صورة المرأة في الشعر الغزلي- دراسة تحليلية لبعض النصوص الشعرية بقلم:د. أميمة منير جادو
تاريخ النشر : 2010-10-26
صورة المرأة في الشعر الغزلي
دراسة فنية
د/ أميمة منير جادو
[email protected]
عضو اتحاد الكتاب العرب والأنترنت

موضوع المرأة موضوع مهم لأنها قيمة اجتماعية مهمة ، ويعكس النتاج الابداعي المتنوع في جوانب كثيرة منه ( صورة المرأة )، ومن المهم تناول هذه الصورة بالدرس والتحليل لأنها تعكس الكثير من الواقع النفسي والاجتماعي في سياقاته التاريخية – سلباً وإيجاباً- مما يمكن معه الحوار والفهم الأمثل لتلافي السلبيات والتأكيد على الإيجابيات .
وتناول ( صورة المرأة في الشعر ) بالدراسة ليس بالأمر الهين أو البسيط للوقوف على بعض جزئياته حيث تتعدد وتتشعب الصورة وحيث تطرح التساؤلات نفسها :
* فأي صورة لأي إمرأة ؟
هناك المرأة الأم والابنة والأخت والزوجة والحبيبة والجارية والراقصة والزاهدة المتصوفة والشاعرة والعالمة والمغنية ...الخ
* في أي عصر نتناول هذه الصورة بالدرس والتحليل ؟
إذ يشكل اختلاف الزمان الابداعي متغيراً مهماً يعكس بالضرورة صورة مختلفة بين الأزمنة وبعضها؟
* ماموقف الشاعر المبدع نفسه من المرأة ؟
* وهل هو الرجل الذي يكتب عنها أم هي المرأة التي تكتب عن نفسها ؟
ونظراً لهذه الاشكاليات محل التساؤل فقد بات من الضرورى وضع حدود بحثية ملزمة تقتصر الدراسة عليها كي لا تتشعب .
و( يمثل شعر المرأة في الأدب العربي حيزاً عظيما خَلَفَ في الإرث الشعري ثروة أدبية عظيمة فاقت كل ما خلفته فنون الشعر في غير المرأة. وهذا الإرث الشعري الذي يمثل تصوير المرأة منه ماهو قاصر على المرأة ، أو متصل بها بسبب ما ، كما يقاسم أغراض الشعر الأخرى وفنونه من فخر ومدح وهجاء ورثاء وهذه الأغراض لم تكن مقصودة أو متعمدة بل أحيانا ماكان يبعثها الحب والهوى ، ويثيرها الشوق والرغبة وتكمن خلفها ) (1)
* شعر الغزل مُنَزَهٌ عن الأغراض النفعية :
يعد الغزل " أصدق فنون الشعر إذ يتسم بصدق الأداء وصدق التعبير عن الوجدان وتصوير المشاعر والأحاسيس , حيث لم يكن الدافع وراءه ما دفع أصحاب المدح والوصف والهجاء والفخر – فهذه الأغراض غالباً مايبعثها التملق – فتُحرم الصدق في المشاعر والحرارة في العاطفة والإخلاص في الوجدان ، وتأتي متكلفة المعاني باهتة الصور مصطنعة الأداء . ولا يصدر تصوير المرأة في الشعر عن مطمع مادي أو رغبة في مال أو عطاء ، خاصة العذري منه الذي لا يهدف صاحبه من نظمه إلى رغبة في متعة أو لقاء غير مشروع بل يصدر عن تعبير صادق وعاطفة صادقة ووجدان مخلص يبدو في التعبير وفي الأداء "(2)
والغزل : هو فن ، وميزة هذا الفن من شأنه أن يوقظ في قارئه قبساً من الإحساس بالجمال : جمال الحياة ، وجمال المرأة ، وقلما خلا أدب من الغزل ، لأنه أنشودة كل قلب شوقاً إلى المرغوب فيه جسداً وروحاً .
الغزل لغةً : كما جاء في لسان العرب هو:" حديث الفتيان والفتيات ، وهو كذلك اللهو مع النساء" (3)
والغزل اصطلاحاً : " هو كلام يبثه الشاعر عواطف الحب نحو المحبوب ، وتختلف لهجة هذا الكلاام باختلاف الأحوال . فهو أحياناً شكوى: يعرض فيه الشاعر ما يصيبه من هجران المحبوبة أو دلالها . وهو أيضاً تذلل واستعطاف غايتهما : استدرار رضاها ، وهو تارة وصف للذات الهوى، وما يضفيه الوصال على جو الشاعر من حبور ونشوة .
* مكانة الشعر الغزلي العربي وتطوره :
"لقد احتل شعر الغزل مساحة واسعة في ثروة الشعر العربي وتربع على قممها ، فإذا هو خفق أفئدة وذوب قلوب ، وهو يمثل الحياة الداخلية والخارجية أصدق تمثيل وأدقه عند أصحابه ولقد مرَّ الغزل بمراحل مختلفة عبر عصور الأدب العربي كلها منذ الجاهلية وحتى اليوم .
" ففي الجاهلية كان الغزل يأتي في مطالع قصائد الشعراء ، بل عالة على القصيدة، يحشرونه فيه حشراً ، ثم تحول إلى عادة فرضتها تقاليد البيئة . وفي شعر صدر الإسلام ، لم يكن للغزل شأن مهم أو مكان واسع فلم يرفرف له علم في سماء الحسان حتى أصيب بنكسة بسبب دعوة الدين إلى صيانة المرأة و نهيه الناس عن الفحشاء والمنكر . أما في العصر الأموي فقد أصبح الغزل موضوعا رئيساً له شخصيته وكيانه باعتباره حدثاً أدبياً مهماً عند زعمائه ، من أبرزهم : جميل بن معمر ، أو جميل بثينة ، وعمر بن أبي ربيعة وقيس بن الملوح وقيس بن ذريح ، وكُثير عزة والعرجي ، فكان له انتشاره الواسع وراح يرتوي من ينابيعه الرجال والنساء على حدٍ سواء ، حتى أن العظماء والفقهاء راحوا يرددونه، ويحسنون إليه الإصغاء وكذلك كان حال الغزل من الشأن والأهمية والانتشار في الأعصر العباسية على يد شعراء التمعت أسماؤهم في سمائه منهم أبو نواس ، وبشار بن برد ، والبحتري وابن الرومي والشريف الرضي "(4) .
