وصايا النساء والهداء (الزواج) في العصر الجاهلي "دراسة تحليلية" بقلم:جمانة محمد نايف الدليمي*
تاريخ النشر : 2009-03-03
وصايا النساء والهداء (الزواج) في العصر الجاهلي
"دراسة تحليلية"
جمانة محمد نايف الدليمي*
المقدمة:
إن الأدب المنحدر إلينا من الجاهلية إنما يدل على ثقافة واسعة وخبرة نادرة ووعي بالغ لكل موقف من مواقف الحياة ، ولهذا الأدب طوابعه المميزة وسماته المخصوصة التي قلما نجد مثيلها في وقتنا الحاضر.
إن هذا البحث الموسوم ( وصايا النساء والهداء في العصر الجاهلي/ دراسة تحليلية ) نحاول من خلاله العودة إلى مجموعة من القيم والمفاهيم التي زخر بها الأدب الجاهلي. والتي تكاد تكون غابت عن الفكر الإنساني للمواطن العربي، أو وصلت إلى مرحلة الضياع من مخيلة ألام العربية في الوقت الحاضر، بسبب انشغال الأم بتعقيدات الحياة وابتعادها عن رسم ألوجهه الصحيحة لابنتها في بيت الزوجية.فضلا عن انجراف أكثر الأمهات وراء المظاهر الكاذبة الدخيلة على مجتمعنا العربي فبدلا من أن تهدي للرجل زوجة صالحة تعينه على صروف الدهر وتقلباته تعطيه امرأة تعين الدهر عليه. الأمر الذي أضحى سببا مباشرا في ضياع وتفكك اسر كثيرة نتيجة قلة الوعي وفقدان الموجه للمشاكل التي تعتري الأسرة.
تقدم البحث تعريف موجز في معنى الوصية في اللغة والاصطلاح،تبعه تعريف موجز لمعنى الهداء، وأشتمل في طياته على مجموعة من الوصايا التي تقدم بها الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم في الجاهلية والتي اقر الإسلام قسما كبيرا من مضامينها، مثل طاعة الزوج، التطيب بالماء والتزين بالكحل، والحجاب....... .
إن السبب الرئيس لاختيار هذا الموضوع بالذات من بين الكم الهائل من صنوف الأدب الجاهلي الذي وصل إلينا، هو تفشي ظاهرة الطلاق، وفقدان التواد والتراحم بين الزوج والزوجة، في محاولة متواضعة من جانبنا للرجوع إلى موروثنا الأدبي المليء بالقيم والمفاهيم التي يمكن اعتبار ها ركيزة أساسية لبناء حياة زوجية على أسس متينة.



___________
*مدرس مساعد / قسم اللغات / مركز الدراسات الإقليمية / جامعة الموصل.
الوصية في اللغة:
وجدنا في المعاجم العربية معاني متعددة لمفردة (وصى). فقد وردت بمعنى : وصل، من قولنا : وصيت الشيء إذا وصلته، ووصيت الليلة باليوم إذا وصلتها( ).
ونبت واصٍ، أي متصل، من قولنا: قطعنا أرضا واصيةً، أي إن نبتها متصل قد امتلأت منه(2).
وسميت الوصية بهذا لاتصالها بأمر الميت(3)، كأنه كلام يوصى: أي يوصل ، يقال : وصيته توصية، وأوصيته إيصاءً(4).
والوصي؛ الذي يوصي، وكذلك الذي يوصى له، فهو من الأضداد(5).
والوصية؛ العهد، وأوصى الرجل ووصى توصيةً، عَهدَ؛ والاسم ؛ الوصاة بفتح الواو،والوصاية بكسرها ، والوصية(6).
