دراسة نقدية لقصيدة : ( طللية ) للشاعر المصري : أحمد عبد المعطي حجازي بقلم: د.أحمد كريم بلال
تاريخ النشر : 2010-07-28
دراسة نقدية لقصيدة : ( طللية ) للشاعر المصري : أحمد عبد المعطي حجازي بقلم: د.أحمد كريم بلال


الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي من كبار الشعراء العرب ، وهو واحد من رواد الشعر التفعيلي الأوائل (1) . وسوف نعرض في هذه العجالة لقصيدته الشعرية الرائعة: (طللية) في ديوانه : ( أشجار الأسمنت ) (2) .
وأول لافت للقارئ في هذه القصيدة وأخواتها في الديوان نفسه : ( طردية) و( خمرية ) هو العنوان اللافت الذي يستثير القارئ ويستوقفه ، فمثل هذا الضرب من القصيد لم يعد مألوفًا في سياق الحداثة الشعرية التي ينتمي إليها الشاعر .
وفي قصيدتنا المعنية بالدراسة نقول إن الوقوف بالأطلال – فضلاً عن غرابته في زمرة القصيد الحداثي – لم يكن ليستأثر بقصيدة كاملة في التراث، فالوقوف بالأطلال في هذا السياق الجديد إنما هو ابتعاث فني، وإعادة إبداع تتحاور مع التراث لتعيد تكوينه من جديد .
إن عنوان القصيدة – في حد ذاته وقبل الشروع في القراءة – يستجلب من نفس القارئ إيحاءات وجدانية تراثية ، إيحاءات لا توقع في نفسه أن الشاعر سوف يقف على الأطلال على نحو ما فعله القدماء ؛ وإنما تحرك في نفسه مشاعر الحنين إلى ذلك الفن القديم الذي طالما غاب عن دواوين الشعر المعاصر .
وبينما كان المتلقي فيما مضى يتلقى هذه المقدمة الطللية باعتبارها نوعًا من الأعراف الشعرية التقليدية يستقبل القارئ المعاصر هذا العنوان وقد تداعت إلى ذاكرته القصيدة الجاهلية التي تفصح عن هوية عربية صميم ، كما يبتعث العنوان في نفسه من خلال التداعي أيضًا مشاعر الاغتراب عن المكان الذي يستبدل بذويه كواسر الوحوش وجوارح الطيور ، ويصبح مجرد طلل لكنه طلل يحمل عبقًا من الذكريات . وما كان على هذه الشاكلة من العناوين المثيرة لذاكرة القارئ المُفَجِّرة لتداعياته يمكن أن نطلق عليها : عناوين محفزة .
وعندما يتجاوز العنوان مهمة التمييز ( تمييز القصيدة ووسمها بين قصائد الديوان لتكون كيانًا مستقلاً ) إلى مهمة التحفيز فإن عليه – تبعًا لهذه المهمة الجديدة – أن يثير في نفس القارئ إيحاءات ينفذ من خلالها إلى القصيدة ، وهي إيحاءات لا ينبغي لها أن تقنع بدور الغلاف الذي يخترقه القارئ نافذًا من خلاله إلى عالم القصيدة ؛ وإنما يجب تصاحبه مناخًا مسيطرًا على هذا العالم الشعري الذي تنطوي عليه القصيدة ، وذلك أمر تحققه هذه العناوين عندما تلامس مخزون القارئ ثقافيًا أو فكريًا أو وجدانيًا .. إلخ ، وعندئذ يبتعث العنوان في ذاكرة القارئ (( ذاكرة أخرى لها حفر في الوجدان واستمرار فيه )) (2) .
وعندما يتحفز القارئ بهذه المعاني يتوجه إلى القصيدة ليجدها تبث – بالفعل – معاني شبيهة بهذه المعاني التي حفزه بها العنوان ، إذ إن قصيدة حجازي تعكس هذه المعاني تمامًا ، وتدعمها من خلال النداء " يا صاحبيّ " الذي يتكرر ثلاث مرات في القصيدة ، وأطلال الشاعر في القصيدة أطلال معنوية لوطن مفقود قد اغترب عنه الشاعر منفيًا إلى بلد منبت الصلة عن العرب أو العروبة ، يعاني فيه الشاعر ألم الوجد والفراق في الوقت الذي ينسلخ فيه هذا الوطن عن جلدة العروبة ، فتتبدل ربوعه ، وتستوحش ملامحه فلا يتبقى منها سوى طلل تلوح فيه آثار هوية عربية ظاعنة (3) .
