض الحجاز (المملكة العربية السعودية – حالياً) والشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق – حالياً).
وقد تفوق هذا القوم (قوم صالح) في العمارة والبناء والتشييد والنحت فقد نحتوا البيوت في الجبال والحجر وقد استلهم الشاعر هذا من القرآن: وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(لأعراف: من الآية74).
فقد تفوقوا في الهندسة المعمارية بشكل عام وعاشوا في تحضر ونعيم غير أنهم كانوا للأسف من المشركين أيضاً ومن المغرورين المتكبرين لقد اغتروا بالحياة الدنيا واغتروا بحضارتهم ونسوا الله وعبدوا الأوثان من دون الله.
لذا أرسل الله رسوله صالحاً عليه السلام للتنبيه والتحذير كما فعل كل الرسل والأنبياء من قبل للوعظ والنصيحة إنها الدعوة إلى التوحيد وأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فماذا كان رد القوم عليه ..؟ نطالعه في الأبيات:
والعند كان في القبيلة ....
في كفرها الطالح ....

وقالوا هات الدليل ....
إن كنت يا فالح ....

الناقة سقيا لها ....
مع شربها البارح ....

ومكروا أيضاً ولكن ....
مكر ربي شديد ....

رغم النصيحة اللي كانت ....
مقصوده مِنْ .. (صالح) ....

يشير الشاعر إلى موقف القبيلة من دعوة صالح، فقد اتخذت منه نفس موقف الأقوام السابقة – التي أشرنا إليها – فقد عاندت وتمادت في الكفر والعصيان وطلبوا منه برهاناً ودليلاً على ما يقول وكانت ناقة صالح خير دليل، وقد استلهم الشاعر رموز القصة من القرآن الكريم فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(الشمس:13).
فقد أخبرهم بأنها ناقة من عند الله وعليهم أن يتركوها تسعى في الأرض تأكل وتشرب دونما إيذاء منهم لها وإلا سلط الله عليهم عذابه الشديد، لكنهم أيضاً مكروا ودبروا وعقروا الناقة ولم يستمعوا للنصح، وهكذا يظل الشاعر يستلهم من القرآن بقية القصة لبناء قصيدته معتمداً إلى حد كبير على الحوار الدرامي في القرآن وسرد الأحداث: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (الشمس:14).
هكذا ليؤصل لقيمة تربوية غاية في الأهمية أن من يتحدى الله يلقى جزاءه، فإذا كان هناك من يمكر ويفكر بخبث ودهاء ظناً منه أنه الأقوى وأنه الأعلم ناسياً أو متناسياً قدرة الله عز وجل فإن الله المطلع على خفايا النفس ومكامن الصدور وما يدور في العقول من تدابير، إنه الله القهار أمكر الماكرين وحيث لا ينفع مكر البشر وتدابيرهم مقارنة بما عند الله عز وجل وحيث لا تجوز المقارنة بداية، ويستمر الشاعر حتى نهاية القصيدة مؤكداً هذه القيم:
وخانوا عهد الرسول ....
والناقة عقروها ....

واقتسموا أهل البلد ....
اللحمة أكلوها ....

والعهد ويا العهود ....
في الشرك نكروها ....

ولما هموا عشان ....
الغدر برسولهم ....

كان العذاب الأليم ....
والصيحة شربوها ....

فها هم - كما يسوق القرآن قصتهم التي استلهمها الشاعر- قد عقروا الناقة وذبحوها وأكلوا من لحمها المقدس ولم تكن للذبح أو مما ينطبق عليه شروط بقية الإبل، إنها ناقة الله الحرة التي تسعى حيثما تشاء تأكل من أرض الله وتشرب من مائه ورغم أن قوم صالح قد عاهدوه على عدم التعرض لها وعدم إيذائها إلا أنهم نقضوا العهد بينهم وبينه لذا فقد استحقوا عذاب الله، وما هي إلا صيحة واحدة ....
إنها قوة الله التي تعلو فوق كل قوة وحيث يقول لكل الكون كن فيكون ...
لقد جاءت الصيحة التي أنذر بها صالح قومه من قبل، فلم يصدقوا ولم يعوا أو يستوعبوا القدرة الإلهية العظيمة فما كان مصيرهم إلا الهلاك المبين في غمضة عين.
ها هو الشاعر يرحمه الله قد استلهم الآيات الشريفة لبناء أبياته على معنى عظيم:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ(61)قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٌٍ(62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ(63)وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ(64)فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ(65)فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66)وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(67)كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ(68) (سورة هود: 61 إلى 68).

هذا وقد ضمن الشاعر مجموعة قصائده حول الأنبياء بقصيدتين معنونتين بـ (قابيل وهابيل) و (قارون)، وعلى الرغم من أن (قابيل وهابيل) أبناء آدم وقد ذكرت قصتهما في القرآن كما استلهمها الشاعر إلا أنهما لم يكونا من الأنبياء.
وقد كان قارون طاغية تاريخية مشهورة في زمن موسى عليه السلام، لذا فقد أرجأت تناولي لهاتين القصيدتين إلى آخر الدراسة وسوف نلقي الضوء عبر تحليل المضمون لكل منهما على النحو التالي:
25- قابيل وهابيل:
ويبدأها الشاعر بالموعظة والدرس المستفاد من هذه القصة تمهيداً لذكر الأحداث فيما بعد عبر الأبيات الخماسية (والقصيدة تقع في عشرين بيتاً مقسمة على أربع مجموعات):
في الحياة الدنيا دايماً ....
موعظة عبرة وقول ....

من زمان من عهد آدم ....
حادِثَة وخبر مهول ....

كل أهل الدنيا عرفوا ....
عن خبر حير عقول ....

موعظة وعبرة كبيرة ....
للخلايق من زمان ....

زي ما هو في زماننا ....
أخ يبقى لاخوه عزول ....

ولكل قاعدة شواذ:
هكذا يؤكد الشاعر لنا فكرة (شذوذ القاعدة أحياناً) أي أنه لا ثبات دائم ولا ديمومة على شيء، فالثابت الوحيد الأزلي هو الله والديمومة لله فقط، أما بالنسبة للبشر والمخلوقات جميعاً فإنها وإن خضعت لقواعد فإنما الشذوذ سمة هذه القواعد، إنها الحكمة الإلهية حيث يؤكد الشاعر بأن المطلق الوحيد هو الله والأزلي الوحيد هو الله والقاعدة التي لا تقبل أي شذوذ أو استثناءات هي (وجود الله ووحدانيته).
إن الله ضرب لنا الأمثال جميعاً في القرآن حتى لا يندهش الناس في حالة وجود شواذ لأية قاعدة، فالله حين ضرب لنا الأمثال من القرآن إنما ليؤكد أن التاريخ يعيد نفسه وحيث لا جديد تحت الشمس وحيث يكون البشر تكون سماتهم وسلوكياتهم التي لا تخضع لقاعدة واحدة ... فلماذا نندهش ؟
هذا هو ما يريد الشاعر بداية أن يقوله، إنه يؤرخ لأول حادثة وأول جريمة إنسانية وقعت في التاريخ، إن أول جريمة كانت تؤكد شذوذ القاعدة رغم ثباتها أيضاً، فها هو الأخ كان عدواً لأخيه وهذا هو عكس القاعدة المتعارف عليها، فالمفترض في أصل العلاقة أن الأخ يحب أخاه ويبذل نفسه من أجله، والحقيقة أن هذه القصة تضمنت المعنيين معاً .. أي تضمنت القاعدة وشذوذها بمعنى: أن أحدهما كان أخاً صالحاً مطيعاً لله عز وجل، ورفض ارتكاب المعصية والخطيئة (قتل أخيه) رغم الفرصة السانحة، إذن فهو أخ يؤكد القاعدة .. والآخر هو المعتدي الآثم العاصي والذي قام فعلاً بفعل القتل (أول جريمة في التاريخ) وهو يمثل شذوذ القاعدة ...
ولو كان الأخوان اقتتلا وحرص الإخوة كل منهما على قتل الآخر لتغير أمر البشر منذ ذلك الحين حيث يصير شذوذ القاعدة هو القاعدة نفسها أي يصير الإخوة مجبولين على العصيان والتعارك والتخاصم والتشاحن والبغضاء والغيرة ..... الخ
لكن الله كان رحيماً حكيماً فقد بث حكمته ورحمته معاً عبر هذه القصة التي تنطوي على فلسفة عظيمة وهي (حب الأخ لأخيه) وأيضاً (غيرة الأخ من أخيه) والتي قد تدفعه للحقد عليه ومحاولة النيل منه فعلاً حسداً وحقداً وغيرة وهذا موجود في الحياة، وذاك موجود أيضاً ..
هكذا يؤكد لنا الشاعر عبر أبياته:
والكتاب فيه الحقايق ....
فيه عظهْ واعظم دليل ....

معجزة فينا حتبقى ....
للأبد مالهاش مثيل ....

الدليل موجود وفينا ....
قدرته مالهاش بديل ....

إنت وحدك يا إلهي ....
صاحب النور الإلهي ....

سايع الملك بنعيمك ....
وبقدرتك تشفي العليل ....

