قراءة نقدية في قصة دلال خليفة (السد) بقلم: محمود فهمي عامر
تاريخ النشر : 2009-04-13
قراءة نقدية في قصة دلال خليفة (السد) بقلم: محمود فهمي عامر


قراءة نقدية في قصة دلال خليفة (السد) بقلم: محمود فهمي عامر

(ولكن سدهم مات، والسد لا يلد السد) بهذه النهاية التراجيدية الحزينة والمتشائمة بحذر ختمت الكاتبة القطرية دلال خليفة قصتها القصيرة (السد) المنشورة في مجلة (ثقافة) الصادرة عن الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر2005م، ص: 60-62.

وكان عنصر المكان كما بدا من العنوان هو العنصر الرئيس والرمز الأساس الذي استعانت به الكاتبة ليؤدي دور شخصيتها الرئيسية، ولتقيم خلاله بناء قصتها التي يظن القارئ المقيم في المكان، ومن النظرة الأولى للعنوان أن دلال الخليفي ستؤثث قصتها في حي تجاري وسكني في مدينة الدوحة القطرية، وهذا المكان من لحظة عنوانه المعروف لدى سكان قطر لا يشعر القارئ في طبيعة واقعه برمزية الأسلوب المستعمل في القصة، بل تظن أنه يصب في نمط القصة الواقعية.

وجاءت خصوصية المكان باعتماد الكاتبة على ذلك الأسلوب الذي غلب عليه رمزية المرايا والأزقة والأقنعة؛ حتى تشعر من القراءة الأولى للعمل وكأنك في قلعة من قلاع التحدي التي نشاهدها في التلفاز، لها مدخل مبتسم وواضح المعالم، ولكن الوصول إلى مخرجها يمر في متاهة من الأحداث الرمزية المتصارعة مع عناصر القصة، بل ترى نفسك أحيانا قليل الذكاء بعد الانتهاء من فقرة والشروع في فقرة أخرى؛ لأن الفكرة تصطدم بأختها، فتدفع ضريبة إضافية في التركيز أثناء القراءة، وبصراحة مطلقة عندما بدأت القراءة من باب التسلية الثقافية لم أتوقع هذه الرمزية العالمية من كاتبة قطرية لم أكن أعرفها بهذا الحجم الفني حتى أوقفتني بذكائها الأسلوبي لتقول: أعد القراءة، ولكن باهتمام أكثر أيها القارئ العزيز.

نعم بهذه الأجواء الحلزونية في مطاردة رمزية لقارئ قصتها نجحت الكاتبة المبدعة دلال خليفة في شد انتباهنا للخيط الذي تعلقت به مدينة السد، وحبكت خلاله قصتها حتى هوت في نهايتها واستلمت لأعدائها بفك عقدتها المتمثلة بشخصيتها الرئيسية السد.
وأشكر الكاتبة دلال خليفة على معروفها التكميلي في حل متاهتها الفنية عندما وضعت نجمة صغيرة بعد كل مقطع؛ لتسهل على القارئ عملية التذوق الأدبي، ولتحقق غايتها الثقافية من القصة.

انطلقت فكرة النجمة الأولى في رمزيتها البيئية التسجيلية للمكان من: (مدينة صغيرة تضربها الريح من جهات كثيرة؛ لأنها بلا وزن... مر شاب من أبنائها بأطرافها الجنوبية، فإذا به يرى الماء من فجوة بين المرتفعات يرتفع ويكاد يفيض فيصب من خلالها على المدينة ويغرقها... فجلس أمامها وقد سدها ظهره تماما... وهنت الشمس وأخذت تتسارع إلى المغيب فلم يغادر مكانه... إنه السد الذي يحمي المدينة الليلية... وتعوي الذئاب من بعيد... ونذر نفسه وهو يتوجع ألما أن يكون هذا موقعه إلى نهاية عمره)، وكما نلاحظ هنا استعانت الكاتبة بالماء والريح والشمس والذئاب؛ لتعبر عن حجم الخطر الخارجي الكبير الذي يحيط بهذه المدينة الصغيرة في عيون أهلها، والكاتبة هنا توجه نقدا اجتماعيا للسكان المحليين الذين لا يقدرون استراتيجية المكان الذي يعيشون فيه حتى يمسي بجهلهم وتخلفهم فريسة سهلة للمعتدين أو الغرباء، والسؤال: لماذا اختارت القاصة دلال خليفة هذه العناصر الأربعة لتكون طرفا في صراعها مع السد؟

