صفحات مطوية من واقع المرأة في فلسطين بقلم:زكي العيلة
تاريخ النشر : 2005-01-12
صفحات مطوية من واقع المرأة في فلسطين

منذ بدايات القرن العشرين حتى نكبة 1948

بقلم : زكي العيلة

أولاً : على الصعيدين الاجتماعي والثقافي :

لم يختلف واقع المرأة الفلسطينية بداية القرن العشرين عن واقع المرأة العربية في الأقطار المجاورة حيث تراكمت جملة من العادات والأعراف التي فرضت العزلة والحصار على المرأة سواء في بيت عائلتها ، أو بيت زوجها بعيداً عن العالم الخارجي المحيط بها على اعتبار "أن المنزل هو عالم المرأة ؛ تولد ، تعيش ، تعمل وتموت فيه ، ولا تغادره إلا للضرورة ، أما الحياة العامة فليست من شأنها"(1) .

وعندما انطلقت أصوات بعض المصلحين منادية بتحرير المرأة وتعليمها والعمل على إعطائها حقوقها ، وإفساح المجال أمامها لمشاركة الرجل في إرساء قواعد مجتمع متماسك ، وجدنا تبدلاً في المكانة الاجتماعية للمرأة في فلسطين ، وإن سار ذلك التبدل سيراً بطيئاً تشده إلى الوراء عادات وتقاليد موروثة لا يستطيع المجتمع الانعتاق منها تماماً(2) .

إلى هذا الواقع تشير الشاعرة (فدوى طوقان) في سيرتها الذاتية ، وهي تتحدث عن بيت عائلتها(3) : "في هذا البيت ، وبين جدرانه العالية التي تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة – الحريم- المؤودة فيه انسحقت طفولتي وصباي ، وجزء غير قليل من شبابي ، أما الجو العائلي فيسيطر عليه الرجل كما في كل بيت ، وعلى المرأة أن تنسى وجود لفظة "لا" في اللغة إلا حين شهادة (لا إله إلا الله) في وضوئها وصلاتها، أما "نعم" فهي اللفظة الببغاوية التي تُلقنُها منذ الرضاع ، لتصبح فيما بعد

كلمة صمغية ملتصقة على شفتيها مدى حياتها كلها . حق التعبير عن النفس محظور عليها... الاستقلال الشخصي مفهوم غائب لا حضور له إطلاقاً في حياتها"(4) .

وهذا الرأي يصعب سحبه على مجمل حال المرأة في فلسطين ، وربما يتصل الأمر بظروف ترتبط بحياة الشاعرة في أسرتها الخاصة ، حيث كان من المألوف في تلك المرحلة التي تتحدث عنها الشاعرة خروج الفتاة ، لتشارك في الحياة الثقافية والاجتماعية ، خاصة في ضوء انتشار المدارس العربية والأجنبية والجمعيات الأدبية والصحف "بحيث وصل الأمر قبيل الحرب العالمية الأولى حد قيام طالبات مدرسة السينمار الروسية ببيت جالا بترجمة حكايات عن الروسية ، وإرسالها إلى مجلة النفائس العصرية"(5) "كما أصبحنا نطالع نساء كاتبات يشاركن في التوجيه الأدبي ، ويكتبن المقالة التوجيهية مثل الكاتبة سلمى النصر في الناصرة"(6) .

واستجابة لروح العصر ، حيث اكتسب مفهوم تعليم الفتاة قيمة اجتماعية ، بدأ نوع من التغير في النظرة إلى الفتاة خاصة المتعلمة ، وهذا ما يمكن استشفافه من شعر (جرجس أيوب) الذي نشره في مجلة النفائس العصرية عام 1914 ، إذ نجد فيه صدى للتحولات التي أصابت الطبقات الاجتماعية :

أتمنى لابنتي عقلاً سليماً * ينبذ الوهم و يهديها السبيلا

ذات علم و ذكاء و نشاط * و خصال صالحات لن تزولا

فإذا جاءني يوماً جهول * ساحباً في المال و الجاه ذيولا

و ابتغى مني أمراً مستحيلا * لست أرضاه بنعليها بديلا(7)

هذه الدعوة إلى تعليم المرأة نجد صداها في بعض قصائد تلك الحقبة ، من ذلك مثلاً قصيـدة (نجاح الأمة في رقي المرأة) التي نشرها الشاعـر (إسكنـدر الخـوري)

البيتجالي عام 1923 حيث ربط بين تعليم المرأة ، والرقي الاجتماعي(8) :

