إلى جنة سام - رواية قصيرة - بقلم:نزار ب. الزين
تاريخ النشر : 2008-11-01
إلى جنة سام - رواية قصيرة - بقلم:نزار ب. الزين


إلى جنة سام
رواية قصيرة
نزار ب. الزين *

تحركت الطائرة ببطء شديد ...
أفراد طاقم الخدمة الأرضية شيئا فشيئا يتضاءلون ، و كذلك الحافلات التي أقلت إمام و الركاب الثلاثمائة الآخرين .
ثلاثمائة ؟!
ثلاثمائة هم عدد سكان قريته الصغيرة جوار الفيوم
و أخذ يتخيل – من ثم - أهله و أقاربه و الجيران و حتى العمدة محشورين جميعا بعلبة السردين العملاقة هذه ، و ابتسم عندما تخيل أطفال القرية يلعبون ( كرة الشراب )، هنا بين المقاعد و كأنهم في بيدر القرية ، و توسعت ابتسامته عندما تذكر أنه يتخيل و حسب ، فلطالما ضحك – في سره – ساخرا من شطحاته و أحلام يقظته ، لقد بلغ الثانية و العشرين ، و حصل على البكالوريوس ، و مع ذلك لا زال يحلم و هو يقظ ، و يشطح بخياله بعيدا و هو متسمر في مكانه .
كانت الطائرة قد بلغت آخر الممر و ضجيج محركاتها أخذ يتضاعف ثم انطلقت مسرعة ، ثم لتسرع أكثر فأكثر قأكثر ، ثم لترتفع و تستمر مرتفعة تشق كبد السماء .
أحس إمام بداية بدغدغة عصبية شبيهة بدغدغة أرجوحة المولد ، و برعشة خوف زالت حالما أطفئت شارات التحذير فاختفت عبارة لا تدخن .و عبارة حزِّم خصرك ؛ فإسترخت أعصابه و إنتظمت أنفاسه ثم إستسلم لخياله من جديد .
*****
كانت المضيفة الشابة قد بدأت نشاطها فأخذت توزع كؤوس العصير راسمة على وجهها إبتسامتها المهنية ، و إذ بلغت سليم و لمحت عينيه الحمراوين مغرورقتين و قد فاضتا لتوهما بدمعتين إنزلقتا ببطء فوق أخدودين متناظرين حفرتهما سنونه الأربعون ، سألته هامسة ، مظهرة بعض لهفة : " هل تشكو من شيء يا سيدي ؟ "و لما لم يجبها و لم يقبل كوب العصير ، أعطت الكوب لجاره و مضت غير مكترثة .
كان سليم – لحظتئذ – يتذكر صغيرته لمياء عندما أخذت تبكي خلال ثواني الوداع الأخيرة ، كانت عادية في كل تصرفاتها ، بكت أمها كثيرا أما هي فقد سألت كثيرا ، و فجأة تفجر نشيجها !
" و لكن لا بأس ياصغيرتي المرهفة ، يا شرارة الطموح و نغم المستبقل ، كل هذا الإضطراب إن هو إلا لأجلك و أجل أخويك ، لا بأس عليك يا حلوتي فالفراق لن يطول " تذكر كل ذلك بينما تسربت دموعه الساخنة من جديد ، فأسرع – خجلا - إلى منديله يجففها بينما استرقت إحدى عينيه النظر إلى جاره توجسا من افتضاح لحظة ضعفه ، إلا أن الجار كان لاهيا بمطالعة صحيفته .
*****
عندما بلغت المضيفة نهاية القسم المناط بها خدمته ، لفت إنتباهها صوت تجشؤ مصحوب بأنين ، فالتفتت جزعة نحو مصدره لتلمح وائل و قد وضع يدا على بطنه و أخرى فوق فمه ، بينما هربت الدماء من وجهه فبدا باهتا ، وضعت الصينية فوق العربة ثم دفعت بيديها الإثنتين ‘لى جيب في ظهر مقعده المقابل فأخرجت كيسا مبطنا ثم ألصقته في فمه متفادية بحركتها المتقنة هذه كارثة تلوث محققة ، ثم أمرته بانكليزيتها الأمريكية أن يحكم أطراف الكيس حول شفتيه ، و إذ تنبهت إلى فظاظتها النسبية ركبت ابتسامتها المصطنعة ثم قالت له بلطف " لا تنزعج فهذا دوار الجو و هو تماما كدوار البحر " ثم أتمت قائلة : " سأحضر لك مهدئا ، تناوله بعد أن تفرغ "
منذ أن نال وائل تأشيرة الدخول إلى بلاد العم سام ، بعد تحقيق طويل و شاق و مستندات و ضمانات ، منذئذ و هو يصارع القلق الذي إنعكس على جهازه الهضمي ، فهو مقدم على تغيير نسيج مستقبله تغييرا كاملا ، إنها نقلة نحو المجهول فالحجة تحصيل إجازة علمية عالية ، أما الهدف فهو الإقامة إلى الأبد بعد أن تنكرت له جنسية يعرب .
