سنية قراعة بقلم:سليم عوض عيشان ( علاونه )
تاريخ النشر : 2009-07-15
سنية قراعة  بقلم:سليم عوض عيشان ( علاونه )


" سنية قراعة "
قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونه )
غزة الصمود
________________

" سنية قراعة "

مهداة بتواضع :
إلى روح الكاتبة الكبيرة " سنيه قراعه "
___________________________

يومها .. كنت أنتقل من مرحلة الطفولة المتأخرة إلى مرحلة الشباب المبكر …
طفل كبير … أو شاب صغير .
رغم الفقر المدقع الذي كانت توسم به أسرتي ، إلا أنني كنت بين الفينة والأخرى أشتري كتاباً … صحيفة … مجلة ، ليس هذا أو ذاك عن بذخ وإسراف … بل عن ادخار بسيط لقروش زهيدة على حساب حرماني النفسي والجسدي من التمتع المتواضع بأشياء بالكاد أن أستطيع شراءها من مصروفي البسيط .
مطالعاتي المتواضعة تلك لعلها كانت نواة تعلقي بالأدب والكتابة ، فلقد تعرفت إلى أسماء أدباء عالميين .. وأدباء عرب مشهورين … ففي أثناء نقاشاتي الطويلة مع زملائي الأطفال الكبار … أو الشباب الصغار ، كنت أتفوه بأسماء مشاهير الأدباء فأقول لهم شيئاً عن نجيب محفوظ أو العقاد ، ونبذة عن يوسف إدريس أو السباعي ، وفي أحيان أخرى أسرد على مسامعهم مقاطع من كتابات أدبية لأمينة السعيد أو غيرها من الكاتبات المبدعات .
عرف زملائي شدة تعلقي بقراءة الأدب والقصص ، فكانوا لا يبخلون عليً بقصاصة
من صحيفة ممزقة ، أو قطعة من مجلة مهترئة وجدها أحدهم في طريق عودته من المدرسة البعيدة ، ويقدم لي آخر قصة أدبية عزف عن مطالعتها بعد أن أجبره شقيقه الأكبر على المطالعة ، فأتناولها بحرص بالغ وسعادة طاغية ، ولا يلبث الصديق أن يبتسم ابتسامة عريضة ذات مغزى وهو يتمتم :-
- أرجو أن تعيدها لي خلال ثلاثة أيام على أكثر تقدير ..
ثم يتبع :-
- وأن تفهمني فحواها في وقت أقصاه ثلاث دقائق على أكثر تقدير …
يتبع شارحاً :- لكي يتأكد شقيقي من مطالعتي للقصة ؟؟!!
فلا يسعني والأمر كذلك سوى الانصياع لأوامر وتعليمات الصديق خشية عدم حصولي على الكنز الثمين ، فأعيدها له قبل الموعد المحدد وأختصرها له في وقت أقصر فيسعد صديقي أكثر ، وأحصل على كتب أخرى .
في أصيل ذلك اليوم البعيد القريب … كنت أسير على شاطئ البحر مع بعض الأصدقاء كالعادة نطالع كتاباً مقرراً … نتناقش … نشرح … نحلل … نختلف … نتفق .
صديق آخر يأتي عن بعد يناديني بأعلى صوته …. ألتفت نحوه … أراه عن بعد … يلوح لي بيديه يتجه نحوي متهلل الوجه … وحوله ثلة من الأصدقاء …. يقترب مني أكثر … يناديني :-
- أين أنت ؟؟؟ أين أنت ؟؟؟ إنني أبحث عنك منذ ساعة أو ما يزيد …
" ماذا يريد مني ؟؟!! ماذا أريد منه ؟؟!! لا شيء على ما أذكر "
ينقذني صوته الضاحك من خضم أفكاري المتلاطمة :-
- إنها صاحبتك … هناك ..
شدهت للأمر … عجبت …" فلم يكن لي صاحبة أبداً … سوى أمي بالطبع وشقيقتي الصغرى " تمتمت :-
- صاحبتي ؟؟!!