* أنواع الغزل :
اختلف الدارسون من حيث تقسيم الغزل إلى أنواع فمنهم من قسمه تبعاً للنساء اللواتي تغزل بهن الشعراء ،ومنهم من قسمه تبعاً للبيئة التي انطلق منها ومنهم من قسمه طبقاً لطبيعة الغزل نفسه( عفيف أو صريح) . ومنهم من أقره في أنواع ثلاثة هي :
" 1- الغزل البدوي: وهو يعتمد الحزن واليأس والوفاء والحبيب الواحد .
2- الغزل الحضري : وهو يعتمد اللهو والمجون والحبيبات الكثيرات .
3- الغزل التقليدي او الصناعي : وهو يقوم على الحنين إلى الديار المهجورة أو غير المهجورة ويفتتح الشاعر به قصائده"(5)
4- النسيب : ويقوم على التحدث إلى المرأة بلغة الأشواق عن أهواء الأعماق وهو " حلو الألفاظ ، رسلها، قريب المعاني، سهلها ، غير مركز ولا غامض ، وأن يختار له من الكلام ماكان ظاهر المعنى ، لين الإيثار ، رطب الكسر ، شفاف الجوهر ، يطرب الحزين ، ويستخف الرصين " (6)
وخلاصة القول : أن تصوير المرأة أعم وأشمل من دراسة الغزل فكما أشرنا أن نماذج المرأة عديدة ، لذا يقتصر البحث على (صورة المرأة في شعر الغزل ، أي نموذج صورة المحبوبة) لدى مجموعة من الشعراء العرب اختيرت عشوائياً ، ولا تندرج ضمن زمن بعينه أو مدرسة شعرية خاصة مما يفيد الثراء والتنوع .
• نماذج من ( صورة المرأة) لدى بعض الشعراء العرب :
• صورة المرأة عند (جميل بن معمر ) :
اشتهر جميل بن معمر ب(جميل بثينة) ، وهو إمام المحبين العذريين في العصر الأموي ، إذ ينشد أنغام الحب الطهور فيشبب بحبيبته عن شعور حقيقي بحب صادق ونقي ، وهاهو يبث لواعج الهوى العذري والحرقة لابنة عمه( بثينة) فيقول في قصيدة ( لبيك داعي الحب ) :
" ومازلتم يا بَثْنُ حتى لو أنني ... من الشوقِ أستبكي الحمام بكى ليا .
إذا خدِرت رجلي وقيل شِفاؤها ... دعاء حبيبٍ كنتِ أنتِ دُعائيا .
ومازادني النأيُ المفّرقُ بعدَكم ... سُلوّاً ولا طولُ التلاقي تقاليا .
ولا زادني الواشون إلا صبابةً ... ولا كثلرة الناهين إلا تماديا .
لم تعلمي يا عذبةَ الريقِ أنني ... أظلُّ إذا لم أَلْفَ وجهكِ صاديا .
لقد خِفْتُ أن أَلْقى المنِّيةَ بغتةً ... وفي النفس حاجات إليكِ كما هيا . " (7)
ويبدو الشاعر من خلال الأبيات السابقة قد أنزل الحب من نفسه منزلة القداسة وكذلك الحبيبة ، فهي في سويداء القلب ، إن صورة المحبوبة هنا صورة ترقى في طهرها وقدسيتها عنده إلى مرتبة الدعاء المقدس ، وأن حالة الصدق التي يعيشها معها تجعله بمنأى عن أي وشاية يمكن أن تفرق بينهما ، بل تزيده الوشايات تمسكا بها لطهرها وعفتها وعذوبة حديثها للدرجة التي لا يخشى الشاعر موته إلا لأنه لم يزل تواقاً لها ، وفي ذلك تدليل على منتهى الطهر والعفة والقدسية التي تشمل صورة محبوبته (بثينة) .
* صورة المرأة في شعر أبي نواس :
يمكن اعتبار أن الغزل عند أبي نواس وسيلة لا غاية ، وهو في غزلياته يصف معاناته وما تكابده نفسه من آلآم وحيث يصور محبوبته بأنها لاهية لا تدري به ولا تشعر بعذاباته فهي سادرة لاهية ويصفها في الأبيات التالية بهذا الوصف فيقول :
" حامِلُ الهَوَى تَعِبُ ... يَسْتَخِفُّهُ الطرَبُ .
إن بكى يَحِقُّ له ... ليس ما بهَ لَعِبُ .
تضحكين لاهيةً ... والمُحِبُّ .. ينتحبُ
تعجبين من سَقَمِ ... صَّحتي هي العجبُ " (8)
* صورة المرأة في شعر البحتري :
يعبر البحتري بصدق في احساسه عن اعجابه بجمال المرأة التي يحبها ويصفها ولا تخلو هذه الأوصاف من صور حسية إذ يصف سحر العيون وورد الخدود ويصف الحَوَرَ الذي بعينيها مثل الغزلان ويشير إلى بياضها ودلالها ..إلخ ، فيقول :
" بيضاءُ يُعْطيك القضيبُ قوامَهَا ... ويُريك عينيها الغزالُ الأحوَرُ
تمشي فَتَحْكُمُ في القلوبِ بِدَلّها ... وتميسُ في ظلِّ الشبابِ وتخطُرُ .
