العزاء بقلم: نزار ب. الزين
تاريخ النشر : 2008-08-23
العزاء بقلم: نزار ب. الزين


العزاء
قصة قصيرة
نزار ب. الزين*

جلس فادي على حافة الشرفة ، و أخذ يتأمل منظر الوادي الخلاب ، تملؤه أشجار الصنوبر كآلاف المظلات الخضراء تنتشر في كل مكان، بعضها ينحدر عميقا إلى قعر الوادي بينما يرتفع بعضها الآخر حتى حواف القمم ؛ التلال كلها و الجبل مكسوة بها ، عدا مساحة صغيرة في قمة الجبل الشرقي ، ظلت عارية .
و ثمت كتل صغيرة من الغيوم تسرع خطاها نحو الجبل و قد بدأت تلعب لعبة التحول ، تغير شكلها في كل ثانية فتثير خياله ؛ تارة يراها كحيوان جامح فقد رأسه ، و تارة على شكل رأس فتاة بلا ملامح ، و حينا تأخذ شكل سمكة لا تلبث أن تتطور إلى فيل ، أو شكل تنين متعدد الرؤوس لا يلبث أن يفقد رؤوسه الواحد إثر الآخر ، كتل تتزايد مع اقتراب المغيب و تتسارع على إيقاع نسمات صيفية عليلة ، ثم تلتقي جميعا عند سفح الجبل فتتراكم هناك في كتلة ضبابية أخذت تتضخم شيئا فشيئا .
أحس فادي اللحظة بقشعريرة ، فارتدى على الفور سترته ، ثم عاد إلى تأمل المنظر الذي لا يمل و لن يمل تأمله ، بينما بدأ الناس نساء و رجالا ، شبانا و شيبا ، يتمشون أزواجا أزواجا ، ذهابا و إيابا ، على الطريق المؤدي إلى قصر البيك .
كان يفكر:
هل موت بقرة يثير كل هذا الإشفاق ؟ لم تبق عائلة في القرية الأم أو في ضواحيها العالية ، إلا و زارت عائلة نعمة الله معزية : - " المال و لا الرجال يا روز ، المال و لا الرجال يا مطانيس " الأم بكت ، و الجدة بكت ، و الأب قطب جبينه ، و الناس ظلوا يتوافدون :
" المال و لا الرجال "
" الله يصبركم .. الله يعوضكم "
و في العصر إمتلأ البيت عن آخره ، بعض النساء ارتدين السواد ؛ و عبارات مثل : " المال و لا الرجال يا أم كميل ، عوضكم على الله يا أبو كميل " تستمر و تتكرر.
أما دعد ابنتهم ذات الثلاثة عشر ربيعا ، فلم تخرج اليوم بطوله من المطبخ ، تطهو دِلال القهوة ، دلَّة بعد دله ، حاولت جدتها العجوز مساعدتها فكسرت بيدها المرتجفة بعض الفناجين ، فنهرتها دعد ثم دفعتها بقسوة إلى خارج المطبخ و كادت تلقيها أرضا .
يا لها من فتاة شرسة ، بالأمس طردت جميلة و أهلها شر طردة ، لأسباب لا يزال يجهلها ، و اليوم تعامل جدتها بمنتهى القسوة ؛ في الثالثة عشر و لكنها تتصرف كسيدة صارمة و محنكة في الأربعين .
عاد الآن كميل من عمله في بيروت ، حضن أمه مواسيا ، ثم حضن أباه معزيا ثم جلس يستقبل مع أبويه مزيدا من المعزين :
" المال و لا الرجال يا أبو كميل "
" الله يعوضكم يا كميل و البركة فيك "
"الله يصبرك يا أم كميل "
و دعد في المطبخ مستمرة بطهو دِلال القهوة ، و فادي مستمر بتأمل المنظر الخلاب ، فقد بدأت أضواء القرى الصغيرة المتناثرة على سفح الجبل الشرقي و وادي الصنوبر ، تتلألأ و تتكاثر ، و انتشر الضباب الآن في الوادي كله و بدأ يغطي كل شيء .
بعد انصراف آخر المعزين ، دخل فادي إلى غرفة الجلوس و استرخى بقرب كميل ، كانت دعد قد أعدت العشاء ، فجلسوا جميعا يتناولونه ، بينما كان الصمت يخيم فوق رؤوسهم جميعا ، و ما لبث كميل أن قطعه :
- لا تبتئسا يا والديَّ ، فقد تجمع لديّ بعض المال ، كنت أوفره لمصاريف فرحي ، سأعطيك إياه يا أبي ، لتشتري بقرة بديلة .
- الله يرضى عليك يا إبني ، احتفظ بنقودك في جيبك ، ففرحي بك يعوض ألف بقرة !
و بعد إلحاح من كلا والديه أجابهما راجيا :
- أوافق شريطة أن تكفا عن الحزن و الأسى !
ثم إلتفت نحو فادي متساءلا :
- و أنت ما يحزنك يا فادي ، البقرة أم جميلة ؟
فضحك الجميع ، فتظاهر فادي بالضحك محاولا إخفاء خجله الشديد ، و لكن أبو كميل أشار نحوه قائلا و هو لا زال يضحك :
- أنظروا إلى وجهه لقد أصبح كالشمندر المطبوخ !
فانفجرت موجة جديدة من الضحك ، ثم علق كميل :
- مؤكد ، لو كان فادي يحمل سلاحا في تلك اللحظة لما توانى عن قتل دعد .
فانفجر بركان ضاحك جديد ، دفع فادي إلى الإنسحاب إلى فراشه .