فتش عن المرأة في كل ما * تراه من ضائقة أو سعة

حقيقة هذي ، و إن آلمت * أقولها ، لعلها مُسمعـة

فالشرق لا ينهض من نومه * و بنته في حالة موجعـة

مظلومة قد ساء تهذيبها * محبوسة كناسك الصومعة

يا أمم الشق التي حركت * ركابها للمجد ، كي ترجعه

لن تدركي المجد إلا إذا * تشارك الجنسان في المعمعة

فعلموا المرأة ، إن كنتم * ترجون من شرقكم منفعة(9)

وإذا مضينا إلى أواسط العشرينيات من القرن العشرين نجد السيدة (أسمى طوبى) تخوض مجال الكتابة المسرحية ، حيث بدأت مسيرتها هذه عام 1925 بمسرحية "مصرع قيصر روسيا وعائلته" ونشرتها في عكا ، فَمُثِّلت في فلسطين ثلاث مرات وفي لبنان تسع مرات .

وعندما أصبحت عضواً فاعلاً في اتحاد المرأة في مدينة عكا عام 1929 دأبت على إخراج مسرحية مرتين في العام ، تضعها بنفسها عن الجهاد المشرف وكل ما يرفع المعنويات فتحول منزلها إلى مسرح نشيط تتمرن الشابات فيه على التمثيل حتى يصلن إلى مستوى عال ، ثم تنفق من ريع هذه المسرحيات على اتحادها ، ومن مسرحياتها : "صبـر وفرج" و "نساء وأسرار" و "شهيدة الإخلاص" و "واحدة بواحدة" و"القمار"(10) .

في هذا الوقت ، وتحديداً في سنة 1928 بدأنا نتابع سلسلة مقالات مترجمة منشورة في مجلة الكشاف لعنبرة سلام الخالدي بعنوان (كيف أنظر إلى الحياة) ... كما نجد في الفترة نفسها سيدة تظهر للمرة الأولى ضمن فرقة شبان القدس العرب الذين عرضوا رواية مجدولين على مسرح سينما صهيون في القدس ، .. حتى إذا كان الثلث

الثاني من القرن العشرين ظهرت في فلسطين فرقة الكرمل التمثيلية العربية التي استطاعت القيام بأدوار رواية هملت المعقدة ونجحت فيها .. ومن بين أفراد الفرقة سيدات ممثلات أجدن أدوارهن كأسماء خوري وثريا أيوب(11) .

وبنظرة إلى الإحصائيات التعليمية نجد تزايداً في نسبة التحاق الفتيات بالمدارس رغم سياسة حكومة الانتداب البريطانية التي لم تساعد على انتشار التعليم(12) .

فقد بلغ عدد الطالبات في السنة الدراسية 1919-1920 (2243) طالبة في المدارس الرسمية فقط ، وفي السنة الدراسية 1929-1930 وصل عدد الطالبات إلى (4782) طالبة ، وكان عدد البنات اللواتي يصلن إلى الصفوف النهائية قليلاً ، لأن معظمهن كان يترك مقاعد الدراسة للتفرغ للأعمال المنزلية أو الزواج(13) .

أما في العام45/ 1946فقد قفز عدد الطالبات في المدارس الرسمية –المعارف- إلى (16.506) طالبات في المرحلتين الابتدائية والثانوية أي ما نسبته 36% من مجموع التلاميذ(14) .

وإلى جانب هذه المدارس كانت هناك كليتان رسميتان للفتيات :

1- كلية دار المعلمات في القدس ، تأسست عام 1919 الدراسة فيها أربع سنوات

ثانوية، وسنة لإعداد المعلمات للتدريس في المدارس الابتدائية ، وقد ضمت ثلاثاً وعشرين طالبة عام 1920 ، وزاد العدد إلى مائة وأربع طالبات في العام 45/1946، وقد بلغ عدد خريجات هذه الكلية منذ تأسيسها حتى عام 1945 أكثر من ثلاثمائة خريجة شكلن معظم معلمات مدارس البنات في المدن .

2- دار المعلمات القروية ، تأسست في رام الله عام 1935 ، وكانت تعد طالباتها للتدريس في مدارس البنات الريفية ، وكانت في الأصل تشمل سنتين دراسيتين بعد مرحلة التعليم الابتدائي ، ثم رؤى في عام 1945 أن تكون الدراسة فيها أربع سنوات ، وقد بلغ عدد طالباتها في ذلك العام أربعاً وثلاثين طالبة .