يؤكد الشاعر أن هذه الحقائق جميعها إنما نستقيها من كتاب الله عز وجل الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:42).
كما يشير إلى فكرة (استثناء القاعدة) أو (شذوذها) كما أوضحنا، لكن الشاعر أسرف في تفاؤله في قوله (مالهاش مثيل) فقد كان طيباً حنوناً باراً عطوف القلب كريم النفس لذا جادت نفسه بما فيها وبما تنطوي عليه سريرته حيث اعتبر هذه المعجزة (قتل الأخ لأخيه) لا يمكن أن تحدث ثانية، وليت شعري، لعل البحراوي يرحمه الله لم يعش لأيامنا هذه ليرى كيف يقتل الأخ أخاه بل كيف يقتل الولد أمه وأباه وهلم جرا ...
فها هي صفحات الحوادث تطالعنا كل يوم بأخبار الجريمة الاستثنائية وليست (الجريمة المعتادة ) رغم تحريم كل منهما، لتحريم الله عز وجل (القتل) باعتباره من الكبائر المنهي عنها.
كما يشير الشاعر إلى نعيم الله الواسع الذي يتسع للجميع ويفيض عليهم ويؤصل لقيمة (حب الله) في قوله:(بقدرتك تشفي العليل) لماذا هذه الجملة في هذه القصيدة الخاصة بالجريمة وبين أخوين؟ إن الشاعر يؤصل لـ (لقدرة الله) التي تستدعي منا أن نحبه ونحمده باعتبار أن هاتين القيمتين (الحب والحمد) هما الشفاء الوحيد من أمراضنا النفسية وبما تجول به خواطرنا من سفاسف وسفالات وحقارات وأكاذيب وادعاءات وغِيرَه وأحقاد ... وكلها سموم تفسد الذوق السليم فتمرضه فالمرض النفسي ليس فقط الاكتئاب وانفصام الشخصية أو اذدواجيتها والبارنويا والهوس والفوبيا ... الخ
لكن المرض النفسي في الإسلام هو جنوح النفس عن الاستقامة فأي فعل حرام هو نوع من الأمراض النفسية، وبالتالي فكلنا مرضى لكن بدرجات متفاوتة ... فما الشفاء إذن؟ الشفاء الوحيد والدواء الوحيد هو (حب الله وحمده ) على قدرته. فالحقد مرض نفسي والكذب مرض نفسي والتيه والغرور مرض نفسي والنفاق والوصولية والشعور بالنقص، والتوهم والادعاءات الكاذبة .... الخ
فلو أحب الإنسان الله حباً صادقاً وأخلص في هذا الحب لشفاه الله وعافاه من كل أمراضه النفسية وهي أخطر من الجسمية، لأن مصداقيته مع الله ستجعله متسقاً مع ذاته بالتالي.
فقد يكون الإنسان مريضاً جسمياً (مرضاً عضوياً بيولوجياً) لكنه صحيح نفسياً، أي أنه لا يعترض على قضاء الله ولا يتبرم ويشكو ويسأل الله: لماذا فعلت بي كذا وكذا وغيري أصحاء ومعهم أموال ولديهم البنين وكذا وكذا؟ بل هو العبد الراضي الشكور القانع بكل ما يأتي به الله، إن الحقد والحسد والغيرة كانت السبب في أول جريمة على وجه الأرض، أليست هذه أمراض نفسية ؟ ليس المجنون وحده (الذي فقد عقله) هو الذي يمكن أن يقتل في لحظة ثورة وهياج، بل الحقود يمكن أن يفعل والحسود .... الخ إنه يغار وينقم وينتقم ...
ومن كان السبب؟ كانت المرأة هي ا لسبب وكما تقول الحكمة: حيثما تكون الجريمة فتش عن المرأة، أقول هذا بموضوعية شديدة وأنا امرأة، لكن ليست كل النساء سواء وكما هي الحكمة (أصابعك لا تتشابه) و (لكل قاعدة شواذ) كما ذكرنا.
المرأة التي كانت في القصة كانت أختاً لهما فقد عرفنا من الأثر والقرآن بأن حواء عندما حملت أول مرة فقد أنجبت ذكراً وأنثى، وفي المرة الثانية أيضاً ذكراً وأنثى، كان قابيل إحداهما وهابيل الأخرى ... ولما كانت إرادة الله تقتضي تعمير الأرض وإكثار النسل وهذا لن يتم إلا بالتزاوج فقد أمر الله ألا يأخذ الأخ أخته التي ولدت معه في نفس الولادة، وإنما يأخذ الأخرى، والعكس ... وذلك لحكمة الله في تباعد الأنساب لكن إحدى البنتين كانت أجمل من الأخرى ولذا فقد طمع فيها أخوها من ذات الولادة واعتبر أن هذا حقه فنبهه الآخر بأن هذا عصيان لأمر الله لكنه لم ينتبه ولم يتعظ وظل مصمماً على رأيه حتى وصل الحد بينهما إلى العراك والتراشق بالأيدي وقذف أحدهما الآخر بالحجر فخر صريعاً وبذلك وقعت الجريمة الأولى في التاريخ ...
وهكذا يؤصل الشاعر هذه القصة مستلهماً إياها من القرآن الكريم كما ذكرنا، فيقول:
لما كان قصد(1) ابن آدم ....
الزواج من أخت أخوه ....

لاجل(2) حُسن اخته اللي(3) زايد ....
وبنصيحة من أبوه ....

يومها كان المهر رمزي ....
م الغنم بيقدموه ....

بالشيطان وبحقد أعمى ....
بالحجر مات ابن آدم ....

والغراب المولى بعثه ....
لاجل يحفر قبر اخوه ....

في الأبيات إشارة إلى أهمية (الزواج) – بداية – كقيمة اجتماعية لتكوين الأسرة، وزيادة النسل وتعمير الأرض.
ثم ترد الإشارة إلى قيمة (جمال المرأة) الذي يعزز مكانتها – في بعض الأحيان – للطلب للزواج بل وللصراع عليها من أجل الفوز بها.
ثم يُشر الشاعر إلى قيمة اجتماعية مهمة وهي (عدم المغالاة في المهور)، ولعلها رغبة من الشاعر ودعوة ضمنية للالتفات لهذه القضية حيث (غلاء المهور) تسبب كثيراً في مشكلة (العنوسة) التي تفاقمت في العالم العربي خاصة، والتي تسببت مؤخراً في اللجوء إلى (الزواج العرفي) بل والممارسات غير المشروعة تنفيساً عن الرغبات الغريزية الطبيعية التي لا تجد منفذاً سهلاً بالزواج الحلال المشروع ولو أدركنا الشاعر – يرحمه الله – هذه الأيام لرأي العجب العجاب ولكتب آلاف القصائد.
إن الشاعر يشير إلى أن مهر العروس وقتها كان رمزياً للغاية، إنه من الغنم، ومما تيسره البيئة لطالب الزواج، ومما ينفع الأسرة الوليدة بلا بهرج ولا سرف وليس أرقاماً تودع في المصرف وسيارة وفيلا و .... الخ
يشيرأيضاً إلى (وسوسة) الشيطان التي تغلبت على عقل ابن آدم فانساق مع هوى نفسه بعدما نجح الشيطان في إغوائه وهوى فوق أخيه بالحجر فقتله في الحال وخر صريعاً بعد حوار درامي قصير بينهما أشار إليه القرآن ولم يشر إليه الشاعر، فقد ورد بالقرآن الكريم:
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (المائدة:28).
وهذا هو الذي أشرت إليه من قبل في بداية الحديث عن (القاعدة وشذوذها)، ثم يستلفت الشاعر نظرَنا مستلهماً من القرآن كيف كان الغراب هذا الطائر هو معلم الإنسان الأول فكرة الدفن، عندما أرسل الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه وراح يحفر له ليدفنه ...
معنى هذا عجز الإنسان عن تحمل مسؤولية ما يفعل، وعجزه عن التصرف السليم بل والجهل به عندما يأتي بفعل منكر حرام ومنكر ينكره الله عز وجل...
فها هو قد قتل وحدثت المصيبة ووقف حائراً لا يدري ماذا يفعل ولا يدري كيف يواري سوءته: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَتةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(المائدة:31).
هكذا صار الأخ الأول في التاريخ مجرماً قاتلاً آثماً عاصياً ... وكأن العنف هو فلسفة الحياة الأولى.. وكأن أحد قيم الحياة هو "الصراع" .... لم يكن أول صراع في الحياة صراعاً على المال أو الجاه أو السلطة لقد كان صراعاً على المرأة وصراعاً على الجنس، هذا الصراع الذي أورث العنف والقتل والدم حتى يومنا هذا وكما يقول الشاعر:
من يومها القتل ماشي(1) ....
فينا على مر السنين ....

أي شخص يقوم ويقتل ....
ينقتل(2) لو بعد حين ....

كل تار(3) بنشوفه حتماً ....
تلقى(4) صاحبه غير أمين ....

اتركوا القاتل لربه ....
منتقم جبار متين ....

انتقام عادل ودايم ....
من إله العالمين ....

كما يؤكد الشاعر على (انتقام الله) وقدرته عز وجل التي هي فوق قوة الظلم والبغي والقتل مستلهماً ما ورد في القرآن الكريم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة:178)
ثم يتعرض لقضية مهمة للغاية وهي (الأخذ بالثأر) وهي عادة معروفة ومتوارثة خاصة في صعيد مصر ويحث الشاعر على البعد عنها وعدم ممارستها بأن يترك أصحاب القتيل حقهم عند الله فهو المنتقم الجبار وحيث تسود عدالته وسوف ينتقم الله منه بطريقته وفق هذه العدالة التي لا نقف عليها نحن البشر، فالله هو العادل الدائم الأوحد في هذه الحياة. فاللهم أعف عنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
26- قــــارون:
قارون هذا الطاغية التاريخي الأشهر في عهد موسى عليه السلام نموذج ومثال للقوة والثروة والطغيان والفساد والكفر والتيه والغرور والتطاول و ..... الخ
هذا الطاغية الذي نال جزاءه كما نزلت فيه الآيات قد ألهب مخيلة شاعرنا فكتب هذه القصيدة المكونة من ستة وثلاثين بيتاً على هيئة رباعيات قد تشكلت في تسع مجموعات، يقول في الرباعية الأولى:

سورة قارون في كتاب الله ....
فيها العظة اشكال وألوان....

لما (قارون) الكنز أتاه ....
نعمة ومن عند الرحمن ....

وكثرة الأموال عمياه ....
عبيد حشم عز وسلطان ....

مفاتيح كنوز ما يشيلها عُتَاه ....
ترف بذخ كان فيه غرقان ....

