الحلقة الثامنة والتاسعة من ألم الفراق بقلم : عدنان أبو شومر
تاريخ النشر : 2010-04-04
القصة من نسج الخيال ..
الشخوص من نسج الخيال..
أما الفكرة فقد جاءت من الواقع..

إهداء خاص لأخي : عصام تحسين أبو عاصي .. ( أبو عصام )
****************************************************
1- في المعتقل الجديد

تغيرتْ أساليبُ َقمعِهم وتعذيبِهم , فقدْ عمدوا هذه المرةَ إلى محاولةٍ جديدةٍ لشلّ قدرتي على التفكير والتركيز بكلّ الطرقِِِِ والوسائلِِ .. فكانوا يتعمدونَ منعي من النوم ..
كلما حاولتُ إغماضَ عيني أجدُهم عند رأسي يركلونني.... يضربونني.... يسحبونني بشدة..!! ثمّ
يتغامزون ...يضحكون ..لأظلّ قلقاً ... فزعاً .. مترقباً .. أنتظر الخطوةَ َ القادمةَ .. كانَ الهدفُ من هذا كله هو الانهيار...!!!!!
عندها يمكن انتزاع ُاعترافاتي..!!
ولكنهم لمْ يحصلوا على مُرادهم .. فقد كان صبري أسطوري.. لم يكن ذلك لقوة ٍ تكمن في جسدي.. ولكن ذلك كان بفضل الله وقدرته... لأنني كنتُ أدعوهُ وأتوسلُ إليه..!!! فاللهُ لا يخيّبُ رجاءَ عبدهِ في وقت الشدة ويقف إِِلى جوارِه في كلّ أحواله..
استخدموا أساليبَ لم تخطرْ على بالِ ِ بشر ٍ .. فكل ما يجولُ في خاطرك أيّها الحرّ العربيّ و الفلسطينيّ من أساليبَ ووسائلَ جربوها معي ..
عزيمتي من حديد وهمتي عاليةٌ ..رغم كلّ ما فعلوه بي.. فقدْ كنت أبادرَهم بهجومي اللفظيّ الذي زاد من حقدِهم , فكثّفوا أساليبَهم , وصبّوا جامَ غضبِهم علي أدقّ التفاصيل .. في جسدي الذي أنهكتْه أساليبَهم الملعونة , فلم تسلمِ العينان .. والأذنان .. والأسنان والأعضاء التناسليّة من التنكيلِ والتعذيب ...
فقدْ سالتْ دمائي مراراً وتكراراً.. ..
.. ولم يبالوا بتقارير الهيئات الحقوقيّة مطلقاً ..!!
ثم قرروا عزلي بعد ذلك في زنزانةٍ خاصةٍ .. !!
الزنزانةُ : هي مكانٌ يزج فيه السجينُ منفردا .....المكان لا يليقُ حتى بالحيوانات... البولُ في سطلٍ مكشوفٍ .. .. الأكل كان إلى جانب السطل .. النوم أيضا كان في نفس المكان .. تخيلوا الصورةََ والشكل والكيفية ...!!!
صدقوني .. أنا لا أبالغُ.. فالأمر كله .. اهانة .. احتقار .. إذلال ... في محاولةٍ يائسةٍ قذرةٍ لإرغامي على الاعتراف ..!!
ولكن الثابتَ على المبدأ المؤمن بقضيته , وبرسالة المقاومة , لن يخضعَ ولن يتراجعَ عن ثوابته ِبل يظلُ صامداً صابراً حتى ولو تهادت أجزاءُ جسمه جزءً جزء ً...!!
قلت .. لن أغيرَ أقوالي ..!
كنتُ أساقُ بين الفينةِ والأخرى إلى أقبيتهم اللعينةِ ...ثم أعودُ بعد كلِ وجبةٍ بعاهةٍ جديدةٍ .. و بعد أن باءت كل محاولاتهم بالفشل .. لجؤوا إلى أسلوبٍ جديدٍ لإجباريعلى الاعتراف..
