الطنطاوي شيخ المنهج الانساني في الاسلام بقلم : محمد يوسف جبارين
تاريخ النشر : 2010-03-12
الطنطاوي شيخ المنهج الانساني في الاسلام
بقلم : محمد يوسف جبارين


الطنطاوي شيخ المنهج الانساني في الاسلام

بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين

محمد سيد طنطاوي ، شيخ من شيوخ الاسلام غادرنا ، فلم يعد بيننا في الحياة ، نسأله ويجيب على أسئلتنا ، لكنه مع ذلك لم يزل بفكره بيننا ، في مكتبتنا ، في متناول عقولنا ، نقرأ له ونفاد في فهم درب الاسلام في هذه الحياة ، فهذا الوسيط في تفسير القرآن الكريم ، وغيره كتب خطها بيده وفكره ، بها مساهماته في استخلاص الفهم للدين الحنيف مما شابه في غمرة احتهادات وتهافت من مجتهدين ومن متهافتين ، ومن منسلين الى ما يقيمون بأمر من الدين ما يخدم اتجاها ينحونه في الدنيا ، ولم يكن وحيدا في مجرى الزمان ينحو نحوا استخلاصيا مبينا بانيا لوعي متجدد لسماحة هذا الدين وقيامته الانسانية للآخر المختلف في الدين والرؤية للحياة ، فلقد سبقوه الى ذلك كثيرون استشعروا في مرحلة من تاريخ كانوا فيها ، بأن ما حباهم الله به من علم في الدين ، ومن امتلاك البصيرة الثاقبة ، ومن الاحاطة الواعية ، انما يوجب عليهم أن يتوظفوا في الابانة عن الحيود عن الدين ، وعما جابه من انتفاع به في دروب غير دروب يقرها ، وانما استخلاص خلاصة الاخلاص ، يوجب عليهم أن يجددوا ، ويصدحوا بالقول بما جددوا ، وأن يواجهوا بكل صلابة الفكر والقول في المواقف ، كل التيه والحيرة والارتباك والزيف الذي ساهم في حرف مهمة الدين بعيدا عما نزل به وله من رقي انساني بالانسان ، فلعله الانسان بما يرقى اليه نافعا نفسه ، وغيره ، وبانيا حياة انسانية تفيض بالانسانية على الذات الانسانية ، آمنت بالاسلام أم لم تؤمن ، فليس من الاسلام اكراه على دين وليس من الاسلام ، أن يظلم من يحبا في ظل الاسلام من دان أو يدين بغير الاسلام ، فالاسلام جامع الانسانية ، فالكل في كنف الاسلام محقق انسانيته ، فمجال تحقيقه لانسانيته واسع سعة الاسلام ، فهو دين العالمين ، فهو النظام الذي تنتظم في اطاره كل النظم في تعادلية لا تقيم لظلم قيامة ، فلا من يقيم ظلما ولا من يستبقيه ، فلا دعامة له ، فالظلم نقيض الانسانية ، وقد ألزم الاسلام المسلمين باقتلاعه ، فكذلك السلام الاجتماعي يقام فاتحا درب الاستقرار ، كشرط بنائي لتدافع بنيان الحياة الى أرقى فأرقى ، فأما الذين هم بالظلم يخلخلون التماسك الاجتماعي ، فانما هم المهلهلون الذين يحترفون بنائية تخريب متنافية مع الاسلام ، فهم المولدون للفتن والصراعات الداخلية التي تتهالك بها الطاقات الكامنة في المجتمع ، فينتجون بما هم فاعلون الضعف الذي يضعف المقدرة على النمو والتطور ، ويوفرون بذلك تهاوي القدرة على توفير الأمن للمجتمع ، ومن هنا فانما عملهم الفتنة التي تنصرف في خدمة العدو الخارجي المتربض بالمجمتع بكل كيد ، قصدوا ذلك أم لم يقصدوه ، فهذه نتيجة حتمية لمجرى سير الانحراف عن الدين الاسلامي القويم ، فمن هنا ، من هذا الترابط يبدأ يتشكل منطق تناول ، تتأسس عليه ذهنية الشيخ الطنطاوي ، في كل تناول له لمسألة من مسائل الحياة ، فعنده قد تجلت ثلاثية