أجاب مؤكداً بابتسامة عريضة :-
- نعم … صاحبتك … إنها تجلس هناك …. على رمال الشاطئ الذهبية … أمام مقهى الشاطئ .
لم أحر جواباً … فأنا لم يكن لي صاحبة مطلقاً … ولم أفكر بمثل هذا الأمر في يوم من الأيام …
يصر صديقي على الأمر … يتابع متقافزاً متضاحكاً …
- إنها صديقتك … الأديبة الكبيرة … التي طالما حدثتنا عنها … التي تردد اسمها كثيراً على لسانك ..
والتي قرأت على مسامعنا شيئاً من كتاباتها وأدبها … و …
أفقت من شرودي وذهولي :-
- من تقصد بالله عليك يا هذا ؟؟!!
أجاب بسعادة وحبور :-
- إنها " سانيه " … " سانيه قرعه " ..
تساءلت بدهشة وغرابة :-
- من ؟؟!! من تقول ؟؟!!
- أقول لك إنها … " سانيه " … " سانيه قرعه "
- أوه يا عزيزي … ليست هناك أديبة أو كاتبة بهذا الاسم .
- أنا متأكد من ذلك .. إنها " سانيه " … " سانيه قرعه " ألا تذكرها ؟؟!! تذكر يا صديقي … تذكر …
لقد كنت تردد اسمها دائماً على مسامعنا وتسرد علينا الكثير من أدبياتها … كنت تقول لنا بأنك تعرفها جيداً … وأنها تعرفك جيداً … تذكر يا عزيزي … تذكر ..
" قدحت زناد فكري … رحت أعيد تذكر الأسماء لكبار الأدباء علني أعثر على الاسم أو على اسم مشابه … ابتسمت ابتسامة غريبة … بعد أن اعتقدت بأنني قد عرفت من يقصدها الفتى …
هتفت به :-
- لعلها … " سنيه قراعه "
أجاب باندفاع جنوني وسعادة غامرة …
- نعم إنها هي …التي تقول
- وأين هي يا صديقي بالله عليك ؟؟
- إنها هناك … في المقهى القريب من هنا … تجلس إلى رمال الشاطئ الذهبية … تكتب … إنها تكتب شيئاً ما …
" هرولت مسرعاً حيث أشار صديقي … هرول الفتية يتبعوني … سعادة غامرة غريبة تطغى على حواسي بلا استثناء … فها هي الأديبة الكبيرة " سنيه قراعه " بشحمها ولحمها تجلس هنا … على شاطئ بحر غزة .. يا للقدر … يا للمصادفة العجيبة … يا لحظي العظيم .. أي حظ رائع هذا الحظ اليوم ؟؟ لقد عشت طوال عمري أقرأ لكبار الأدباء والكتاب … ولكن … أن أرى أحدهم أمامي … فهذا شبه مستحيل … بل لعله المستحيل نفسه … ولكن هذا المستحيل يصبح الآن حقيقة … حقيقة واقعة … فها هي الأديبة الكبيرة جسداً وليس روحاً … بل جسداً وروحاً … تتمثل أمامي هنا … أراها بعيني ؟؟!! أي حظ عظيم هذا .. أي حظ ؟! "
هرولت … أسرعت أكثر … عدوت عدواً … الفتية يلاحقونني … أدركني أحدهم ولعله من أسر إليّ بنبأ وجود الأديبة الكبيرة هنا على الشاطئ … أمسكني بيدي .. أشار بالأخرى ناحية الشاطئ … هتف :-
- إنها هناك … أنظر .. هناك … إنها " سانيه قرعه " ألا تعرفها .
" عجباً لأمر صديقي هذا … فهو ما زال يصر بأن اسم الأديبة الكبيرة هو " سانيه قرعه " إنه لا يعرف أن ينطق اسمها بشكل صحيح رغم أنني أعدته عدة مرات على مسامعه … يبدو بأنه يصعب عليه أن يعيد حرف الألف إلى مكانه الصحيح … فهو قد أسقطه من قراعه وجعله " قرعه " ونقله إلى " سنيه " فأصبح " سانيه " ..