حيث قاموا بإدخالِ ِ شخص ٍ غريبٍ إلى زنزانتي تبدو عليه أثارُ الضربِ... فللوهلة الأولى يخيلُ للناظر ِ أنّهُ أخذ جرعة ً مكثفة ًمن العذاب ..ولكن ..؟!!
توخيتُ الحذرَ وقلتُ في نفسي .. يجبُ عليّ الانتظارُ وعدمُ التسرع ِ أو الإدلاءُ بأيّةِ معلومةٍ مهما كانت تافهة ً , وذلك لأسباب أمنيةٍ تتعلق بمبدأ الحيطة والحذر.
فهذا الدربُ.. لا يسلكهُ إلا القادرُ على الصمود في وجهِ العواصفِ , وينحني أحياناً لتمر العاصفة ُ دون أن تؤثرَ فيه ..
قررتُ الاستماعَ إلى هذا الدخيل ِ الجديد ِ ..
حاول التعرفَ على اسمي . فقلتُ له : اسمي محمودٌ ..قال : ما اسمُ أبيكَ .. ؟ .. رفضتُ ذلكَ وقلتُ لهُ بلهجةٍ حادةٍ : هل هذا تحقيقٌ جديدٌ..؟؟!!
ألا تكفيني أسئلتُهم..؟!!
اسمي محمود وكفى...!!!
أين تسكنُ .. قلت له : أسكنُ في أرض ِ الله ِ الواسعة ...!!
قال : أين ؟ أفي الشمال ِ .. ! أم في الجنوبِ..!
أفي الشرقِ ِ .. ! أم في الغرب ِ ..! قلت له:
كفى تحقيقاً ؟؟؟ نظر إلي ثم قال: لكنتُكَ تختلفُ عن لكنتي
قلت له: وما شأنُك أنتَ بلكنتي ... ؟؟!! يبدو بأنك لستَ فلسطينياً ..؟! بل أنا فلسطيني أكثر منك .. !!
ما هي قضيتك .. ؟ ماذا يعنيك أمري وقضيتي ؟ لم أجبهُ عن أي سؤال ٍ .. احتارَ في بداية الأمرِ وقرّر أن يلجأ إلى أسلوبٍ جديد ٍ...!!
نظرَ وأمعنَ النظرَ في وجهي ليسجلَ علاماتِه .. ثم تابع قولَه .. لماذا لا ترغبُ في الإجابة على أسئلتي .....؟؟ قلت له ُ : دعك منّي ..؟!!
أدركَ من كلامي أنّني لا أرتاحُ له .
على الفورِ افتعلَ مشكلة ً مع السجانِ بحجةِ إشعالِ سيجارة
السجينُ لا يمتلكُ علبةَ ثقابٍ أو ولاعة .. إذا أرادَ التدخينَ فعليهِ أن يطْلب ذلكَ من السجان ... فبعد أنْ أشعلَ لهُ السجان سيجارتَه صاحَ في وجهِه بصوتٍ عال ٍ ..
بالعبريّةِ .. فأنا لا أجيدُ لغتَهم ...
كانَ القصدُ من ذلكَ أن يوهمَني أنهُ شريفٌ زجّ به في السجن ِ على خلفيةِ قضية ٍوطنيّة ٍ ... أدركتُ مسرحيتَه اللعينة ..
حاولَ السجانُ لكمهُ من بين قضبانِ الفتحةِ العلويةِ ...اللكمةُ لاتصلُ بسببِ القضبان والشبك... يبدو أنّ الأمرَ متفقٌ عليهِ مسبقاً .. لذلكَ توخيتُ الحذرَ خشيةَ أن يكونَ من العصافير
كلمةُ العصافيرِ تعني العملاءَ وهي معروفةٌ لدى كلّ السجناء
والعصفورُ هوَ عميلٌ يزجّ به داخلَ الزنزانةِ لاستدراجِ السجينِ بطريقةِ الخداع ِ وأخذَ اعترافاتِه بطريقةٍ ذكيّة ...