أما في الاصطلاح؛ فالوصية؛ ما يوصي به المرء- ذكرا كان أو أنثى- أهله وذويه عندما ينزل به حدث الموت أو يستشعره، فيما يتصرفون به مما ترك لهم من مال أو متاع، لإيفاء دين أو سد مغرم،وما إلى ذلك من الأمور التي تتعلق بذمة الموصي، وهي ما تسمى بالوصية الشرعية(7)
ويقول الأمير أسامة بن منقذ(8): الوصية وصيتان، وصية الإحياء للأحياء، وهي أدب، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتحذير من زلل، وتبصره بصالح عمل. ووصية الأموات
للأحياء، عند الموت، بحقٍ يجب عليهم أداؤه، ودين يجب عليهم قضاؤه.
أما الهداء في اللغة فقد تعددت معانيه وتنوعت ولا يسعنا المجال لذكرها جـميعا لـذا سنكتفي بذكر ما يخص موضوع بحثنا هذا:الهدىٌ والهدية العروس .
والهداء مصدر قولك هدى العروس،وهدى العروس إلى بعلها هداء وأهداها واهتداها، واهتدى الرجل امرأته إذا جمعها إليه وضمها وهي مهدية وهدىٌ أيضا(9).



الوصايا في العصر الجاهلي:
تعددت الوصايا في العصر الجاهلي وتنوعت أغراضها على وفق الحدث المرتبط بها. واختلفت عن غيرها من صنوف الأدب، لأنها كانت نابعة من تجارب الإنسان وخبرته في الحياة. فالموصي يضع في وصيته عصارة فكره وخلاصة تجاربه في الحياة. فنراه يأتي في وصيته بجمل قصيرة مركزة، تحمل ابلغ المعاني، وأسمى القيم، ليضعها نصب عين الموصى
له الذي هو الأعز لديه، والأقرب إلى قلبه، والأحب إلى نفسه، والوصية وان كانت تخرج لشخص واحد، فهي يمكن أن تفيد مجتمعا كاملا ويمكن عدها مرجعا يفيد كل من يحتاج إلى النصح والإرشاد. ومن خلال استقراء الوصايا في العصر الجاهلي نجد أن صاحب كتاب "جمهرة وصايا العرب"(10) قسمها إلى ستة أنواع وهي:
1- وصايا الملوك إلى أولياء العهد أو من يقوم مقامهم.
2- وصايا الحكماء إلى أبنائهم وأبناء العشيرة وغيرهم.
3- وصايا الآباء للأبناء وأبناء الأبناء.
4- وصايا الهداء (الزواج). وهي موضوع بحثنا هذا.
5- وصايا السفر والمسافرين.
6- وصايا الحرب.

• وصايا الهداء(الزواج):
نجد هذا النوع من الوصايا يقدمه الأب الحكيم أو الأم البليغة لابنتهما عند الزواج. فالفتاة تربى في بيت أبيها على طبائع معينة وعادات وتقاليد وقيم تختلف باختلاف البيئة، وتتباين من بيت إلى لآخر، فحين تنتقل الفتاة إلى بيت زوجها من المؤكد أنها ستجد طبائع وقيما وعادات تختلف اختلافا قد يكون جذريا عن الذي تربت عليه. وهنا نجد دور الأب وألام ليضعا أمام ابنتهما الخطوط العريضة لبناء حياة هانئة من خلال تجربة الأب أو ما مرت به الأم وما واجهته من خلال معاشرتها للأب، وكيفية تعاملهما مع بعضهما وكيفية العمل لضمان ديمومة العشرة والحفاظ على الحياة الزوجية، ومراعاة كل طرف للآخر.