الأرض والانسان والقرآن ، وانما نزل القرآن ليكون الاسلام نظام الحياة لهذا الانسان في هذه الأرض ، فتلك مشيئة الله ، وتلك ارادته ، وما للداعي الى الله الا أن يحفظ الانسان في كل تكوين لحكم منصب عليه ، فالانسانية في تجليها - في خلال - الاستبعاد لكل ما يحد من استبقائها فاعلة في التكوين الانساني ، وفي الوجود من حوله ، انما هي أساس كل اطار لفهم فاعل ومحقق بفعل انساني في الحياة ، فالانسان هو هذا الذي يحمل الاسلام الى الانسان ، فمنطق التناول ( المنهج ) .. منهج الدعوة الى الله لا بد وأن يكون بذاته المنهج الانساني ، وهذا بالفعل ما استوى عليه عقل الشيخ الطنطاوي ، وتدل على ذلك كتاباته ، واني من خلالها حاولت أن أجلي هذا ، وبالفعل كان هو هذا المنهج الانساني الذي يمكن من خلاله الاقتراب من فهم الشيخ الطنطاوي .. ووعي رؤيته وطرائق صياغاته للنصوص ، ولكل بنيوية لحكم قال به ، وانها جملة أريد أن أقولها وهي بأن الشيخ لو لم يتصدر للفتيا في زمانه ، لما استدعى قول له كل ذلك النقد الذي كان يتبع قوله في الفضاء العمومي ، ولو أنه لم يكن يحمل جانبا من أعباء نظام حكم في مصر ، فما كان لموقف أو قول له أن يتشكل - في ضوء منهجه الانساني - بأخذ اعتبارات لمتغيرات قائمة أو لربما تستجد وتترتب على موقفه أو قوله ، فمن الفتيا ما اندرج في سياقات ما تسمى بالمصلحة العليا للوطن ( ومنها ألأمن وما الى ذلك ) ، ومن هنا جاء الحال الذي بدا فيه الشيخ وكأنه يتعرض لهجمة من هنا ومن هنا ، من أفواه غاضبة على قول قال به ، أو موقف ألح عليه ، ولكننا في تمحيص لتلك الهجمات ، فسرعان ما نعي بأنها من أطراف حسمت موقفها ، وحددت آراءها ، وبها استعداد دائم للرفض لكل ما يتنافى مع مقولاتها ، فتلك لم يخطر على بالها الحوار فتحاور ، وتبحث عن رأي آخر فلعله الصواب في جانب غيرها ، وباستدراك التفاتة تاريخية تمر على التاريخ بقراءة متبصرة ، فتجلي ما عجت - في خلاله - الانحرافات بفهم الاسلام عن جادة الحنفية السمحاء ، لنجد بأن الهجمة على فتيا الشيخ ، انما كانت في منظور الشيخ الطنطاوي آتية من داخل كل ذلك الانحراف الذي تشرنق به من تشرنق وتعصب واستعمى ، ولم يعد يرضى بغير مقولات منسجمة مع ذاته ، فكل هذا يدلنا على عميق اتصال الشيخ بمنهجه ، وعلى تمسكه بصوابيته فاصراره على تصحيح وعي وفهم ودرب ؛ آل الشيخ على نفسه الا أن يأخذه على عاتقه ، فلقد كانت به صلابة عقيدة ، وتأبى الا أن تتجلى بكل سماحتها وانسانيتها ، فرحم الله الشيخ ، وأنار درب المسلمين بعلمه ، فلقد كان يريد عمره كله في خدمة القرآن ، وكما قصده أبدى ، فكأنه في عرفه حياته التي يمضى بها في الدنيا .
وانه الموت الذي أسكت أنفاس الشيخ ، وأوقف دبيب قدميه في الدنيا ، ومع ذلك لم يفلح في قطع وجود فكره في الحياة ، فكان شأن الموت مع الشيخ كشأنه مع الخالدين الذين لا يملك حيالهم أن يقطع صلات تأثيرهم الفكري في مجرى الحياة ، فالشيخ لم يزل فاعلا في خدمة الاسلام ، بما أودعه المكتبة من تفسير كامل للقرآن ، ومن كتب ودراسات ، هي في متناول طلبة العلم في دور لعلوم الدين ينهلون منها ، وسوف تظل تنهل من فكره أجيال وأجيال تتعاقب في مجرى الزمان على هذه الأرض .