يؤصل الشاعر للقصة كما وردت في القرآن وبالتالي فهو يسوق لنا قصة حقيقية مؤكداً مصداقيتها من أول شطرة في قوله (في كتاب الله)، إنه يعلنها صراحة هذه المرة وليس ضمنياً كما في بعض أشعاره السابقة، وبذلك يتنوع أسلوبه ما بين التصريح والتضمين، ما بين الإعلان والإخفاء، ويشير إلى "العظة والعبرة" التي يجب أن يعرفها الناس ويقفوا على أبعادها حتى لا يأخذهم غرور الدنيا وزيفها فيفعلوا فعلة قارون الذي سبقهم إلى هذا الفعل منذ آلاف الأعوام ..
أنه يسوق أسباب النعمة التي أنعم الله بها على قارون والتي أدت إلى بطرة وطغيانه وكفره بدلاً من أن يحمد الله عليها، لقد آتاه الله النعم من كل صنف ولون وهيأ له أسباب الحياة الرغدة الهانئة السعيدة، ويعدد لنا الشاعر النعم (كما ذكرت في القرآن) إنه يملك من الكنوز مالا يستطيع العتاة من ذوي العصبة أن يحملوا مفاتيح خزائنه ... فإذا كان هذا هو حال المفاتيح فقط فما بالنا بالخزائن التي تحوي هذا المال ... لو فكرنا قليلاً وتخيلنا الأمر لاكتشفنا أنه ثراء فاحش يستعصي على التخيل أو التصور .. فما شكل هذه الثروات ..؟ وما شكل هذه الخزائن؟ وماذا فعل بها ؟
إن لديه العز والنعيم والخدم والحشم والعبيد والقصور والجاه والسلطان وهيأ الله له كل أسباب الترف والبذخ ... ألا يحمد الله ؟ لا ... لم يحمده بل عميت بصيرته قبل بصره فلم ير إلا قوته وثروته فغرق في هذا النعيم والترف ثم لينال جزاءه من جنس فعله (الخسف)!
ولعلنا لا نود استباق الأحداث لكننا نلمح رحمة الله بعباده ونلمح صبره عليهم ونلمح كيف يرسل الرسل التي تنصح وتعظ وتنذر وتبشر بالنعيم الحقيقي وهكذا فعل الله مع قارون، إنه – سبحانه – لم يأخذه بغتة وبسرعة أخذ عزيز مقتدر وكان بإمكانه جل وعلا أن يفعل، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون، لكن الله أمهله لعله يرجع فأرسل له موسى عليه السلام، ولعل الشاعر يؤصل أيضاً ويؤرخ لموسى باعتباره من الأنبياء في هذه القصيدة لتصبح تابعة لبقية قصائده السابقة فيهم ... يحكي الشاعر عبر الأبيات:
وف عهد (موسى) رسول الله ....
جاله الغني والمال فتان ....

واغتر بالنعمة وبالجاه ....
والكبر أصبح له عنوان ....

والعنف للي ف يوم يعصاه ....
العاصي له في الذل هوان ....

والبطش والجبروت في أذاه ....
والعدل عنده مالوهشي ميزان ....

هكذا يشير الشاعر إلى أثر النعمة والنعيم الذي أنعم به الله على قارون، إنه التأثير السالب للنعمة، إنه الفتنة والابتلاء فقد ركبه الغرور بهذا النعيم وتخيل أنه معصوم من عاقبة عصيانه، وهكذا راح يمارس العنف مع الناس فحكمهم بالجبروت والديكتاتورية والبطش والإرهاب الحقيقي وأذاقهم من صنوف الذل والهوان ما لم يذقه بشر فكان طاغية بكل ما تعنيه الكلمة من طغيان وحيث يسود الظلم واللاعدالة .. بل أن الشاعر يؤكد أنه لم يعرف أبداً العدل بل لا يملك أداته وهو (الميزان) أي ميزان العدل ...
وتستوقفنا هذه الجملة التي تنطوي على حكمة وفلسفة رائعة أثارها الشاعر وهي (ميزان العدل) فما هو هذا الميزان؟ لقد اعتدنا تداول هذه الكلمة واعتدنا رؤية منظر (الميزان) مرسوماً في قاعة المحكمة بل هو شعارها المرسوم على مبناها الخارجي باعتبار الميزان رمز العدل والعدالة ... فهل العدالة توزن بميزان حقيقي ؟ قد يقول قائل : لا ..... وقد يقول آخر: نعم ... هي نحن نذهب للقاضي ونسأله: كيلو أو اثنين أو عشرة عدالة ؟؟
وهل نفاصل أو نساوم أو نطمع في (طبَّة ميزان) لأن الميزان لم ترجح كفته.
إنها كلها عبارات نتداولها فماذا قصد الشاعر العظيم بها ؟ لقد قرب لنا الصورة ببساطة شديدة لتتناسب مع أقوالنا وأمثالنا ... لكنها تنطوي على فلسفة عميقة ... فلسفة (العدل) الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى (جل وعلا)....
فما ميزان العدالة .. ومعيارها؟ ماذا يعني هذا الرمز المرسوم فوق رؤوس القضاة وفوق جدار المحكمة ... إنه الميزان الإلهي والمعيار القويم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(فصلت:42).
إنه القرآن الكريم .. دستور شريعتنا السمحاء هذا هو حكم من قبلنا ومن بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ... وبالتالي فعندما يخبرنا الشاعر بأن قارون لم يكن لديه ميزان للعدل في قوله( والعدل عنده مالوهشي ميزان) معنى ذلك أنه لم يعرف العدل أصلاً كقيمة ولم يحكم بالعدل ولم يفكر به لأنه قد افتقد معياريته ودستوره وقد كان قومه دستور قومه (التوراة) التي نُزلت على موسى لكن غاب العدل والعدالة وموازينها ودستورها وبالتالي فإن النتيجة المنطقية لهذه المعطيات هو الإرهاب والبطش والطغيان والظلم و ...الخ، لكن عدالة الله وموازين الله لا تخيب أبداً يقول تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(103).
لكن هذا كان حكم قارون في شعبه، ويستمر الشاعر في الوصف:
داءالغرور في القلب عماه ....
نسى ان فيه موجود حنان ...

وشله م الحاقدين وياه ....
من المرائين في الأوطان ....

والمحرومين بيقاسوا بلاه ....
والمظلومين ماليين لاركان ....

عايش مع اللي معاه في هواه ....
يلبس حرير بقصب مزدان ....

دور بطانة الحاكم:
يشير الشاعر إلى دور (الصحبة) في حياة الطاغية أو كما نطلق عليهم الحاشية أو (شلة المنتفعين)، إنهم وزراؤه وأصفياؤه ومستشاروه ورجال الحكم معه وحوله من المنافقين المرائين الحاقدين الذين يزينون له الباطل فيزيد عمى فوق عماه:  فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(الحج: من الآية46).
ونلاحظ أن الشاعر قد عمم القول في الشطر الثاني (من المرائين في الأوطان) ولم يختص به قوم قارون، فلماذا؟ إن الشاعر يؤكد دور هؤلاء حول الحكام في كل زمان ومكان، إنهم يلعبون نفس الدور منذ الأزل ويساهمون في الطغيان وفساد الأحوال في البلاد مما ينعكس بالتالي على الشعب وعلى المحكومين تحت راية الحاكم بأمره (الطاغية) فيذوقون منه ألوان الذل والهوان ويقاسون الفقر والحرمان ويعانون من الظلم ... ويشير ضمنياً إلى (وزيره هامان) هذا الذي كان صنوه وكان يشجعه على كل المصائب وارتكاب كل الآثام والرذائل ...
إن هامان وجنود من آل فرعون قد ورد ذكرهم صراحة في القرآن لا كما استلهمها الشاعر:  إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (القصص: من الآية8).
وينتقل الشاعر إلى الأبيات التالية فيقول:
والدنيا أكبر شيء لهياه ....
وكأنه عايش في البستان ....

ولما حسوا الناس ببلاه ....
وكل يوم بيزيد خسران ....

نصحوه بأن المال له زكاه ....
ويلزمه شيء م الإحسان ....

والمال ما يعمى القلب سواه ....
وكله زايل ماله آمان ....

لقد حان دور النصح للحكام اللاهين عن الدين بالدنيا وترفها، وقد اطمأنوا وركنوا إلى نعيمها، هكذا لفتوا نظره إلى أهمية (الزكاة) وضرورة وجوبها على هذا المال للفقراء والمحتاجين. فالزكاة واجبة وفرض مفروض في كل الأديان لتحقيق بعض العدالة الاجتماعية بالإحسان إلى الفقراء والمحرومين واليتامى والمساكين كما ورد في القرآن:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة:60).
إن النصيحة لقارون ومن معه تؤكد زوال المال الذي يعمى القلب ويطبع عليه، وأن الإنسان لن يأخذ من ماله شيئاً في قبره، وحيث لا ينفع المال ولا البنون ولا كل ذهب العالم وياقوته وماسه ومجوهراته ... إلا من أتى الله بقلب سليم، والقلب السليم هو الصحيح المعافى من أمراض القلب الحقيقية، إنها ليست ضيق الشريان أو ضيق الصمام أو الجلطة .. الخ، إنما هي الحقد والغل والحسد والغرور ... الخ
تلك أمراض القلب الحقيقية التي تعمي القلوب، والقلب محل البصيرة كما أشار إليه الرسول() قائلاً لأصحابه: التقوى هاهنا .. التقوى هاهنا..
وهكذا قام المصلحون بدورهم تجاه قارون فلم ينتصح، وجاء دور موسى عليه السلام، في الدعوة فماذا حدث؟ يقول الشاعر:-
(موسى) الأمين بالشده نهاه ....
خضع (قارون) للحق ولان ....

لكن (قارون) عاش المعاناه ....
فكر في كسوة كام غلبان ....

حسب نصابها من رجع أخفاه ....
وشح ماله عن الإنسان ....

وأذاع ما بين الناس دعواه ....
بأن (موسى) ضعيف الشان ....

وبالفتن والفسق هجاه ....
لكن الإله كشف البهتان ....

(موسى) دعى ربه ومولاه ....
يريح الناس والأوطان ....

رَيَّح يارب الكون رعاياه ....
من افتراه بين العمران ....

حقق إلهي لـ (موسى) رجاه ....
وجعله عبره لكل جبان ....


