الثقافة والعولمة بقلم:د.عبد المجيد بن مسعود
تاريخ النشر : 2009-03-08
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه

الثقافة والعولمة
دعبد المجيد بن مسعود

تمهيد: صياغة الإشكال وطرح التساؤلات المرتبطة به
تميزت الحقبة المعاصرة من العصر الحديث، بتحولات ضخمة وتمخضت تراكماتها على المستوى المعرفي والتكنولوجي، وتفاعلاتها على المستوى الجيوـ سياسي بما احتوته من اختلالات في التوازنات العالمية، عبر حركة للمد والجزر، اتسمت بالحدة والصراع أحيانا، وبالمكر والكيد أحيانا أخرى ـ تمخضت عن بروز ظواهر لافتة للنظر، بل أكثر من ذلك مستفزة للمشاعر مستفزة للعقول، بفعل اقتحامها لحياة الأفراد والجماعات البشرية، وسعيها الحثيث إلى صياغة دوافعها وإعادة رسم عالمها التصوري وأنماطها السلوكية، بما يتماشى والأهداف والمرامي الكامنة وراء صناع تلك الظواهر الموجهين لآلياتها المعقدة صوب الاتجاه المقصود.
وأبرز ظاهرة الآن هي ظاهرة: "العولمة" كنزعة وتيار جارف يخترق الأمم والشعوب مسخرا كل الوسائل والإمكانات المتاحة بين يديه. وقد أثارت هذه الظاهرة تفكيرا أرباب الفكر المهتمين بمسار الإنسانية، المنشغلين بمصيرها ومآلها، فعقدت ندوات وألفت كتب ومقالات تحلل هذه الظاهرة، راصدة لإرهاصاتها ومقدماتها وجذورها، محددة لمكوناتها وميكانيزمات عملها، راسمة لتجلياتها على مختلف مستويات وحقول النشاط الإنساني.
فما العولمة؟ وما خلفياتها الفكرية والإيديولوجية؟ وما طبيعة خطابها ووعودها للناس؟ وما حدود إمكانيات الحوار بين الثقافات أو آفاق التنوع الثقافي في ظل العولمة، وما وسائل تكريس العولمة في بعدها الثقافي. وإلى أي حد يصح القول بان العولمة تعويق للنمو وتخريب للهويات الثقافية وإفقار للإمكان الحضاري؟ وفي حالة كونها كذلك، ما مقومات بناء استراتيجية متكاملة للمواجهة تضمن تماسك الثقافات الأصيلة، وإلى أي حد يمكن القول بأن العولمة صنو العالمية وأختها؟
تلك هي الأسئلة التي ستحاول هذه الورقة الإجابة عنها والكشف عن بعض أبعادها.
أولا: تحديد المفاهيم
أ ـ تعريف الثقافة
من المعروف أن حشدا هائلا من التعاريف قد تراكم حول مفهوم الثقافة، يحمل كل منها صبغة تنبع من رؤية صاحب التعريف للنفس والمجتمع والكون. وسأختار من هذه التعاريف ما أراه صالحا وخادما لسياق الموضوع وصيرورته:
تعريف مالك بن نبي: يعرف مالك بن نبي الثقافة بأنها «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه. والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته» كما أنه يعبر عنها في موضع آخر: «بأنها لا تضم في مفهومها الأفكار فحسب، وإنما تضم أشياء أهم من ذلك، تخص أسلوب الحياة في مجتمع معين من ناحية، كما تخص السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع». ( )
وأورد سيرج لاتوش في كتاب تغريب العالم التعريف التالي: «البرنامج الذي يشكل ثقافة يمكن النظر إليه على أنه نسق متسق من الرموز (اللغة، الفن، الأساطير، الطقوس) يسمح للبشر بعقد صلات ذات مغزى فيما بينهم، ومع عالمهم، وبالعثور على معنى لبيئتهم ولحياتهم، وبالتالي بتوطيد إحساس ما بالأمان الهش والمهدد دوما أمام مرور الزمن واستفهام الموت».( )
وبغض النظر عن المآخذ التي نسجلها على هذا التعريف، والمنصبة على نوعية العناصر التي ذكرها صاحبه كمضمون للنسق أو "البرنامج" الذي يشكل ثقافة، فإنه قد احتوى على عناصر هامة تدخل في نسيج الثقافة وتشكل جوهرها، بصرف النظر عن طبيعة المحتويات والمواد المتركب منها ذلك النسيج، وعن نوعية المصادر المستقاة منها.
فقد أورد التعريف أعلاه وظيفة الثقافة باعتبارها:
أولا: نسقا متسق الرموز(ِّ...) يسمح للبشر بعقد صلات ذات مغزى فيما بينهم، ومع عالمهم، وبالعثور على معنى بيئتهم ولحياتهم.
ثانيا: «بتوطيد إحساس بالأمان» وهذه الوظيفة مرتبطة بالسابقة ومؤسسة عليها. وقد نعت التعريف الوظيفة الثانية، أي الإحساس بالأمان، بكونه هشا ومهددا دوما أمام مرور الزمن واستفهام الموت.. وسأعود لمناقشة هذا النعت وتحليله في سياق تحليل العلاقة بين الثقافة والعولمة، بما يكشف عن تمايز بين أنماط من الأنساق الثقافية قائم على تباين في الحقائق التصورية التي تشكل قوامها، وبما يكشف عن حقيقة مفادها أن وظائف الثقافة تختلف في فعاليتها بحسب طبيعة المبادئ والحقائق التصورية أو المذهبية المحركة لنسق من الأنساق.