بما أن الكاتبة استعانت بالمكعبات الفنية في عملها القصصي؛ فالحاجة النقدية اقتضت تفسيرا يراعي هذه الذهنية بمعادلاتها الفيزيائية، فهي نماذج بيئية تتصف باستمرارية الفعل وردته، وهي في الوقت ذاته تكمل بعضها؛ لتصل إلى نتيجة واحدة تخدم مصالح الأطراف المتصارعة حول هذه المدينة، وهذه المعادلة تفرض معادلة أخرى صامدة تتصف بالمقاومة المتواصلة التي لا تغفل عن دورها الحدودي لحظة واحدة، فالشمس بغياب أشعتها تسلم الذئب مهمتها الإرهابية خلال عوائه لاقتناص الفرصة المناسبة في الهجوم على المدينة في غفلة من أهلها، والريح تحرك الحجارة أو تدفعها لتتسع الفجوة للماء، وتأتي معادلة السد التعبوية لتفسد مخططات المعادلة المعادية ببرهان المقاومة والتحدي (وكلما اتسعت الفتحة التي يريد الماء أن ينفذ منها عرض ظهره ليسدها سدا محكما، وكلما علا الماء استطال ظهره ليحجبه، وكلما ازداد اندفاع الماء قوة ازدادت أحجاره صلابة وقدرة على الصمود)، وتشير المعادلة من طرف آخر إلى أن أي ضعف في طرفي المعادلة يوثر على وجوده المكاني.

واعتمدت فكرة النجمة الثانية على عامل الزمن (ولكن الزمن كدأبه دائما يغرد مع الأشياء حينا، ثم يغرد ضدها إلى النهاية... وفجأة يدرك السد قانون الزمن الصارم، ويدرك أنه يضعف، فيجوب المدينة بحثا عن البديل)، وهذا العامل الزمني هو الذي دفع السد إلى الزواج وممارسة فعل الإنجاب؛ لعله يجد من صلبه من يؤدي مهمته الصعبة أو يحمل مسؤوليته الشاقة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد أنجب ثلاثة نماذج إنسانية تعبرعن سكان المدينة (يذهب إلى كبيرهم، ولكن كبيرهم يعيش منذ ولد في أسطوانة عالية لا يسمع فيها إلا صوته... أخوه يعيش عاليا في الهواء، لقد رفعه الناس من أجل أبيه، وهو لا يريد أن يغادر مكانه خوفا من السقوط منه... لن يترك منصبه العالي من أجل أن يحمي المدينة... ويتجه إلى الابنة... ولكنها تهز رأسها معتذرة، إنها الآن راقدة على البيض، لا تستطيع ترك بيضها من أجل المدينة)، وهذه النماذج الثلاثة التي لم تقدر قسوة الزمن وأثره الواضح على ملامح المكان وسيده الذي (لا يستطيع استقبال ضربات المياه الباردة) كانت سببا في بروز النجمتين الثالثة والرابعة، وقد تمثلت الثالثة بشجاعة الغرباء في الدخول إلى المدينة والتفاوض الديكتاتوري بشروطه المجهزة مع أهلها المتخاذلين، منتهزين مرض السد وعجزه عن مواصلة الطريق (ولكن ها هم صامتون لا يستطيعون الكلام... ماذا تريد منا الحكومة؟ يتشجع أحدهم... تريد لكم أن تختاروا أجمل بقعة في البلاد لتقيموا عليها مدينة أخرى لكم)، أما النجمة الرابعة فقد برزت بهروب أهلها منها صاغرين خائفين من المياه والريح، فكان الاحتلال الكامل للمدينة الذي غير كل معالمها التي تشير إليها حتى لم يستطع أهلها بعد فترة وجيزة التعرف عليها.
بهذه الأجواء العالمية المناسبة لكل زمان ومكان والمعبرة عن الشخصيات وتصاعد صراعهم الذي يصل إلى عقدتهم ويحدد نهايتهم، وجدتُ الكاتبة القطرية دلال خليفة متمكنة من أداتها الفنية في التعامل مع عناصر القصة بنضوج فني فريد تستحق عليه التقدير.

فائدة:
•فازت دلال خليفة بجائزة الدولة التشجيعية في مجال القصة عام 2005م.
•كاتبة روائية ومسرحية وقاصة، ومن أهم أعمالها الحديثة: ( التفاحة تصرخ الخبز يتعرى) مجموعة مسرحية، صدرت عن المجلس الوطني للثقافة الفنون والتراث، الدوحة – قطر عام 2004م، وكتب الناقد المسرحي أكرم يوسف من جريدة الشرق القطرية عن المجموعة: (نصوص دلال خليفة المسرحية مفعمة بفلسفة التساؤل عن الكينونة الإنسانية، والرغبة بالمعرفة، غنها حالة بحث عن الذات المتواضعة داخل فضاء مغلق، لكن هذه الذات ما تلبث أن تدخل في حوارات فلسفية عن الذات الأخرى وهي تتخطى الأسوار لتهرب خارجا أو داخلا أحيانا بحثا عن ملجأ أو جواب. في كل نص من هذه النصوص الأربعة تلعب المؤلفة لعبة المرايا المتعاكسة تضع مكرآة أمام مرآة فيتشكل لدينا عدد لا ينتهي من الانعكاسات التي تجمعها دوما بطل واحد ربما وهذا البطل اسمه الإنسان).

محمود فهمي عامر
الدوحة - قطر