القوة والأمانة في الدعوة إلى الله:
لقد استلهم الشاعر من القرآن صفات موسى عليه السلام كما وصفته بنات شعيب عليه السلام عندما استسقى لهما الماء (في القصة المعروفة) وأراد أبوهما أن يجزيه خيراً عن أخلاقه الكريمة وإحسانه ومروءته وشهامته مع ابنتيهقَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ (القصص:26).
فقد كان من صفات موسى القوة والأمانة معاً، لذا فقد استغل هاتين الصفتين في الدعوة إلى الله، فالقوة في الدعوة تتمثل في حسم الأمور وعدم ترددها وذبذبتها بين هذا وذاك، والأمانة هي أمانة الرسالة التي يحملها وهي رسالة الخير والحق والفضيلة والعدل والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة...
وفكر قارون بداية فيما عرضه عليه موسى وفكر في إكرام وكسوة بعض الفقراء والمحتاجين لكنه خشي على ماله وثروته من التبديد والضياع فبخل به ولم يخرج الزكاة والنصاب المعلوم عندما حسبه وجده كبيراً نظراً لعظم ثروته، ولو كان وزعها كما أمره الله على لسان موسى في دعوته لارتفع شأن الفقراء في دولته وأثروا لذا فقد خاف على أمواله وعلى ملكه وسلطانه وصولجانه، فرفض دعوة موسى بل وراح يشيع عنه بالسوء والباطل ويردد حوله الإشاعات والادعاءات الباطلة ويرميه بالفتن والفسق والظلم، لكن الله كشف كل الزيف وأبرأ موسى مما نسب إليه.
وقد استجاب الله – سبحانه وتعالى - العزيز المنتقم الجبار – لدعوة موسى عليه السلام، ويؤصل الشاعر لهذه الواقعة مستلهماً إياها من القرآن في أبياته الأخيرة ليؤكد حصاد الظلم والشر:
خسف (قارون) في الأرض طواه ....
عبره وتاريخ ولكل زمان ....

وان كان (قارون) في حياتنا عُتاه(1)....
موجود إله واحد حنان ...

وان عاش (قارون) في زمناً وتاه ....
مصير (قارون) .. أقوى وكمان ...

يا كل قارون في الأوطان ....
أصل الحياة مالها شي(2) أمان ....

فماذا كان مصيره ؟
لقد خسف الله الأرض بهم جميعاً، وأغرقه هو وجنوده وكنوزه في البحر، لقد ماتوا شر ميته وغرقوا وقتلوا شر قتلة جزاء بما قدمت أيديهم لأن الله لا يحب الظالمين، ولا يحب كل معتد أثيم.
إن الشاعر ينادي نداءً أخيراً كل جبابرة هذا الزمان كل الملوك الطغاة كل من يظلم ويبطش ويتكبر على شعبه كل من ينهب شعبه ولا يحقق عدالة الله على أرضه..
إن الشاعر ينادي كل من يتخذ (قارون) قدوة له ورمزاً ويسير على نهجه ... إنه يناديهم جميعاً؛ إن لكم في قارون عبرة يا أولي الألباب لو كنتم تعقلون؟
فأين ذهب قارون وأتباعه وكنوزه ؟ أين ذهب هامان وجنوده وكنوزه؟ أين ذهب كل هؤلاء ؟ وأين ذهب كل شيء ؟
إنها النهاية الحتمية لكل من لا يؤمن بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر ... ولكل من لا يسعى لتحقيق العدالة والأمان والسلام على أرضه ... ولكل حاكم لا يدعو بدعوة الأنبياء فاللهم انصرنا على القوم الظالمين، وارحم اللهم البحراوي شاعر وزجال الأدب الإسلامي الهادي.
تسابيح لرب الكون:
كتب البحراوي – يرحمه الله – في قسم آخر من ديون (بستان الورد) بعنوان "الأغنيات والمنولوجات"، وحين نطالع أول أغنية أو (مونولوج) كما أشار العنوان نكتشف أنها تجليات صوفية فتأتي القصيدة الأولى بعنوان (يا رب الكون تسابيح 1971) والتالية (مدد يا رب – تسابيح) ثم تتوالى القصائد التالية متنوعة ما بين الوطني والحماسي والمسرحي الاجتماعي وكلها تنطوي على قيم الأدب الإسلامي ولا تشذ عنه حتى الناقدة منها التي تتناول بعض مواقف حياتية وحتى الساخرة كذلك.
إن هذا يمنحنا دلالة واضحة على المرجعية الإسلامية للشاعر التي تشربها وامتزجت بروحه وبدمه وبكيانه فانعكست على كل أجناس كتاباته...
فها هو قسم "الأغنيات والمنولوجات" حي نطالعه نكتشف أنها كلها دينية بل مغرقة في التجليات الصوفية .. فماذا أراد الشاعر أن يقول؟ ما فلسفته في الحياة ..؟ ما أهدافه التي سعى إليها ...؟
إنه هدف إلى شيء واحد واضح هو (الدعوة إلى الله) بكل الوسائل والطرق الحياتية المشروعة والمطروقة من قبل الناس، إنه يقدم أغنية لكنها ليست كالأغنيات الهزلية الهابطة المتعارف عليها وما يدعونها بالأغاني الشبابية وألبوم فلان وعلان وترتان ممن أفسدوا أخلاق الشباب وشجعوا على الرذيلة وانتشار الانحلال الخلقي ...
إن البحراوي قدم الأغنية الدينية والمونولوج الديني والوطني الهادف البَنَّاء الذي يرتفع بمستوى القيم والروح والأخلاق ويسمو بالوجدان وينزع به نحو تجليات روحية تنشد الحياة الآخرة الفُضلى مثوى ومأوى وغاية ...
والآن فلنتجول معاً عبر أغنيات الشاعر الصوفي أو تسابيحه كما أطلق عليها ولقد رأينا ضرورة إضافتها نظراً لما تنطوي عليه من "أدب إسلامي" سواء في عناوينها أو مضامينها.
27- تسابيح .. يارب الكون
وقد كتبها الشاعر عام 1971م أي عندما كان في السابعة والثلاثين من عمره .. في عز الشباب .. ماذا يعني هذا ؟ يعني إنه شاب ورع وتقي أطاع الله ورسوله() فكتب في حبهما، وألهمه الله وأجرى على لسانه تسبيحه وذكره فانطلقت القريحة عبر هذه الأجواء الروحية، هاهو البحراوي يقول:
يا رب الكون عظيم العون ....
ولك فينا حكم وشئون ....

وللعالم عظيم وحنون ....
أنا شاكر ولك مديون ....

يــــارب الكــــون
وفيضك ع الجميع عامم ....
كريم معطاء ....

وخير فايض لنا دايم ....
بكل سخاء ....

يــــارب الكــــون
عظمة الله:
يشير الشاعر إلى "عظمة الله" عز وجل هذه العظمة التي تتجلى لنا في (العون) الذي يهبه إيانا وفي حكمته التي يسير بها خلقه ولا يعلمها إلا هو وحده سبحانه وتعالى.
إنها تتجلى أيضاً في حنانه العظيم وفي فيوضه ونِعَمِهِ على كل العالمين وفي كرمه وخيره الدائم، لذلك يتوجه الشاعر نحوه بكل الشكر والعرفان ويستشعر الدَيْنَ في نفسه للواحد الأحد الديان حيث يدين الجميع إليه بأفضاله الجمة عليهم والتي لا تُحصى ....
إن الشاعر يشعر بالتيه والفخر والدهشة من كثرة نعم الله وأفضاله عليه وعلى العالمين جميعاً، فيشعر بعظمة الخالق حين يتأملها ويتوه فيها فهي سخاء بلا حساب. ويستكمل الشاعر:
شويه أني أكون شاكر ....
على الإحسان ....

شويه أني أكون ذاكر ....
بألف لسان ....

يــــارب الكــــون
إلهي وحدك القادر ....
كريم تواب ....

وع العاصيِ كريم ساتر ....
ولك أبواب ....

يــــارب الكــــون
الشعور بضآلتنا إلى كرم الله:
هنا يشير الشاعر إلى منتهى تضاؤل الشكر لله مهما بذل العبد فيه، ويتخيل لو كان له ألف لسان يذكر الله به فإنه لا يساوي شيئاً مقارنة بنعم الله وفضله علينا.
فهو وحده القادر على كل شيء وحيث لا قدرة إلا به، وكما يقال في الحديث القدسي (أسأل الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
فالله ( عز وجل ) هو أكرم الأكرمين جميعاً وهو التواب أي كثير التوب على عباده من العاصين وهو الساتر عيوبهم وزلاتهم وله ألف ألف باب للرحمة بعد ذلك، فإن تابوا و أصلحوا فإن الله يتوب عليهم ويغفر لهم، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً(مريم:60).
ويستكمل الشاعر تسبيحه وأذكاره وتهجداته فينشد:
مَفَتَّحَهَا يا رب الكل ....
على عبادك كريم ع الكل ....

وخيرك على الجميع بيطل ....
وفينا كل شيء بيدل ....

يــــارب الكــــون

مِفَتَّحْهَا بدون مفتاح ....
ووحدك للجميع فَتاَّح ....

بايدك باسط الأرواح ....
بكل فلاح مساء وصباح ....

يــــارب الكــــون
بين الفتاح وعبد الفتاح:
إنها ليست مفارقة أن يكون اسم الشاعر (عبد الفتاح) بل هي مفارقة في ذات الوقت. فإن عبد الفتاح (الشاعر) يدين للفتَّاح وحده وهو الله عز وجل حيث بإرادته يفتح على الكل، إن عبد الفتاح يستشعر (فتح الله) عليه ويدين له تماماً في خشوع عابد صوفي.
إن الشاعر لم يزل مأخوذاً مدهوشاً بكل عطايا الله وهباته ونعمه وأفضاله وكرمه على جميع العباد.
إن الله لا يفتح على عبد دون آخر، ولكنها تتفاوت في الدرجات ونسب توزيعها وفي النهاية إنها عدالة السماء التي يعلم مقدارها الله وحده سبحانه وتعالى.
إن شاعرنا (عبد الفتاح) يستقي معنى (الفتح العظيم) من كونه عبداً ينتسب اسمه لله عز وجل في أحد أسمائه الحُسنى (الفتاح – العليم)، ويخبرنا بأنه إنما يفتح على الجميع وبدون حاجة إلى مفاتيح، إنه الذي يبسط الروح صباح مساء وفي هذا يستلهم الشاعر من الآيات القرآنية: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(فاطر:2). وأيضاً: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) (الفتح).
ويستكمل الشاعر منشداً ذاكراً في تسابيحه:
ولما العاصي يلجأ لك ....
كريم وياه ....

تعــزه لمــا يــند هلك....
وتبقى معاه ....

يــــارب الكــــون
وتغفر له الذنوب يا رب....
تبدلها له بالحسنات ....

ويحظى بالنعيم والقرب ....
ينول الخير مع البركات ....