* ثقافة أمة من الأمم هي قوام هويتها:
لعل من الأمور التي تعتبر إحدى البديهيات، كون الثقافة جوهر أو قوام هوية أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، وذلك هو السر في تمسك كل شعب بثقافته واستعداده للذود عنها وصد كل محاولة رامية إلى زعزعتها بله استئصالها ونسفها، لأن في بقائها بقاؤه وامتيازه عن غيره، وفي محوها أو تهجينها محو له أو تهجين. جاء في كتاب الكليات لأبي البقاء الكفوي أن ما به الشيء، هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتا، وباعتبار تشخصه يسمى هوية، وإذا اتخذ أعَمَّ من هذا الاعتبار يسمى ماهية. وجاء في هذا الكتاب أيضا أنه الأمر المتعقل من حيث إنه في مقول في جواب (ما هو) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية»( )
ب ـ تعريف العولمة:
عرفت العولمة من طرف كثير من الباحثين، يجمع بين تعاريفهم قاسم مشترك يتمثل في اشتمالها على وصف لمجمل المظاهر والعمليات والإجراءات العملية ذات الطابع السياسي والاقتصادي والثقافي، والمتخذة من طرف قوة قطبية، ينظر إليها باعتبارها المحرك المتفرد لمجريات الأحداث العالمية، مستخدمة من أجل كل ذلك، جملة من المؤسسات الدولية الضخمة التي تبسط عليها هيمنتها، مسخرة أحدث ما أبدعه العقل من وسائل البث والاتصال. وعليه فسأجتزئ ببعض التعاريف التي أراها وافية بالغرض.
عرفت العوملة بكونها «ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك، يكون الانتماء فيها للعالم كله، عبر الحدود السياسية الدولية، وتحدث فيها تحولات على مختلف الصعد، تؤثر على حياة الإنسان في كوكب الأرض أينما كان، ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة الجنسيات "T.N.C" التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة، والانتشار الجغرافي، والاعتماد على المدخرات العالمية، وتعبئة الكفاءات من مختلف الجنسيات، وتبرز بفعل هذه التحولات قضايا لها صفة العالمية، مثل قضية الممتلكات العامة البشرية من بحار وفضاء وقارة قطبية جنوبية، وقضية صيانة البيئة وتحركات سكان الأرض وقضية الفقر في العالم، وقضية الجريمة المنظمة، كما تثور تساؤلات لها صفة العالمية حول دور الدولة في ظل التحولات، ودور الجماعات الأهلية في أوطانها ودور المنظمات الأهلية متعددة الجنسيات التي قامت مؤخرا في إطار العوملة في الغرب بخاصة، فضلا عن دور الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها» ( )«وقد يكون مما يوضح العولمة، أنها تجميع وتركيز وتتويج لمجموعة من المقدمات المتمثلة في اتفاقيات ومعاهدة سابقة مثل GATT (..) ومثل قيام مؤسسات معنية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومثل فرض اتجاهات معينة على الدول التي تعاني الضعف في اقتصادها كبرامج الإصلاح الاقتصادي، ونقل ملكية مؤسسات الدولة إلى القطاع الخاص، ورفع الدعم عن بعض المواد الأساسية وإحداث ضريبة المبيعات، فهذه الاتفاقيات والمعاهدات، والمؤسسات والبرامج وأشباهها، يقصد منها إزالة القيود والحدود، ورفع الحواجز بين الدول أو بعضها». ( )
* من عولمة السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا إلى عولمة الثقافة:
إنه طموح القوى الساعية إلى بسط نفوذ العولمة عبر أصقاع العالم، فيما يتعلق بالمجالات المذكورة، ما كان له أن يبقى محصورا عندها، بل إنه ليمتد بعيدا ليضرب بجذوره وينفذ بإشعاعاته في أعماق وعي الشعوب المستهدفة، لتحويل بنيته وقلب مفاهيمه ومسلماته، لتخلي مكانها لمفاهيم وقيم ومسلمات جديدة ـ من شأنها إن استحكمت بجٌماع الفكر وترسبت في باطن الوعي، أن تحكم ارتباط الأفراد والجماعات بمركز العولمة، وتقيم ولاءهم له على قاعدة نظرية تصورية. ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام، أن عولمة الثقافة منبتة الصلة بعولمة السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا، فالحق أن هذه الميادين مسنودة بخلفيات ثقافية. يقول سيرج لاتوش: «والواقع أن عمليات إدخال القيم الغريبة: قيم العلم والتقنية والاقتصاد والتنمية والسيطرة على الطبيعة، هي دعائم محو الثقافة. إن الأمر يتعلق بتحويل عقيدي حقيقي، والحقيقة أن العنف يدمر أكثر مما يؤدي إلى تحويل عقيدي حقا. ويعني الغزو الروحي أنه يمكن إقامة اتصال بين الغرب التوسعي والعوالم الأخرى. وليفرض الاتصال شيئا ما "كحاجات" مشتركة، كقاعدة لتبادل ممكن. ولا ينبغي أن تخدعنا هذه المفردات "الاقتصادية"، فالمسألة هي قبل كل شيء مسألة قيم لا ترتدي شكل سلع إلا بصفة عارضة» ( )وإن كان لابد من التمثيل هنا، فلنسق مثال النظرة إلى المرأة باعتبارها مادة إشهارية رخيصة ومبتذلة داخل المؤسسة الرأسمالية، ترتبط بعروض السلع.