أما المضيفة ، فما أن فرغت من العناية بوائل حتى إسترخت على أقرب مقعد خال تغالب إشمئزازها و همست في سِرِّها : " خدعونا فأسمونا مضيفات خداعهم لخادمات القصور اللواتي أسموهنّ وصيفات .
*****
نحن الآن فوق جزيرة قبرص !
قالها صوت ناعم عن طريق مجسمات الصوت ، فإلتفتت الأعناق المجاورة للنوافذ ، و إشرأبت أعناق جيرانهم و أضطر الأبعدون إلى نصف وقفة ليلقوا نظرة على الجزيرة المشهورة .
همس إمام الذي التصق وجهه بالنافذة ، في سره : " إنها صغيرة و لكنها أكبر من الخارطة على أي حال !!! " و أخذ يضحك – في سره أيضا- على ما ظنه نكتة ، ثم تساءل : " هل من المعقول أن هذه الرقعة الصغيرة التي يكاد البحر يبتلعها تحتضن مدنا و قرى و يعيش فوقها شعبان يتصارعان ؟؟! " و سرعانما أجاب: " لم الدهشة و الإستغراب يا عبيط ؟ لقد تقاتل شبان قريتي على حصصهم من مياه الترعة ، فقط في العام الماضي ! " ثم أضاف مبتسما : " ليس الإنسان حيوانا ناطقا كما كانوا يقولون ، و ليس حيوانا ضاحكا كما كانوا يزعمون ، بل هو حيوان مقاتل و عدواني ، إذا لم يجد ما يصارعه فإنه يصارع نفسه . " ثم أضاف : " إنظر إلى جارك في المقعد يا سِ إمام ، إنه لم يكف لحظة عن قضم أظافلره و أكل رؤوس أنامله !" و استمر إمام يحدث نفسه: " قبرص هذه كأنها رأس حربة مغروسة في جسد حوت أزرق عملاق و ذاك الحوت ينزف دما أبيضا ، لِمَ يدهشك هذا التشبيه يا إمام بيه ؟ ألم يركَّبوا في اليابان دما أبيضا ؟ يا له من جبار هذا الحيوان المقاتل المدعو إنسان ، و لكن يا له من هش أيضا ، سقطت قطعة من طوبة على رأس عويس إبن أخت العمدة فقتلته في الحال وهو الذي كان يتصرف و كأنه العمدة بذاته . "

*****
الفصل الثاني

في محطة الإنتظار ، جلس إمام محييا بالعربية ، فرد عليه سليم بالعربية.
علق إمام : - " الحمد لله "
- علامَ ؟
- أني تلقيت الإجابة بالعربية ، و إلا كنت اضطررت لتشغيل الكمبيوتر .
- كمبيوتر ؟ تساءل سليم مندهشا .
- أقصد هذا ، و أشار إلى رأسه ؛ هو الآن في إجازة و لا أرغب في إفسادها !
فابتسم سليم و هو يسأله بخبث :
- كلّه ؟!
فضحك إمام متقبلا الغمزة ، ثم سأله :
- حضرتك رافضي ؟
- رافضي ؟؟! ماذا تقصد يا أخ ؟
- أقصد من جبهة الرفض .
فضحك سليم ، ثم علق قائلا :
- ما أظرفكم معشر المصريين ، النكتة مجبولة بدمائكم .
- و أنتم ، كذلك النِكدة مجبولة بدمائكم .
فانفجر سليم ضاحكا للمرة الثانية ، و لم يمنعه من الإسترسال فيها غير نظرات الحضور ، فلملم نفسه ثم تنحنح ثم همس نادما :
- لقد أزعجنا الآخرين .