تنبهت من شرودي وأفكاري على صوت صديقي وهو يقول متهللاً مستبشراً :- لقد وصلنا ..
" توقفت عن الهرولة … عن السير … عن العدو … عن الحركة … عن التنفس … ولعل قلبي قد توقف عن الوجيب أيضاً … نظرت حيث أشار الصديق … نظرت إليها كالمأخوذ … كالعابد … المتأمل … العاشق …. " تجلس إلى رمال الشاطئ الذهبية .. إنها هي … " سنيه قراعه " بشحمها ولحمها … إنها تماماً كما رأيت صورتها عدة مرات في المجلات والصحف والكتب … النظارة … هي نفس النظارة … الوجه نفس الوجه … الشعر … الأنف … الابتسامة الغامضة … "
" إنها في معبدها … تتعبد في المحراب … تكتب … إنها تكتب شيئاً ما … قصة … مقالة … رواية … ما أجمل أن يشاهد عاشق الأدب والكتابة معشوقته الأديبة الكبيرة وهي تمسك بالقلم لتخط به على الصفحة البيضاء … إنها لمعجزة حقيقية لإنسان بسيط مثلي أن يرى مثله الأعلى … الأديبة العظيمة … الكاتبة المبدعة .. وهي تصب إبداعاتها وتفرغ شحناتها الأدبية … ولكن لا شك بأن المعجزة ستكتمل فيما لو قدر لإنسان بسيط مثلي أن يرى عن قرب ما تكتبه الأديبة الكبيرة … "
" … ببراءة الطفولة … وسذاجة العاشق الصغير للأدب الكبير والأديبة العظيمة … تقدمت خطوة … وأخرى بحرص وحذر حتى لا أشوش أفكار أديبتي العملاقة … كنت في منتهى الحرص على مشاعرها وأحاسيسها … اقتربت قليلاً … قليلاً .. أتأمل كاتبتي المبدعة وقلمها الخلاق … أريد أن أنعم أكثر … أن أشبع نهمي ورغبتي الأدبية من هذه الفرصة التي قل أن يجود الزمان بها على أمثالي … أريد أن أرى كيف تخط الأديبة الكبيرة بالقلم سطراً … كلمة … حرفاً … لكي تصبح المعجزة كاملة متكاملة " .
" رفعت الأديبة الكبيرة عينيها ورأسها عن الورقة … توقفت عن الكتابة بعد أن أحست بالأقدام الصغيرة تقترب منها … نظرت نحوي … يا لفرحتي الطاغية … إنها تنظر نحوي بالذات … لعالها عرفتني ؟؟!! ألست واحداً من قرائها ؟؟!! ألست عاشقاً لأدبها ؟؟!! صوبت نظراتها نحوي … سعدت … فرحت … زغردت نفسي … رقصت روحي … لا شك بأنها قد عرفتني … يا للسعادة الطاغية … يا للسرور الأبدي."
" حركت شفتيها استعداداً للحديث … يا لفرحتي الطاغية … يا للسعادة اللامتناهية …
لا شك بأنها سترحب بي … ستجلسني إلى جانبها … تطلعني على ما تكتب … لقد اكتملت المعجزة إذاً … ألم أقل لكم أيها الصبية بأنني أعرفها جيداً وأنها تعرفني جيداً ؟؟!! "
- إمشي يا ولد … إمشي …
لم استوعب الكلمات … الحروف … السعادة تطغي عليّ … نفسي ترفض أن تستمع إلا لما تريد … بل لعلها عبارة الترحيب عند الأدباء الكبار ..