ولا تكتفي المؤسسة الرأسمالية الممسكة بمقاليد العولمة بالإيحاءات المقترنة بالسلوك الاقتصادي أو السياسي مثلا، ولكنها تتجاوز ذلك إلى عرضها للنظام الليبرالي بصفته النموذج الواجب الاحتذاء به، ولا نعدو الصواب إذا قلنا مع حسين عصمة بأن «أخطر إفرازات العوملة هو أن تعتبر الليبرالية في ظلها (أي العوملة) نظاما كونيا يستجيب لنزعات الإنسانية الفطرية ويلبي ميولاته الطبيعية. وقد تم استنساخ الليبرالية وعظم طغيانها عقب انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي الاشتراكي، حتى خيل لأنصارها أن الليبرالية، أرقى ما يمكن أن يصل إليه الفكر البشري، وأن هذا الأخير عاجز عن إبداع بديل لهذا النظام الذي سجل ـ في نظرهم ـ نهاية التاريخ «أطروحة فوكوياما» ( ).
إن العولمة الثقافية، هي في محصلة الأمر عبارة عن عملية شاملة، تتخذ لها بذورا ومرتكزات في مختلف أنشطة المؤسسة الرأسمالية العالمية، بدءا من السياسة والقانون ومفاهيمهما السياسية كالديموقراطية وحقوق الإنسان، مرورا عبر الاقتصاد بمبادئه ومسلماته كالربح والمنافسة، وحرية النشاط والاستثمار، وصولا إلى الإعلام، رأس الحربة، في توسيع رقعة المكاسب وإسقاط المزيد من الضحايا العُزَّل في ساحة التيه الثقافي والتمزق النفسي.
* وعلى الرغم من الملامح القائمة والتجليات الكالحة التي تلوح في فضاء العولمة، فإن الموضوعية تحملنا على التذرع بالاحتياط وطرح التساؤل عن إمكان وجود هامش في فضاء العولمة يسمح بقيام التنوع الثقافي، أو بالحوار بين الثقافات، وهل يشكل تيار العولمة في بعض مظاهره وتجلياته ما يمكن أن نسميه تثاقفا؟
ثانيا:العولمة وإمكانية الحوار بين الثقافات:
إن مناقشة هذه النقطة تقتضي توضيح بعض المفاهيم الأساسية كمفهوم الحوار ومفهوم المثاقفة أو التثاقف. فمفهوم «الحوار الثقافي هو تلك العملية التفاعلية التي تحتك فيها ثقافة ذات خصائص ومنطلقات فكرية وفلسفية، بثقافة أخرى تختلف عنها من حيث الخصائص والمنطلقات ويكون الهدف من ذلك هو عرض كل من الثقافتين ما عندها من أفكار وتصورات وقيم قصد التلاقح والتثاقف. ويكون المفروض في ذلك ـ من حيث المبدأ ـ أن يكون على أساس الاحترام المتبادل بين الطرفين على اعتبار أن عملية تبني الأفكار عملية حرة قائمة على الاختيار الإرادي الحر، البعيد عن كل قسر أو إكراه».( )
أما مفهوم المثاقفة فيقوم على أحادية البث والتوجيه، فالمثاقفة (أو الثتقيف من الخارج) تتم «في معظم الأحيان (...) من جانب واحد، كما هو الحال في الاتجاه من المركز (وهو ما يقول به إريكسون).( )
في ضوء هذه التحديدات نعيد طرح السؤال: هل توفر العولمة شروط التثاقف، النفسية والحضارية، أم أنها على العكس من ذلك تشكل عائقا دون ذلك؟
إن ما يشهد عليه الواقع بأكثر من دليل، يؤكد حقيقة مفادها أن تيار العولمة في بعدها الثقافي، يشكل عملية استئصالية كاسحة لا تدخر جهدا في التعفية على الثقافات المخالفة، وفي محاولة نسف أسسها ومقوماتها، وتيار العولمة بهذا النزوع، وهذه الممارسة الموسومة بالعنف يبرهن على خروجه عن القانون وتنصله من الأعراف الحضارية. يقول الأستاذ عبد العزيز التويجري: «إن العولمة بهذا المفهوم تتعارض تعارضا تاما مع قواعد القانون الدولي، ومع طبيعة العلاقات الدولية، بل إنها تتعارض كلية مع الاقتصاد الوطني، ومع السيادة الوطنية، ومع قانون التنوع الثقافي.
والعولمة إذا سارت في الاتجاه المرسوم لها، ستكون إنذارا بانهيار وشيك للاستقرار العالمي، لأن العولمة بهذا المضمون تضرب الهوية الثقافية والحضارية في الصميم، وتنسف أساس التعايش الثقافي بين الشعوب، كما أن العولمة بهذا المفهوم الشمولي ذي الطابع القسري، ستؤدي إلى فوضى على مستوى العالم في الفكر والسلوك وفي الاقتصاد والتجارة، وفي الفنون والآداب وفي العلوم والتكنولوجيا أيضا»( ).