- ماما كانت تقول لي : إضحك تضحك لنا الدنيا ..
- ماما ؟! و بابا ؟
- أبويَ الله يرحمه ، كان يميل إلى النكدة .
و على غير المتوقع فإن إمام لم يضحك هذه المرة بل على العكس إنتابته موجة حزن سرعانما إنعكست على وجهه فسأله سليم :
- يبدو أن وفاته قريبة
- أقل من سنة ... وإلى أن إقتنعت أننا كلها إليها عانيت الكثير .
- إنها صدمة الموت يا عزيزي ، تنطفئ جزوة الميت لتشتعل نار الأسى في من حوله ؛ ثم استدرك :
- من الواضح أنك كنت متعلقا به .
- أبدا ، علاقة عادية بين أب عادي و ابن عادي ، إنما المحنة التي رافقت ملابسات الوفاة جعلت الموقف كله مأساة ، فقد ظل مفقودا ثلاثين يوما بلياليها ؛ ثلاثون يوما و أعصابنا مشدودة و أقدامنا تتنقل من مكان إلى مكان يساعدنا في بحثنا جيش من المتطوعين . فسأله سليم :
- فقد ذاكرة ؟ إختطاف ؟ إعتقال ؟
- لا هذا و لا ذاك ، كنا في إحدى دول الخليج ، حيث كان يعمل و قبيل إجازته السنوية ، أمرنا أن نسافر قبله بالطائرة أما هو فسيلحق بنا بالسيارة ، و لكنه لم يلحق بنا أبدا . أصابته نوبة من نوبات السكري ، هذا الداء اللعين الذي كان يسبب له الدوار و الوهن ، و بينما كان يقود سيارته انحرف عن الطريق و انقلبت به السيارة .
و بعد أن فقد ، تتبع أصدقاؤه خط سيره و هم يسألون عنه في كل مكان ، و في أحد المراكز ، الذي راجعوه مرارا من قبل ، فتح مسؤول المركز درجه – باستهتار – و ألقى جوازه على الطاولة سائلا : " هل هذا هو صاحبكم ؟ " و عندما تأكدوا أنه هو بذاته ، قال لهم بغير إهتمام : " جثته في مستشفى المدينة المجاورة ، و أغراضه في مخفرها ! "
أجابه سليم مواسيا :
- الحقيقة المطلقة ، أن لا قيمة للإنسان في بلادنا .
إسمع قصتي : فأنا مهندس متخصص بالكيمياء الصناعية ، إشتغلت في إحدى مصافي النفط ، و كنت أعمل بإخلاص و تفان إعترف بهما رؤسائي ، و بمهارة أثنى عليها الخبراء الأجانب الذين زاملوني . و ذات يوم تعطلت إحدى وحدات المصفاة ، فاتصل المراقب السياسي بمدير المصنع الذي كان يتمتع بإجازته في العاصمة ، و يبدو أن سعادته أزعجه النبأ و أفسد إجازته فأمره بإبلاغ الأمن العام .
وجدت نفسي معتقلا و بيدي القيد ؛ اتهموني بالتخريب ، و تركوني ليلة كاملة بين السكارى و اللصوص ، و لم يسمحوا لي حتى بإبلاغ عائلتي .
و عند حضور المحقق بادرني بسؤاله :
- أنت المخرب ؟
- أنا لست مخربا – أجبته – و هذا الذي أبلغكم نصف أمي ، على الأقل في مجالنا ، كان عليكم أن تكلفوا لجنة من الخبراء لتتعرفوا على أسباب المشكلة قبل أن تلقوني بين اللصوص .
فصاح في وجهي غاضبا :
- تريد أن تعلمنا شغلنا ؟ و نجرؤ على تحقير العمال الشرفاء ؟
- أنا لا أحقر أحدا ، أنا أطالب بحقوقي ، أنتم تتهمونني و أنا أطالب بلجنة خبراء ، هل في ذلك إساءة لأحد ؟
- إلى أي تنظيم سري أنت منتسب ؟
أجبته مؤكدا :
- يا أخي الكريم ، أنا لست مرتبطا بأحد ، أنا لا أحب السياسة و لا السياسيين .
أجابني صائحا :
- أنت كاذب ، إعترف و إلا .....
- و إلا ماذا ؟ ليس لك الحق بأن تهددني .
و كان الرد هذه المرة صفعة أدارت رأسي و ضج طنينها في أذني .
فصحت به :
- أنا لا أقبل بهذا الأسلوب ، إطلبوا لي محاميا .
فأجابني ساخرا :
- سأطلب لك محاميا و لكن بعد أن أكسر بضع خيزرانات على قدميك .
خلال تلك اللحظات المهينة ، كان رجال المخابرات قد إقتحموا بيتي و عاثوا فسادا بمحتوياته و أرعبوا زوجتي و أطفالي ، بحثا عن أدلة يدينونني بها .
و منذ الصباح التالي ، اتفقت زوجتي مع محام ليبحث مشكلتي الذي تمكن بعد لأي من الإتصال بي بعد أن كادت آدميتي تذروها الرياح .
و قد استطاع المحامي إقناع النائب العام بأن يطالب مدير المصنع بلجنة تحقيق فنية ، و كانت النتيجة مباغتة له و لهيئة المراقبين السياسيين في المصنع ، فالعطل كان فنيا و ليس تخريبا ، و من ثم أطلقوا سراحي ..
- هل عوضوك أو إعتذروا لك ؟
- لم أفكر بهذا الأمر ، كان تفكيري منحصرا في كيفية هروبي من هذا الظلم كله ، و فعلا تسللت عبر الحدود بمساعدة أحد المحترفين و ها أنت تراني إلى جوارك على بعد آلاف الكيلومترات عن بلدي و أسرتي و أهلي .

*****
أما وائل فقد جلس إلى جوار سيدة أمريكية ، التي بادرته بالسؤال:
- إلى أي ولاية أنت ذاهب ؟
- كاليفورنيا / ساندييغو
- طالب ؟
- أجل ! ثم سألها بإنكليزية ضعيفة :
- و حضرتك ، سائحة ؟
- لا أبدا ، أنا مدرسة ، في المدرسة الأمريكية ، و عائدة في إجازة لرؤية أمي . ثم أردفت سائلة :
- إذا واتتك فرصة هل تبقى في الولايات المتحدة ؟
- أتمنى ذلك و أسعى إليه .
- ما بالكم يا شبان العرب تزحفون إلى أمريكا ، أليست لديكم جامعات ، أليست لديكم فرص عمل ؟ ألا تحتاجكم بلدكم للمساهة في بنائها ؟
- سيدتي ، كنتِ في بلادنا و من المؤكد أنك لاحظت ظروفها التعيسة ، ألم تلاحظي ذلك ؟
- أنا شخصيا لا أهتم إلا بعملي ، و لا ألتفت إلى أي أمر آخر و لكن لفتت نظري هذه الأعداد الكبيرة من الشبان المتوجهين إلى أمريكا ، و لسوف يصدمون .
- أنت تقولين ذلك ؟
- الظاهر أن بلدنا بلد الحرية و الدمقراطية ، أما الباطن فهي بلاد المافيا و لصوص المنازل و جماعات التعصب العنصري و مجانين الإختطاف و الإغتصاب .
- أنت تقولين ذلك ؟ يبدو أنك متشائمة يا سيدتي !
- نادني ويلما ، و أنت ما اسمك ؟
- وائل
- اسم لطيف لشخص لطيف .
*****
الفصل الثالث
بعد خمس سنوات
شوهد إمام في إحدى ضواحي سان فرانسسكو مع زوجته البورتوريكية يدخلان مكتبهما في محطة للوقود .
و شوهد سليم في ديترويت يحاول بناء نفسه من جيدد بعد أن ابتزته إحدى تاجرات الزواج و امتصت مدخراته كتعويض طلاق و سكوت ، و قد فرغ لتوه من مهاتفة زوجته التي بشرها باقتراب الفرج فقد حلف يمين المواطنة الأمريكية و سيقوم منذ الغد بإجراءات لمّ الشمل .
و شوهد وائل في ساندييغو مع المدرسة الأمريكية ويلما التي تعرف إليها في الطائرة و التي تكبره بعشر سنوات على الأقل ، يتناولان العَشاء في أحد المطاعم الفخمة إحتفالا بعيد زواجهما الخامس!
------------------
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب ArabWata
الموقع : www.FreeArabi.com