يــــارب الكــــون
الله غافر الذنب وقابل التوبة:
يشير الشاعر في مناجاته إلى كرم الله في غفرانه ذنوب العاصين وكيف تتجلى عظمة الله عز وجل في قدرته على الغفران للدرجة التي يعتز فيها الله بعباده الذين يلجأون إليه فيغفر لهم ويساعدهم (وتبقى معاه) إن الفرق بين تسامح الله مع البشر وتوبته عليهم وبين تسامح البشر فيما بينهم (وحيث لا تستوجب المقارنة): أن الإنسان حين يسامح أخاه مثلاً فإنه قد يذكره بما فعل معه من أخطاء أي (يُقطَّمُه) كما نقول، وإذا لم يفعل فإنه قد يَمُنُّ عليه بهذا التسامح في موقف آخر ويذكره به وقد يعاتبه ويزيد في العتاب واللوم والذل حتى يسامحه .. وليس كل البشر بقادرين على سلوك (التسامح)، ويفعلونه بدرجات تختلف فيما بينهم وبين بعضهم فمنهم من يسامح ويعفو بسرعة وهو ما يقال عنه إنه إنسان كريم ومبدؤه(العفو عند المقدرة) ومنهم من لا يستطيع النسيان أو التسامح لقصور في شخصه وعجز في وجدانه، لأن المتسامح إنسان كريم لأن التسامح من صفات الله عز وجل وهو إنسان قوي وليس عاجزاً أو ضعيفاً يتسامح في حقه بل هو إنسان كريم وشهم ونبيل وقوي ومحب لله … هذا بالنسبة للإنسان ..
أما بالنسبة لله فإن تسامحه مع عباده تسامح مقرون بالقدرة الهائلة على الرفض والبطش والإذلال، لكن الله الرحيم الحنون المنان الفتاح لا يفعل ذلك مع العباد إن الشاعر أشار بكلمة واعية ورائعة إلى موقف الله من عباده العاصين الذين يتوبون فقال عنهم:
ولما العاصي يلجأ لك ....
كريم وياه ....

(تِعِزُّه) لما يندهلك ....
وتبقى معاه ....

إن كلمة (تِعِزُّه) لا يقدر عليها إلا العزيز الكريم حقاً ... فكيف يسيء الإنسان مثلاً إلى آخر وعندما يعتذر إليه قد يقبل اعتذاره أو لا يقبل أو تسول له نفسه أن يُذِلَّه أو حتى يقول عنه للآخرين بنوع من الشماته (لقد جاءني واعتذر ورجله فوق (رقبته) ويصير الأمر مدعاة للتباهي والتعالي والسخرية..
لكن الله المنزه عن الخلق أجمعين يسمح لعباده العاصين بالتوبة، ويفتح لهم طريقها ويدلهم على وسائلها فإن نادى أحد العاصين الله وجد الله فاتحاً له بابه ومتظراً له بفرح ومعتزاً به سعيداً بتوبته بل ويؤيده ... إنه القادر وحده على كل شيء إنه يغفر له الذنوب ويبدلها له بالحسنات ويحظى بنعيم الله وقربه منه وفي هذا ينال كل الخير والبركة .. وإن فَتَحَ الله على عبده بخيره وبركته ناله الخير كله وبارك له في كل ما أعطاه لأنه الله الواحد الأحد الفرد الصمد لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير... ويستمر الشاعر في نشيده وتسابيحه وذكره الله:
ووحدك يا كريم متعال ....
عليك دايماً صلاح الحال ....

رضاك للمؤمنين رِسْمال(1) ....
يفوق الكنز والأموال ....

يــــارب الكــــون
ووحدك يا إله قادر ....
غفور ورحيم ....

إلهي الباطن الظاهر ....
كريم وحكيم ....

يــــارب الكــــون
الغني الحقيقي:
يثير الشاعر قيمة (الكرم الإلهي) الذي يتمثل في إصلاح أحوال عباده، ويثير أيضاً قيمة (الغنى الحقيقي) الذي يكمن في رضاء الله على عباده من المؤمنين، هذا الرضا الذي يفوق آلاف الكنوز وأموال الدنيا ....
فأي غنى للعبد إذا افتقر إلى رضا الله ؟ وكيف يكون غنى العبد ؟ يكون بأن يكسب نفسه حتى ولو خسر كل الآخرين ؟ وكما تقول الحكمة: ماذا لو كسبت العالم وخسرت نفسي..!
وكسب النفس لا يكون إلا برضا الله عنها وحيث تقول الحكمة أيضاً "إن الغنى غنياً؟ النفس" و"إن الفقر فقر الروح" وكم من أثرياء معدمين وكم من معدم عند الله غنياً؟ والقيم نسبية كما يثيرها الشاعر والمعيار الحقيقي للحكم عليها هو رضا الله عن العبد أو العكس.
ويستلهم الشاعر من أسماء الله الحسنى فيؤصل لها عبر الأبيات كما ورد بالآيات:
هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الحديد:3).
ويختم الشاعر تسابيحه اللانهائية في ملكوت الله سبحانه وتعالى حيث يهيم في حبه ويتجلى روعة عند الإنشاد:
يا رب الكون....
أنا قاصدك رحيم غفار ....

عظيم وحنون ....
وملء الدنيا والأبصار ....

لنا بتصون ....
ومانع عننا الأخطار ....

ومنك العون ....
كريم يا رب يا ستار ....

وفينا شئون ....
بتحكي إنك القهار ....

أنا ممنون ....
وراجي اللطف في الأقدار ....

تواشيح صوفية:
إن هذا الإنشاد الصوفي الرائع وهذه التواشيح الدينية تشعرنا بهيام الشاعر (العبد لله )في حب الله والتغني بصفاته وأسمائه الحسنى .. إنه يقصده ليرحمه ويغفر له وهو واثق في عظمته وحنانه الذي بلا حدود فهو ملء الدنيا والأبصار وهو الذي يصوننا ويحمينا من الأخطار وهو الذي يعيننا ويكرمنا بالستر وهو أيضاً القهار إذا غضب.
إن الشاعر يعود ليؤكد امتنانه لكل ما هو من عند الله ويستلهم من الدعاء (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه) فلنردد معاً دعاء الشاعر وتجلياته لعل الله يرحمنا وهو أرحم الراحمين.
28مدد يا رب (تسابيح)
في هذا الإنشاد أيضاً نستشعر ابتهالات الشاعر الصوفية ويأخذنا إنشاده إلى الموشحات الدينية وإلى الهيام في جولات مشايخ الطرق، إننا رغماً عنا عندما ننشد هذه الأبيات ونلحنها نستشعر تجلي الروح لخالقها فتهيم في دنيا الله وملكوت الله وتسبح بعيداً عن عالم البشر وحيث يستشعر المرء خفة روحه تخف وتخف وتشف وتشف حتى لا يدرك من حوله ولا يدري بهم مثلما يفعل "مؤدي التنورة" في حلقات الذكر فينفصل عن الواقع حوله وتستشعره يكاد يطير في خفة ورشاقة..إنه المدد الذي يتغنى به الشاعر، مدد من الله وفيض من الكريم الفياض به على عباده، وهكذا ينشدنا الشاعر في طقس من الموشحات الصوفية ونستشعر صوتاً عذباً جميلاً رخيماً يأخذنا لنسبح بعيداً بعيداً لا ندري لأين وإلام هذه السباحة الروحية فنعيش معه هذا الأداء الأخاذ..
كريم ... يا رب يا واحد .... قدير ستار



للتحدي .. للمجنون ....

لِوحدك ... بس نا القاصد .... أحد قهار

عظمتك .. لك .. أنا العابد .... لك الأقدار

يا رب العزة يا مادد ... مدد جبار

عظيم والعظمه بتغطي... جميع الناس

وسبحانك سخي مُعطي .... عطاء بأساس

وبالسَنْتي(1) .. وبالمللي .... وبالإحساس

وكافيني .. منجيني .... من الوسواس

يشير الشاعر في تواشيحه إلى معظم الأسماء الحسنى التي وردت في الذكر الحكيم فهو الله الكريم، القدير، الستار، العظيم، الجبار، العاطي، المنجي...الخ
كل هذه الأسماء وردت في الأبيات السابقة، وكل معنى يستمد من الاسم قوته وجبروته لأنه ينتمي إلى الله وقدرته سبحانه وتعالى، وتستمد القصيدة قوتها في ذات الوقت ولما تنطوي عليه من استلهام لصفات الله الحسنى.
لذا فإن شاعرنا البحراوي إنما يطلب المدد والعون من صاحب كل هذه الصفات والأسماء العُلا، لأن مدد الله هو مدد الخير بلا حساب، وقوة وجبروت لا ينبغي لغير الله .... ومن يمنحه الله القوة فلا غالب له كما في الآية الكريمة: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ (آل عمران: من الآية160).
العدالة الإلهية:
ويؤكد الشاعر قيمة "العدالة الإلهية" وحيث الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما ورد في الذكر الحكيم، وهو العادل بالقسطاس المستقيم، ونلاحظ استخدام الشاعر مفردات المقاييس المعروفة لنا والشائعة الاستخدام موظفاً إياها بالنص لتقريب الصورة للأذهان وحيث تقول العامة في أمثالها لوصف دقة أمر من الأمور (بأنه بالسنتي وبالمللي) أي مضبوط ضبطاً دقيقاً ومحكماً، والسنتي يعني السنتيمتر وهو وحدة قياس الأطوال كما نعلم، فالمتر يساوي 100سم، والسنتيمتر يساوي 10مم (ملليمتر). وهو كناية عن منتهى الصِغر والدقة في الحسابات.
إنه استلهام من المأثور الشعبي السائر وتوظيفه لتقريب الصورة للأذهان وحيث عدالة الله محسوبة بأقصى دقة ينبغي لها أو كما نتصور في مقاييسنا، أن الله عادل بين عباده ليس على مستوى توزيع المال والأولاد والصحة والأرزاق لكنه في كل شيء حتى على مستوى نعمة الإحساس، وهذه نعمة قد لا يدركها البعض ...
بعض الناس شديدو الحساسية، مرهفو المشاعر وبعضهم يقال عنهم (باردين، أو جبلات) أي لا يؤثر فيهم شيء ويقال عنهم قساة أو جامدو القلوب ...
إن الإحساس نعمة من نعم الله عز وجل التي أشار إليها البحراوي وهو يحدثنا عن عدالة الله، وأيضاَ وفي قوله (وكافيني منجيني .. من الوسواس ).
يستلهم الآيات الكريمة في سورة الناس قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6) (سورة الناس).
وهكذا يستمر الشاعر الصوفي في تجلياته ودعوته لله منشداً:
مدد يا رب بنقولها ....
سوا ع الدرب ....