بدأَ هذا الدخيلُ بسردِ قصص ٍ بطولاتِه ..!! كيفَ تمكنَ من قتلِ العديدِ من جنود ِالاحتلالِ في اشتباك ٍ مسلح ٍ في المكانِ... !! في يوم ....!!ا في الساعة ِ...!! ..
كل ذلكَ كان مجرّدَ أكاذيبَ وقصصٍ خياليّةٍ مختلقةٍ في محاولةٍ كان القصدُ منها إقناعي بأنهُ بطلٌ .. مغوار ٌ, حتى أقومَ بعدَ ذلكَ بالتحدث َعن بطولاتي اقتداءً به
ثم يسجل اعترافاتي .. كم من السجناء كانوا فريسة سهلة للعصافير ..!!!
اختلقَ أسماءً وهميّة ًورتّبَ الأحداثَ , تفنّنَ في إخراجِها , ليبينَ لي كيفَ تمكّنَ من اصطيادِ أفراد ِالدورية ..!!!
قتلَ العديدَ منهُم وجُرِحَ الباقين ...!!
لمْ أقاطعْهُ في بدايةِ الأمرِ فقدْ وجدَ منّي آذاناً صاغية . اطمأنّ إلى الأمرِ واستطردَ كذباً ... عن بطولاتِه الزائفة . التي لا تنطلي على أحدٍ
عندها قاطعْتُه قائلاً : ...البطلُ لا يتحدثُ عن نفسِه .. فلماذا تتحدثُ عن بطولاتِك أمامي...؟
ألا تخشانِي..!!؟ فأكنْ شاهداً جديداً على اعترافاتِك..!!
قال لي: كيفَ يكونُ ذلك...؟! وأنتَ القائدُ الكبير .... ..
نظرتُ إليهِ باستغراب ..!! وقلتُ في نفسي هذه واحدة ً ...!!!!
ثم تابعتُ قولي.. كيفَ عرفتَ ذلك ..؟؟!!
قال ببساطةٍ وبسذاجة ٍ: .. علمتُ ذلكَ منَ السجناءِ .. !!
قلت :أيّ السجناءِ الذين تتحدثَ عنهم ؟!!
فأنا حديثَ عهدٍ.. في هذا السجن..!!
يبدو أنّ الأخبارَ وصلتْ إلى مسامعكَ قبلَ أن أصلَ إلى السجنِ ..!!
على العموم ..
أنا لستُ بطلاً.. ولا قائداً ...اعتقالي كان زوراً وبهتاناً فقد كنت مسافراً للدراسةِ في الخارجِ ثمّ تمّ اعتقالي ..
نعمْ أذنْ أنتَ محمود .. المعتقلُ في عرضِ البحر
نظرتُ وحدقتُ مليّاً بقسماتِ وجهه ..وكأنّي انظرُ إلى محققي الأول نفسُ الأسلوب ونفسُ الطريقةِ في التحقيق... مراوغة وخداع .. وقلتُ في نفسي: هذه هيَ الثانية
ثم أكملتُ حديثي له فقلت :دعكَ منّي.. فكلّ ما سمعتَه عنّي .. أباطيلٌ .. وأكاذيبٌ
من الأفضلِ أن تحدثَني عن نفسِك
جالَ بنظرِه إلى الباب ثم رمقني بنظرةٍ كلها انتقامٌ, عاود بعدها كلامهُ .. ثم صمتَ فترةً متصنعاً الحزنَ والألم .. تفضحُه عينانِ تلعبانِ في كل الاتجاهات ..!!! مثل هذه العيونُ لا تكونُ إلاّ لعميلٍ استفحلتْ عمالتُه
استطردَ كثيراً.. محاولاً استدراجي ..!! ولكنّني أيقنت من كلماتٍ معينةٍ كان يهمسُ بها للسجّان بلكْنةٍ عبريّةٍ صرفة ٍ فكانت بمثابةِ رسائلَ ينقلُها هذا القذرُ من داخلِ الزنزانةٍ إلى أسيادهِ المحققين .. قلت هذه الثالثةُ والقاتلة..