إن الرجل وان كان بحاجة إلى وصية تبين له كيفية التعامل مع زوجته لضمان حياة مستقرة هانئة هادئة مع زوجته، إلا إننا لم نجد أما أو أبا يختصان ابنهما بهكذا وصية. ولكننا وجدنا في أثناء عدد من الوصايا أباً يوصي ابنه باختيار الزوجة الصالحة ذات الحسب والنسب والرفعة والشرف، لان هذا سيعود بالمستقبل على أبناءه وأحفاده، ويحذره من الأنجرار وراء الشكل وإهمال الجوانب الأكثر أهمية ألا وهي النسب والأخلاق،فجمال الوجه لا يجدي نفعا إذا لم تزينه رفعة الأصل وشرف النسب و كمال الأدب. فنجد اكثم بن صيفي(11) يشدد على هذا الأمر فيقول(12):
( يا بنيَ لا يغلبنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن المناكح الكريمة مدرجةٌ للشرف)
وفي ثنايا وصية أخرى نراه يحذر من زواج الحمقاء فيقول(13) :
(وإياكم ونكاح الحمقاء،فإن نكاحها غرر،وولدها ضياع).
وتوافق رأي عوف أبن كنانة(14) مع رأي أكثم بن صيفي في اختيار الزوجة ذات الحسب فيقول في أثناء وصيته لأبنائه(15) :
(ولا يخلجنكم جمال النساء عن صراحة النسب ،فان مناكحة الكرام مدارج الشرف)
وأكد القلمس(16) كلام اكثم بن صيفي وزاد عليه قولا حكيما، ورأيا سديدا، في اختيار المرأة الكفء ذات الطهر والعفاف وان كانت من قوم آخرين، فهذا لا يمنع أن يختار من هي من أشراف قومها، وأحسنهم أخلاقا ، ولم يغب عنه أن يذكر كيفية التعامل مع الزوجة الغريبة. فأكد على غلو صداقها و تكريمها وعدم حرمانها مما هو لها، وان تصرف إلى أهلها وهي في أبهى حلة وأكرم حالة، ولا تنقصها حاجة، فهذا يعلي من شان الرجل وقومه عند قومها، ويرفع مكانتهم. كما يؤكد القلمس على ستر المرأة واحتجابها-وهذا أمر أقره الإسلام بظهوره وشدد عليه-. كما أكد عدم تزويج الفتاة إلا لمن هو كفء لها. فيقول (17):
( أوصيكم بأيامكم خيرا، شددوا حجبهن، وانكحوهن اكفاءهن، وايسروا الصداق بينكم، تنفق أيامكم، ويكثر نسلكم، فإن نكحتم في العرب فاختاروا ذوات العفاف والحسان أخلاقا، فإنكم لما يكون منهم احمد من غيركم، وإنهم راءون فيمن بقي من نساءكم مثل ما رأوا فيمن جاء منهن، وإذا نكحتم الغريبة فاغلوا صداقها، وتزوجوا من أشراف القوم، ثم أكرموا مثوى حاجاتكم ما كانت فيكم، ولا تحرموها إذا انصرفت إلى قومها مالها، لا تنقصوها من شيء يكون لها، فان كريمة القوم إذا رجعت أليهم قليلا متاعها، ظاهرة حاجتها، غير راجعة فيكم غيرها)
كما نجد زرارة بن عدس(18) يشترط على تزويج الفتاة ممن هو كفء لها ويدرج هذا الشرط بين سطور وصيته فيقول19):
(يا بني ،زوجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهن القضاء).
هذه هي السياقات العامة التي حددها الموصون في اختيار الزوجة الكفء ومما لم يختلف عليه اثنان، فقيمهم وعاداتهم أوجبت عليهم وضع شروط وحدود لاختيار شريكة الحياة ولا يجوز لأحد التغافل عن هذه الشروط أو تجاوزها.
أما وصايا الهداء فقد تنوعت مضامينها وتعددت أغراضها، لكن جميعها تصب في بناء أسرة متماسكة، وترمي إلى تذليل الصعوبات ومتاعب الحياة، وإدامة التآلف والتسامح بين الطرفين.
وأول وصية آثرنا أن نبدأ بها وندخل إلى تفصيلاتها ونخوض في دقائقها ونبين ما اشتملت عليه من عبر ونصح وإرشاد قد لا نصادف مثيله في وصايا أخريات، هي وصية إمامة بنت الحارث(20) لابنتها عند هدائها إلى الحارث بن عمرو الكندي(21) : احد ملوك اليمن.