وإن جانبتُ بعضَ بطالتي ... وَتَوَهَّمَ الواشُونَ أني مُقصِرُ
ليشوقُني سحرُ العيونِ المجتلى ... وَيَروقٌنِي وردُ الخدودِالأحمرُ " (9)
* صورة المرأة في شعر ابن الرومي :
تتغلب النزعة الحسية على النزعة الروحية عند ابن الرومي ، وحيث لا يهتم بعقل المرأة ولا خلقها ولا أدبها ، فهو لا يراها بصورة متكاملة (عقل وروح وجسد ) لكنه يرى منها الجانب الحسي فقط ، ولا يهمه إلا أنوثتها ، لذا يجيء شِعره خادشاً للحياء غير ملتزم بالنبل والاحتشام ، يتحدث عن المرأة واصفاً مفاتنها وهو مدفوع بعاطفة حسية تأثرت كثيراً بالبيئة وحيث فساد الحضارة المادية التي تشجع إبراز هذه الصورة للمرأة ولا تجد فيها عيباً أو فحشاً ويعتبرونه نوعاً من الحرية الابداعية ، ونقرأ له :
" أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةُ ... إليها ، وهل بعد العناقِ تدانِ ؟
وألثمُ فاَهَا كي تزولَ حزازتي ... فيشتدُّ ما ألفى من الهيمانِ .
وماكان مقدارُ الذي بي من الجوى ... ليشفيهِ ما تلثمُ الشفتانِ .
كأن فؤادي ليس يشفى غليلهُ ... سوى أن يرى الروحين يمتزجانِ " (10)
لذا فقد أُعِدَ ابن الرومي من الشعراء الإباحيين حيث لا يخجلون من تصوير المرأة على أنها للمتعة الجسدية وهذا هو غاية الأمر ، والأدبيات السابقة غنية بالتصويرات الحسية مثل العناق , والقبلة وما بعد ذلك ، حيث لن يشفى غليل الشاعر إلا الأرتواء بعد الظمأ، وهي صورة حسية للتلاقي والتكامل بين الرجل والمرأة .
ولقد اختلف الشعراء فيما بينهم في تصوير المرأة فإذا كان منهم من أسرف في الإباحية والوصف الحسي لجمالها ، فهناك من بالغ في تصوير الرقة والعذوبة والعذرية والطهر ورفعها إلى مرتبة القداسة كما في المثال التالي .
• صورة المرأة في شعر أبي القاسم الشابي :
رفع أبو القاسم الشابي مكانة المرأة ومنزلتها من مجرد جمال حسي يلتقي بشهوات الرجل إلى صورة شفافة عذرية طاهرة في تجربة وجدانية سامية نبيلة ، فصورة المرأة عنده محاطة بهالة من النور والسمو والإجلال وحيث يمتزج الحب بالتصوف بالعفة وكأن المرأة في مرتبة مقدسة لديه ويتضح هذا بجلاء في ديوانه (صلوات في هيكل الحب ) إذ يهمس لها كهمس الطيور ويشدو عازفاً أنغامه وقد أمسك بريشته وقلمه وألوانه ليصور لنا محبوبته ، ونقرأ له هذه الأبيات وهي من أجمل وأروع ما كتب في وصف المرأة ، فنتخيل صورتها كما في هذه الأبيات :
" عذبة أنت ، كالطفولة ،كاللحنِ كالصباح الجديد !
كالسماء الضحوكِ ، كالليلة القمراءِ ، كالوردِ ، كابتسامِ الوليد .
يا لها من طهارة ، تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد .
أنتِ ، أنتِ الحياة في قدسها السامي ، وفي سحرها الشجي الفريد .
أنتِ , أنتِ الحياة فيكِ، وفي عينيك آياتُ سحرها الممدودِ .
أنت دنيا من الأناشيد والأحلام ، والسحر والخيال المريد .
أنتِ قدسي ومعبدي وصباحي وربيعي ونشوتي وخلودي .
يابنة النورِ ، إنني أنا وحدي ، من رأى فيكِ روعةَ المعبود ِ
فدعيني أعيش في ظللكِ العذب ، وفي قرب حسنكِ المعبودِ " (11)
لقد صور الشابي المرأة تصويراً رفيع المستوى يسمو إلى درجة الملائكةِ وقد " أصبغ الشابي على الحبيبة التي تناجيها روحه ويهفو إليها فؤاده كل معاني الرقة والجمال فإذا هي تجسد الجمال والكمال خَلقاً وخُلُقاً وتغدو في نظر الشاعر فوق الخيال وفوق الشعر والفن والعقل وكل الحدود المرئية والوهمية لأنها دنيا من الأناشيد والأحلام ، ولأنها حياة الشاعر المقدسة والتي يرى فيها آيات سحر الحياة ولأنها باتت نشوته وربيعه وخلوده , وقليلة هي النفوس التي يصدر عنها الغزل بالمرأة الجمال فتكون دقيقة وتملك حظاً وافياً من جمال الطبع ورقته ورهافة الحس وشفافية الروح ، والتي لا تغتذي إلا بخبز العفة والطهر فتتسامى عن كل نظرة دنيَّة في عالم المادة ، وأبو القاسم الشابي هو في عداد تلك النفوس التي كانت المرأة الحبيبة في حياتهم كالسماء , كالليلة القمراء ، كالورد ، كابتسام الوليد ، إنها ومضات انسانية تتألق بالصدق ، وتشع بالفضيلة ، وصور من التشبيه تدل على روعة وجمال وسمو في النفس ، وحب يحاكي الثلج نقاءً , والشمس نوراً وصفاء ، إن حباً كهذا هو وحده الذي يجعل من صاحبه ملاكاً من الملائكة ، يمشي على قدمين لأنه يملك بين جنبيه روحاً نقياً ، ويضم صدره قلباً تقياً ، وإن شعراً يفيض بذلك النبل من الاحساس بالحب لهو الأجدر بالخلود ."(12)
إن صورة المرأة عند الشابي تنطوي على تصوير الصدق في المعاناة ، وتجسيد الجمال المعنوي ينطوي على عمق ودقة ورقة ولذا تبدو صورة المرأة عنده كمثل أعلى ورمز وقيمة أكثر من كونها إمرأة خاصة به .
* صورة المرأة في شعر إيليا أبو ماضي :
يعد إيليا أبو ماضي من شعراء المهجر المتميزين الذين تركوا بصمة واضحة في الشعر العربي ، فكيف نظر أبو ماضي للمرأة ؟ وكيف صورها في أبياته الشعرية ؟
إن صورة المراة عنده هي صورة "الحُسْن" بل كل حُسن على الأرض ، إنه لا يرى حُسناً إلا من خلالها ولا سيما في المظاهر الطبيعية ، ويظهر للقارئ في حالة من ذهول الطرف وشرود الفكر , مالذي تقوله له عيناها ؟ إن الشاعر يرى في حب الحبيبة قدس أقداس الوجود ، كما يرى أن النفس تبقى عاجزة عن إدراك سرها من وجودها ما لم يشرق الحب في جنباتها, وفي قصيدته "اسألوها " نقرأ:
" إسألوها أو فاسألوا مضناها ...أي شيء قالت له عيناها .
فهو في نشوةٍ وماذاق خمراً ...نشوةُ الحبِّ هذه إياها .
ذاهلُ الطرفِ،شاردُ الفكرِ ، لا يلمحُ حسناً في الأرضِ إلا رآها .
السواقي لكي تحدث عنها ... والأقاحي لكي تذيع شذاها .
وحفيفُ النسيمِ في مسمعِ الأوراقِ ... نجوى تبثها شفتاها .
يحسبُ الفجرَ قبسة من سناها ... ونجوم السماءِ بعض حلاها .
كلُّ نفسٍ لم يشرق الحب فيها ... هي نفسٌ لم تدرِ مامعناها .
أنا بالحب قد عرفتُ نفسي ... و أنا ذبالحبِّ قد رأيتُ الله ِ " (13)
* صورة المرأة في شعر أحمد الصافي النجفي :
ينظر الشاعر أحمد الصافي النجفي إلى جمال المرأة في غزلياته بمنظار بعيد عن مرمى اللذة الجسدية العابرة أو الشهوة الفطرية الغريزية ، فهو يرسم لها صورة ساطعة مشرقة بمعانٍ وجدانية شفافة سامية ، فالمرأة لديه في فكره خمرة معنوية وليست حسية ، وفي روحه تذوب كالسكر، وفي قلبه وسواس ، وفي حياته كلها حديث مستمر ، لذا فإن شعره يأتي عذباً لأن المرأة مصدر احساسه وينبوع الهامه ، ومنطلق الوحي لشعره، وفي قصيدته "أنتِ" يجسد هذه الصورة الخيالية الرائعة فيقول :
" أنتِ في فكري خمرُ ........ أنتِ في روحي سكرُ .
أنتِ وسواس بقلبي ............ وحديث مستمرُّ .
فيكِ يحلو لي افتضاحي ... كم حلا في الحبِّ مرُّ .
كيف يخفى فيكِ سري ... هل أمام الشمسِ سِرِّ ؟
هل لضوءِ الشمسِ سِرُّ ..... هل لبدر التمَّ ستر ؟
حدثوا عنكِ وعني .......... فحلا ذكرٌ وذكرُ .
فالبسي أجمل عقدٍ ......... فيه من نظمي دُرُّ .
كيف لا يعذب شعري ... أنتِ في شعري شِعرُ . " (14)
إن الشاعر يخاطب المرأة بأجمل وأنبل مافي الروح من صدق وعمق الإحساس بمفاتن الروح معرضاً بذلك عن مفاتن الجسد ويصور المرأة بأنها ينبوع الحب الصافي في شعره وحياته ، بل هي الشعر في شعره رقة وعذوبة معنى ومغنى و"هكذا يبقى الغزل ذلك الجدول الوديع الذي يتفجر من ينابيع الاحساس بالجمال في دنيا المرأة التي هام بها الإنسان منذ أن فتح عينيه على محاسنها واستبد به الظمأ إلى جسدها أو الشوق والارتواء من ينابيع حنانها وأنسها الروحي .فإذا كان لكل ليل قمر، فإن المرأة هي قمر الشعراء ، وهي من القلب والحياة بمنزلة القمح من الخبز والشعاع من السراج " (15)
• صورة المرأة في شعر الأخطلِ الصغير :
يعدُ الأخطل الصغير من الشعراء الذين صوروا المرأة التي تجور وتظلم وتجرح بعدما كانت أنشودة الخلود على ثغره ، وهمس السماء في أذنيه ، ودنياه التي أصابها وباء الاضمحلال وكانت حلماً من شعاع صباه لكنه سرعان ما خنقته يد المنون .
فالمرأة كما تبدو قوة دافعة ملهمة ومعذبة في أن واحد ، وفي قصيدة له بعنوان " ياخيال الحبيلب " يقول فيها :
" جُرْتِ في الموتِ والحياةِ عليَّا ......... ومحوتِ الضياءَ من ناظريَّا .
كنتِ أنشودةَ الخلودِ على ثغري ………. وهمسَ السماءِ في أذنيَّا .
كنتِ دنيايَ فاضمحلَّت وحُلماً … ومن شعاعِ الصبا مضى حينَ حيَّا .
ياخيال الحبيبَ لم تبقِ مني ………غَيرَ حزني ، وغير دمعي حيَّا .
أمسحُ القبر بالجفونِ وفاءً ........ لغرامي ، وإن أساءَ .......إليَّا .
أإذا رمتُ قُبْلةً من حبيبي .........عَثَرَت قبل لمسها...... شفتيَّا ؟

نلاحظ من الأبيات السابقة أن الشاعر يترحم على زمان مضى وولى ،فهو يخاطب المرأة ويصورها في الماضي وتجيئ الأفعال الماضية مناسبة لمشاعره مثل ( جُرتِ،ومَحوتِ ,كنتِ ،وهمستِ ...إلخ) ويبدو أن الحبيبة قد فارقته بالموتِ والشاعر يعتبر أن هذا بحد ذاته ظلم من الحبيبة له ، غير أن هذا الظلم والجور يتجاوز مماتها إلى حياتها أيضاً فلا يستثني أحدهما كما نقرأ في البيت الأول ، إن بكاء الشاعر وحزنه يبدو لنا مستمراً في الحالتين ( الحياة والموت ) حتى أن صورتها صارت خيالاً مثيراً للأحزان واللوعة والدموع والألم ، فالشاعر يجلس عند قبر الحبيبة مصورأً لواعج نفسه ووفاءه لها في حياتها وفي موتها مهما تحمل من إساءة منها ومهما كانت درجة شقائه بهذا الحب ، فصورة الحبيبة في قصيدة الأخطل الصغير جائرة ظالمة في حياتها وموتها

صورة المرأة في شعر أبي شبكة : *
في نموذج مختلف لصورة المرأة يصورها الشاعر أبو شبكة في ( صورة المرأة الخائنة لزوجها ) فهو يصور الحالة الوضيعة لامرأة خانت زوجها واستجابت لغرائزها وفي ديوانه ( أغاني الفردوس) يرسم صورتها وقد استسلمت لشهوتها الجسدية مستهينة بالعلاقة الزوجية المقدسة حين فقدت توازنها ونار الفحش تتلظى في جسدها ، يقول أبو شبكة عنها :
أقول لها أعراقُ زوجكِ لم تزل ........ وفي قلبه عطف الأُبوةِ لم يَبْرا .
ولم يَبْرَ إحساسُ الرجالِ بصدره ... فحبكِ يجري منه في الجهةِ اليُسرى .
أقولُ لها : ثوب العفاف تذكري ........ ففي ساعةِ الإكليل لم يكُ مُغبَرَاَّ
لبستِ رداءَ العرسِ أبيضَ ناصعاً .....فمن أين جاءت هذه اللطخةُ الحمرا ؟ " (17)
إن صورة المرأة في الأبيات السابقة صورة وضيعة ودنيئة ، لا تشير لكل النساء ولكنها تصور واقع بعض النساء الخائنات اللاتي أشار إليهن بعض الشعراء، فالمرأة هنا قد ذبحت الطهر والفضيلة بسكين الخيانة والغدر ، واستسلمت لضعفها وشبقها ضاربة عرض الحائط بكل قيم النبل والطهر والشرف التي يجب أن تتمسك بها ، فهي صورة مرذولة ومرفوضة ومذمومة ، وقد فضحها الشاعر بهذا الوضوح كي تجتنبها النساء اللواتي يمارسن الفاحشة والخيانة والزنا في غفلة أزواجهن.
* صورة المرأة في شعر ( عمر أبو ريشة ) :
صور الشاعر عمر أبو ريشة المرأة في حالات مختلفة ففي قصيدة له بعنوان (جان دارك) يروى أنه في معرض (اللوفر) بباريس صورة فتاة رائعة الجمال على صهوة جواد أدهم فاستغرب عندما علم أنها (جان دارك) وراح يتأملها ، فانطلق ينشد هذه الأبيات :
" الفجرُ أومأَ والبتول ......بحلمها المعسول نشوى .
حتى إذا أطيافُه ........... نفرت من الأجفان عَدْوا .
أخذت تمطّى والفتورُ ..... يهُزها عُضواً فَعضوا .
وغِطاؤها المعطارُ يزلقُ .... عن ترائبها ويُطوى .
وأكفها في شَعرها ..........تزدادُ دغدغة ولهوا.(18)
في تلك الأبيات السابقة يصف الشاعر نموذجاً للمرأة التي تشكل عنصر تأثير على خيال الشاعر وعاطفته وتمده بزاد من القدرة على الخلق الفني في موضوعات شعره ، وصورة "جان دارك" تجمع بين جمال الحقيقة وجمال الأسطورة ، وتثير في الناظر أو القاريء مشاعر غريزية شتى من خلال العبارات التي أشرنا إليها والتي تدل على مدى قدرة الشاعر على التصوير القائم على شيء من الوضوح وعلى الكثير من الرمز والإيحاء
" والقصيدة الغزلية تولد من عيني امرأة وعلى وهج عاطفتها تنضج ، لذا فإن المرأة تفتح للشاعر نوافذ سحرية لينطلق خياله من عقاله وعاطفته من أسرها ، وتذكى فيه ذوق الشاعرية الندية، وهنا تكمن ثورة الشعر غزلاً وثورة الفكر ابداعاً "(19)
وفي قصيدة للشاعر بعنوان "دليلة " تبدو فيها المرأة مدانة عبر عتاب الشاعر لها الممزوج بالإدانة والاتهام فيقول فيها :
" لم أُصَدِّقْكِ حين قلتِ : سآتيكَ ...... وألقاكَ في قيّنا الجميلة
قُلتِها بعدما ترنحتِ بالكأسِ ............ ووسَّدِتها الشفاه النحيلة
وافترقنا ولم يمر بجَفْني ........ منكِ طيفُ عبر الليالي الطويلة " (20)
تبدو صورة المرأة في تلك الأبيات كاذبة ومدعية ، ووعودها كاذبة وزائفة ،لذا لم يصدقها الشاعر فلعله اعتاد منها هذا الموقف ، ولعله لم يكتب هذه الأبيات إثر الوعد ، ولكن بعدما طال انتظاره ولم يتحقق الوعد ، لذا فقد انطلقت قريحته بهذه الأبيات اللائمة المعاتبة عندما خذلته فغلبه سوء ظنه بها ، مع أنها اتصلت بروحه عبر احساسه بوجودها المعذِب الخادع .