وانها الحياة ، فطالما أن هناك حياة ، فان هناك الدموع التي تسيل على جوانبها ، فالأعلام من القامات الرفيعة للشيخ منارات تضيء الدروب ، كما القمر في الليالي المظلمة ينير الدرب ، فيعرف الناس مواطىء الأقدام ، ولقد كان الشيخ الطنطاوي واحدا من هؤلاء ، فهكذا شأن مقامة لدى المشتغلين في علوم الدين في معاهد قامت للدين ومن بينها الأزهر الذي كان يرأسه ، ولقد قلنا بأنه تصدر في مرحلة من حياته الى الفتيا ، وفي هذا الجانب كان عليه أن يكون لصيقا بما وعاه من سير تاريخ ، ومن فهم للاسلام شابه ما شابه من انحرافات عن الحنفية السمحاء ، لقد انتبه انتباها واعيا وعميقا في الفهم ، لحياتنا نحن المسلمين ، في الفترة الممتدة تحت حكم الفاطميين والعباسيين ، وما كان للفرق من تأثير على الفكر وعلى الفهم للدين ، وما تلا ذلك من تشديد قال به ابن تيمية ، وشاع بدعم من الوهابية التي لم يتردد الطنطاوي في انكار كونها مذهبا من مذاهب الاسلام ، لقد كان يعرف درب ابي بكر ودرب عمر ودرب عثمان ، ومن هنا عرف منهجه الانساني ، وأراد له تمايزا ليتجلى بذلك درب المسلمين أمامهم بعيدا عن التعصب ، وبعيدا عن الانغلاق ، وبعيدا عن الحجر على العقل ، كان يريد للمسلمين أن يأخذوا دربهم في الحرية وبالحرية في نطاق اسلام الحرية الذي كان له الامتداد الكبير في الأرض ، وكان يعرف بأنه بهذا يمكنهم المسلمون أن يشقوا دربهم في الحياة وهم في محل احترام وتقدير لأنفسهم ولغيرهم ، وبهذا يفرضون احترامهم على غيرهم ..ويشقون بذلك الطريق الى دعوة الاسلام .. كان الطنطاوي صاحب منهج ( منطق تناول ) .. المنهج الانساني ..الانسان أولا ..التسامح ...احترام العقل ، المرأة ليست أنثى وفقط وانما هي عقل ، وهذا العقل يجب أن يأخذ دوره في البناء ، فعلى صعيد العقل لا فرق بينها وبين رجل ، فالذكورة تقابل الأنوثة ، فكل عليه أن يأخذ دوره في البناء ، تصبح هي قاضية ، رئيس دولة ، فهذه تحتاج عقل ولديها العقل الذي يمكنه أن يبز الرجال ، ... الاعتراف بالآخر ..الحوار ..لا نفي الآخر ، فلا للانغلاق والتحجر الفكري والانكفاء على الذات ، بل التعاون هو سبيل النهوض ، والتفدم ، وقال : لا للارهاب ، وبظني وهو يقول ذلك كانت تتردد في ذهنة تلك الأعمال الارهابية التي كان يقوم بها الخزر في خدمة بيزنطة ضد الدولة الأموية ، وأيضا الأعمال الارهابية التي كانت تقوم بها الدولة الفاطمية في مصر ضد الدولة العباسية في بغداد ، وأيضا تلك التي كانت تقوم بها الباطنية ، وكذلك القرامطة ، فكل الارهاب من ذلك الذي يتفكك به المسلمون أو يستدعي عداء الآخرين عليهم بغير سبب وحاجة الى ذلك ، وما يترتب عليه من ضرر بالغ على المسلمين ، قد كان الطنطاوي يدركه ويقف ضده ، وقد كان ينظر في الحال الذي آل اليه المسلمين من تفكك وبؤس حال وضعف في مقابل ما آل اليه الذين حققوا سبقا علميا عليهم ، ويجد له ما يقابله من أزمنة في تاريخ الاسلام خلت ، ويستوى على نفس الادراك الذي استوى عليه المؤرخون المسلمون ، بالقول بأن المسلمين هم الذين يهزمون أنفسهم قبل أن يهزمهم أعدائهم ، وتلوح أمامه في ضوء ذلك تلك الفتن الداخلية التي شبت في داخل الدولة الأموية والتي من دونها كان يمكنها الدولة الأموية أن تحيل أوروبا الى الاسلام والى الأبد ، ناهيك الى فتن أخرى وأخرى جابت مجرى التاريخ وعصفت بالمسلمين ، فسيل من دماء المسلمين سال بأيد مسلمين تناطحوا وسفكوا دماء بعضهم بعضا ، فكان اعلاء التسامح في فكر الطنطاوي وعيا بضرورة الحرص على آصرة الأخوة بين المسلمين ، فهي واجبة تساند وتعاضد ، بها يستقوون ويشتد بأسهم ، ويباعدون بينهم وبين ضعف يمسهم ، كان لديه دم المسلم على المسلم حرام ، كان الطنطاوي صاحب المنهج الانساني القرآني الذي لم يتردد في مواجهة عصف الانحراف عن هذا المنهج الذي بهر به المسلمون العالم بأسره في زمان مضى ، وقد آن لهم أن يعودوا اليه ، بتطهرهم من الانحرافات عن جادة الانسانية التي هي أبلغ مفاتيح الفهم للاسلام ...