وبنعيش الرجا فـ قولها ....
وكل الحب ....

صلاتي ونُسكي أزجلها ....
يضيع الذنب ....

صلاتي وكل مدلولها ....
حبيب القلب ....

إنه لم يزل ينشد المدد من الله ويؤكد أنه يكرر دعاءه بهذا الطلب والرجاء دائماً ومتجدداً وبكل الحب، وإنما كل أزجاله يستوحيها من الصلاة ومناسك العبادة حتى يمحو الله بها ذنوبه، إن كل معاناة الشاعر وشعوره وأشعاره إنما يستمده من حب رسول
الله().
نلاحظ استلهام الشاعر الكلمات من القرآن ففي قوله (صلاتي ونُسكي) إنما مستوحى من الآيات: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(الأنعام:162).
ونستكمل إنشاد الشاعر وتواشيحه الصوفية:
إلهي طلبي للغالي ....
وسيلة الله ....

لأعلى نور لنا يلالي ....
ربيع وحياه ....

بعفوك مش بأعمالي ....
أكون في نجاه ....

نجاه مع رؤية العالي ....
أفوز برضاه ....

إنه يدعو الله بداية بطلب الوسيلة للغالي وهو رسول الله() هذه التي دائماً ما يدعو بها له في الدعاء المأثور عقب كل آذان(اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد).
لأن محمد() هو أعلى الأنوار وهو بمثابة الربيع بين كل الفصول ومعنى الحياة التي يعيشها الإنسان في هذه الأنوار المحمدية ..
يعود الشاعر ليؤكد أنه يطلب النجاة من الله "بعفو الله" و"برحمته" وليس "بأعماله" وأنه يرجو بهذه النجاة رؤية الله سبحانه وتعالى حيث يفوز بكل الرضا وبالنعيم الحقيقي.
ويستكمل الشاعر في ختام هذا الموشح الصوفي:
مدد م. الله وفي الدنيا ....
تحوش معاناه ....

مدد م. الله وفـ الثانيه ....
أعيش في الجاه ....

أعيش مددك ....
عظيم يا رب ....

أنا بمددك ....
يزيد الحب .....

يؤكد الشاعر في النهاية أن مدد الله وحده في الدنيا هو الحصن الذي يمنع معاناة العبد ويصد عنه أي عذاب، هذا المدد من الله يعينه ويقويه في الدنيا وهي الحياة الأولى أما (في الثانية) وهي الآخرة فسوف ينعم بالجاه والرفاهية والنعيم لأنه قد نعم بالمدد في الأولى الذي ساعده وأيده ونصره وهيأه للآخره وفي الختام يطلب ويرجو المدد العظيم من الله .. لأنه بهذا المدد وحده سوف يزيد حبه لله وحب الله له ..
لقد تركها لنا الشاعر قضية مفتوحة (يزيد الحب) لنسأل أي حب؟ أنه الحب المطلق والأزلي واللانهائي والحقيقي والدائم لله عز وجل باعث المدد لنا .... فاللهم أَمِدَّنا وأَمدَّه برحمتك وعفوك وغفرانك واسكنه فسيح جناتك. إنك على كل شيء قدير سبحانك مجيب الدعاء آت يا فتاح عبد الفتاح المدد الذي رجاه عندك. إنك لا تخلف الميعاد، واللهم يا مجمع العباد إلى يوم لا ريب فيه اللهم اجمعنا بمن تحب على ما تحبه وترضاه واحشرنا يوم القيامة في زمرة المحبين الواصلين بنور الله.









الفصل الثالث
الملخص والنتائج والتوصيات














































* ملخص الدراسة – نتائجها:
ها نحن أخيراً قد وصلنا لنهاية المطاف، وإن كانت نهاية البداية أو البداية حيث اللامنتهى للدعوة الإسلامية المستمرة على طول الزمان والمكان وبعمق تاريخ الأجيال يمكن تلخيص كل ما سبق فيما يلي:-
1- أن الشاعر الزجال عبد الفتاح البحراوي يعتبر أحد دعاة الدعوة الإسلامية في التاريخ المعاصر في حقبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.
2- أن وسيلته للدعوة برزت أكثر عبر أشعاره العامية (أزجاله) في الندوات الأدبية واللقاءات الثقافية، واجتماعاته بأصدقائه وزملائه.
3- ينتمي عبد الفتاح البحراوي (يرحمه الله) إلى الأدباء الإسلاميين ولا يمكن أن يُحسب على أي تيار أدبي آخر رغم كتاباته المتنوعة في المجال النقدي والوطني والاجتماعي، لأنه يستلهم أفكاره دائماً من الشريعة الإسلامية وتعد المرجع الأساسي لأحكامه عبر (القرآن الكريم والسنة المطهرة).
4- أسس البحراوي عبر أزجاله مجموعة من القيم الإسلامية والإيمانية:
• الإسلامية مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (التوحيد، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وإيتاء الزكاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
• الإيمانية مثل: الإيمان بالله، واليوم الآخر (البعث والحساب)، والكتب السماوية، والرسل، والملائكة، والأقدار خيرها وشرها،.
5- أسس البحراوي عبر أزجاله مجموعة من القيم الدينية الاجتماعية: مثل: العمل وإتقانه، العدالة الإلهية والاجتماعية، الشرف، الأمانه، الصدق في القول، السلام، التسامح، القدوة الحسنة، الجمال، النظافة، النظام، الكرم، فعل الخير، الحب، الأصالة، الوفاء بالوعد أو بالعهد، المسؤولية التضامنية والرعاية الأبوية والأمومية، عدم الرشوة، إعطاء كل ذي حق حقه عبر العدالة الاجتماعية، الكرم، البر بالوالدين، العطف على اليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل، التسامح بين الأديان
حيث الدين لله والوطن للجميع، وحُسن معاملة أهل الكتاب كما أوصانا الرسول الكريم()، الصداقة النبيلة الهدف والمقصد، تقوى الله في كل قول وعمل وهذا خلاصة القول.
6- أسس البحراوي لمجموعة من القيم المعرفية مثل السعي للمعرفة وضرورة القراءة وحوار الحوارات والإقناع بالحجة العلمية والمنهجية مع الآخر الذي يخالفنا في الديانة والانفتاح على الثقافات الأخرى بما يتناسب مع الثقافة العربية والديانة الإسلامية.
7- زرع البحراوي حباً فحصده حباً سواء في حياته أو في مماته، امتد هذا الحب لا ليشمل أسرته فقط بل لأهله وجيرانه وأصدقائه ومحبيه، ونلاحظ هذا الحصاد في المظاهر التالية:
• إحياء أولاده وخاصة ابنه أحمد البحراوي لذكراه السنوية ولم ينقطع حتى الآن وقد أخذ عهداً على نفسه بألا ينقطع ذلك العمل أبداً حيث يُتلى القرآن الكريم وحيث يأتي الأهل والأصدقاء يجتمعون اجتماعاً دينياً وثقافياً وأدبياً لإلقاء قصائدهم وما تيسر لهم من الجديد في المجالات الأدبية والوطنية والدينية.
• تكوين جمعية أحباء البحراوي وحيث تقدم خدمات متنوعة لمستحقيها مادياً وعلى مستوى النشر والإبداع الثقافي الجاد الأدبي الملتزم بالقرآن والسنة المحمدية.
• إجراء مسابقة البحراوي الدينية الثقافية لتشجيع المواهب الشابة في مجال حفظ القرآن الكريم والمجالات الأخرى البحثية وهي خاضعة لشروط واعتبارات دينية وعلمية ويشرف عليها لجنة متخصصة من المحكمين الشرفاء حتى يتم توزيع الجوائز بعدالة لمستحقيها، وهي مسابقة رمضانية حيث تقام في شهر رمضان المعظم من كل عام.
• العودة للجذور دائماً حيث تقام أغلب الاحتفاليات والمسابقات على أرض مدينة ميت غمر (مدينة الشاعر وموطنه الأصلي) وهو تأكيد للمواطنة والانتماء والأصالة.
8- أثبت الداعية الشاعر الزجال الصوفي عبد الفتاح البحراوي أن عمل ابن آدم يمكن ألا ينقطع بعد موته، تأكيداً لحديث رسول الله() فها هو قد ترك خير ميراث وهو: العمل الصالح، والصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، والأبناء البررة الذين يدعون له في كل حين. فليرحم الله البحراوي ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء جزاءً بما قدم للإسلام والمسلمين.
* توصيات الدراسة:
1- هذه الدراسة تعد باكورة بحثية علمية للدراسات التحليلية للإنتاج الإبداعي الأدبي الإسلامي وتوصي الباحثة بأن المجال مفتوح للباحثين والأرض خصبة وعذراء صالحة للحرث فيها وفي إماطة اللثام عن الإبداعات الزجلية والعامية وغيرها مما لم يُلق الضوء عليه.
2- توصي الباحثة وتتعهد باستكمال الجزء الثاني والثالث من هذه الدراسة في المجال الاجتماعي والنقدي والوطني للمبدع الداعية عبد الفتاح البحراوي، وهذا وفاء لعهد قطعته مع البحراوي سابقاً ومع النجل الكريم أحمد لاحقاً.
3- تدعو الباحثة أبناء وأحفاد الأدباء الآخرين الذين ماتوا وانقطع ذكرهم من بعدهم بأن يحذوا حذو النجل البحراوي باعتباره (قدوة) في هذا المجال، وحيث نجد كثيراً من الأثرياء لا ينقصهم المال كقوة مهمة لدعم الإنتاج الأدبي ونشره لكن ينقصهم هذا البر وهذا الحماس وهذا التوجيه.....
ويذكرني موقف أحمد البحراوي بموقف الشاعرة الكريمة (كريمة ذكي مبارك) التي آلت على نفسها نشر ما لم ينشر لوالدها العلامة الدكاترة (ذكي مبارك) يرحمه الله، وحيث تقيم ذكراه السنوية في قريته بمحافظة المنوفية التابعة لمركز سنتريس وحيث تشجع المواهب على إجراء بحوث حول نتاج والدها الذي لم يمهله العمر لإكمال رسالته الأدبية الأصيلة..
وكذلك يذكرني موقف الشاعر أحمد البحراوي بموقف الشاعرة رشيدة تيمور في تبني مشروع ثقافي كبير إحياء لذكرى والدها تيمور باشا ورصد جوائز مادية تشجيعية سنوية.
ويحضرني في هذا المقام قول الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(الضحى:11) وأيضاً:  وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(الاسراء: من الآية24).
وأخيراً أتمنى من أبناء وأحفاد الأدباء والشعراء الذين عاجلهم الموت ولم يسعفهم القدر وفتح الله عليهم من سعة الرزق أن يحذو حذو هؤلاء الأبناء الكرام البررة مثل: رشيدة تيمور، وكريمة ذكي، وأحمد عبد الفتاح البحراوي.
لعل هذا الموقف يرضي أرواح الآباء ويرد بعض دين في عنق الأبناء ويرحم الله به الأموات والأحياء، إنه إحدى وسائل الدعوة وصلة الرحم بعد الموت التي أمر الله أن توصل ونشر الخير عن طريق القدوة الصالحة.
4- توصي الباحثة الجهات الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية إلقاء الضوء على مثل هذه الدراسات الدعوية الأدبية الإسلامية وأصحابها الذين قاموا بالدعوة وكشف النقاب عن وسائل مختلفة يمكن للمبدعين أن يتبنوها في نشر الدعوة الإسلامية عبر مناهج الأدب الإسلامي العظيم.
5- توصي الباحثة المنتديات الثقافية والأدبية والصالونات الأدبية الإسلامية بتبني مشروع إقامة ندوات خاصة دعوية عبر هذه الدراسات المتخصصة وألا يقتصر إحياء ذكرى هؤلاء الدعاة من الأدباء الإسلاميين على آل بيتهم فقط وإنما يجب مَدَّ جسور التعاون المشترك بين الجهات الرسمية والجهات الأهلية والمدنية للغوص في كنز تراث هؤلاء الذي لم يحظ تماماً بما يستحق من إجلاء ونشر لخدمة الدعوة الإسلامية (حيث بساطة المفاهيم، ويُسر اللغة، وسهولة النغم والإيقاع، وكثافة المعاني، وأهمية القيمالدينية والتربوية، وكلها يسهل توصيلها للعامة من الشعب الذين لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم يؤهلهم للوقوف على جذالة الفُصحى وعمق الثقافة، وحيث الخطاب الديني الدعوي يجب أن يكون ملائماً لمستوى ثقافة هؤلاء العامة كما كان يفعل الشيخ الشعراوي – ييرحمه الله – في تبسيط المفاهيم الدينية عند تفسيره للقرآن لمخاطبة الجماهير العريضة التي تتجاوز نسبة الأمية فيها 50% في العالم العربي، وحيث تتجلى أهمية مستوى لغة الخطاب الديني بالنسبة لهذه الفئة الغفيرة.
رحم الله الشعراوي والبحراوي وكل الدعاة المخلصين وأئمة المسلمين ونفعنا بعلمهم وتقواهم إلى يوم الدين وصَلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ... آمين يارب العالمين.
نسألكم الدعاء للمغفور له عبد الفتاح البحراوي وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة وأهالينا والمسلمين أجمعين.