وإذا كان الطلل كما تبديه القصيدة الجاهلية (( مكانًا يحتوي على الزمان مكثفًا ، وزمانًا متمثلاً في تثبيتات مكانية )) (4) ، فإن طللية حجازي تجدل المكان والزمان في بنائها ؛ فكلاهما يتداعى شعريًا في صورة ذكريات منهمرة من أطلال الوطن ، وعلى الأخص من ( القرى ) التي تعد أكثر بقاعه حميمية :
هذا دخان القرى،مازال يتبعنا
وملء أحلامنا زرعٌ ، وأجنحةٌ
وصبيةٌ
وطريق في الحقول إلى الموتى
وصبار ،
فملتقى الأفق بالأرض التي اشتعلت
ألوانه شفقًا (5) .
إن هذه الصور المتداعية من المكان تنعكس عليها إيحاءات العنوان الذي حفز إليها ، فالحركة تمتزج بالسكون ، والحياة تمتزج بالعدم امتزاج الأنقاض في الطلل البالي الذي تتداعى فيه ذكريات المحبوب حياة مفعمة بالحركة من بين الدمن الساكنة ، ومن بقايا الأحجار المطمورة بالرمال ، فالقرى تلوح مُحَرَّقَةً يواريها الدخان ، ثم تتداعى منها الذكريات زرعًا ، وأجنحة ، وصبية ... ، وبينما يلوح طريق في الحقول ينتهي بالموت والصبار ، وعندما تلتقي الأرض بالأفق – في منظر من مباهج الطبيعة الفاتنة – يشتعل هذا الأفق شفقًا ناريًا يلتهم القرى ، فلا يتبقى منها غير أطلالها الملتوية دخانًا يتبع الشاعر في منفاه .
وإذا كان الشعراء قديمًا قد تباروا في تصوير طول الوقوف بالأطلال ، وشدة التعلق بها ، فهي وقفة تساوي" وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه " كما يقول المتنبي ( ت 453هـ) ، وهي وقفة تلفت دائم يتلفت فيها القلب بعد خفائها كما يقول الشريف الرضي (ت406هـ) ، لكن الوقوف والتلفت إلى الطلول عند حجازي سرمدي أزلي ؛ لأن الشمس
تتراجع عن مسيرتها فتتراكم السنوات دون أن يتقدم الزمان ، فيجتر الشاعر منها مزيدًا من الألم بلا هدف:
يا صاحبيّ قفا
فالشمس قد رجعت
ولم تَعِدْ بغد
كل المقاهي انتظار . ساء ما فعلت
بنا السنون التي تمضي (6) .
وعندما يستنكر الشاعر القديم تأبد الغول والرجام وإقفار الديار ، يكون الوطن المنسلخ عن عروبته مدعاة لاستنكار الشاعر أيضًا في هذه ( الطللية ):
يا صاحبي
أحقًا أنها وسعت
أعداءها
وجفت أبناءها الدار ؟! (7) .
وإذا كان الشاعر القديم يستطيب ألم الوقوف بالأطلال ويهش له على الرغم من ضراوة التذكر وألم الحنين ، فإن طلل الوطن المتنكر لأهله تصوره القصيدة ذئباً ينهش شاعرنا عندما يقف به تتداعى ذكريات هذا الوطن ، لكنه يهش له يعاود سؤاله عن القرى:
وملء أحلامنا ذئب نهش له
نسقيه من كأسنا الذاوي
ونسأله عنها
وننهار! (8) .
إن القارئ (( يدخل العمل من بوابة العنوان متأولاً وموظفًا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة )) (9) ، ومن ثم لم يكن لهذا النص الشعري أن يبث تلك الدلالات الخلفية ما لم يولج من ذلك العنوان الذي حفز القراءة بخلفيات تراثية جعلت تلقيه مرتهنًا بها ، فلم يلتقِ القارئ بعبارة ( يا صاحبي ) – وهي العبارة الأولى عادة في المقدمة الطللية عند العرب القدماء– إلا بعد تلقيه ستة عشر سطرًا كان عليه أن يوجهها من خلال العنوان ، فهي عبارة مصكوكة أو هي (( أكلشيه يؤدي إلى تذكر الجنس الذي ورد منه ، وإقامة علاقة بينه وبين السياق الجديد بتعارضه مع لغته الأدبية )) (10) .