تيقنتُ من عمالتِه .. وعلمت أنّهُ عصفورٌ " عميل "قررتُ أنْ أطيّرهُ يعني التخلصَ منْه
ودعوتُ اللهَ أن يعينني على ذلكَ
*************************************************
2- تصفيةُ حسابٍ :

السجانُ كما يبدو غادرَ المكانَ لأمر ٍ طارئٍ .. والعصفورُ يجلسُ على إحدى
ركبتيهِ والأخرى منتصبة ً وفي لغتنا المحلية كان يجلس على ركبة ونص
عندها قررتُ أن أنتقم َمنهُ وقتله .. جلتُ بنظري ورمقتهُ بنظرة ٍثاقبةٍ تشعّ غيظاً وحقدا ً
ثم اندفعتُ إلى بطنه ِبقوةٍ شديدةٍ ولكمتهُ بكلّ ما آتاني الله من قوةٍ برأسي , فسقط َ صريعاً يتلوى ..!!
حاولَ النهوضَ ولكنّ شدةُ اللكمة ِ حبست صوتهُ ..!!
حاولَ الصراخَ .. لم يستطعْ ..
قمتُ إليه ِرغمَ الألم ِ والجراح ِ بالضربِ على رأسهِ , ِوسائرَ جسدهِ باللكماتِ والطعناتِ..
زحفَ إلى بابِ الزنزانةِ محاولاٌ ً الوصولَ إليه ِفكنتُ له بالمرصاد ِ... لاحقتُهُ بيديّ كلتاهما , وبقدميّ كلتاهما.. , ركلا.ً. ضرباً .. طعنا ..!!َ
وكنتُ أتمنى أن أتمكنَ من القضاء ِعليهِ قبلَ قدوم ِالسجانِ فأكونَ قد نلتُ شرف َالتخلص ِ من عميل ٍ استشرى أمره..
فليكن موتي شهادة ً كنت أتمنى أنْ أتوجَ بها ما تبقى من أيامي
ثم واصلَ زحفهُ حتى وصلَ بابَ الزنزانة ِ القريب..
ضرب َ البابَ ضربة َ اليائسِ من الحياة ِ .. أصدرتْ الضربة ُ صوتاً سمعه السجّانَ ...
قدمَ بعدها على جناح ِ السرعة ِ ...
نظرَ السجانُ من طاقة ِالزنزانةِ ليجد َالعصفورَ قد غرقَ في دمائهِ.. تلاحقُ أنفاسهُ بعضَها البعض.
أسرع َالسجانُ وفتحَ بابَ الزنزانةِ .. ثمّ انهالَ على رأسي وعلى سائر جسدي بعصاه الثقيلة يضربني بكل قوة ٍ وعنف ٍ
ويشتمني بلكنته العبرية ويصيح بأعلى صوته .. يطلبُ النجدة َ...
حضرَ على الفور العديدُ من المحققينَ والسجانينَ ..
تمكنوا أخيرا ً من سحبِ العصفورِ ..وقد ْ كانَ في أنفاسهِ الأخيرة ِ..
انهالَ الجميع ُعليّ بالضرب وبالركل وبالطعن حتى ففقدت وعيي ..
أفقت على رائحةِ البولِ التي زكمتْ أنفي فوجدتُ نفسي ملقىً إلى جانب سطل ِ البولِِ
.فتحت عينيّ بتثاقلٍ , وبالكاد تمكنتُ من رفع ِ رأسي عن الأرض , ونظرتُ إلى الدماء النازفةِ من معظم ِ أجزاء جسمي ..يبدو أنّ جسمي تعرّضَ لمحاولةِ غزو ٍ فتاك ٍ أفقدتْه ُالحراكَ .. ألمٌ ينتشرُ في كافّةِ أنحاءِ جسمي ..
أما قدرتي على المشيّ أو الانثناءِ أو الحركة ِأو الزحفِ فقدْ شُلّتْ ...!!
تعرفتُ بعدَ فترة ٍعلى المكانِ من منظرِ ِ دماء ِالعصفورِ التي ما زالتْ آثارُها على أرضية ِالغرفة ِوعلى جدرانِها.....!!!

يتبع .....