وإمامة هذه يقول عنها الإخباريون أنها فصيحة نبيلة، كانت عند عوف بن ملحم الشيباني-احد أشراف العرب في الجاهلية- وقد قدم الاخباريون لهذه الوصية بمقدمة مفادها أن الحارث بن عمرو الكندي بلغه عن ابنة إمامة هذه جمالا وكمالا، فأرسل امرأة اسمها عصام تتفحصها، فعادت إليه، فوصفتها له وصفا حسيا دقيقا، فأرسل وراء أبيها يخطبها ، فزوجه إياها(22) فقالت أمها توصيها عند هدائها(23) :
( أي بنية، إن الوصية لو تركت لعقل وأدب أو مكرمة في حسب لتركت ذلك منك، ولزويته عنك، ولكن الوصية تذكرة للعاقل، ومنبهة للغافل. أي بنية، انه لو استغنت المرأة بغنى أبويها، وشدة حاجتها، كنت أغنى الناس عن الزوج، ولكن للرجال خلق النساء، كمالهن خلق الرجال)
استهلت ألأم وصيتها لابنتها بعبارات قصيرة، سلسة، عميقة المعنى. غنية بالموعظة الحسنة. فيها ما يشبه المديح. أو هو المديح ذاته. فالأم هنا مدركة تمام الإدراك بان لابنتها من العقل والحكمة والرشد والكمال والأدب ما يغنيها عن أي نصح يمكن أن يقدمه احد لها ولكنها آثرت أن توصيها لعلها تغفل عن أمر بسيط قد يكون مردوده كبيرا. فهنا أرادت الأم أن تصون ابنتها من مغبة الوقوع في أي خطأ وان كان يسيرا.
ثم تعود الأم لتبين لابنتها أن الحاجة إلى الزوج، ليست حاجة مادية فحسب، فلو أن الأمر يتعلق بالفقر والغنى فهي أغنى الناس عن الزوج. ولكن الزواج هو سنة الحياة. فالنساء خلقن للرجال وبالعكس.
بعد هذه المقدمة الغنية بالدلالات والعبر، عادت الأم الفطنة العاقلة إلى خبرتها وتجربتها لتستقي منها عبرا ومواعظ تفيد ابنتها التي ستنتقل للعيش في بلاط رجل لا تعرف شيئا عن طبائعه وعاداته وسلوكه، وذلك بعد أن تفارق أحضان أمها وأبيها وتغادر جدران البيت الذي درجت فيه والفته،إلى قرين لم تألفه.
إن أول طلب طلبته الأم من ابنتها هو طاعة زوجها لكسب رضاه، فان صارت له امة صار لها عبدا, فتقول:
( أي بنية انك قد فارقت الحواء الذي منه خرجت، والوكر الذي منه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك ملكا، فكوني له امةً يكن لك عبدا)
ثم أمرتها أن تحفظ عنها خصالا عشرا. تكون لها موعظة وذكرى، وهنا اختارت ألام في كلامها الجمل القصيرة كما نجد فيه السجع والإيقاع الجميل،وتحسن اختيار عباراتها،وتصدر أقوالها عن ذكاء وفطنة، فتقول:
( واحفظي عني خصالا عشرا، تكن لك دركا وذكرا:
فأما الأولى والثانية، فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فان في القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب.
وأما الثالثة والرابعة، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم انفه منك إلا طيب الريح، واعلمي-أي بنية- أن الماء أطيب الطيب المفقود، وان الكحل أحسن الحسن الموجود.
وأما الخامسة والسادسة، فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فان حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النومة مغضبة.
وأما السابعة والثامنة، فالاحتفاظ بماله، والرعاية على حشمه وعياله، فان الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة، فلا تفشي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فانك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وان عصيت أمره أوغرت صدره).
