الحنقــاب بين مصر واستراليا بقلم:محمد عبد اللطيف حجازي
تاريخ النشر : 2005-04-08
الحنقــاب بين مصر واستراليا

بقلم: محمد عبد اللطيف حجازي

"الحنقاب" يا عزيزي القارئ كلمة لا وجود لها في قاموس اللغة العربية والمقصود بها هنا هو "الحجاب" أو "النقاب" . فأما "الحجاب" فانه في لغة التزمت غطاء لرأس المرأة، وأما النقاب فهو غطاء كامل للرأس والوجه يشبه إلى حد بعيد ما كان يلبسه "زورو" ونجله في أفلام رعاة البقر القديمة عندما لا يودان الكشف عن شخصيتهما في صولاتهما وجولاتهما. وإذا عدت بذاكرتك يا عزيزي القارئ إلى الخمسينيات والستينيات فان ما يسمى الآن بالحجاب في مصر كان هو الزي الرسمي بالمدينة للغسالة وبائعة الفجل وزوجة بواب العمارة، وكان أيضا الزي الشائع للفلاحات في ربوع الريف، أي انه كان قاصرا على الطبقة الاجتماعية والاقتصادية الدنيا، وأما النقاب فإنه كان نادرا وقاصرا على بعض العجائز من بقايا العهد العثماني، بالإضافة إلى بعض النسوة من الأعراب اللاتي كن يفدن من الصحراء عندما يشتد الجدب وتضيق بهن سبل العيش فكان سبيلهن للكسب هو"ضرب الودع" أي العرافة واستقراء المستقبل.

لابسة الحنقاب عادة إنسانة جاهلة ضيقة الأفق، يزداد غباؤها يوما بعد يوم، ربما لان الحنقاب يطمس على مخها ويقلل من كفاءته وقدرته على أداء وظيفته الأساسية من التدبر والتفكر، وهي عادة إما جاهلة أو نصف متعلمة من خريجات جامعاتنا غير المثقفـات. وقد انتشر لبس الحنقاب في وطني الأم – مصر - منذ السبعينيات انتشارا إن دل على شيء فإنما يدل على انخفاض معدلات الذكاء لدرجة تعجز معها المرأة عن التدبر في كيف أن أمها وربما جدتها لم تلبسا مثل هذا الزي المنفر، وكيف أن شوارع القاهرة كانت يوما ما خالية من تلك الغربان الآدمية المحنقبة.



دلفت إلى مكتب الضمان الاجتماعي - بضاحية "كوبرج" بمدينة "ملبورن" الاسترالية - امرأة محنقبة تتشح بالسواد ولا يبدو من وجهها سوى عينيها. توجهت من تلقاء نفسي تجاه الموظف الذي استقبلها حتى أوفر عليه مشقة استدعائي لأداء واجبي كمترجم اللغة العربية بالمكتب. أذهلني أن الشبح الأسود كان لفتاة صغيرة تتكلم الإنجليزية بطلاقة النتاج المحلي لقدماء المهاجرين ... كانت صغيرة الجسم نظراتها غير مستقرة ولديها إحساس بان ملبسها شاذ فتترقب بعينيها انطباعات الآخرين الذين يدفعهم الفضول إلى اختلاس النظر إليها. أما قصتها مع الموظف فتتلخص في أن الضمان الاجتماعي قد صرف لها بالزيادة وبطريق الخطأ حوالي ثلاثين دولارا وأنها تود إرجاع هذا المبلغ. اخذ الموظف يشرح لها كيف أن استرجاع هذا المبلغ الصغير يكلف الضمان الاجتماعي أزيد منه، لكنها أصرت على رأيها ... كان واضحا أن القصد الأساسي للفتاة هو الاستعراض الرخيص للأمانة ومحاولة لتأكيد أن من يلبس مثل زيها لابد وان يتصف بحسن الخلق والأمانة وليس بضيق الأفق والعفانة ... وقفت الفتاة تستمتع بكل دقيقة أثناء قيام الموظف بعمله متأففا، بينما الطابور يزداد طولا من خلفها. بعد انصرافها قلت للموظف مازحا:

- وقفت قريبا حتى أهرع لمساعدتك إذا ما رأيت مسدسا مصوبا إلى رأسك!

فرد مبتسما:

- نحن لا نحتفظ هنا بأي نقد سائل وكل تعاملاتنا مع عملائنا تتم بالشيكات أو بالتحويل المباشر للبنوك.