*****

عائلة نعمة الله ، من ذوي الدخل المحدود في ضيعة ضهر الهوا ، تملك المنزل ذا الغرف الأربع في طابقين و قطعة أرض مجاورة تزرع فيها أم كميل الكرمة ، و بضع شجرات صنوبر ؛ و في الصيف تؤجر الغرف لمصطافين من مدينة بيروت ، و فادي و أهله من هؤلاء . أما الجدة فتخبز خبز الصاج و مناقيش الزعتر صباح كل يوم سبت ، فتأكل العائلة بعضه و تبيع بعضه ، أما بقية أيامها فتقضيه في الغابة تجمع الأغصان و الأوراق المتساقطة من أشجار الغابة ، لتستخدمها - من ثم - وقودا لصاجها .
و كانت البقرة المرحومة ، تنتج لبنا حليبا يفيض منه الكثير ، فتبيعه أم كميل للمصطافين في بيوت القرية الأخرى ؛ ثم مرضت ، فأحضروا لها طبيبا بيطريا ، الذي تكهن أنها ربما أكلت من نبات سام ، و أنها لن تعيش طويلا ، و ينصح العائلة بذبحها على ألا يأكل أحد من لحمها ؛ و لكن أم كميل رفضت الفكرة فتركت بقرتها تموت ميتة طبيعية .
أما كميل الذي لم يحصِّل من العلم إلا على الشهادة المتوسطة ( البروفيه ) ، فقد دخل إحدى المسابقات التي أهلته لوظيفة في إدارة الهاتف الآلي المحدثة ، و لكن دعد رفضت أن تكمل إلى أكثر من الصف السادس .

*****

عائلة لطيفة يعاملون فادي كأنه واحد منهم .
و لكن ترى لِمَ تصرفوا هكذا مع جميلة و أهلها ؟ و كيف سمحوا لدعد و هي لا زالت طفلة لم تتعدَّ الثالثة عشر ، أن تشتمهم و تقذفهم بالحجارة ؟ ترى هل تأخروا بدفع الإيجار ؟ أم لأنهم قطفوا بعض العنب من الكرم ؟ أم لأنهم إستهلكوا مزيدا من الماء فوق ما هو مقنن لهم ؟
ثم أين و كيف سيلتقي بجميلة بعد هذا الذي حصل ؟ إنه لا يعرف حتى عنوانها في بيروت .
كانت هذه التساؤلات تلح عليه قبيل أن يختطفه النوم .

*****
توجه أبو كميل منذ الصباح الباكر إلى قصر البيك فقد كان (جنايني) القصر .
و توجه كميل إلى دار خطيبته لتناول الإفطار بدعوة من أهلها .
و توجهت أم كميل إلى الكرم لتغطية عناقيد العنب التي بدأت تغزوها الدبابير .
و جلس فادي على الشرفة و بين يديه أدوات الرسم و بدأ يرسم قصر البيك و مدرجات الكرمة من حوله ، تقدمت منه دعد متسائلة :
- ألا تمل الرسم ؟ فأجابها مبتسما :
- إطلاقا ! و سألتحق يوما بمعهد لتعليم الرسم ، أجل ، أنا لا أمل الرسم و لا أضجر من عشق الطبيعة ..
- و عشق البنات الفاسدات .
أجابته ساخرة ، فقطب فادي جبينه ، مستاء و مستغربا ، ثم سألها ببعض غلظة :
- ماذا تقصدين ؟
- أقصد ما رايته ؟
- و ما ذا رأيت ؟ ترى هل جاء دوري ؟
- حسابك فيما بعد !
- حسابي ؟! سألها بمزيد الدهشة ؟ ثم أضاف:
– ما هذا الغموض و الأسلوب الملتوي ؟ أفصحي عما يدور بخلدك !
صمتت قليلا ثم أجابته متحدية :
- أنت و جميلة ، قتلتما البقرة ؟
- أنا ؟ ما هذه الفرية يا دعد ؟
- شاهدتكما و أنتما تخرجان من غرفة التبن أكثر من مرة !
- أنت تتخيلين !
- بل كانت آثار التبن عالقة على ملابسكما في كل مرة ! .
- ألهذا السبب طردت جميلة و أهلها ؟
- لهذا و لغيره !
- لو كان كلامك صحيحا لما صمتِّي ، فلسانك أطول منك !
- سكتّ كي لا أسبب لك مشكلة أو فضيحة !
قالت هذا و قد إشتعل وجهها حتى بدا بلون الجمر ، ثم ولّت هاربة.
--------------------------------------------
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب ArabWata
الموقع : www.FreeArabi.com