هذه الخصال التي أوصت ألام ابنتها بالتزامها، جاءت بعبارات واضحة ومعان يسيرة تعد بمثابة ركيزة أساسية لبناء حياة زوجية مؤداها المحبة والتعاون والانسجام بين الطرفين.
وتختم ألام وصيتها وهي تحذر ابنتها من الوقوع في مالا تحمد عقباه ويكون معه ما لا تريده من فراق قد لا يكون بعده عودة، وكدر لا تقام بعده صفوة، وذنب لا ينفع بعده ندم.
( واتقي الفرح لديه إذا كان ترحا، والاكتئاب عنده إذا كان فرحا، فان الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي انك لن تصلي إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك، ويصنع لك برحمته).
وحسبما نقل الرواة(24): أن بنت إمامة هذه قد غلبت على أمر الملك وولدت له سبعة أملاك ملكوا بعده.
أما الوصية الثانية التي نروم التحدث عنها. فهي وصية عامر بن الظرب العدواني(25) لابنته عمرة التي زوجها لابن أخيه. وهذه الوصية تختلف في مضامينها عما سبقها من الوصايا لسببين:
1- إنها صدرت من الرجل وهو الأب لابنته.
2- إن عمرة هذه لم توفق في زواجها من ابن عمها فخلعت منه، وكان هذا أول خلع في العرب. وتلاه في الإسلام خلع حبيبة بنت سهل من زوجها ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري على يد رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم). وكان أول خلع في الإسلام على ما ورد في مسند الإمام احمد.
يفتتح عامر بن الظرب العدواني وصيته بمسالة نجد أن اغلب الموصين متفقون عليها وهي كثرة استخدام الماء، فانه جلاء للجسم مما يتعلق به من دهون وروائح غير مرغوب فيها. ونقاء للبشرة وهو أطيب الطيب. ولا تكون النظافة إلا معه. يقول(26):
( يا هذه مري ابنتك. فلا تنزلن فلاة إلا ومعها ماء، وان تكثر استعمال الماء، فلا طيب أطيب منه، وان الماء جعل للأعلى جلاء، وللأسفل نقاء).
ثم يعود الموصي ليحذر ابنته من أن يغلب هواها على هوى زوجها. أو أن تميل إلى رأيها لتفرضه على رأيه. ففي اعتقاده. انه لا رأي لامرأة أمام رأي زوجها ولا وصية.
( وإياك أن تميلي إلى هواك ورأيك, فانه لا رأي للمرأة، وإياي ووصيتك، فانه لا وصية لك)
من الملاحظ في هذه الوصية أن الأب لا يتحدث مباشرة إلى ابنته،-وهذا من باب الحياء- وإنما يبلغ زوجته بما يجب على ابنته فعله لتستمر حياتها وتستقر مع زوجها.
ثم يمضي الموصي في رسم الطريق الامثل لابنته لبناء أسرة تكون ركائزها متينة وأساسها المحبة والتالف، فيبين لها أن حب الزوج سيئ جميل. وان كرامتها لا تكون مصانة ألا مع زوجها. ثم يحذر الأب من أمرين قد يرى البعض انه متناقض فيهما ولكنه أعطى لكل واحد منهما تبريرا منطقيا معقولا نراه محقا جدا فيه. الأول: أن لا تمنع زوجها منها حين شهوته. فان رضا الزوج عن زوجته مقرون بإتيانها وقت لذته. ففيه راحة النفس والبدن. والثاني: أن لا تكثر مضاجعته. وان لا تكون مبتذلة في نفسها فيمل منها زوجها. فإذا مل الجسد مل معه القلب.