- كنت استرق السمع بعد أن غلبني الفضول ... لعل الأمر كان يختلف إذا ما كان المبلغ ثلاثين ألفا!

- بالتأكيد!... لقد عجزت تماما عن إفهامها بأنه من الأفضل أن تحتفظ بالمبلغ وأننا لن نفتش عنه نظرا لضآلته... ولكن يبدو أنه من الأسهل أن تتكلم مع حائط من القرميد!

بعد أيام من تلك الواقعة وقع بصري على باص صغير مليئ بفتيات في عمر تلامذة المدرسة الابتدائية - وعلى رؤوسهن جميعا أغطية للرأس - في طريقهن إلى "مدرسة الملك خالد" ... وهنا تكشف لي لغز فتاة الضمان الاجتماعي ... إن غسيل المخ يبدأ في هذه السن المبكرة، فيتم إرهاب أو إقناع تلك الضحايا بان الله يأمر بهذا الزي العجيب، وأن الشيطان - تلك الشخصية الأسطورية الرهيبة - يكمن لهن في كل ركن ليوسوس لهن بكشف رؤوسهن على الملأ، وهنا يبدأ أيضا تعلم الكذب والزيف والنفاق باسم الدين، فلا يوجد بين تلك البراعم الصغيرة من تستطيع فلسفة أو استيعاب سر إصرار أهلها على الانفصام عن المجتمع الذي اختاروا العيش به وفصلها عنه. ولا يدري أي من هؤلاء الأهل مبلغ ما يسببونه لبناتهم من عقد نفسية نتيجة الإصرار على ذلك المفهوم الشاذ الذي يجعل من المرأة عورة يجب وضعها وراء حجاب، ليتم تهميش نصف المجتمع المنتج ووضعه خلف الجدران، فلا يمكن لامرأة ترتدي زي العصور الوسطى أن تمارس عمليا مهنة جراحة أو مهندسة، وعليها أن تقنع بذلك الدور المحدود للأم المتفرغة. أما زوجها فإنه ربما تزوج عليها ثلاثا أخر من المحنقبات، وربما تقدم بطلب منحة إضافية من إحدى دول الوهايين التي تموله لكي يشتري فتملك أيمانه عددا آخر من غير المحنقبات، على سبيل التغيير وفي نطاق ما يسمح به نمط القرون الوسطى الذي اختاره لحياته.

ذكرني ذلك بواحد من ذوي الجلابيب واللحي والرؤوس الجوفاء يضع أمواله في البنك في حساب خاص بدون فوائد، وحجته في ذلك أن الفوائد "حرام"! وعجزت عن إقناعه بان التعاليم الصحيحة لدينه قد حرمت الفوائد الباهظة التي اصطلح على تسميتها "ربا" وكان يتقاضاها من يستغل الحاجة الشديدة للناس فيفرض عليهم مبالغ كبيرة لقاء إعارة ماله لفترة قصيرة ... أما فوائد البنوك التي نعرفها اليوم فإنها لم تكن أساسا معروفة كاصطلاح أو كممارسة في وقت لم توجد به تلك البيوت التجارية التي تؤدي خدمة عامة للناس وتنظم أمورهم الاقتصادية لقاء نسبة مئوية معقولة تتقاضاها كأجر للخدمة وكحماية من التضخم دون أدنى نية للاستغلال أو فرض الإتاوات الباهظة على المحتاجين إلى خدماتها. لكن العقل والمنطق ليسا جزءا من قاموس مثل هذا الجاهل المتزمت، شأنه في ذلك شأن أصحاب الفتاوى الذين يجهلون علوم التمويل والإدارة المالية الحديثة فيلجئون لابن حنبل وابن مالك لمحاولة تطويعها دون فهمها. إن التطرف في الملبس أو الخروج على العرف في بلد أجنبي لا يخدم أية أهداف دينية أو اجتماعية، والمثل الدارج يقول "إذا كنت في روما اسلك سلوك أهلها" أي كن معقولا وتشبه في ملبسك بالناس من حولك، فلايكون مظهرك شاذا أو خارجا عن المألوف ... كان الله في عون أهل هذه البلاد! ... لقد بدأت افهم ما يبدو عليهم أحيانا من مظاهر النفور من الأجانب بعد طول تجوالي في "سيدني رود" بمدينة ملبورن الاسترالية، وهو الشارع الذي يغلب عليه الطابع التركي واللبناني ويلجأ إليه المهاجرون العرب لابتياع أغراضهم.