* إن صفة الاستكبار والطغيان التي يتصف بها تيار العولمة، تسد جميع المنافذ والأبواب أمام أي تبادل ثقافي أو تفاعل حضاري، وليس من شأن أباطرة العولمة أن ينفتحوا في اتجاه هذا المطلب الإنساني المصيري، بسبب الغشاوة التي رانت على قوى التفكير لديهم، فأفقدتهم حتى الحد الأدنى من البصيرة، والأصل في كل ذلك إنما هو التفوق المادي الذي حصل لديها على باقي الشعوب، والترسانة العسكرية الهائلة البالغة التطور. إن منطق القوة إذن، قد غيب منطق الحوار، فهدمت جسوره، وحل محله منطق الهيمنة والضخ العنيف الذي يقذف الشعوب المستضعفة ماديا، بوابل من الصور والقيم والتصورات والأفكار، التي تخاطب الناس عبر تقنيات باهرة وأساليب ماكرة، تستثمر ما في الأفراد من جوانب الضعف، وتغطي فقرها المذهبي، وضحالتها على مستوى الروح الإنسانية، ببهارج سطحية زائفة لا تخلب إلا المسطحين.
ومن هنا يحق للمرء أن يطرح سؤالا مشروعا وذا أهمية في نفس الوقت، وهو التالي: هل ما يجري بين تيار العولمة وباقي الثقافات، يدخل في مفهوم الصراع بين الحضارات، ما دام الحوار منعدما لانعدام شروطه وانهدام جسوره؟
والحقيقة أن مفهوم الصراع نفسه لا يصلح في الوقت الراهن كأداة لتفسير العلاقة المذكورة، وذلك لسبب واضح وبسيط، هو أن العلاقة هي بين طرف نشط يتميز بالاقتحام والهجوم، وبين طرف خامل مستكين، لا يملك القدرة حتى على ردود فعل باهتة. إن العلاقة بين الطرفين هي بكل بساطة علاقة بين معتد ومعتدى عليه، بين مسيطِر ومسيطَر عليه.
إن من الأحكام الثابتة التي هي جديرة بأن يطمئن الإنسان إليها إزاء هذه الظاهرة المأساوية في سياق الحضارة الإنسانية، أن العوملة، لا تعدو أن تكون حركة تدميرية، وأن أبرز ضحاياها، إنما هي ثقافات الشعوب الأصيلة، وإلى هذا يذهب سيرج لاتوش حيث يقول: «وربما كانت دراما الحداثة الموضوعية في مدار الكرة الأرضية لا تتمثل على هذا المستوى في تبعية البعض وسيادة الآخرين، إنما تتمثل في الإفقار الثقافي الذي ينشأ بالضرورة من تنميط واستيعاب الرسائل في مجال تقنية وسائل الإعلام».( )
إن تحللا كبيرا على صعيد الأخلاق الفردية، وعلى صعيد شبكة العلاقات الاجتماعية، أصبح يخترق المجتمعات البشرية الواقعة تحت طائلة ريح العولمة السموم «فمن خلال الإدماج الاقتصادي العالمي، ومن خلال العولمة الثقافية، ومن خلال ألف من القنوات المتباينة التي تتبادل تعزيز بعضها، تتسلل الفردية إلى كل مكان، وتتفشى بعمق متزايد دوما في المجتمعات غير الغريبة، على أن العقلية الفردية تمثل خميرة تحلل للعلاقة الاجتماعية، وهي تنخر في نسيج التضامنات التقليدية كسرطان. وما يجعل الفردية لا تقاوم هو واقع أنها تبدو لكل وكأنها تحرير.
والواقع أنها تحرر من الإكراهات وتفتح إمكانات بلا حدود، لكن على حساب التضامنات التي كانت تشكل نسيج الجماعات».( )
وإذا كانت العولمة إفقارا للثقافة على المستوى العالمي، وضربا أو إحداثا لشرخ على مستوى شبكة العلاقات الاجتماعية بالمجتمعات ـ كنتيجة لذلك ـ فإن نتيجة سيئة أخرى تترتب عن ذلك، وهي تعويق النمو، والحيلولة دون تخلق المحاضن الصالحة وتوفر البيئة المناسبة لميلاد أو استنبات تجارب ناجحة لإنتاج تكنولوجيا. يقول الأستاذ منير شفيق في هذا الصدد: «ما لم نحدد الأرض التي نقف عليها ونحدد أهدافنا وفلسفتنا تجاه الحياة والوجود، فلن يكون بالإمكان حتى التفاعل مع العلوم والتكنولوجيا. وهذا يفسر لماذا هنالك معضلة حقيقية في العالم كله بالنسبة إلى البلدان النامية في عملية استيعاب العلوم والتكنولوجيا»( ) ثم يقول: «ما لم تُرَ الرابطة العضوية بين العلوم والتكنولوجيا من جهة والنسق الحضاري بأسره بما في ذلك النظام القائم ... الأهداف السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الاتجاهات الإيديولوجية ـ والفلسفية من جهة أخرى، لن يكون من الممكن أن يفاد من المنجزات العلمية والتقنية، كما سيؤدي الفشل في رؤية تلك الرابطة جعل استيراد العلوم والتقنية مدخلا للتبعية بدلا من أن تكون مصدرا للاستقلال. ومن ثم ستكون مدخلا للتجهيل والحرمان من العلوم والتقنية»( ).
ثالثا: وسائل تثبيت العولمة الثقافية
لا يجادل اثنان في أن أخطر وسيلة يستخدمها تيار العولمة، لاجتياح البلدان والعقول، إنما هي وسيلة الإعلام التي تخاطب كل الشرائح والفئات، بما يناسب كلا منها، فلا يكاد يفلت أحد من قبضة هذا المارد المدجج بمختلف الوسائل والتقنيات، ولم يعد هناك أي حائل دون وصول خطاب العولمة والتغريب، الذي يصل إلى أقصى نقطة في العالم، والمقصود بالحائل هنا ليس الحائل أو الحاجز المكاني، وإنما الحائل الذاتي المتعلق باستعداد الأفراد، وأقصد هنا على وجه الخصوص حاجز الأمية، بل إن حشود الأميين قد تكون الفريسة المفضلة بامتياز أمام وحش العولمة ذي الأنياب والمخالب الإلكترونية الساحرة.
إن الفيض الغامر، من الصور والمعلومات والقيم والنماذج السلوكية، لا يمكنه إلا أن يحصد أرواحا عديدة، أو يسقط ضحايا كثيرة في شباك العولمة، ويزج بها زجا داخل القرية الأمريكية.
* وإلى جانب الإعلام كوسيلة خطيرة وذات تأثير غريب، تبرز المؤتمرات العالمية التي ترصد لها الإمكانات الهائلة، المادية والمعنوية، ويتمحور النقاش فيها على قضية حيوية تمس الإنسان في كينونته، ويرتهن بها مصير الحضارة الإنسانية برمته، ومن قبيل تلك القضايا أو المواضيع، موضوع السكان وموضوع المرأة اللذين نوقش أولهما في القاهرة وثانيهما في بكين منذ سنوات، وغير ذلك من المواضيع، التي ينتهي التداول حولها حتما إلى إصدار وثائق وتقارير الغاية منها فرض مجموعة من القيم والمفاهيم التي تندرج في سياق إعادة هيكلة وتشكيل عقول الناس، وتهيئها لقبول النموذج الأمريكي في التصور والتفكير والسلوك والذي يراد له أن يعمم ويشاع. ومما يعطي لتلك المؤتمرات، وما يتمخض عنها من تقارير وتوصيات، نوعا من الشرعية في نظرهم كونها تعقد في إطار المنظمة الدولية ـ منظمة الأمم المتحدة ـ التي يعلم الجميع أنها أصبحت مطية ذلولا للولايات المتحدة الأمريكية، منذ انفراط شمل المنظومة الاشتراكية.
* وهناك وسيلة بالغة الخطورة أيضا، وهي امتداد أخطبوط العولمة إلى مناهج التعليم، وسعيه إلى المساهمة الملموسة في اختيار قيمها وتحديد اتجاهاتها، أو في تعديلها وتطوير أساليبها. وإذا ما اتفقنا على الحقيقة المتمثلة في أن العولمة أخت الصهينة إن لم تكن ابنتها، فلأسق هنا مثالا من واقع التعليم في العالم العربي. لقد قامت مصر في غشت سنة 1995 «بتدمير ما يزيد على مائة مليون وثيقة ما بين كتاب ومجلة وشريط وخريطة ومصادرتها من خزانات المطالعة في الثانويات والجامعات المصرية، بحجة أنها تمثل مصدر الثقافة العدوانية ضد إسرائيل. وكان ذلك من بين الشروط التي اشترطتها إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأمريكية من أجل قيام التطبيع.»( ) والذي ينظر إلى ما وضع من استراتيجيات للتعليم في بلدان العالم العربي ـ مثلا ـ سواء على مستوى الألِسكو أو الإسيسكو وهي استراتيجيات طموحة وذات أهداف راقية وبناء رصين يستلهم هوية الأمة ويضع في حسابه موقع الأمة باعتبارها أمة ذات خصوصية وذات رسالة حضارية للناس كافة، الذي ينظر إلى ذلك في ضوء ما عليه أحوال التعليم في العالم العربي والإسلامي، تتبين له المفارقة بين الواقع والمثال، ويحصل لديه اليقين، بأن من رواء ذلك مخططا رهيبا، وأيادي خفية تحول دون وضع المنظومة التعليمية في البلدان العربية، في مسارها الصحيح، بما يعيد لها الروح ويسمح بتفجير طاقات الأجيال المتعلمة، التي تقدح زناد النمو وتمده بالوقود.
رابعا: الثقافة بين العولمة والعالمية:
إن إثارة الحديث عن ظاهرة العولمة ووضعية الثقافة في ظل تنامي مدها، يحيلنا إلى طرح تساؤل وجيه عما إذا كانت العوملة هي نفسها العالمية من حيث الجوهر، والمآل. والحقيقة أن ما سبق من الكلام هو إجابة ضمنية على هذا التساؤل. ومع ذلك نرى المقام يفرض مزيدا من التحليل والتدقيق لينتفي اللبس وتنجلي الحقيقة ساطعة للعيان.