وهناك دور معلمات أخرى غير حكومية منها كلية البنات في القدس التابعة للبعثة الأنجليكانية ، وكان عدد خريجيها في العام 45/1946 تسع معلمات ، وكلية شميدت للبنات في القدس التابعة لبعثة الألمان الكاثوليك ، وتخرجت منها عام 1946 "عشر معلمات"(15) .

وعن واقع تعليم الفتاة في الثلاثينيات ، وما أحدثه من آثار إيجابية خاصة بالنسبة للفتيات اللواتي التحقن بالدراسة العالية المتوسطة تقول الشاعرة فدوى طوقان : "كانت هناك فئة قليلة ممن أكملن دراستهن في دار المعلمات الحكومية في القدس .. وكان لفئة المعلمات في نابلس وغيرها من مدن فلسطين قيمتها الاجتماعية واحترامها في عيون سكان البلد ، فكانت المعلمة تمتاز بالثقة بالنفس ، والاعتداد بالذات ، ولقد شكلت المعلمات في نابلس فئة اجتماعية معينة ، وأصبح الانتماء إلى هذه الفئة قيمة تتطلع إليها كل فتاة طموحة ، فقد عرفت الفتاة المعلمة لأول مرة شيئاً من الاستقلال الاقتصادي ، وأصبحت تشارك أباها ، أو أخوتها في القيام بتكاليف معيشة الأسرة"(16)

وإذا كان هذا هو واقع الحال بالنسبة لالتحاق الفتيات بمراحل التعليم الابتدائي ، والثانوي ، والعالي المتوسط ، فإن أعداداً أخرى من الفتيات – نظراً لخلو فلسطين من التعليم الجامعي- قد التحقن بالجامعات العربية خارج فلسطين ، وربما تكون أعدادهن قليلة ، لكن ذلك كان يشكل إنجازاً أتاح قسطاً أوفر من التعليم لهن في ذلك الوقت .

جدول يبين عدد الطالبات الفلسطينيات في الجامعة الأمريكية في بيروت(17)

(السنــة * العــدد)

1921 : 3

1931 : 6

1941 : 7

1942 : 8

1943 : 10

1944 : 14

1945 : 16

ومن هؤلاء الفتيات بالتأكيد تبرز فتاة كفر كنة (ماري الصفوري) الطالبة التي التحقت بالجامعة الأمريكية في العام الدراسي 25/1926 ، فخلبت قلب شاعر فلسطين (إبراهيم طوقان) منذ وقعت عيناه عليها ، فأرسل فيها شعره الرائق والغزل الصادق ، وتبع خطواتها ، وسكناتها ، حتى تهيأت له تدريجياً فرص التعرف على صفاتها والاقتراب منها ، وهي تطالع في مكتبة الجامعة الأمريكية(18) .

وغريرة في المكتبة * بجمالها متنقبـة

جلست لتقرأ أو لتــ كتب ما المعلم رتبه

فدنوت أسترق الخطى * حتى جلست بمقربة

و حبست حتى لا أرى أنفاسي المتلهبــة

و نهيت قلبي عن خفـــوق فاضـح فتجنبه

راقبتها فشهدت أن الله أجزل في الهبــة

يا ليت حظ كتابهـــا * لضلوعي المتعذبة(19)

لقد أمت الفتيات في فلسطين المدارس والكليات الرسمية وغير الرسمية "واطلعن على علوم وثقافات شتى ، وتأثرن ببعض العادات والمفاهيم الأجنبية ، وجذب الكثير منهن بريق بعض الحضارات التي عكستها مدارس الطوائف والمذاهب الدينية غير الإسلامية ، ومدارس الجاليات الأجنبية ، وقد اتضح أثر ذلك الاحتكاك الثقافي والحضاري في مختلف وجوه الحياة ، وقد تجلى ذلك بوضوح في المدن الفلسطينية الكبرى بشكل خاص ، حتى لقد وجدنا من يتذمر من إفراط المرأة الفلسطينية في التشبيه بالأجنبيات ، حيث هاله سلوك الفتيات ومظهرهن الذي لم تألفه البيئة الفلسطينية من قبل ، من ذلك – مثلاً- إسكندر الخوري البيتجالي الذي يقول"(20) :

راعنا في الشرق توظيف البنات * في الدوائر

و ركوب السيـدات العجـلات * في الحواضر

و امتطاهـن الجيـاد الصافنات * كالقسـاور

و " بناطيـل " على رغم النهاة * و الأوامـر

لبستها هذه المستـرجــلات * كالعساكــر

وعندما غزت فلسطين موجات اليهود حملت معها الفتيات اليهوديات وبائعات الهوى اللواتي كن يمشين في المدن الفلسطينية سافرات بملابس بعيدة عن الحشمة ، وقد أدى وجودهن إلى حالات من الإفساد والإغواء ، حيث وقع في حبائلهن عـدد من الشبان ،ممـا جعل الشعراء يـدعون إلى الالتزام بالفضيلة والتقاليـد مطالبيـن المرأة الفلسطينية بعدم التشبه بالمظاهر المنحرفة ، أو الانخداع بها ، وفي ذلك الوقت يقول اسكندر البتجالي(21) .