والحمد لله رب العالمين أن وفقني لإتمام هذا العمل، وأن يجعله
في ميزان حسناتنا يوم الحساب الأعظم.

دكتــورة
أميمة منير جادو
عصر الجمعة 30 ربيع الأول 1427هـ
28 أبريل 2006م – 20 برمودة 1722

ملحوظة أخيرة:
تقول حكمة اليوم كما تطالعنا بها نتيجة الحائط:
( خير الكلام ما قل ودَلَّ )
(فاللهم أقل من كلامنا وأكثر من أفعالنا التي ترضيك).









أهم المراجع
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري، صحيح مسلم.
3- ابن حجر العسقلاني (773 – 852هـ) بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، تحقيق وتخريج عصام الدين الصبابطي، دار الحديث – القاهرة – ط1422هـ - 2001م.
4- رياض الصالحين للإمام النووي.
5- عبد الفتاح البحراوي (أديب الشعب): بستان الورد، (ط1، 1996/1997).
6- عبد الفتاح البحراوي (شاعر الشعب): كتاب البستان، مايو 2001م.
7- شاعر الشعب الذي تحدى السلطة: جماعة أحباء البحراوي، إعداد أحمد البحراوي، الجزء الثاني، ط1، مايو 2003م.
8- د. أميمة منير جادو: تربية الطفل في التراث الشعبي، دار عين للدراسات الإنسانية والاجتماعية القاهرة، 2004.
9- د. أميمة جادو: البرامج التربوية للطفل، دار المعارف، القاهرة 1989م.
10- د. عبد المنعم ماجد: الحضارة الإسلامية، النهضة العربية، القاهرة، 1995م.
11- د. أحمد شلبي: تاريخ الحضارة الإسلامية، القاهرة، 1980م.