وعندما يلتقي القارئ بعبارة ( يا صاحبي ) يتأكد حافز العنوان ؛ ليتدعم أثناء القراءة باعتباره إطارًا خلفيًا يبعث في القصيدة عبقًا تراثيًا حميمًا يقتضيه البكاء على هذا الوطن المنسلخ عن هذا التراث .
إن الشاعر في هذه القصيدة يبكي على طلل الوطن المتحول عن عروبته، الصافح عن أعدائه. وهو – إذ يندب هذا الوطن – لا يملك إلا أن يلوذ بماضيه وتراثه . فيستدعي قالبًا حميمًا يعيد توظيفه وهو قالب الوقوف بالأطلال . كما يستحضر صوت شاعر العربية الأكبر الذي طالما استحضره الشعراء رمزًا للشموخ والإباء ، وها هو صوت شاعرنا يتداعى مع صوت المتنبي :
يا ساقييَّ أخمرٌ في كؤوسكما
أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيدُ (11)
ليكون على النحو التالي :
يا صاحبيَّ!
أخمرٌ في كؤوسكما
أم في كؤوسكما همٌّ وتذكار !؟ (12)
واستدعاء هذه البيت من هذه القصيدة على الأخص يستدعي مخاصمة المتنبي لمصر وأهلها ؛ لأن المتنبي أنشد هذه القصيدة في هجاء كافور عند خروجه ( أي المتنبي ) من مصر . والمتنبي يندب مصر وأهلها :
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها
فقد بشمن ، وما تفنى العناقيدُ (13)
فالمتنبي يدين نواطير مصر ( سادتها وأشرافها الحافظين للكرم ) لأنهم ناموا وتكاسلوا عن ثعالبها ( التي استعارها للأخسَّاء والأراذل الذين يحكمونها قاصدًا كافورًا وشيعته )، وقد بشم هؤلاء الثعالب تخمة من خيرات مصر، ومع ذلك لم تفن عناقيد الخير فيها ! وأحسب أن موقف حجازي لم يبعد كثيرًا عن موقف المتنبي في هذه القصيدة ، حيث أشار إشارة خفية إلى هذا البيت دون أن يذكره تحديدًا . وهذه قيمة فنية للتناص الذي يحفر عميقًا ليجتلب إلى النصوص الماثلة بين أيدينا حفائر من نصوص أُخَر غائبات ، فيكون النص أكثر ثراءً بما يشي به من دلالات خفية دونما مباشرة أو تصريح .

الهوامش والتعليقات

(1) الشاعر المصري الكبير : احمد عبد المعطي حجازي من مواليد محافظة المنوفية سنة 1935م ، عضو في كثير من المؤسسات الثقافية والأدبية في مصر ، وهو رئيس تحرير مجلة إبداع التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة . حصل على جائزة كافافيس اليونانية المصرية سنة 1989م ، وحصل على جوائز أخرى مصرية وغير مصرية ، صدرت له الكثير من الدواوين الشعرية من سنة 1959 م ، ونشرت له الأعمال الكاملة عن عدة دور نشر ، كما ترجمت أشعاره إلى العديد من لغات العالم .
(2) الشعر العربي الحديث ، دراسة في المنجز النصي ، رشيد يحياوي [ دار إفريقيا الشرق ( الدار البيضاء ، المغرب ) الطبعة الأولى 1998م ] ص : 117 ، وهو يسمي ذلك الأمر ( ذاكرة العنوان ) .
(3) القصيدة مذيلة بعبارة ( باريس 1979 ) ، وهي الفترة التي عقدت فيها مصر معاهدة سلام مع إسرائيل تعرضت لقطيعة من الأسرة العربية بسببها .
(4) الكلمات والأشياء، التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي، دراسة نقدية د. حسن البنا عز الدين [ دار المناهل، بيروت، الطبعة الأولى 1989م ] ص: 105
(5) ديوان أشجار الأسمنت ، ضمن: الأعمال الكاملة [دار سعاد الصباح ، الصفاة ، الكويت1993م] ص : 575
(6) السابق : ص : 576
(7) السابق : ص : 577و578
(8) السابق : ص : 578و579
(9) العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي ، د. محمد فكري الجزار [ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998م] ص: 19
(10) علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، د.صلاح فضل [ دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1998م] ص: 24
(11) راجع البيت في ديوان المتنبي تحقيق: عبد المنعم خفاجي وآخرين [ مكتبة مصر بالفجَّالة ، القاهرة ( دون تاريخ ) ] ص : 136
(12) ديوان أشجار الأسمنت ، ضمن: الأعمال الكاملة ، ص : 577
(13) ديوان المتنبي ، ص: 137