سرن يرسلن أسهماً من عيون * فاتنات ما بين زرق و سود

يتلفتن تــــارة بازدراء * و يقهقهن تارة كالولــيد

بينهن الحسناء من خادعوها * بهدايا الهوى و حلو الوعود

و التي خادعت و ما خادعوها * ببياض و حمرة في الخدود

من بنات اليهود جئن إليـنـا * من أوروبا بكل زي جديـد

مشهد من مشاهد القدس هذا * في غنى عن دلائل و شهود

غانيات الأعراب مهلاً فإنـا * في احتياج إلى الصلاح الشديد

احذري الزيَّ ، هذبي الطفل كوني مثل النبل و التقى للوليــد

كي يكون الوليد يوماً رشيداً * كي تكوني نظير أم الرشيد



لقد اتسم المجتمع الفلسطيني منذ بدايات القرن العشرين بعلاقات الإنتاج التقليدية التي عكست نفسها على العلاقات الاجتماعية السائدة "ففي حين كان سكان القرى في فلسطين يمثلون 71% من مجموع السكان في العام 1922 لم تنخفض هذه النسبة في العام 1944 إلا 5% حيث أصبح سكان القرى يمثلون 66% من السكان العرب في فلسطين"(22) .

ورغم التحولات التي أصابت المجتمع الفلسطيني نتيجة مصادرة الاحتلال البريطاني لمساحات من الأراضي الزراعية ، وتحول بعض الفلاحين للعمل في المدن، أو في معسكرات الجيش ، ظل المجتمع تقليدياً ، بنيته الأساسية بنية زراعيـة ، ولقـد كان للانتداب البريطاني على فلسطين دور كبير في الإبقاء على تلك البنية المتخلفة للمجتمع العربي الفلسطيني "حيث كانت السياسة البريطانية تقوم على وضع العراقيل الكثيرة أمام نمو صناعة وطنية في فلسطين ، وذلك خدمة لسياسات الغزو الصهيوني للأرض الفلسطينية ، وقد استتبع هذه السياسة إبطاء سير عملية التحديث في المجتمع الفلسطيني ، وربط سيرها بسياسات وغايات الانتداب البريطاني"(23) .

وقد أدت هذه السياسة إلى تكريس الفقر والجهل والتخلف ، وبات من الصعب تأمين الاحتياجات الأساسية للأسرة ، مما دفع المرأة إلى مشاركة معيلها في فلاحة الأرض وزراعتها ، وجني المحصول ، ويمكن القول هنا "أن غالبية نساء الريف كانت

تزاول العمل الزراعي ، وهناك نسبة محدودة دفعتهن الحاجة إلى العمل في مصانع فرز التبغ ولفه ، وفي مصانع الصابون والخزف ، وصناعة الحبك ، وكان أجر المرأة يتراوح بين 35-70 مليماً يومياً"(24) .

ثانياً : على الصعيد السياسي :

لقد بدأ النضال السياسي للمرأة الفلسطينية منذ فترة مبكرة ، وبشكل خاص إثر وعد بلفور عام 1917 الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، وما تبع ذلك من تشجيع لهجرة اليهود ، ودعم لمؤسساتهم الاقتصادية ومنشآتهم الاستيطانية ، وهذا بدوره ألقى على كاهل المرأة العربية الفلسطينية عبئاً جديداً تمثل في المشاركة في النضال الوطني المناهض للاحتلال البريطاني ، والتواجد الصهيوني عبر المظاهرات والمسيرات والإضرابات ، وقد كان تحرك المرأة وقتها عفوياً في حدود ما تسمح به التقاليد .

ونظراً لارتباط القضايا السياسية بالقضايا المجتمعية ، "فإن المرأة الفلسطينية باشتراكها في الكفاح آنذاك ، بدأت تخطو خطواتها الأولى نحو تحررها الاجتماعي(25).

ففي العام 1921 أسست إميليا السكاكيني وزليخة الشهابي أول اتحاد نسائي فلسطيني ، وكان هذا الاتحاد ينظم المظاهرات ضد الانتداب البريطاني ، وألّف عدة لجان هدفها مناهضة الانتداب ، والوقوف في وجه الاستيطان الصهيوني(26) ، غير أن تلك اللجان اعتمدت منذ انطلاقها على شريحة اجتماعية ضيقة في قياداتها "متمثلة بنساء الطبقات العليا اللواتي لـم يعانين مـا تعانيـه المرأة العاديـة مـن شتى أنواع الاضطهاد ، لذا اقتصرت المشاركة على النساء اللواتي حصلن على قسط وافر من التعليم والثقافة ، واللواتي كانت ظروفهن الاجتماعية تتيح لحركتهن حرية نسبية"(27) .

أما أكبر تجمع نسائي تم حشده على مستوى فلسطين ، فكان في أول مؤتمر نسائي يطرح دوره المرأة في مواجهة التحديات السياسية ، "ففي 26/10/1929 التأم المؤتمر في منزل حرم عوني عبد الهادي في القدس ، وشاركت فيه مائتا سيدة أغلبهن من زوجات وأقارب النخبة السياسية الفلسطينية ، وكانت خطوة المؤتمر جريئة ، إذا وضعنا في عين الاعتبار القيود والتقاليد التي كانت تمنع حتـى ذلك الوقت المــرأة العربية من المشاركة في أي حركة "(28) .

وفي ختام المؤتمر قابل وفد من المشاركات ضم أربع عشرة سيدة المندوب السامي البريطاني ، وألقت إحداهن كلمة أمامه ضمنتها مطالب المؤتمر وهي : "إلغاء وعد بلفور ومنع الهجرة اليهودية ، وتنحية المسيو (بنتوبتش) النائب العام فوراً لأنه يهودي متحمس متحيز"(29) .

لقد كانت المشاركة النسائية في التظاهرات ، والاعتصامات محدودة ، وتقتصر على عناصر قليلة ، ومن أبرز تلك المشاركات تظاهرات القدس في العام 1933 التي اشتركت فيها خمسون امرأة كن يسرن خلف الرجال ، وهن يرددن الأناشيد الوطنية والحماسية(30) .

وعندما تفجرت ثورة 1936 ، التي استمرت ستة أشهر كاملة ، برز دور المرأة الفلسطينية على المستويين المدني ، والعسكري ، فقد عقدت ستمائة طالبة اجتماعاً في 4/5/1936 في القدس قررن فيه الإضراب حتى تجاب مطالب الشعب الفلسطيني، وقامت الطالبات في عكا بمظاهرة كبيرة في الشهر نفسه تعرضن فيها للضرب على يـد بوليس الاحتلال ، "وقـامت الجمعيات النسائية بجمـع التبرعات ، وتوزيعها على عائلات الشهداء ، والمعتقلين ، وكانت الاجتماعات تعقد سراً في البيوت، وكن يقمن بخياطة الملابس للثوار ، ويجمعن التبرعات من حلي وجواهر ، لشراء الأسلحة ، كما نزلت المرأة الفلسطينية إلى ميدان القتال والمواجهة ، فاستشهدت (فاطمة خليل غزال) في 26/6/36 عندما نشبت معركة في (وادي عزين) بين الجنود البريطانيين ، والثوار"(31) .

هذا النشاط الوطني يمكن أن نجد بعض صوره في قصائد تلك المرحلة ، من

ذلك مثلاً قصيدة "عودي لخدرك" التي نظمها (محيي الدين الحاج عيسى الصفدي) في نابلس في أوائل ثورة 1936 إثر مظاهرة اشترك فيها فريق من نساء المدينة وطالبات المدارس ، والخطاب موجه للفتاة الفلسطينية(32) :

عودي لخدرك يا أخت المها عودي * في الحي ما شئتِ من شُو و من صيد

تبارك الله إذا أقبــلت مغضـبة * و الحسن يشرق من طرف و من جيد

فكفكفي الدمع من عينيك و اطَّرحي * عنك الأسـى لتواسـي قلب معمـود

و دونك الحي جُرِّي في مسارحـه * ذيل المفاخر بيـن الخُـرّد الغــيد

فتيــان قومك كم خفّوا لنائبـة * في كـل يـوم من الأيام مشـهود

ومن ذلك أيضاً تصوير (وديع البستاني)لدور المرأة الفلسطينية في إضراب عام 1936 ومشاركتها الفعالة جنباً إلى جنب مع الرجل في أحداث الحياة السياسية(33):