الكاتبة فى سطور
* بيانات عامة:
• مواليد منوف – محافظة المنوفية – مصر فى 28 / 8 / 1956
• بكالوريوس علوم وتربية سنة 79 .
• دبلومة التربية الخاصة ( تخصص طفولة ومراهقة ) فى علم النفس , و( تاريخ تربية ) فى أصول التربية , 1980 .
• ماجستير فى " الإعلام التربوى " عن موضوع " القيم التربوية فى برامج الأطفال فى مصر " –1987 , تقدير " ممتاز "
• Toefl – من الجامعة الأمريكية سنة 1987 ( مستوى B ) .
• دكتوراه فى فلسفة التربية عن موضوع " تربية الطفل فى الفولكلور المصرى " ن معهد الدراسات والبحوث التربوية – جامعة القاهرة , 1998 , مع توصية بطبع الرسالة وتبادلها مع الجامعات .
• العمل 1 – دكتور باحث بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية – شعبة السياسات – قسم الإعلام والرأى العام . 2 – أستاذ مساعد الحضارة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية ورئيس القسم الإسلامى ( سابقًا )
صدر للكاتبة :
أولاً : كتب أطفال :
1 – حواديت جدتى من التراث الشعبى , دار يافا للدراسات والأبحاث , سنة 1991 .
2 – حكايات وحواديت شعبية , مكتبة المحبة , سنة 1992 .
3 – صياد من بلدى , مكتبة المحبة , سنة 1992 .
4 – أولاد بلدنا , مكتبة المحبة سنة 1992 .
5 – أعياد بلدنا , مكتبة المحبة , سنة 1992 .
6 – صناع بلدنا , مكتبة المحبة ,سنة 1992 .
7 – هدية لماما , مكتبة المحبة , 1992 .
8 – النافورة , مكتبة المحبة , سنة 1992 .
وبقية السلاسل تحت الطبع .
ثانيًا : كتب تربوية :
1 – البرامج التربوية للطفل , دار المعارف , القاهرة 1989 .
2 – تربية الطفل فى التراث الشعبى المصرى , عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية , القاهرة 2004 .
3 – العنف المدرسى ( بين الأسرة والمدرسة والإعلام ) , دار السحاب , القاهرة , 2005 .
ثالثًا : كتب أدبية :
1 – اعترافات عاشقة وراء الغزو الراقى , مجموعة قصصية , كتاب الأسراء الأول , 1995 .
2 – انتحار عاشقة ( وجدانيات ) كتاب الإسراء الثانى , 1996 .
3 – نبأ موت الشيخ الجليل ( إنها رؤيا من قبل ) كتاب الإسراء الثالث , 1998 .
4 – الطلاق واعترافات خاصة جدًا . مدبولى الصغير . 1993 .
5 – عاش فى وجدانى ( رواية من أدب الرسائل ) , مكتبة الآداب , القاهرة , 2002 .
6 – خنجر فى البراءة ( قصص ) مكتبة الآداب , القاهرة , 2003 .
رابعًا : جاهز وتحت الطبع :
1 – اغتيال أستاذة ( رواية تربوية ) – اتحاد الكتاب بمصر .
2 – لن أخون أبدًا ( رواية اجتماعية عاطفية ) مكتبة الآداب .
3 – ألف وجه ووجه للقمر – نصوص إبداعية .
4 – فراشة القمر والنورس الحزين ( عدة أجزاء ) نصوص إبداعية .
5 – حوار الريشة والقلم ( نصوص إبداعية ) , مشترك .
6 – يوم رحيل أبى – رواية .
7 – الأدب الإسلامى فى أزجال البحراوى – دراسة نقدية .
8 – الرحلة 3313 – رواية تربوية .
9 – العميدة وغيرها – قصص تربوية .
10 – سيكولوجية الإبداع عند إحسان عبد القدوس – رؤية نقدية .
11 – أرفض أن أعيش حلمًا – قصص .
12 – رؤى نقدية فى الإبداع ( المسرحى والسينمائى ) .
13- قراءات في أدب الأطفال " رؤية نقدية وتربوية "، يعقوب الشاروني نموذجاً.
( ومجموعة قصص وروايات ودراسات جارى إنجازها إن شاء الله )
خامسًا : الدراسات والبحوث المنشورة فى مؤتمرات علمية :
1 – التعليم ومستقبل التنمية البشرية فى الوطن العربى , وتغيرات نهاية القرن : منشور فى مجلد المؤتمر الأول للعلوم لتربوية والنفسية جامعة طنطا – كلية التربية بكفر الشيخ و مؤتمر التربية والتغير الاجتماعى فى مصر بين النظرية والتطبيق من 5 : 7 فبراير سنة 1994 .
2 – المضمون التربوى لمفهومات حقوق الطفل فى الثقافة الشعبية , ( دراسة وصفية تحليلة ) منشورة فى أعمال المؤتمر لعلمى الأول للمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية ( البحث التربوى فى مواجهة مشكلات التعليم قبل الجامعى – رؤية مستقبلية ) مايو 2000 .
3 – حقوق الطفل بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية , دراسة وصفية تحليلية لبعض عناصر الثقافة الشعبية , دراسة منشورة فى كل من
أ . مجلة الثقافة الشعبية – العدد الثانى – جامعة المنصورة – كلية الآداب سنة 1999 م .
ب . مجلة الحداثة اللبنانية ( فصيلة محكمة ) السنة السابعة , المجلد 24 , العدد 47 , 48 , ربيع 2000 , بيروت – لبنان , ص 196 .
4 – بعض القيم المتضمنة فى الأدب النسائى , كتابات غادة السمان ( نموذجًا ) دراسة فى تحليل المضمون , منشورة بمجلد مؤتمر ( تنمية المرأة العربية – الإشكاليات وآفاق المستقبل ) جامعة جنوب الوادى , والمركز العربى للتعليم ولتنمية ( أسد ) – فبراير 2001 م .
5 – اتجاهات منهجية البحث العلمى التربوى فى بحوث التربية الاجتماعية بالمجال المدرسى
( مشترك), دراسة منشورة بمجلد المؤتمر العلمى الثانى للمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية بالاشتراك مع مجلة التربية جامعة عين شمس ( رؤى مستقبلية للبحث التربوى ), إبريل سنة 2001.
6 – مشكلات التعليم قبل الجامعى كما تعكسه الصحافة المصرية دراسة فى تحليل المضمون , منشور ضمن بحوث شعبية تحليل السياسات , بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية , سنة 2001 .
7 – أزمة بطالة المتعلمين فى مصر سبل مواجهتها فى ضوء خبرات بعض الدول المتقدمة – دراسة وصفية تحليلية : منشورة فى مجلد لمؤتمر السنوى السابع ( إدارة الأزمة التعليمية فى مصر ) كلية التجارة – جامعة عين شمس , 26 أكتوبر 2002 .
8 – التنمية المهنية للمعلم فى ظل بعض التحديات المعاصرة , دراسة وصفية تحليلية , المؤتمر العلمى للمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية , سنة 2003 .
9 – المضمون التربوى لقصص الأطفال فى شعر أمير الشعراء ( أحمد شوقى ) منشور فى مجلة التربية الأخلاقية لألفية جديدة , 8 , 9 سبتمبر 2004 ,( المجلة السنة الثالثة , العدد الخامس , يناير 2005 )
10 – الخطاب لتربوى فى أدب الأطفال – فريد معوض نموذجًا . دراسة قدمت ضمن أعمال الندوة العلمية السنوية لقسم أصول التربية بكلية تربية كفر الشيخ جامعة طنطا , فى 16 إبريل 2005 .
11 – دور التربية المسرحية فى اكتشاف ورعاية الموهوبين , دراسة قدمت للمؤتمر العلمى الثالث للمركز القومى للبحوث لتربوية , سنة 2002 .
12 – التنشئة الاجتماعية فى الرواية العربية السورية اللبنانية , دراسة فى تحليل المضمون لرواية فسيفساء دمشقية لغادة السمان . قدمت لأعمال المؤتمر العلمى الثالث للمركز الحضارى لعلوم الإنسان والتراث الشعبى , كلية الآداب , جامعة المنصورة , 2002 م .
13 – التوجهات الاجتماعية والقومية فى الإبداع الأدبى للمرأة العربية – دراسة فى تحليل المضمون لبعض قصص غادة السمان , دراسة قدمت لمؤتمر ( المرأة فى علومنا الإنسانية , كلية الآداب – جامعة المنيا ) مارس 2001 .
14 – فنون القيلولة لدى الأطفال فى البيئة الزراعية المصرية , دراسة منشورة فى مجلة المأثورات الشعبية , عن مركز التراث الشعبى لمجلس التعاون لدول الخليج العرب , العدد 33 يناير 1994 , ص 83 – 91 .
15 – تسمية الأطفال فى الفلولكلور المصرى : دراسة منشورة بمجلة ( ثقافة الطفل ) المجلس الأعلى للثقافة , المجلد 16 , 1996 , القاهرة , عدد خاص عن الطفل والتراث الشعبى ص 92 – 110 .
16 – الأسرة والزواج فى المثل الشعبى : مجلة الفنون الشعبية , القاهرة العدد 34 , ديسمبر 1991
17 – تربية الطفل رياضيًا بين النظرية والتطبيق , الطفل العربى نموذجًا , دراسة قدمت للندوة السنوية التى أقامها المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى للرياضة , 18 أبريل 2005 .
18 – استراتيجية مقترحة للتنمية الثقافية والتعليمية فى جنوب الوادى وتوشكى , فى ضوء إنجازات الواقع واستشراف المستقبل , دراسة قدمت لمؤتمر توشكى 2006 , بوزارة الموارد المائية والرى , 3 – 4 يناير 2006 .
19- الدعوة الإسلامية في ظل العولمة والتعددية السياسية، دراسة تحليلية للوثائق والأدبيات مارس 2006م.
20- قراءات في أدب الأطفال (يعقوب الشاروني نموذجاً) تحت الطبع 2006م.
21- دور الأخصائي الاجتماعي في اكتشاف ورعاية الموهوبين في المدرسة الابتدائية، بحث قدم لمؤتمر جامعة حلوان في أبريل 2006م.
سادسًا : دراسات وبحوث شاركت فيها الكاتبة :
1 – واقع الانضباط فى المدرسة المصرية ( دراسة اثنوجرافية نقدية ) بحث منشور بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية – شعبة بحوث السياسات , سنة 2000, رقم إيداع ( 11636 /2000 ) .
2 – اتجاهات الرأى العام نحو قضايا تطوير التعليم الثانوى فى مصر . بحث منشور بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية . شعبة بحوث السياسات , يونيو 2002 , رقم إيداع ( 13415/2002 ).
3 – أدوار البرامج التعليمية التليفزيونية فى مواجهة مشكلة الدروس الخصوصية بحث منشور بالمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية , 2003 شعبة التخطيط التربوى , رقم إيداع ( 14906/2003 ) .
4 – عولمة الإعلام وانعكاساتها على تربية الطفل , ورقة عمل قدمت فى ندوة ( رؤية مستقبلية لسياسات التعليم فى مصر فى ضوء العولمة ) عقدت على هامش المؤتمر الأول للمركز القومى للبحوث التربوية والنفسية ( 25 : 27 مارس 2000 ) ونُشر ملخص الورقة فى : مجلة البحث التربوى , ملف العدد , المجلد الأول العدد الثانى , الجزء الثانى , يوليو 2002 , ص 988 / 993 .
5- استراتيجية مقترحة للتنمية التربوية في المدن الجديدة "جنوب الوادي وتوشكا نموذجاً"، منشورة في المؤتمر العلمي الأول لكلية التربية بالوادي الجديد، فبراير 2006.
6- دور الأخصائي الاجتماعي في اكتشاف ورعاية الموهوبين في المدرسة الابتدائية، دراسة ميدانية، مؤتمر جامعة حلوان مارس 2006.
سابعًا : الدورات التدريبية :
قامت الكاتبة / الباحثة بالعديد من الدورات التدريبية عبر شبكات الفيديو كونفرنس / التدريب عن بعد فى موضوعات متنوعة مثل :
1 – تحسين استفادة الطلاب من خدمات المكتبات المدرسية .
2 – مهرجان القراءة للجميع وانعكاساته وكيفية الاستفادة منه .
3 – التربية المتحفية للمدرسين والطلاب .
4 – الأنظباط المدرسى .
5 – العنف المدرسى كما تعكسه وسائل الإعلام وأثره على التلاميذ .
6 – المدرسة وحدة انتاجية .
7 – التربية البيئة ( الجمالية ولصحية ) .
8 – تفعيل بعض القرارات الوزارية .
9 – دور التربية المسرحية فى اكتشاف ورعاية الموهوبين .
10 - تفعيل دور الصحافة والإعلام المدرسى .
11 – مسرحة المناهج وكيفية تنفيذها والاستفادة منها .
12 – المناخ المدرسى وأثره على تحصيل التلاميذ .
13 – المشاركة المجتمعية ودورها فى التنمية المدرسية المتكاملة .
14 – التنمية المهنية للمعلمين بين الوقائع والطموحات .. الخ .
ومجموعة أخرى استهدفت تدريب نظار ووكلاء المدارس والمديرين والمدرسين والإخصائيين الاجتماعيين والنفسيين وأمناء المكتبات ومدرسى الأنشطة ( فى جميع محافظات جمهورية مصر العربية من إسكندرية وشمال سيناء وحتى أسوان والوادى الجديد ) عبر الدائرة التليفزيونية المغلقة , ومن خلال مراكز البث بالقاهرة والإسكندرية .
ثامنًا : عضوية الموسوعات :
- عضو موسوعة ( شخصيات أدبية ) , إعداد على عبد الفتاح , مؤسسة الربيعان , الكويت 1998
- عضو موسوعة ( هؤلاء كتبوا للأطفال فى مصر ) من وزارة الثقافة المركز القومى لثقافة الطفل , إعداد محمود قاسم , 2002 .
تاسعًا : عضوية الروابط العلمية والاتحادات :
- عضو اتحاد الكتاب بمصر – عضو لجنة المعايير القومية بوزارة التربية والتعليم .
- عضو رابطة التربية الحديثة .
- عضو رابطة خريجى ومعاهد كليات التربية .
- عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية .
- عضو رابطة الأدب الحديث .
- عضو المشروع القومى للتربية الأخلاقية . د . صديق عفيفى .
- عضو جمعية المأثورات الشعبية .
- عضو جمعية أحباء الطفولة .
- رئيس قسم البحوث باتحاد شباب العمال بالقاهرة .
- مستشار مكتب البطل جمعة الشوان , والمدير التنفيذى والمشرف على ندوات التوعية الوطنية فى مراكز الشباب والجماعات وقصور الثقافة والأندية الرياضية .. الخ
- مُعدة وضيف الحلقات فى برامج الإذاعة والتليفزيون خاصة بالطفل / المرأة / الثقافة / الأدب / التعليم .. وغيرها
عاشرًا : شهادات تقدير :
* حصلت الباحثة على مجموعة من شهادات التقدير العلمية والثقافية الإعلامية مثل :
- حلقة الحوار الثقافى اللبنانى سنة 2000 .
- وزارة الشباب سنة 2002 .
- الهيئة العامة للاستعلامات عام 2000 , 2001 , 2002 .
حادى عشر فى مجال الصحافة :
نشرت فى العديد من الصحف والمجلات الثقافية والمتخصصة فى مصر والعالم العربى .
ثانى عشر : الترجمة :
ترجمت بعض قصصها للأطفال للغة الصينية فى إطار المشروع الثقافى بين مصر والصين سنة 1992 .