( اخبري ابنتك أن العشق حلو، وان الكرامة المؤتاة، فلا تستكرهن زوجها من نفسها، ولا تمنعه عند شهوته، فان الرضا الإتيان عند اللذة، ولا تكثر مضاجعته، فان الجسد إذا مل مل القلب. ومريها فلا تمزحن معه بنفسه، فان ذلك يكون منه الانقباض، ومريها فلتخبا سوءتها منه، فانه وان لابد من أن يراها، فان كثرة النظر إليها استهانة وخفه)
إن الحدث الذي ارتبط بهذه الوصية على ما ذكرت سابقا هو الخلع، إذ أن عمرة هذه لم توفق في زواجها فنفرت من زوجها ولم ترده، فقد ذكر النقلة أن زوجها – ابن أخ الموصي- شكا إلى عمه ابنته فقال له:
(يا ابن أخي، إنها وان كانت ابنتي، فان لك نصيبا مني، فاصدقني، فانه لا رأي لمكذوب، فان صدقتني صدقتك، إن كنت نفرتها فذعرتها، فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وان كانت نفرت من غير أنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء).
ويتمم بقوله: (وألا يكن وفاق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم تترك اهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، وهي فعلت ذلك بنفسها)
أما قيس بن مسعود الشيباني(27) فنراه يختصر وصيته لابنته عند هدائها إلى لقيط بن زرارة(28) بجمل قصيرة بليغة يتفق في مقدمتها مع إمامة بنت الحارث في وصيتها لابنتها بقوله(29): ( يا بنية كوني له امة يكن لك عبدا ). ونراه يتفق كذلك مع اغلب الموصين بمسالة كثرة استخدام الماء والتطيب منه. ولكننا نرى اختلافا كبيرا في مضامين هذه الوصية عن الوصايا آنفة الذكر. والاختلاف هذا يكمن في كون لقيط بن زرارة رجل حرب ومن المحتمل أن يقتل أثناء أية معركة يخوضها، وقد حدث ذلك فعلا. فيوصيها قائلا:
(ثم لا اذكرت ولا أيسرت، فانك تلدين الأعداء، وتقربين البعداء، إن زوجك فارس من فرسان مضر، فان كان كذلك، فلا تخمشي وجها ولا تقصي شعرا)
والذي يبدو أن هذه المرأة كانت على وفاق تام مع زوجها لقيط، ومع إحمائها، فقد روت الأخبار انه لما قتل عنها زوجها، تحملت إلى أهلها، ثم مالت إلى مجلس عبد الله بن دارم (30) فقالت:
(نعم الإحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالقرائب خيرا، فلم أر مثل لقيط، ثم لحقت بقومها).
وثمة وصيتان أخريان ذكر صاحب جمهرة وصايا العرب أنهما كانتا بين الجاهلية والإسلام. اولهما لرجل أدرك الإسلام ولم يسلم وهو الفرافصة ألكلبي(31) وابنته نائلة زوج عثمان بن عفان (رضي الله عنه). ووصيته لا تتعدى مسألتين وجدناهما في اغلب الوصايا التي مر ذكرها. وهما الكحل والماء. وقد ركز الموصي على هاتين المسالتين لان ابنته ستنتقل للعيش مع نساء قد يختلفن عن نساء بلدها. فأرادها أن تتغلب عليهن بهما. فيقول(32):
( يا بنية انك تقدمين على نساء من قريش، وهن اقدر على الطيب منك فلا تغلبي على خصلتين، الكحل والماء، تطهري حتى يكون ريحك ريح شن أصابه المطر)