ثار الشباب ، و ثار الشيب قبلهم * و الصبية احتشدوا للحرب إن لعبوا

و للنســاء بلاء في معامعهــا * و النفـي آنـق ما أولاهم الأدب

و يسجنون و قد ضاقت سجونهم * و يدفنون و كادت تزحف التـرب

وقد شهد (فوزي القاوقجي) قائد جيش الإنقاذ في حديث أجرته معه مجلة "فتاة العراق" على دور المرأة الفلسطينية في الكفاح ودعم الثوار ، ومما قاله : "كانت النساء في معركة بلعا ينجدننا بالماء والطعام ، ونقل العتاد ، ويثرن الشعور بالزغاريد الوطنية وأناشيد البطولة ، وحين حاصرت قوات الإنجليز قوات الثوار كانت النساء تمدنا بكل ما نحتاج إليه ، وبتأثير تحميسهن انتصرنا"(34) .

وتأكيداً على البعد القومي ، تواصلت المرأة العربية في فلسطين مع نساء الأقطار العربية حيث عقد أول مؤتمر نسائي عربي في القاهرة ما بين 15-18 أكتوبر 1938 لدعم الشعب الفلسطيني ومساندته ، وشاركت في المؤتمر الذي سمي بالمؤتمر النسائي الشرقي وفود من الحركات النسائية في كل من مصر والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين ، وعضوة من إيران ، وضم الوفد الفلسطيني 27 مندوبة معظمهن من زوجات وأقارب النخبة السياسية الفلسطينية التي كانت تعكس السلم الاجتماعي –الطبقي الفلسطيني(35) .

وقد انبثقت عن المؤتمر – الذي ترأسته السيدة (هدى شعراوي) رئيسة الاتحاد النسائي المصري – قرارات تؤيد مطالب العرب في فلسطين من إلغاء الانتداب ووعد بلفور ، ووقف الهجرة الصهيونية ، وانتقال الأراضي العربية لليهود ، واستنكار السياسة البريطانية في فلسطين القائمة على البطش والتنكيل واضطهاد الحريــات ، وإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة ، ودعوة كل عربي إلى مساعدة الفلسطينيين ، وإيواء، وتعليم أبناء وبنات الشهداء(36) .لقد كان أداء الوفد النسائي الفلسطيني مميزاً انعكس على أعمال المؤتمر ، ونتائجه(37)، وحول ذلك كتبت جريدة التايمز اللندنية : "من أهم المزايا التي امتاز بها المؤتمر النسائي ما وصلت إليه المرأة الشرقية من التحرر الاجتماعي والذكاء السياسي، فإذا استثنينا سبع عضوات من المسيحيات العرب لا نجد بين المندوبات مـن جاءت ، وبرفقتها أحد من أعضاء أسرتها الذكور لرعايتها ، وفوق ذلك فإن من بين مندوبات فلسطين ثلاثاً من نابلس التي يضرب بها المثل في الحرص الشديد على التقاليد"(38).

وإثر اشتعال معارك 1948 شكلت المرأة الفلسطينية في يافا فرقة من النساء حملت اسم "زهرة الأقحوان" كان من أبرز أعضائها : (جهينة خورشيد) و(عربية خورشيد) ، كما أسست (لولو أبو الهدى) جمعية التضامن النسائي ، حيث قامت النساء بتضميد الجروح في المستشفيات ، وحمل الماء والمؤن إلى الثوار ، وحفر الخنادق ، وبناء الاستحكامات ، بالرغم من القهر الاجتماعي الذي كن يعانين منه .

لقد سجلت المرأة أعمالاً بطولية، وسقط عدد من النساء شهيدات وهن يتصدين مع الثوار لهجمات الصهاينة مثل : حلوة زيدان وجميلة أحمد وذيبة عطية وحياة البلبيسي(39) .

إن المتتبع لمسيرة الحركة النسائية الفلسطينية قبل نكبة 1948 يلاحظ أمرين :

1- أنها قد اقتصرت خاصة في المدن على النساء اللواتي حصلن على نسبة من التعليم، والثقافة ، واللواتي لم يجدن حرجاً فـي خروجهن ، وتحركهن ، ومشـاركتهن "التي كانت مقتصرة على المظاهرات وبرقيات الاحتجاج ،وعقد المؤتمرات من خلال الهيئات النسائية ، تلك الهيئات التي أفرزتها البورجوازية الوطنية آنذاك"(40) ، أما المرأة في الريف فكانت مشاركتها نابعة من وجودها قرب مراكز الثورة في الريف ، ولم تتعد هذه المشاركة كونها تأمين الطعام للمناضلين ، أو إيواءهم(41) .