يظهر جليا من الصيغة الصرفية للعولمة، أنها تعكس طابع القسر والافتعال، فهذه الصيغة تفيد معنى جعل الشيء عالميا، أي قولبته ـ ليصير كذلك ـ بحركة خارجية، دون أن يكون هنالك من العوامل الذاتية في الشيء المعَوْلم، ما يجعل ثمرة هذه الحركة تأتي نتاجا تلقائيا يتسم بالعفوية، ويقوم على قواعد، ويجري بموجب سنن كامنة في طبيعة الوجود، الأمر الذي نجده متوفرا في العالمية التي توحي صيغتها بالعفوية والانسجام مع سنن الكون وجوهر الفطرة، فإذا وصف الإسلام بكونه عالميا، فلأن انتشار فكرته في العالم لم يتم بالقسر والإكراه، بل يشهد التاريخ أن الناس قد عانقوها عن طواعية لكونها تجسد روح الوجود وتختزن سر رسالة الإنسان على هذه الأرض من حيث كونه مستخلفا فيها من قبل الله عز وجل. ويسجل التاريخ أيضا في سجل الخلود، أن الثقافة قد ازدهرت وأينعت في ظل الحضارة الإسلامية، من خلال التلاقح الإيجابي الذي حدث بين ثقافات الشعوب المفتوحة، وبين الإسلام الذي استوعب وتمثل كل ما هو إيجابي فيها واستبعد كل ما تضمنته من إفرازات لا تليق بشرف الإنسان وكرامته. وهنا أفتح قوسا لأقول بأن وصف سيرج لاتوش للبرنامج الذي يشكل ثقافة بكونه يوفر إحساسا بالأمان هشا ومهددا أمام الزمن واستفهام الموت، بأنه وصف يخص الثقافات ذات المصدر البشري الموسوم بالمحدودية والقصور. أما الثقافة القائمة على أسس ربانية، فهي منزهة عن ذلك الوصف إنها ثقافة الأمل والامتداد في المكان والزمان، لأنها تنتمي إلى اللامحدود.
* وإذا كانت العولمة تتسم بالنزعة الطغيانية الاستكبارية النابعة من الشره المادي والشهوة إلى الاستئثار بخيرات الشعوب وبسط النفوذ عليها، لاستعبادها وإذلالها وإحكام طوق السيطرة عليها، فإن العالمية المسترشدة بوحي الله عز وجل ومنهجه القيم، جسدت الرحمة الإلهية، واستهدفت توفير الأمن النفسي ببث العقيدة الصحيحة في النفوس، وتوفير الأمن الغذائي، عن طريق التوزيع العادل وإشراك الناس جميعا في خيرات الأرض.. قال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}( ).
* وإنه لمن المفارقات العجيبة حقا، وإن كان ذلك مفسرا في ضوء سنن الله في الحضارات ـ أن تخفق قوى العولمة في تحقيق نتائج في مستوى طموحها ومخططاتها الرهيبة، على صعيد تغيير ثقافات الشعوب، تخفق في ذلك وهي غالبة، بينما تنجح العالمية الإسلامية في فتح قلوب الغزاة ثقافيا وعقديا، وهي مغلوبة، وقع هذا للمغول إبان اكتساحهم للعالم الإسلامي، في فترة الضعف. لقد عكس شيئا من معاني هذه المفارقة، أحدٌ أبرز أقطاب الفكر السياسي الغربي المهووسين بنزعة الهيمنة المتعطشة لغزو الآخر وسحقه نفسيا وحضاريا، إنه صمويل هنتنجتون الذي قال في دراسة له «تحت عنوان مثير للغرابة فعلا: (الغرب متفرد وليس عالميا) The West unique not universal (مفرقا) بين (التحديث) وبين(التغريب) (...) إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد» ويضيف قائلا: «إن التحديث والنمو الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية، بل على العكس، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافات الأصلية لتلك الشعوب، ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وأن ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم، وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي»( ) وأعقب على كلام صمويل قائلا بأن الغرب في حركته العولمية بقيادة الولايات المتحدة، وإن لم يكسب مساحات الشعوب غير الغربية بما يمكِّن لثقافته ويرسخ جذورها، إلا أنه ورَّثها اضطرابا مريعا، وحطم بنياتها الاجتماعية وأحدث تشويهات مرعبة في شخصيتها الفكرية والثقافية تتفاوت حدتها باختلاف الشرائح والفئات، داخل النسق الحضاري الواحد، أو باختلاف الأنساق الحضارية والثقافية من حيث وزنها وعمقها الفكري.
* ويتحدث سيرج لاتوش عن المفارقة المذكورة من زاوية بعد آخر، أكثر كشفا لعجز الغرب عن أن يكون عالميا بالمعنى الحق لمفهوم العالمية. يقول: «ومن المفارقات أن الغرب هو في آن معا الثقافة الوحيدة التي تصبح عالمية حقا، بقوة وعمق وسرعة لم يسبق لها نظير، (ولا بد من التحفظ هنا على استعمال لفظ العالمية) وفي الوقت ذاته "الثقافة" السائدة الوحيدة التي تخفق في أن تستوعب حقا ليس فقط الدخلاء، بل حتى أعضاءها أنفسهم. وقد أصبح السبب وراء هذه المفارقة مألوفا لنا، إن عالميته سلبية، ويتمثل نجاحه المذهل في الانفلات القائم على التقليد الأعمى لأنماط وممارسات ماحية للثقافة، وهو يعمم عالميا فقدان المعنى ومجتمع الخواء.»( ) إن هذه الشهادة من واحد من عقلاء الغرب، إدانة صريحة وفاضحة لادعاءاته، وتشهد حالة الاهتراء الاجتماعي والتعفن الأخلاقي التي تنخر بناء الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة، على صدق القول السابق.
إن ثقافة تقوم على المادة وتمتص في نسيجها أخلاق رعاة البقر، ما كان لها أبدا أن تكون حتى محلية، فبالأحرى أن تكون عالمية كونية. إن هذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلا لحضارة تتسم بالشمول والواقعية والإنسانية والإيجابية، فضلا عن خاصيتي التوحيد والربانية اللتين تضمنان شرط الصدق والثبات، وتلك خصائص لا تتوفر لغير حضارة الإسلام التي تكتسب مساحات جديدة كل يوم حتى في حالة الاستضعاف. فما بالك في حالة التماسك والقوة. إنها جاذبية الإسلام التي تعكس صبغة الله وتمثل عالمية الرحمة وتحرير الإنسان حيثما كان من العبودية لغير الله.
خامسا: نحو استراتيجية لمواجهة تيار العولمة:
إن معطيات الواقع، والأحداث المتلاحقة على جميع الأصعدة، تؤكد تنامي المد العولمي الذي يدوس في طريقه الأخضر واليابس، ولا يلتفت بأدنى قسط لما يسمى بالأعراف الدولية، الأمر الذي يستدعي من الشعوب، التي يؤرقها مصيرها المستقبلي، وحرصها على المحافظة على كيانها الأصيل ودورها الرسالي في تحرير الناس قاطبة، يستدعي منها أن تتنادى إلى تكوين جبهة واسعة ومتماسكة، للتصدي بقوة وعزم لتيار العولمة، غير آبهة للأصوات المهزومة التي تنظر إلى العولمة كواقع محتوم وقدر مقدور لا مجال لرده، ولا مناص من الخضوع إليه. ولابد أن يشكل العالم الإسلامي رأس الحِربة في هذه الجبهة وطليعتَها المقدامة، نظرا لما يختزنه من زحم جهادي ينبع من قوة العقيدة الموصولة بخالق هذا الكون المختص بالكبرياء، المتوعد بالذل كل من نازعه إياه. ومن ثم لابد من تحديد الأسس والأركان التي تتأسس عليها مثل هذه الجبهة.
1) الأساس الأول:
وأول أساس تنبني عليه هذه الجبهة المقاومة، هو بناء الذات، أو بالأحرى إعادة بناء الذات، بعدما نالها من تفكك وانحلال بفعل عوامل متعددة، وركيزتا هذا البناء هما العلم والإيمان، اللذان ينبغي إعادة الاعتبار إليهما في حياة الأمة لإحياء مواتها وحقنها بدماء فوارة نقية تمدها بالحيوية والقوة، التي تعود معها النماذج البشرية التي يغلب منها عشرون صابرون مائتين بإذن الله، وحتى في حالة الضعف النماذج التي يعدل الواحد منها اثنين من الناس العاديين. إن العلم المستنير بمشكاة النبوة والإيمان الضارب بجذوره في أعماق الوجود، لابد أن يسفرا عن إنسان لا ينطلي عليه سحر العولمة ولا يخضع لإغرائها، سواء تعلق الأمر باستهلاك ـ السلع المادية أو المعنوية. إن قوة إرادة الإنسان المؤمن والفئة المؤمنة ذات البناء العقائدي الصلب، هي بمثابة الصخرة العاتية التي تتهشم عليها قرون الوحش العولمي.. إن الأمة المسلمة ترقد على طاقات هائلة، لابد من إبرازها واستثمارها لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وإن أول خطوة في هذا السبيل هي محو الأمية الأبجدية التي تجثم على جسد الأمة وصولا إلى تحريرها من باقي الأشكال الأخرى من الأمية.
2) الأساس الثاني:
وثاني أساس، هو معرفة الآخر معرفة دقيقة شاملة مثلما يفعل هو معنا، ولهذا الغرض لابد من إقامة مؤسسات ومراكز علمية، يكون من ضمن أهدافها التشخيص الشامل لطبيعة الغرب وفرز نقط الضعف من نقط القوة لديه، لإحكام الخطة الكفيلة بكسر شوكته و طغيانه،و تأمين سبل الحوار الحقيقي و الجاد معه.
3) الأساس الثالث:
هو تحديد الذات وجمع الشتات، وتنمية الروح الجهادية بالمعنى الشامل للكلمة، ما دامت الأمة تتعرض لمخططات الاجتثاث المنهجي أو ما يسمى بالإبادة الحضارية. قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}( ).
4) الأساس الرابع:
يتمثل في تفعيل العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحماية حق التنوع الثقافي. وفي هذا السياق يقول الدكتور عبد العزيز التويجري: «إن تطوير التعاون الثقافي العام في إطار المنظمات الدولية المتخصصة وفقا للمواثيق والمعاهدات والعهود والأوفاق الدولية، والعمل على تنويع هذا التعاون، من شأن ذلك أن يقلل من عنفوان الصدمات العاتية التي تهز استقرار هويات الشعوب، وأنه يؤدي إلى تعايش ثقافي حضاري حقيقي، وأن يضعف من تأثير العولمة على الهوية الثقافية والحضارية.»( )
5) الأساس الخامس:
على أن أقوى ضربة تتلقاها العوملة على وجهها، هي نجاح الأمة الإسلامية في إقامة النموذج الإسلامي المتميز، الذي يمثل رسالة ناطقة إلى العالم، تدعو الناس إلى الأوبة إلى رحاب الإسلام. وجدير بالذكر هنا أن قوى الطغيان العالمي في الوقت الذي تسمح لحركات إسلامية دعوية أن تمارس نشاطها في حرية كاملة، تحاول بكل السبل أن تمنع قيام نموذج للنظام الإسلامي في أي بلد من البلدان الإسلامي، لأنه بمجرد قيامه، ستهوي إليه أفئدة الناس فرارا من جحيم العذاب، فيشكل منارة للاقتداء، وبذرة للخير، وسرعان ما تصير دوحة وارفة الظلال دانية القطوف، يأوي إلى ظلها المستضعفون.. ويأمن في حماها الخائفون.