ويرسم الشاعر صورة لتلك المرأة في محاولة منه لاستبطان أسرارها النفسية وقد تجمد نبع حنانها في صدرها وجف حبها وصارت نهاية التجربة فراقاً أليماً وذلاً للشاعر وخضوعاً وامتثالاً للمرأة التي فعلت به كل ذلك ، فيقول الشاعر :
لستُ أنسى يوم الرحيل وشيئاً ....... من حياتي شيعتُ فيه رحيلهْ!
وتوالت عليَّ منكِ رسالاتُ ......... شجونٍ وأمنياتٌ نبيله ْ!
وبلوتُ الصبرَ المبرح حتى............... لم أطق حمله ولا تعليله !
فأتيتُ الحِمَى وكان وشاحُ الليل ........ ملقىً على النجومِ الكليلهْ !
وحثثتُ الخطى ووحشة أيامي ...... الخوالي على خطايَ قتيلة!
وتوقفتُ عند بيتكِ ما أوجعها !..... وقفةً هناكَ... ........ ذليله!
عشتُ فيها هنيهةً خاشعَ الطرفِ ......ذبيح الرجاءِ ، جريحَ الرجولهْ !
ليس في هيكلي مجالٌ لشمشونٍ ..... جديدٍ ... فعربدي يادليلهْ !
تبدو هنا صورة المراة في قوتها وعنفوانها وقدرتها على إذلال الرجل واخضاعه وذبح رجولته وذلك من خلال انعكاس صورة الرجل ذاته في الأبيات ، إذ يبدو العاشق هنا يعاني شتى أنواع القلق والعذاب والضياع والذل ، حتى جمع الشاعر كل انسحاقه وضعفه في البيت الأخير الذي يمثل أقوى خاتمة صب فيها الشاعر بركان مشاعره لإبراز جبروت المرأة وطغيانها مقابل ضعفه وهزيمته واستسلامه.
وفي تجربة أخرى للشاعريثير قضية المرأة اللغز حيث توقع الشاعر في شرك الحيرة والتساؤلات فيقول لها في قصيدة ( من أنت ؟ ) :
" من أنتِ ؟ كيف طلعتِ في .... دنياتي ؟ ما أبصرتِ فيَّا ؟
في مقلتيكِ أرى الحياةَ ........ تفيضُ ينبوعاً سخيأً " (22)
في هذه القصيدة نلمح كيف تصير المرأة قضية ولغزأً يتمثل في سؤاله لها : من أنتِ ؟ فهي تحيره وهي قضية هنائه وشقائه ورضاه وغضبه في إقبالها عليه أو إعراضِها عنه ، في حبها وبغضها ، في خوفه عليها وفي خوفه منها ، في وفائها وجفائها ، فهي تثير بداخله أفراحاً وتثمر آمالاً ، أو تثير أحزاناً وتئد أحلاماً .
من هذا المنطلق يمكن للمرأة أن تشكل أحد عوامل القوة والارتقاء بالرجل أو الشاعر صعوداً إلى القمة أو أحد عوامل الضعف الذي يؤدي هبوطاً إلىالأنحدار والانهيار والحضيض .
وننتقل مع الشاعر( عمر أبو ريشة) إلى نموذج آخر من صور المرأة وهي( المرأة الخجلى) التي تخجل من نفسها حين تلقاه ، فيدعوها كي تخلع عنها ثوب الخجل الذي نسجته لها أصابع الشقاء الممزوج بالتعبوالأسف على مامرَّ بهما من حال النعماء إلى حال الفراق ، فيخاطبها في قصيدة ( وداع ) وهو يرد إليها رسائلها :
" قفي لا تخجلي مِني … .فما أشقاكِ أشقاني
كلانا مرَّ بالنُعمى …. مرور المتعبِ الواني
قفي ! لن تسمعي مني…عتاب المدنفِ العاني
فبعدَ اليوم لن أسأل ……عن كأسي وندماني
خذي ما سطرت كفاكِ …. من وجدٍ وأشجانِ
صحائفٌ طالما هَزَّتْ ….. بوَحيٍ منكِ ألحاني " (23)
في تلك الأبيات نستشعر الشاعر زاهداً بالحب ومتعلقاً بالروح السامية للشعر ، لأنه وجد في المرأة واسطة لوحيِهِ ، فالشاعر بدا متسامياً لا يلجأ للعتاب بل زهد بكأس عمره ورفاق ذكرياته وبكل ما سطرته يدُ المرأةِ من مشاعر الشوق والأشجان لأنه كان يؤمل عندها الحب والإخلاص ، لكن آماله تحطمت على صخرة الواقع الأليم ، ويشير في بقية الأبيات إلى عدم وفائها بالوعد أو ثباتها على العهد مما ولد في نفسها الألم ومما دعاها إلى الخجل عند اللقاء وهي تسترد رسائلها منه ، لكنه أعفاها من هذا الخجل حين استسلم للأمر الواقع وبدا زاهداً .
وفي عدد آخر من القصائد يرسم لنا الشاعر صوراً شتى للمرأة غير ماذُكر بهذه الدراسة – التي لا تسمح بسردها جميعاً – ومن هذه الصور : المرأة الغافلة ، والمرأة الحاقدة ، والمرأة ذات الكبرياء ، والمرأة ناكرة الجميل ، والمرأة الغامضة ..إلخ ( راجع الديوان )

* صورة المرأة في شعر نزار قباني :
:
لم يشتهر شاعر بأنه (شاعر المرأة) مثلما اشتهر نزار قباني وذاع صيته , والحديث عن نزار يطول ويتشعب فدواوينه بحاجة لأكثر من دراسة عن صورة المرأة لديه ،وحتى لا نظلم الشاعر في مثل هذه الدراسة المتواضعة فسوف نذكر فقط بعض الأمثلة الشهيرة لديه عن صورة المرأة ،التي كثيراً ما حررها في قصائده ودعاها للتحرر من قيود الذل والعبودية وكثيراً ما حثها على فعل الإرادة والقوة والقدرة على الاختيار الحر والأمثل بالنسبة لها ." فالحب والغزل عند نزار لغة ، مفرداتها في عيني المرأة رسائل ، وكل رسالة لها عنوان وحروفها في قلبها، وأبجديتها بحار لا سواحل لها ولا مرافيء ولا بدايات ولا نهايات , والحب عنده منه التمتمة ، ومنه الصلاة ومنه الغزوة البربرية زمنه النظرة على عجل ومنه المعاناة ومنه الاشباع على غير ارتواء جسداً ومنه الكتفاء روحاً " (24)
إن نزار يصور المرأة مضطهدة منه ومن بقية الرجال وعليه فإنه ينبغي تحريرها كي تكون أنثىبحق ، وجديرة بانسانية الانسان المعطاء والواهب للحياة أنساً وحباً وفرحاً وانسجاماً وبناءً للمجتمع السليم البعيد عن القهر والعذاب ، وفي قصيدة تصور لنا هذه الفكرة المسيطرة على الشاعر يخاطبها :
" أريدكِ أنثى ..
لأن الحضارةَ أنثى
لأن القصيدةَ أنثى
وسنبلةَ القمح أنثى
وقارورةَ العطر أنثى
باريس- بين المدائن- أنثى
وبيروت تبقى- برغم الجراحات _ أنثى "(25)
وفي قصيدة أخرى يؤكد على خصوصية المرأة التي يجب ألا تتنازل عنها وألا تخجل منها وألا تنقم عليها بسبب عصور الضطهاد والطغيان التي اثرت على صورتها أمام نفسها ، فهو في شعره يعيد الثقة للأنثى (للمرأة)في ذاتها والتمسك بكيانها وصورتها وهيئتها التي خلقها الله عليها فيقول لها :
" فباسم الذين يريدون أن يكتبوا الشعر ...كوني امرأهْ
وباسم الذين يريدون أن يصنعوا الحب ..كوني امرأهْ
وباسم الذين يريدون أن يعرفوا الله ... كوني امرأهْ "(26)
وتتجلى صورة المرأة عند نزار قباني في كونه يعتبرها قيمة اجتماعية بحد ذاتها وليست فقط قيمة جمالية وموقفه منها موقف معروف ومشهور حين يحاول أن يرفعها من مصاف الجواري والعبيد للحرائر والأميرات وهو يقول في هذا " ربما كان من أهم انجازاتي ، أنني حذفت اسمها من قائمة الطعام .. ووضعته في قائمة الأزهار ، حذفت اسمها من قائمة العقارات والأملاك المنقولة وغير المنقولة ، ووضعته في قائمة الكتب التي تُقرأ ، حذفت جسدها من قائمة الخراف التي تنتظر الذبح والعجول التي تنتظر السلخ، ووضعته في قائمة المتاحف التي تُزار، والسمفونيات التي تسمع ، فككت الرهان التاريخي على نهديها وأطلقتهما حمامتين في سماء تحترف صيد الحمام الأبيض " (27)
وينطلق نزار في موقفه هذا من المرأة من الاحساس بضرورة اعتبارها انسانة ذات قيمة اجتماعية وذات إرادة وذات موقف انساني ، وأن تسلك بحرية وسيادة وقوة ، ولعل مناداته بذلك جعلته في القائمة السوداء وهو يقول بذلك عن نفسه فيقول تحت عنوان " في القائمة السوداء " :
" لأنني مع النساء دائماً...
أوضع في القائمة السوداء..
يا...... لؤلؤتي " (28)
إننا عندما نقرأ أشعار نزار قباني سنجد المرأة هي شعره ، وشعره هو المرأة ، حتى على المستوى السياسي لأنه كثيراً ما رمز للوطن بأنه امرأة ، وقد فُهِمت بعض قصائده السياسية بشكل خاطيء باعتبار أنها إباحية وخارجة ، ووصفه البعض بالانحطاط والبذاءة لكثرة تصويره لمناطق جسد المرأة في حين أنه في كثير من الأحيان كان يرسم خرائط الوطن وصورة للوطن العربي المغتصب الذبيح ، وكان يصوره بأنه امرأة قد اغتصبها الكثيرون ، ومع ذلك فنحن لا ننفي تماماً أن بعض شعره الصريح كان كما هو وليس رمزاً في كل الأحوال ، لكن تبقى صورة المرأة عنده دائماً مشرقة خصبة ويدعوها لأن تكون هكذا دائما ، وهو يصور المرأة التي يحبها دائما بأنها الأرض والنخلة والوطن والسنبلة والفراشة والعصفورة والخبز والأصداف والشمس والقمر والتاريخ والحضارة أي هي كل المعاني الجميلة التي تمنح الحياة رحيقها ومعناها ورونقها ومذاقها ولونها، يقول في قصيدة له مؤكدا على أن حبه للمرأة يؤكد صلته بالله والتاريخ والانسان وكأن المرأة هي كل ذلك أو تمنحه كل ذلك :
" إني أحبكِ كي أبقى على صلةٍ بالله ، بالتاريخ ،بالزمن ،
بالماءِ ، بالزرعِ ، بالأطفالِ إن ضحكوا ،
بالخبز ، بالبحر، بالأصدافِ ، بالسفنِ ،
بنجمة الليلِ ، تهديني أساورها
بالشعر أسكنه ، والجرح يسكنني
أنتِ البلاد التي تعطي هويتها ،
من لا يحبكِ يبقى دونما وطن " (29)
ويقول أيضاً :
"كلما طارحتكِ الحبَّ
تعودين إلى عهد البكارة
كلما أهواكِ سيدتي
فأنا أوجز تاريخ الحضارة " (30)
الخلاصة :
وأخيراً وفي ختام هذا البحث المتواضع الذي عرضنا فيه لبعض صور المرأة في شعر بعض الشعراء في عصور مختلفة بين القديم والحديث ، فإننا نؤكد أن هذا البحث لم يف صورة المرأة حقها من حيث استعراض نماذج أكثر لصورتها عند الكثير من الشعراء الذين لم نعرض لهم وهذا لا يقلل من شأنهم فهناك مجموعة من الشعراء العرب على جانب من الأهمية والرؤية لكن المساحة هنا لا تسمح باستعراض كل النماذج في القديم والحديث ، وقد تنوعت وتعددت الصور المختلفة للمرأة مابين الإيجابية والسلبية ، ومابين الحسية أو المعنوية وبحسب أدوار المرأة المختلفة فهي تتجاوز دورها كحبيبة الى أدوار أخرى كثيرة ، ويبقى أن نؤكد رأي نزار في المرأة حين قال : " المرأة هي الشعر ، وليست ملحقة به ، أو مضافة إليه ، أو هامشاً من هوامشه ، كل شعر كُتب أو يكتب أو سيكتب مرتبط بالمرأة كما الجنين بالمشيمة ، وأي محاولة لفك الارتباط بينهما ، يقتل الطفل والأم معاً ، إذن فالمرأة والشعر يكملان بعضهما ، والمرأة في شعري أعطته حضوراً مائياً ، ونفضت عن أبجديتي الغبار الصحراوي ، والشعر بدوره يجمل المرأة ويكحلها ويعطرها ويحفظها من التبدد والاندثار " (31)
والله ولي التوفيق
المراجع :
(1) د. علي ابراهيم أبو زيد : صورة المرأة في الشعر العباسي ، دار المعارف ، القاهرة ،ط1 ،1983 . ص 5 .
(2) المرجع السابق .
(3) ابن منظور : لسان العرب ، مادة غ.ز.ل، ج 11
(4) د . رضا ديب عواضة : المرأة في شعر ( عمر بن أبي ربيعة- عمر أبي ريشة –نزار قباني ) بيروت، لبنان، ط1، 1999،ص 20
(5)المرجع السابق ،ص 22،21
(6) ابن رشيق القيرواني :العمدة ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان – ط5 – 1981، ج2، ص116
(7) الأصفهاني : الأغاني ، مصور عن طبعة دار الكتب ، المؤسسة المصرية العامة ، ج 8 ،ص 126 ، والديوان :بيروت ، دار صادر، صص140،139
(8)ابو النواس :الديوان ، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي ، دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان ، ص227
(9) البحتري : الديوان،دار صادر ، دار بيروت، المجلد الأول ،ص 23
(10)عباس العقاد : ابن الرومي ، حياته من شعره ،دار الكتاب العربي ،ط7 ،بيروت،ص382
(11) خليفة التايس :الشابي وجبران : دار الثقافة، بيروت ، لبنان ،ط3، 1973، ص213
(12) د .رضا ديب عواضة :مرجع سابق ،صص34،33
(13)إيليا أبو ماضي :تبر وتراب ، دار العلم للملايين ،بيروت ،لبنان ،ط 11، ،1984ص53 - 54
(14)احمد الصافي النجفي : شرر، ، دار العلم للملايين ،بيروت ،لبنان،ط 2،1963،صص 132،131
(15) د .رضا ديب عواضة : مرجع سابق ،صص36 ،37
(16) بشارة الخوري : شعر الأخطل الصغير ( الديوان) ، منشورات دار الكتاب العربي ، بيروت ،لبنان ، قدم له : سيد عقل ، ط2 ، 1972.
(17) شوقي ضيف : دراسات في الشعر العربي المعاصر ، دارالمعارف ، القاهرة ،ط3، ،ص 160
(18) عمر أبو ريشة : الديوان ،ج 1 ،صص 164،163
(19) د .رضا ديب عواضة :مرجع سابق ،ص60
(20) عمر أبو ريشة : مرجع سابق،صص241،240
(21)المرجع السابق : صص 246- 249
(22) المرجع السابق: ص322
(23) المرجع السابق: ص312
(24) د .رضا ديب عواضة :مرجع سابق، صص189-190
(25) نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة،منشورات نزار قباني ، بيروت ،ط3 ، 1981، ج2، ص827
(26) المرجع السابق .
(27) نزار قباني :المرأة في شعري وفي حياتي ، منشورات نزار قباني ، بيروت ، لبنان ،ط1 ، 1981 ،ص11
(28) نزار قباني :قاموس العاشقين ، ، منشورات نزار قباني ، بيروت ، لبنان ،ط1 ، 1981 ،ص165
(29) المرجع السابق ،ص 49
(30) المرجع السابق ،ص79
(31) ) نزار قباني : المرأة في شعري وفي حياتي ،مرجع سابق ،صص77-79