- إمشي يا ولد … إمشي …
" مستحيل ؟؟!! مستحيل أن تكون هذه الكلمات هي التي صدرت عن أديبتي العظيمة … وإن كانت قد تفوهت بها بالفعل … فبالتأكيد بأنها تقصد غيري … طفل آخر … أما أنا فهذا مستحيل … فأنا أعرفها .. أعرفها جيداً .. وهي تعرفني .. تعرفني جيداً .. ألست أحد عشاق أدبها وكتاباتها ؟!
- إمشي يا ولد … إنت يا " مسلسع " ..
غشاوة … دوار … نظراتها مصوبة نحوي … نحوي بالذات … إنها تقصدني إذاً بالذات … وهي تعرفني جيداً إذاً … فإن لقبي عند الجميع هو " المسلسع " ذلك لأنني كنت ضعيف البنية …طويل القامة …فالجميع ينادونني بهذا اللقب " مسلسع " فأمقت أن أسمعه منهم … وها هي أديبتي الكبيرة تناديني بهذا اللقب فأستعذبه ويسحرني …إذاً فهي تعرفني … بل تعرفني جيداً … "
" … تسمرت في مكاني … أنظر نحو أديبتي العملاقة ببلاهة .. أتساءل بغباء في سري …" طالما أنها تعرفني جيداً … وتناديني بلقبي " مسلسع " فلماذا إذاً تقول لي " إمشي " ؟؟!! فلعلها تقصد بـ " إمشي " هذه أن أمشي إليها ؟؟ أن أمشي إلى جوارها … فمن المستحيل أن تقصد بها أن أمشي بعيداً … أن أبتعد عنها … مستحيل ".
ألقت بالقلم جانباً بعصبية … طوت الأوراق بنزق … نهضت من مكانها … لا بد بأنها تريد الترحيب بي ؟؟!! خلعت النظارة عن عينيها … لا بد أنها كانت تريد أن تراني جيداً وتتحقق مني ؟! اقتربت مني … مدت يدها نحوي فعلاً …. ألم اقل لكم بأنها تعرفني جيداً ؟؟!! لعلها كانت تريد احتضاني للترحيب بي … ألم اقل لكم بأنها تعرفني جيداً ؟! رفعت يدها في الهواء عالياً … لعلها تريد أن يكون الترحيب أعظم … ألم اقل لكم بأنها تعرفني جيداً ؟؟!! هوت بيدها إلى وجهي … صفعة قوية … لم أحس بها … كل ما أحسست به بأن الأرض تدور بي … حسبت بأن صاعقة وقعت من السماء فوق رأسي ووجهي ..
اتبعت الأديبة الكبيرة بصوت مزلزل كالرعد :-
- إمشي يا " مسلسع " إذهب للعب بعيداً من هنا أيها المتطفل ؟؟!!
أفقت من شرودي وشبه الغيبوبة … على صوت قهقات عالية مجلجلة مدوية … الأصدقاء من حولي من الفتيان … يضحكون عليّ … يسخرون مني … يهزأون بي … ويقهقهون ..
شدني صديقي من يدي ليبعدني عن المكان… ليبعدني عن صفعة أخرى كانت في طريقها إلى الجانب الآخر من وجهي كي تعيد لي التوازن ؟؟!! أو ربما عن ركلة قوية تبعدني عن المكان بعد أن رفضت طوعاً الابتعاد ؟؟!! ولينقذني من الموقف الحرج بما تبقى لي من ماء الوجه الذي انسكب جله حاراً نحو مياه البحر … همس في أذني :-
- ألم تقل بأنك تعرفها جيداً … وهي تعرفك جيداً ؟؟!!
أفقت من ذهولي .. من شرودي .. من شبه الإغماءة .. تحسست الصفعة القوية على وجهي ..
بالكاد استطعت أن أتفوه بعدة كلمات :-
- ماذا قلت اسمها ؟؟!!
قال صديقي بمرح :- " سانيه قرعه "
"تمتمت كالنائم :-
- أنت محق يا صديقي … إنها " سانيه قرعه " … " سانيه قرعه " وليست " سنيه قراعه " أبداً !!