6) الأساس السادس
بناء وتوظيف شبكة قوية لنشر الوعي الثقافي الذي يقطع الطريق على مخططات التغريب والعولمة . من ذلك «خلق محطات تلفزيونية تبث البرامج على الصعد العالمية والدولية والإقليمية، يساعد على فك الحصار المعلوماتي»( ) (المضروب على العالم العربي).
وإنه من الغريب أن تستشعر خطر العولمة شعوب تجمعها مع متزعمتها نفس الأصول الفكرية ونفس المجال الحضاري، وتبقى رهين الغفلة شعوب إسلامية تتعرض مواريثها للإتلاف والتدمير. فمن المعلوم «أن فرنسا مثلا رفضت أن توقع على الجزء الخاص بالسلع والمواد الثقافية في اتفاقية GATT، وكذلك نجد أن فرنسا واليونان كان لهما موقف صارخ في المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي نظمته اليونسكو في المكسيك عام 1982»( ) (حيث نددا بما أسموه غزوا ثقافيا من طرف الولايات المتحدة تجاه البلدان الغربية الأخرى). يقول وزير الثقافة الفرنسي في نفس السياق: «إن الدول التي علمتنا قدرا كبيرا من الحرية، ودعت الشعوب إلى الثورة على الطغيان، لا تملك اليوم منهجا أخلاقيا سوى الربح، فضلا عن أنها تحاول أن تفرض ثقافة شاملة واحدة على العالم أجمع. إن هذا هو شكل من أشكال الأمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضين، بل يصادر الضمائر ومناهج التفكير، وطرق العيش»( ) فهل يعتبر المسلمون ويصرخون هم أيضا ملء حناجرهم في وجه من يسعى إلى مصادرة ضمائرهم ومناهج تفكيرهم وطرق عيشهم؟!
خلاصة:
وبعد، فإنه قد تبين لنا بأن تيار العولمة الذي يتوغل اليوم عبر المجتمعات البشرية، لم يحقق ما حققه من انتصارات، إلا في ظل وضعية من السبات والشتات خلفت فراغا، والطبيعة كما يقال تخشى الفراغ، وإنه ليس بحظ سعيد هذا الذي اقترن بملء الفراغ من طرف قوى العولمة والتغريب، فهي إلى زوال بموجب سنن الاجتماع البشري. يقول شبنجلر متنبئا بمصير الحضارة المادية: «إن موت حضارة تقودها الصناعة الآلية وتقودها الأموال، موت حتمي، ولكن الأمل في انبعاث روح خلاقة جديدة يبقى من الممكنات».( )
إن هذا الأمل يتجسد ـ كما يرى شبنجلر نفسه ـ في بعض أبعاده في الإسلام، فهو «يرى أن المسار الإنساني نحو العالمية سينتفع بكل تأكيد من عطاءات الإسلام في موضوعين: الأول والأهم منهما هو القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها، والثاني هو التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها مجتمعات الكحول والملاهي»( ).
والحق أن الإسلام معين لا ينضب من المفاهيم والقيم والنماذج التي يقام على أساسها بناء شامخ يجسد كرامة الإنسان ويحميه من غوائل المسخ أو الاجتثاث.
يقول عبد المجيد مزيان في هذا السياق: «وإذا كان المبدأ الأول للفكر الاجتماعي الإسلامي هو التوحيد بمضامينه الإنسانية، فإن مبدأ التكريم تنطلق منه أهم معاني التحرير، ويعد من الأصول الزاخرة بالمفاهيم، كخلافة الإنسان في الأرض، والأمانة على العدل ومناصرة المستضعفين، وتشخيص المجتمعات الظالمة، والإعانة على إصلاحها.»( )
إن الإسلام يطرح بديلا للعنف الذي تركبه العولمة، إنه التعارف الذي هو مفتاح الحوار، وبعكسه أي التناكر لن يكون حوار. يقول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}( ).
«إن المقصود من التعارف هنا، هو المعنى الأعم والأشمل لهذا المفهوم الذي يتجاوز الحدود السطحية المتعارف عليها، إلى ما هو أعمق من ذلك، والذي من أبعاده أن تتعرف كل أمة وكل حضارة على إمكانات وقدرات وثروات الأمم والحضارات الأخرى، بالإضافة إلى معرفة الظروف والمشاكل والتحديات، وكل ما يتوقف ويترتب عليه التعارف»( ).
إن لسان حال الأمة المسلمة هو استجابة واعية لقول الله عز وجل: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}( ).
إن الإسلام يبشر المستضعفين، المؤمنين برسالته، الموقنين بلطفه ووعده، بأن العاقبة لهم {والعاقبة للمتقين} وأن وراثة الأرض من نصيبهم، يقول الله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}( ).



صدق الله العظيم وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه والله ولي التوفيق
.