2- عدم طرح قضايا المرأة خاصة – التحرر من القيود الاجتماعية ، مساواتها بالرجل، فتح أبواب العلم والعمل لها- وإنما اقتصر دورها على التعبيرات الاحتجاجية، وردات الفعل الاجتماعية ، انطلاقاً من تغليب المطلب الوطني على أي مطلب خاص ، لذا لم تمتلك تلك الحركة هوية نسوية واضحة ، حيث استندت استراتيجيتها إلى تقديم خدمات ذات طابع إغاثي خيري في الأغلب .

* * *

هوامش :

1- مريم سليم وأخريات ، المرأة العربية بين ثقل الواقع وتطلعات التحرر ، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 سلسلة كتب المستقبل (15) بيروت ، مايو 1999 ، ص35 .

2- د.محمد شحادة عليان ، الجانب الاجتماعي في الشعر الفلسطيني الحديث ، دار الفكر والنشر والتوزيع ،ط1 ، عمان ، الأردن ، 1987 ، ص153 .

3- ولدت فدوى طوقان عام 1917 ، للمزيد ينظر : سلمى الخضراء الجيوسي ، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر "الشعر" ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1997 ، ص326 .

4- فدوى طوقان ، رحلة جبلية ، رحلة صعبة ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة ، 1989 ، ص39 .

5- د.عبد الرحمن ياغي ، حياة الأدب الفلسطيني الحديث من أول النهضة حتى النكبة ، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، 1968 ، ص110 .

6- المصدر السابق ، ص340 .

7- المصدر السابق ، ص196 .

8- ولد اسكندر الخوري في بيت جالا في فلسطين سنة 1880 ، نال شهادة الحقوق ، وعمل في سلك القضاء ، ومما يروى عنه أنه كان يصدر أحكامه في قضاياه نظماً ، كان يجيد لغات العربية والتركية واليونانية والروسية والفرنسية والإنجليزية ، توفي سنة 1973 ، وقد مُنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون سنة 1990.

للمزيد ينظر :

- أحمد عمر شاهين ، موسوعة كُتاب فلسطين في القرن العشرين ، المركز القومي للدراسات والتوثيق، ط2 ، غزة ، 2000 ، ص99-101 .

- د.كامل السوافيري ،الأدب العربي المعاصر في فلسطين ، دار المعارف فــــي مصـــــر1979 ، ص92-96 .

9-اسكندر الخوري البيتجالي ، ديوان العنقود ، مطبعة بيت المقدس ، القدس ، 1946 ، ص55-56.

10- كمال غنيم ، المسرح الفلسطيني : دراسة تاريخية نقدية ، رسالة دكتوراة مخطوطة ، القاهرة ، جامعة عين شمس ، 2001 ، ص60 .

11- د.عبد الرحمن ياغي ، مصدر سابق ، ص105-107 .

12- لم تتجاوز نسبة الأموال التي خصصت للمعارف سنوياً 5% من ميزانية الحكومة ، مما حدا بالبلديات والمؤسسات الوطنيةوالأفراد بالتبرع بمبالغ وفيرة لإنشاء المدارس والإنفاق عليها ، ففي الوقت الذي انفق فيه أهالي فلسطين مبلغ 150.000 جنيه على المدارس سنوياً نجد أن المبالغ المخصصة في ميزانية الحكومة لإدارة المعارف العامة 33/1934 بلغت 180.000 جنيه أي بما لا يزيد عن 30.000 جنيه مما تبرع به الأهالي .

للمزيد ينظر :

- مصطفى الدباغ ، التعليم في فلسطين في عهد الانتداب ، الموسوعة الفلسطينية ، القسم الثاني ، الدراسات الخاصة ، المجلد الثالث ، ط1، بيروت 1990 ، ص71 .

13- د.محمد شحادة عليان ، مصدر سابق ، ص154-155 .

14- نبيل بدران ، التعليم والتحديث في المجتمع العربي الفلسطيني ، ج1 ، مركز الأبحاث ، منظمة التحرير الفلسطينية ، أغسطس 1969 ، ص121 .

15- مصطفى الدباغ ، مصدر سابق ، ص43-44.

16-فدوى طوقان ، رحلة جبلية .. رحلة صعبة ، مصدر سابق ، ص111 .

17- نبيل بدران ، مصدر سابق ، ص138 .

18- د.نبيل خالد أبو علي ، المرأة في شعر إبراهيم طوقان ، مجلة كلية اللغة العربية ، جامعة الأزهر بالقاهرة ، العدد السابع عشر ، 1419هـ -1999م ، ص465-466 .

19- ديوان إبراهيم طوقان ، ط1 ، مكتبة المحتسب ، عمان ، 1984 ـ ص98-99 .

20-د.نبيل خالد أبو علي ، مصدر سابق ، ص451-452 .

21- اسكندر الخوري البيتجالي ، ديوان العنقود ، مطبعة بيت المقدس ، القدس ، 1946 ، ص69-70 .

22- بيل بدران ، مصدر سابق ، ص127.

23-غازي الخليلي ، المرأة الفلسطينية والثورة ، مركز الأبحاث ، منظمة التحرير الفلسطينية ، بيروت، يونيو 1977 ، ص71 .

24- زينب الغنيمي ، تطور وضع المرأة الفلسطينية ، مجلة شئون فلسطينية ، العدد 210 ، سبتمبر أيلول 1990، ص41 .

25- عصماء نعمة ، دور المرأة في الثورة الفلسطينية ، مجلة شؤون عربية ، العدد 54 ، يونيو 1988 ، ص30.

26-خديجة أبو علي ، مقدمات حول واقع المرأة وتجربتها في الثورة الفلسطينية ، منشورات الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية ،1975 ، ص44 .

27- مجموعة من الباحثين ، الانتفاضة مبادرة شعبية ، مقال : إيلين كتاب ، مشاركة المرأة الفلسطينية في الانتفاضة ، ط1 ، القدس ، 1990 ، ص387 .

28- عوض خليل ، الحركة النسائية الفلسطينية ، مجلة شؤون فلسطينية ، العدد 244،245 ، يوليو أغسطس ، 1993 ، ص21 .

29- وفيقة الشاعر ، كفاح المرأة على الصعيدين العالمي والعربي (الفلسطيني) ، ط1 ، دمشق 1973 ، ص73 30- زينب الغنيمي ، مجلة شؤون فلسطينية ، مصدر سابق ، ص42 .

31- نجوى وصفي أبو زعنونة ، السمات الشخصية لدى المرأة الفلسطينية العاملة في مجال السياسي، رسالة ماجستير ، جامعة الأزهر ، غزة ، 1999 ، ص92 .

32-محيي الدين الحاج عيسى، ديوان من فلسطين وإليها، المطبعة السورية، حلب1975، ص31-32.

33- د.نبيل خالد أبو علي ، مصدر سابق ، ص457 .

34 -عوض خليل ، الحركة النسائية الفلسطينية ، مصدر سابق ، ص27 .

35- في افتتاح المؤتمر أنشدت تلميذات مدرسة الاتحاد النسائي المصري أنشودة نظمها الشاعر محمود أبو الوفا ، ولحنها الأستاذ محمد القصبجي ، منها :

يابنات الشرق هذا يومكن * في فلسطين صبايا مثلكن

قُتّلت أو شُردت رجــالهن * تركوا الأطفال في أحضانهن

لم يجدن الآن مـن يرحمهن * و يعيد النور في بسماتهن

يا إلهي ياإلهي كن لهن

انظر : - أكرم زعيتر ، الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939 ، يوميات أكرم زعيتر ، ط1 ، مؤسسة الدراسات ا7لفلسطينية ، بيروت ، 1980 ، ص476 .

36- أكرم زعيتر ، الصدر السابق ، ص485-487 .

37- تلبية لقرارات المؤتمر قام الاتحاد النسائي المصري بتشكيل لجنة التبرعات لمساعدة الضحايا الفلسطينيين، ووصل مقدار ما جمع من تبرعات (148.56) جنيهاً ، كما كان صافي إيراد الحفل الذي تبرعت بإحيائه أم كلثوم (103.730) جنيهاً ، وإيراد حفلة أقيمت في الأوبرا تبرع بإحيائها صالح عبد الحي وفرقته من هواة التمثيل ، ويرأسها عبد البديع خيري (328.500) جنيها ، وهذه المبالغ جُمعت في ديسمبر 1938 .

للمزيد انظر : -

د.آمال كامل بيومي السبكي ، الحركة النسائية في مصر بين الثورتين 1919 و 1952 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1986 ، ص86 .

38- أكرم زعيتر ، مصدر سابق ، ص490 .

39- نضال المرأة الفلسطينية ، مركز الأبحاث ، المجلس الوطني الفلسطيني ، منظمة التحرير الفلسطينية ، بيروت، سبتمبر أيلول 1975 ، ص6-7 .

40- فدوى طوقان ، مصدر سابق ، ص129 .

41- غازي الخليلي ، المرأة الفلسطينية والثورة ، مصدر سابق ، ص77 .