والوصية الأخيرة التي سنتحدث عنها هي وصية انفردت انفرادا تاما بمضمونها. وذهبت فيها الأم شأوا بعيدا لم يذهب إليه موصون آخرون. فهي تحذر ابنتها من أن يكون زوجها من الوهن والضعف ما يجعله يفقد رجولته. ففي العصر الجاهلي وحتى في الإسلام . كان أغلى ما يمتلكه الرجل عدة حربه من سيف ورمح وفرس. فان هانت عليه هذه العدة، هان عليه أي شيء آخر. وحذرتها من أن يغلب هواها على هواه ويميل إلى رأيها. وان يغلبه جمالها فيكون ضعيفا أمامها. والآن في عصرنا الحاضر نحن بأشد وأمس الحاجة إلى مثل هكذا وصايا ، ليس للنساء والبنات فقط ، إذ نجد الكثير من الرجال اخذوا مسعى غير المسعى الذي رسمه لهم ديننا الإسلامي من أخلاق وصفات حميدة، كما يجب على الرجل أن لا يطيع زوجته في كل ما تقوله، ونستشهد على ذلك بقول للخليفة عمر بن الخطاب يقول فيه: "أكثروا لهن من قول لا"، وللرجوع إلى الوصية نجد الأم توصي ابنتها قائلة(33):
(اقلعي زج رمحه، فان اقر فاقلعي سنانه، فان اقر فاكسري العظام بسيفه، فان اقر فاقطعي اللحم على ترسه، فان اقر فضعي الآكاف على ظهره فإنما هو حمار)
كانت هذه آخر وصية وجدناها في الكتب تخص موضوع الهداء (الزواج). وتميزت هذه الوصايا بجمل قصيرة مركزة ذات معان ودلالات عميقة. قد يتفق الموصون في بعض مضامينها، ويختلفون في مضامين أخرى. ولكن جميعها كانت ترمي إلى وضع صيغة عملية للتآلف والتفاهم والتواد بين الزوجين والذي يؤدي إلى بناء حياة على قواعد سليمة وأسس متينة، لا يشوبها الكدر. وبالتالي إلى بناء مجتمع متماسك قوامه الأخلاق والروابط القوية بين أفراده. وهذا ما جاء الإسلام ليقره ويؤكده من خلال القران الكريم والسنة النبوية الشريفة.

الخاتمة:
من خلال ما تطرقنا إليه في هذا البحث وما رأيناه من وصايا خرجنا بجملة من النتائج
يمكن أجمالها بالآتي:
1- كان للمرأة في العصر الجاهلي وحتى في الإسلام مشاركة بارزة في النتاج الأدبي ،مما يخالف النظرة السائدة التي ترى أنها لم تتحرر إلا في هذا العصر.فلو لم تكن للمرأة حريتها وشخصيتها المفروضة وبقوة على المجتمع لما وصل إلينا هذا الكم الهائل من أدب المرأة.
2- ما وجدناه من مفاهيم وقيم في هذه الوصايا جاء الإسلام ليقره ويؤكده كمسالة الحجاب التي شدد عليها القلمس في وصيته، وكذلك التطيب بالماء الذي أكد عليه اغلب الموصين، والأمر الأهم الذي هو احترام الزوج والنزول عند رغباته، وغيرها من الأمور.
3- إن للمرأة دورا كبيرا في حياة الرجل -الزوج-فوجودها يجب أن يكون دافعا له نحو الأمام، وان تشد من أزره على مواجهة الصعاب ، وما أكثرها في عصرنا الحالي، اذ يجب أن تكون له عونا على مصاعب الدهر وويلاته.
4- يجب على المرأة في عصرنا الحالي من الرجوع إلى الوراء والاستزادة من المثل والقيم التي كانت تتمتع بها المرأة العربية في العصر الجاهلي وعصر الإسلام لمواجهة التحديات الخطيرة المحدقة بالأمة العربية و المرأة العربية تحديدا، بسبب ما يروج له الغرب من دعاية لإعطاء المرأة حريتها المطلقة متناسية الحرية التي وهبها لها الإسلام، فيجب على المرأة العربية المسلمة أن لا تنجرف وراء الدعوات المبطنة الرامية إلى مساواة الرجل بالمرأة، لان ذلك هدم لمبادئ جاء بها الإسلام وأعطى فيها الحق للمرأة للعيش بعز وكرامة في بيت أبيها أو بيت زوجها.





الهوامش: