شيخ المترجمين العرب بقلم:يحيى جبر
تاريخ النشر : 2008-01-25
أرجو التكرم بنشره ودمتم

يحيى جبر

شيخ المترجمين العرب

عـادل زعـيتر

1897 – 1957م



(وفاء له في الذكرى الأربعين لرحيله)



تأليف


أ.د. يحيى جبر

رئيس مجمع اللغة العربية الفلسطيني- بيت المقدس

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية



<تقديم


بقلم: وديع فلسطين

أستاذ علم الصحافة في الجامعة

الأمريكية في القاهرة


أربعون سنة تقضّت على مغيب علم الضاد المرفوع وحجتها المأمول وإمامها الكبير وعلامتها الجليل عادل زعيتر، الذي أطلعت دنيا العروبة لتفاخر به على مدى الدهر وأنجبته مدائن المقدس لتزهى به على العالمين. فقد كان اليوم، الحادي والعشرين من شهر نوفمبر لأربعين سنة خلت يوما أغبر في حياة الفصحى، إذ انطوت فيه صفحة الجهاد الأدبي المضني لهذا العالم الكبير وهو في أوج علمه وقمة نشاطه وذروة آماله المعقودات. فخسرت الضاد في عادل زعيتر طودا من المعارف وهرما من غزارة العلم. وحجة لا يقل شأنا عن العباقرة الغربيين الذين قدّمهم إلينا من خلال مؤلفاتهم، وعرّفنا بهم و أوقعنا على كنوزه, ودلّنا على تراث كان عنّا مغيّبا.

عرف عادل زعيتر منذ باكورة عمره أن دنيا الفكر أعمر الدنى جميعا، وأن رسالة الثقافة أخلد الرسالات طرّا، وأن مباحث العلم أقدس المباحث بغير استثناء، فاختار لنفسه هذه القيم الباقيات الفارعات، وهجر المحاماة وهي مقبلة عليه برفدها الوفير ومجدها الميسور، واعتزل التدريس الجامعي وشأوه المعهود، وانصرف عن حياة السياسة بخيرها القليل و غرمها الكثير وعاش مع الكتب في غرفة تضم صفوة فكر، ويختار منها نفائس النفائس، ثم يعكف على نقلها إلى الضاد بأمانة الرسل وبسالة الجنود في ميادين الاستشهاد، يدين له البيان المجلو مطوعا بين يديه، وتنصاع له العبارة البليغة انصياع الماء في الجدول الثقيف ... ومحصوله يأتي في أوانه دائما كل عام كتابان أو ثلاثة كتب، لا تقوى على إخراج مثلها مجامع بأسرها، وهي تؤوي فحولا من كبار المترجمين ولو عقدوا الخناصر، وقسموا العمل بينهم .

هذا عظيم من عظماء أمته المخلدين، ازدرى وجاهة الحياة العامة، واستدبر لذاذات الحياة العارضة، ووأد بين جنيه مطامع الأرض وتُرّهاتها، وحصر دنياه كلّها في قرطاس ومحبرة وكتاب ومطبعة، وهي دنيا ـ لو يعلم الناس ـ أرحب من أن تسع الدنى جميعا، لأن الفكر أزليّ أبديّ سرمديّ باق، ولأن الحياة كانت في بدئها كلمة، وستكون في خاتمتها كلمة، وكل الحضارات منذ فجر التاريخ، بل قبل مجيء التاريخ، قوامها الكلمة ـ النيرة الموحية الملهمة الخيّرة النافعة، ولولا الكلمة، لجهل الناس حقيقة أنفسهم، ولعزّ عليهم أن يدركوا شيئا من ألغاز الكون من حولهم، وبفضل الكلمة، نستشرف إلى عالم أفضل ونرود كلّ مجهول خفيت عنّا معالمه.

فلا غروَ أن يُفني عادل زعيتر الماجد المجيد عمره كلّه في سبيل الكلمة. وأية كلمة؟ إنها الكلمة المثقفة، الكلمة الدالة، الكلمة التي تفتح كُوى العقل على مراتع الخير والرخاء، الكلمة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس، فقد كان أمام عادل زعيتر صنوف وصنوف من المؤلفات، منها الروايات الرخيصة السريعة الرواج، ومنها الدراسات الرصينة التي تستهوي قلة من زبدة المختصين وأهل الرأي. وكان في وسعه اجتناء ثروات سريعة من ترجمة تلك الروايات الرخيصة التي تطلبها السوق وتلحّ في الاستزادة منها، ولكنه اختار أوعر الطريقين، وعكف على شوامخ الكتب وبواذخها يترجمها إلى الضاد الشريفة: ترجم لمونتسيكو، وجان جاك روسو، وفولتير، وكاراديفوا، ولوبون، ورينان، ولودفيغ، ودرمنغم، وسيديو، وحيدربامات، واناطول فرانس، وبوتول، وايسن، وكلّها كتب تتناول المباحث الحضارية والتراث الإنساني والتاريخي والديني، والمذاهب الاجتماعية والنفسية للأمم، وتراجم الأعلام وفلسفات الفقهاء واتجاهات التربية. وإذا كُنت كقارئ عادي أحمل لعادل زعيتر أسمى آيات الإعظام على فضله العلميّ السخيّ، فإنني كمترجم عانى مشاقّ النقل والتعريب، أرفع عادل

زعيتر إلى مراتب قلّ أن يبلغها غيره من عتاة المترجمين في أي لغة، سواء من حيث ضخامة العمل الذي أنجزه ولم يُمهله القدر لإتمامه، أو من حيث الجودة في الاختيار والإبداع في الترجمة والإتقان في إخراج كتبه مشكولة مضبوطة محققة الأعلام والمواقع، بحيث تستعصي على الناقد ولو كان أزرق الناب طويل الباع.

إن ذكرى عادل زعيتر إذ تطوف بنا في هذه الأيام تجدد فينا لوعة الأمس على فقده، وتعيد إلينا صحائف مجده منشورة مرفوعة، وتنبهنا إلى أن هذا الرجل العظيم الذي خلت حياته من كل أسباب التكريم، خليق بأن تتسابق أمم العرب والإسلام جميعا إلى تخليد ذكراه وتمجيد أعماله والحفاظ على تراثه المخطوط والمطبوع. فقد كان عادل زعيتر جامعة تؤمها أفواج وأفواج من طلاب العلم، وسيبقى باب هذه الجامعة مفتوح المصاريع ما دامت بين أيدينا مُتَرجمات عادل زعيتر الفاخرة (حضارة العرب) و ( حضارات الهند) و (روح الشرائع) و ( البحر المتوسط) و ( النيل) و ( السنن النفسية لتطور الأمم) و (تاريخ العرب العام) و (تلماك) و (بسمارك) و (نابليون) و (كليوباترة) و (حياة محمد) و (ابن خلدون) و (العقد الاجتماعي) و (ابن رشد والرشدية ) وغيرها من المؤلفات التي نيّفت على الأربعين وتعددت أجزاؤها وطبعات بعضها.

إن عادل زعيتر بيننا اليوم بروحه، وبينا بقلمه النضير وفكره البصير ونتاجه الغزير، وبيننا بمآثره المخلّدات ومفاخره الباقيات. فلئن كان قد أبهظ كاهل الأمة العربية بديونه وأفضاله، فلا أقل من أن نذكره يوم وفاته تحية ووفاء وتكريما وإجلالا وإعظاما، وان نضع على قبره لا وردة تذبل، بل عاطفة من الحب تتجدد وتتأجج، وأن نردد فيه آيات العزاء لأسرته الصغيرة ولأسرة الضاد الكبرى في أمصارها وأقطارها ورحم اله نابغة العرب عادل زعيتر وأنزله أكرم المنازل في بساتين جناته.




مقّدمة



يسعد الجمعية العلمية الفلسطينية والدار لوطنية للترجمة والطباعة والنشر والتوزيع أن تتقدما من القرّاء الأعزاء بهذا السفر القيّم "عادل زعيتر". ويستمد هذا الكتاب موقعه الأثير من انتسابه لذلك العالم الجليل، والعَلم الرابي الذي أتحف العرب والعربية بزبدة الفكر الأوروبي الحديث أملا في أن يسهم بأعماله في رفعة شأن الأمة ويمكّنها من تدارك ما فاتها، فتطوّع لخدمتها، ونذر نفسه من أجلها.

عرفته المحافل على اختلافها سياسيا جادا لا يلين وحادا كالسيف، وعرفته المحاكم محاميا بارعا في الدفاع عن الحقّ والمظلومين، وعرفته معاهد العلم باحثا فذا، ومحاضرا بزّ أقرانه بما أوتيه من بسطة في العلم، ومترجما رفد المكتبة العربية بعدد ضخم من الكتب القيّمة لا سيّما تلك التي أنصف الغربيون فيها العرب والمسلمين فكان لا يهدأ له بال حتى يعرّبها فكان بذلك جسرا ـ ولا نقول حلقة وصل ـ بين العربية والثقافة الأوروبية الحديثة؛ إذ تذكّرنا جهوده المركزة وتخصصه في النقل عن الفرنسية، والدور الذي نهض به في نقل المعرفة إلى العربية بتراجمة العصر العباسي في دور النقل الأول : مثل الحرّاني وابن متّى وابن إسحق، وبتراجمة الحقبة الأندلسية إلى اللاتينية ممن كانوا أعلام دور النقل الثاني ، كجيراردي كريموني ويوحنا الإشبيلي وغيرهما.

نعم إن عادل زعيتر شيخ المترجمين العرب في العصر الحديث، ليمثل هو وأعلام التراجمة المحدثين دور النقل الثالث، هذا النقل الذي كان أذانا بنهضة عربية إسلامية جديدة نحن اليوم في حمأتها.

وقد اجتهدنا في تكريم هذا العالم الجليل في الذكرى السنوية الأربعين لرحيله، فنشرنا على هامش الموسوعة التربوية بحثا تحت عنوان "عادل زعيتر وفنّ الترجمة" وذلك في مجلة التعريب التي تصدر في دمشق، وراسلنا جهات عدّة لتكريمه، منها اليونسكو، واستعرضنا مترجماته وآثاره، واتصلنا بأبنائه وأصدقائه نسأل عن أخباره، فأمدنا ابنه عمر وابنته نائلة بما مكننا من إنجاز هذا الكتاب.

وفي موعد الذكرى 21/ 11/ 97 نظمنا ندوة في مدينة نابلس واصلنا فيها احتفاءنا به، والتنويه بمآثره، وبدوره في رفد الثقافة العربية بما أطلعها على تجارب الغرب، لا سيّما الفرنسيين مما ساعد في تجاوز أسباب التعثر والتخلص من أسر التخلف.

وقد قدّمنا لهذا الكتاب بمقالة لوديع فلسطين سبق نشرها، وأرفدنا بسيرة حياته مفصّلة في موضوعات متفرّقة تعكس مناشطه ومسارب حياته، وأتينا عقب ذلك بالبحث الذي نشرناه في مجلة التعريب عن جهوده في الترجمة، وألحقنا ذلك بمقتطفات من أعماله ومما قيل فيه، وبعينات مختارة من مترجماته، وذيّلنا الكتاب ببعض الصور والوثائق التي تترجم جوانب شتّى من حياته، آملين في أن نكون بذلك قد أدّينا بعض حقه علينا ورحم الله عادلا في الخالدين.

ولا يفوتنا، أخيرا، أن نسجل شكر الدار الوطنية للترجمة والطباعة ولنشر والتوزيع للأستاذ عمر عادل زعيتر وامتنانها لمساهمته في إصدار هذا الكتاب.



أ.د. يحيى جبر

رئيس مجمع اللغة العربية الفلسطيني ـ بيت المقدس،

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية






العلامة عادل زعيتر

ولد عادل ابن الشيخ عمر زعيتر (1) في مدينة نابلس سنة 1897 وأتم فيها دراسته الابتدائية ثم انتقل إلى المدرسة الإعدادية في بيروت، وحصل على شهادة الآداب في الكليّة السلطانية بالآستانة، وكان الأول في صفوفه، دُعي إلى الجندية في الحرب العالميّة الأولى سنة 1916 وعُيّن ضابطا احتياطيا في الجيش التركي ولمّا اضطهد الترك العرب، ونشبت الثورة العربية هرب من الجيش العثماني، واجتاز جبل الدروز إلى قبيلة الرّولة فقبيلة الحويطات التي كان يتزعمها عودة أبو تايه. ولقي الهول(2) حتى استطاع الانضمام إلى الأمير فيصل بن الحسين، وقد حكم الأتراك عليه بالإعدام غيابيا سنة 1917م.



وناب في عام 1919 عن مدينة نابلس في المؤتمر السوري بدمشق، وهو المؤتمر الذي أعلن استقلال سورية بحدودها الطبيعية، وأسهم في وضع دستور المملكة السورية لذلك العهد. واحتل الفرنسيون دمشق سنة 1920 فغادرها الفقيد مع أحرار العرب، وما لبث حتى دخل في كلية السوربون بجامعة باريس(3) وفي أثناء الدراسة شرع يترجم بعض كتب الفيلسوف الفرنسي "غوستاف لوبون". ونال سنة 1925 شهادة الحقوق، وعاد إلى فلسطين ليصبح محاميا من أقدر محاميها وألمعهم، ودرّس من سنة 1927 إلى سنة 1936 الفقه الدستوري والدولي والاقتصاد السياسي والمالي وقانون المرافعات المدنية والجزائية في معهد الحقوق بالقدس، وكثيرون من أعلام المحاماة في فلسطين والأردن هم من تلاميذه وله في محاضراته الحقوقية مؤلفات مخطوطة كان فيها الفقيه المتمكن من مواضيعه، وقد رافع متطوعا عن المتهمين السياسيين في قضايا ثورة سنة 1929 بنابلس وصفد واضطرابات سنة 1930 وسنة1933 وثورة 1936 وغيرها. ومثّل نابلس في جميع المؤتمرات الفلسطينية وناب عنها في لجنتها التنفيذية، وكانت له في الصحف جولات سياسية بارعة عالج فيها القضايا الوطنية بقلم المفكر الوطني الناضج، كما عُرف بقوة الحجة في ردوده على ما كتبه السير آرثر واكهوب المندوب السامي بفلسطين في كتاب "حاضر الإسلام" وعلى المستر "ولكي" في كتابه "عالم واحد". واستقال من التدريس في معهد الحقوق وانقطع إلى العلم والأدب والسياسة المثالية وانكبّ على أداء أضخم رسالة ثقافية يمكن لإنسان أن يقدمها إلى أمته فنقل ثمانية وثلاثين مجلدا من روائع الفكر العالمي.

وحين نزلت بالأمة العربية كارثة فلسطين، وقامت الهدنة الرودسية، انبرى الفقيد إلى إعداد المذكرات والبيانات السياسية، ودعا إلى وحدة الصف الوطني والوقوف في وجه الكوارث، واتسمت تلك المذكّرات بمصارحة ولاة الأمر في الأقطار العربية.

وانتُخبَ في سنة 1953 عضوا في المجمع العلمي العراقي، وانتخب في سنة 1955 عضوا مراسلا للمجمع العلمي العربي في دمشق، وأصيب ـ رحمه الله ـ بالنوبة القلبية وهو مُكبّ على نقل كتاب "مفكرو الإسلام" للعلامة الفرنسي "كرادوفو" وقضى في اليوم الواحد والعشرين من تشرين الثاني سنة 1957 فشيعته نابلس ووفود الأردن باحتفال مهيب.

عُرف الفقيد في جميع أدورا حياته بالمثالية، والصدق والاستقامة، وبكل ما يدخل في المتانة الخلقية التي لا تُعرف في غير أئمة التصوف، إلى نزعة قومية مدرَكة واعية، إلى إيمان روحي عظيم، إلى أنفة تسمو به عن كل تبذّل، إلى زهد في جميع شهوات الدنيا.

فقد حنان أمه السيدة "مهيبة بكر حماد" التي توفاها الله وهو في الثانية عشرة من عمره، لكن اسمها والحديث عنها كان مستديما، كما كان يتحدث بذكائها وقوة شخصيتها وفطنتها وخفة دمها،ويضرب في ذلك مثلا حين قال: " ......كان في منزل والدي ـ أي الشيخ عمر ـ ضيوف أراد أن يقدم لهم عصير الرمان فأرسل لها يطلب ذلك، وللأسف لم تكن لديها تلك الساعة الفاكهة المطلوبة، فعاد " القهوجي" بسذاجته يردد أمام الوالد وضيوفه: تقول عمتي أم عادل ....آسفة، وامان امان ما في رمان. فكانت نكتة ضحك لها الحاضرون".

وعلى ذكر آل حماد "أخواله" فقد كان رحمه الله يكن لهم الاحترام كلّه، فخاله الحاج " نمر حمّاد" (4) الذي طالما استمتع الناس بمناقشاتهما، التي كانت تدور في مجملها حول الفقه والأمور الدينية والسياسية. كذلك كان إعجابه شديدا بعم والدته الحاج "توفيق حماد" (5) الذي كان كثير التردد عليه. يقول عمر عادل: أذكر أنني سمعت منه أن جدي الشيخ عمر (6) عندما أصبح رئيسا لبلدية نابلس توجه والحاج توفيق إلى الجامع، وأقسما قيه ويداهما على القرآن الكريم أن يعملا جاهدين على قمع الغش والفساد ومحاربة الرشوة، والله على ما يقولان شهيد. كما ذكرنا فقد حنان أمه وهو صغير، ولكن والده الشيخ عمر ورغم مشاغله الكثيرة، عوض عليه ذلك الحنان بحنان ربما كان أكبر، وقد لمح فيه الذكاء وشغف المطالعة والاستعداد الذاتي للنبوغ، فبعث به من مدرسة إلى أخرى في نابلس وبيروت واسطنبول حتى نال شهادة الآداب فيها، وكان يعامله منذ الصغر معاملة الكبار، ويصحبه في أغلب زياراته ليستفيد مما يدور فيها من نقاش وحديث. كما كان ديّنا؛ يحثه على تلاوة القرآن الكريم، كما يساعده في تفهم معانية، وكان يصحبه دوما إلى المسجد للصلاة، ومن هنا نشأت فيه نزعة التديّن والإيمان، ولازمته متانة خلقية رفيعة.

يقول ابنه عمر: لطالما سمعته وأشقائي يقول لنا "بأن الله هيأ للمسلمين بالقرآن الكريم كتابا ما فرّط فيه من شيء، وبهذا التدبير حقق المسلمون في صدر الإسلام الفتوح والمجد والقوة، ولكنهم، مع الأسف، حين أهملوه ولم يعملوا به، وجعلوه لمجرّد الترنّم فقط، أخذوا بالانهيار إلى درجة الخطورة.



في بلاد الأناضول

إن التربية البيتية والمحيط العائلي والاستعداد الشخصي وحب العلم كلها أمور ساعدت في تكوين شخصيته الثقافية والدينية والوطنية، فما إن ذهب للآستانة والتحق بجامعتها حتى غدا الأول في صفوفه، وما أن انتهى من تحصيله حتى تجد اسمه وقد كتب على لوحة الشرف، ولكن انكبابه على العلم لم يثنه قط عن التحسس الوطني، فعمل جهارا وسرا مع زملاء الدراسة من أجل أمته العربية، وهو القائل في حديث له نُشر في مجلة "العالم العربي" التي تصدر في القاهرة آنذاك "إن الدور الذي تمثله الأمة على مسرح التاريخ إنما يكون بنسبة قوة المثل العليا التي تخالطها، فإذا كان مثل الأمة الأعلى ضعيفا أو مفقودا، فإن هذه تفسح لغيرها مجالا للسيادة عليها، ولا سيما الأمم صاحبة المثل الأعلى.وإني أرى أن يكون المثل الأعلى للعرب في مختلف أقطارهم، هو الإيمان بالوحدة العربية، ومثل هذا الإيمان لكي يكمل، على العرب أن يستعدوا لأداء ما يتطلبه من بذل وتضحية تناسب جلال أهميته، فإذا اعتنقت الأمة العربية هذا المثل الأعلى، ولم تتخلّ عنه فلن يذهب جهدها سدىً، بل يظل مثلها الأعلى المنارة التي تهتدي بها".

الثورة العربية الكبرى

كان يشعر بمرارة لما كانت تعانيه الأمة العربية من تخلف وهي رازحة تحت مظلة الحكم التركي، ولكن ما أن أتم تحصيله العلمي حتى تم استدعاؤه للجندية، فعيّن ضابطا احتياطيا في الجيش العثماني، ولا تمرّ فترة قصيرة على عمله هذا إلا ويشعر بأن الترك قد أخذوا باضطهاد العرب أكثر من ذي قبل، وكانت الثورة العربية قد بدأت بقيادة الشريف حسين بن عليّ، وهنا نورد حول هذا الموضوع فقرة من رسالة بعث بها إلى والده يقول فيها ".....وبينما كنت في تلك الحالة إذ طرق سمعي خبر قيام أمير مكة وخروجه على الدولة العثمانية وانتصاره للعرب وتلقيبه بملكها، فطربت لهذا الأمر، وحصل لي من الوجد والفرح ما الله عالم به، وصارت نفسي تتوق للانضمام إليه".

بعدها بفترة وجيزة تجده يهرب من الجيش التركي للالتحاق بالثورة رغم ما في ذلك من خطر شديد على حياته وحياة عائلته المتواجدة في مدينة نابلس، ولهذا يحكم الترك عليه بالإعدام غيابيا...وقد واجهته أهوال كادت تميته من شدة العطش، وهو في طريقه إلى قائد القوات الشمالية الأمير فيصل بن الحسين، وقد خاض مع قوات الأمير فيصل عدة معارك ناجحة أهمها معركة "أبي اللسن" غربي معان، وهناك قامت صداقات بينه وبين إخوان له يذكر منهم..مرزوق الخيمي، عبد الله الدليمي، صبحي العمري، نسيب البكري، عطا الأيوبي، محمد كرد علي، عبد الفتاح اليافي، مولود مخلص، صبحي الخضرا (7) الذي تعاظمت صداقته وإياه إلى ما بعد الثورة وخلال العمل القومي إبان الانتداب البريطاني على فلسطين.


رحيله إلى مصر

في تاريخ 16 أكتوبر 1918 أرسل رسالة إلى والده، ينبئه فيها بتوجهه إلى مصر بعد موافقة الأمير فيصل على ذلك فيقول: "......توجهت نحو صاحب السمو الملكي الأمير فيصل قائد الجيوش العربية الشمالية بأبي اللسن، وشرحت له تطلعاتي للمستقبل، ورجوته أن يسمح لي بالذهاب إلى مصر " بلد الطهطاوي والإمام محمد عبده الداعية الإصلاحي المتجدد وعبد الله النديم صاحب التنكيت والتبكيت واللطائف" كي أكتسب من العلوم ما يؤهلني خدمة أمتي الخدمة الحقيقية بشكل أوسع وأفسح، فكان لي ذلك، ووصلتها ومعي من النقود ثلث ما بعثت به إليّ. فاستأجرت غرفة واشتريت ملبوسا وكتبا وغير ذلك من الحوائج الضرورية، ثم عكفت على الدرس بإرادة حديدية لا يثنيني عنها شيء، وشرعت أدرس كل يوم أكثر من عشر ساعات، فإما أن أدرك ما أتطلبه من العلوم، أو أن أفنى وأكون من الهالكين. هذا وقد اتصلت بمن أؤمن بعلمهم ووطنيتهم حتى أستزيد منهم علما ومعرفة..."

بعد شهر أرسل له والده الشيخ عمر رسالة هذا نصها :" ولدنا الأعز وفقه الله آمين ... بعد الدعاء لكم والرضاء عليكم، أخذت كتابين منكم تاريخ 16 تشرين أول و 26 تشرين أول أيضا وبالنظر لوجود مرض سخونة معي تأخرت عن الجواب. أخوكم حسن منذ أربعة أيام أرسلناه للكلية في بيروت عن طريق حيفا. وللآن لم نأخذ خبرا عن وصوله، نسأل الله أن يوفقه ويرزقه المعونة. أما أكرم أخّرنا إرساله للسنة الآتية، وقد وضعناه في مدرسة أهلية هنا. الكتابان اللذان أرسلتموهما وصلا لأربابهما. بقاؤكم بمصر بدون دخول جامعة ولا مدرسة بل لمجرد المطالعة أظن لا لزوم له، فإنه يتهيّأ لكم المطالعة هنا في محل خالي كيفما كان الحال، وبهذه الصورة نتخلص من المصروف الزائد، أما إذا كنتم مصرين على انتخاب مدرسة كلية جامعة تدخلونها وتستفيدون منها فنعم المطلوب أو التوجه لإحدى الجامعات في الخارج ... أو خلافها ... وهذا ما نود ونرغب. أما بقاؤكم في مصر لمجرد المطالعة وتوفر أسباب الانزواء وهدوء البال، فهذا يتوافق معكم هنا أيضا، ولذلك توقفت عن إرسال كتبكم التي طلبتموها. وبقية الحوادث والأحوال تعلمونها من الأخ الحاج سعيد أفندي كمال، الذي يتوجه غدا للقاهرة لأجل التجارة. الجميع بخير يسلمون عليكم، ودمتم بهناء وتوفيق".

على كل حال، بعد فترة وجيزة عاد إلى بلاد الشام، ومما ينسب إليه انه قال ذات مرة أنه فوجئ بالأساليب المتبعة "آنذاك" بالأزهر الشريف، وأن أقصى ما يهدفون إليه هو علم الفرائض والمواريث والشريعة...الخ وأنهم لا يهتمون بالعلوم والفنون الأخرى ويعتبرونها من فروض الكفاية، أي إذا قام به البعض سقط عن الآخرين وكان يضرب مثلا بأفكار الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ سليمان المنصوري وغيرهما. كما كان يقارن بين الأزهر ومدارس بغداد عصر المأمون في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، وكان يرى أن أساليب التعليم في الأزهر ذلك الوقت ما هي إلا تحجير للعقول وقيد على حرية التفكير.

فعلم الكيمياء مثلا ما هو إلا سحر للمعادن وخلط للسموم، والفلك كذب وتنجيم، وعلم المنطق جدل بيزنطي وسفسطة، إلى أن ينتهي فيقول : إنه تباحث مع بعض المتبحرين في أمور العلم الحديث فأجابوه أن هذا من بدع أهل البطالة! ... وهذا لا يعني أن مصر لم تنجب الكثير من الأفاضل أمثال المغفور لهم حسن العطّار وأحمد الدمنهوري والجبرتي وغيرهم رحمة الله عليهم.



رسالة الرد:

سيدي الوالد المحترم

شرفني أمركم، وقد قرأته أولا وثانيا وثالثا، فحمدته جل جلاله على آلائه التي عودنا عليها، ودعوته أن يعم بالخير بلادا أفضلها على غيرها، إنه على ما يشاء قدير. سألتكم عن أناس وماذا حل بهم أيام الفوضى فأخبرتموني أنه لم يمسسهم سوء، وقد بلغني أن الخال حسن أفندي حماد (8) قد فرّ من نابلس ولا يعرف الآن مكانه، فهل لكم أن تنبئوني صحيح الخبر؟ أفهمتموني أنكم وليتم نابلس عند انجلاء الترك عنها فقلدتم الحكام من تشاؤون (9) ولم تبحثوا ماذا فعلتم بعد دخول الإنجليز الممقوتين، وتصورون حالة بلدنا كأني فيها وإن كنت بعيدا عنها، حيث تعلمون أن حرصي على مصير بلادي أكثر من حرصي على نفسي، كما أظن أنكم تقدرون مقدار اهتمامي الزائد بشؤون عمي (10) كما وتعلمون مدى احترامي له وتقديري إليه.

تسألونني عن أحوالي وتستشيرونني بخصوص أخي حسن، فترددت بادئ المر إبداء ما يتعلق بشخصي، لكني ونزولا عند رغبتكم، سأبين ما هو مضطرب بين أحشائي وكامن بين جوانحي قائلا : إن لم أستطع أن أبين كله لم أترك جله، وها أنا أبدأ كلامي متوسلا إلى اله تعالى أن يرينا الحق حقا فنتبعه والباطل باطلا فنجتنبه.

خلقت ومعي كغيري من الناس صفتان، إحداهما ما ورثته من آبائي وهو السجيّة (11) والثانية الاستعداد. فأما الأولى فهي تظل في الإنسان من مهده إلى لحده لا يغيرها طارئ من طوارئ الدهر، ولا حادث من حوادثه كالعصبية، والاعتدال في السير وغيره بل تعدلها الصفة الأخرى بعض التعديل، وذلك بما يرى المرء ما عليه أبواه، وأقاربه ثم أهل جنسه، وما يدرسه في مدرسة من خير وشر، فيأخذ ما يهوى إليه. ولكوني نشأت بين يدي والد عابد في بلد دين فقد غرس في نفسي محبة الإيمان منذ صغري وطفقت أجوب المساجد علني أشعر بزلة في نفسي فأقيلها وأهتدي إلى فضيلة فأقتنصها، وقد مضى عليّ وأنا في تلك الحالة أعوام، تنقلت فيها من مدرسة إلى مدرسة، تظهر لي بعض حقائق نوّرت قلبي، وثبتت عقيدتي، وجعلتني أميل كل الميل في تنمية ما رُبيت عليه فأنشره، وبذلك أقوم بواجبي نحو ربي الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد أبنت ما في قلبي بكتاب أرسلته لكم قبل سبع سنين، وكنت وقتئذ في الآستانة، فأوجب جدالا كانت نتيجته سلبية، ولهذا عوّلت على الاكتفاء بما درسته من علوم الشرع والانتساب إلى شعبة من شعب الفنون الأخرى. ولما كانت دروس الحكمة والتاريخ من أعظم ما تطيب له نفسي، وتهدأ لأجله روحي، فقد أخذتها لتكون لي مسلكا في مستقبل الأيام، فأستضيء من نورها وأستمد من غيثها. وما هي إلا جولة أو جولتان جلتهما في صحائف هذه العلوم إلا وانكشف لي ما كان مستورا، فعرفت العالم القديم والحديث، واطلعت على آثارهما، وعلى ما شيده أبناؤهما من قصور المجد وآطام الفخار، وصرت عندما اقرأ تاريخ اليونانيين أو المصريين القدماء مثلا، أخال أنني موجود بينهما، أعيش كما يعيشون وافتكر كما يفتكرون، وأرى كما يرون، وأسمع كما يسمعون، حتى وصلت إلى البحث الخاص بالأمة العربية فرأيت ما رأيت ....رأيت امة سمت إلى ذرى العلياء، ثم انخفضت إلى أحط الدرجات، فطربت لرقيها وبكيت لانحطاطها، كيف لا أُسرّ لارتفاعها وقد كانت تائهة في تلك القفار المظلمة، لا رائد لها سوى ذكاء كانت تستعين به لأكل بعضها بعضا، حتى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول إصلاح بينها بما أوحى إليه ربه، فلاقى في سبيل ذلك من الاضطهاد ما جعل عمه أبو طالب ينصحه بترك الدعوة وقد أجابه بقوله :" والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر" وظل يدعوها إلى النهج القويم حتى رجعت عن غيّها واتحدت، فكانت كأنها بنيان مرصوص، سخّرت المشرق والمغرب، ولم يغترّ بذلك أميرها؛ عمر بن الخطاب، إذ كان لا يفرّق نفسه في المعاش واللباس من أفقر الناس، حتى قال في حقه رسول كسرى، وقد رآه مستغرقا في نومه بأحد مساجد المدينة " أمنت لمّا أقمت العدل بينهم، فنمت نوم قرير العين". بل لم تزدد إلا قوة على قوة، وقد ترجم عمّا يخالج صدرها من العنفوان، ذلك القائد العظيم، عقبة بن نافع بعدما دوّخ بلاد الغرب بقوله: " والله ربّ محمد لولا أن أمواج هذا البحر تعوقني، لذهبت أنشر اسمك العظيم في أقصى حدود الدنيا". ولم يمنع ذلك الإمام مالكا، عن الامتناع عن إلقاء درسه في الحرم النبوي، عندما رأى الخليفة هارون الرشيد جالسا على كرسيّ أمامه، لأجل استماع وعظه وهو يقول :" لا فرق عندي في الدرس بين الغنيّ والفقير، ولا بين الملك والمملوك" فاضطر هارون الرشيد، بأن ينزل عنه ويجلس بين الناس، ولم يقابل مالكا إلا بالإعجاب والغبطة، والرشيد معلوم عند الملأ، ما كان عليه من شدة البأس وقوة السلطان، فكانت تدوي لكلامه صدور الملوك، وتخرّ من هيبته الجبال الرّاسيات، وكان فعله يسبق قوله، وذلك ظاهر في كتابه الذي أرسله إلى ملك الروم في القسطنطينية، عند امتناعه عن تأدية الخراج وهو " بسم اله الرحمن الرحيم: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى الملك نقفور كلب الروم : قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما ترى لا ما تسمع".

ثم كيف لا أبكي ولا أُفجع من اندثارها وقد كانت تملأ الخافقين فخارا، فانتقلت من أعظم العزّ والشرف إلى أدنى درجة الذلّ والهوان، وصار العبد سيّدا والسيّد عبدا. فالأتراك الذين جلبهم خلفاء بني العباس في حروبهم بلاد المشرق، وأنعموا عليهم وقرّبوهم، وجعلوا منهم الحرس والولاة والأمراء، لم يقابلوا من أسدى إليهم هذا الإحسان إلا بالكفران، فخرّبوا ما كان قائما، وأذلّوا من كان رفيعا، ورفعوا من كان سفيها، فقتلوا الأمراء وأماتوا الفقراء، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، حتى صار الخليفة إذا قصّر في العطوة يثورون عليه، ويخلعونه، ثم يقلعون عينيه، ويبقرون بطنه، ويجرّونه في الأسواق مضرّجا، لا يلقى نحوه إلا عيونا باكيات، وأفواها نائحات، وقد ظلّ الأمر يجري على هذا المنوال حتى استفاد من هذه الفرصة قبائل المغول والتتار، وهم من جنس الترك، فهجموا على المملكة العربية تحت قيادة جنكيز خان وولده هولاكو من بعده، فأهلكوا الحرث والنسل، وقتلوا ما يزيد عن عشرين مليونا، من نساء وأطفال وشيوخ، وكانوا إذا أتوا بلده يهدمون مبانيها ومساجدها، ويحرقون كتبها، ويقطعون نباتها، فصارت هذه الوحشية مثلا بين الناس بقولهم " لا ينبت نبات على أرض داسها تركي" ثم جاؤوا إلى بغداد، فقتلوا الخليفة المستعصم بالله مع كل الساكنين فيها الذين يربو عددهم على مليوني نسمة، ورموا كتبها في نهر دجلة، فشكلوا منها قناطر مرّت عليها جيوش إلى ضفة النهر الأخرى، وبذلك أزالوا ما أبدعه العالم من الآثار والمدنية في عدة قرون بأسبوع واحد. هذا في الشرق، وأما الغرب فقد حدث فيه ما يفتت الأكباد حزنا، وتهوي له الأفلاك عجبا، وغاية ما يمكنني أن أقوله في هذا الأمر، أن الأندلسيين العرب، الذين مدّنوا العالم الغربي، قد وثب عليهم الإسبانيون وثبة الوحش المفترس، فقتلوا منهم ما يزيد على أربعة ملايين رجل، وطردوا آخر ملوكهم؛ أبا عبد الله الصغير، الذي كانت قاعدة ملكه غرناطة، فودّع ما شيّده أجداده من صروح المدنية بعبرات، وأمه تخاطبه بقولها:

ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال

وإنكم لترونني منذ اطلعت على هذه الكلمة أكررها كلّ يوم مرة أو مرّتين، فتتقد في قلبي نار لا أطفئها بنشيج آخر بقوله تعالى: "ولا تقنطوا من رحمة الله" وقد عزمت على الجد قدر استطاعتي، علّني أصبح ممن هداهم الله، فأخدم أمتي وأكون من المخلصين، فصرت أرى ما يقرّبني من ذلك سعادة، وما يبعدني عنه شقاء" وآلاما.

هذا وترونني منكبا الآن على مطالعة كتب ابن حزم الأندلسي، وابن خلدون وابن تيمية وابن رشد، والغزّالي وأرسطو وغوته ونيتشه وغيرها، كما لا يفوتني مطالعة شعر المتنبي وأبي العلاء المعرّي، و هما لدي الأفضل.

هذا ما يخصني، وأما ما يخص أخي حسن فها هو رأيي في ذلك: تعلمون أنّ لكم أربعة أولاد ذكور، فأمّا كبيرهم "يعني نفسه" فقد وقف نفسه لربّه وأمته، وأما ثانيهم نبيه فلا كلام لي في حقه، وأما ثالثهم ورابعهم، فهما اللذان يمكن أن يكون فيهما كل صلاح يرجى منه الخير لهما. إن حسنا لم يتجاوز سنّه الخامسة عشرة، وأكرم لا يتجاوز سنّه الإحدى عشرة، وكلاهما ذو ذكاء فطري، يؤهلهما من اكتساب الشيء الحسن وفهمه والابتعاد عن الرذيل وطرده.

إن العلوم وحدها لا تكفي المرء، فيلزمه أخلاق مرضية بجنب علمه، وإلا ظلّ ما تعلمه وبالا عليه، وكان من الخاسرين، ولذا وجب علينا أن نجد لهما مدرسة تزينهما خلقا وعلما. ولا يمكننا أن نحكم أن التربية الفلانية جيدة، والأخرى رديئة، والثالثة بين هذا وذاك إلا إذا فحصنا نتائجها، فيتجلّى أمام عيوننا حلوها ومرّها. من المعلوم أن لكل أمة بحث عنها التاريخ طبائع وعادات مختصة بها، فما هو مقبول عندها في بعض الأوقات منفور منه عند الآخرين......"

إلى هنا ينتهي ما توفر من الرسالة المفقودة.وتكملتها، مما لا شك فيه أنها تضمنت وأوضحت الكثير من آرائه وأفكاره وأحاسيسه دون تكلف.

المؤتمر السوري

بعد فترة وجيزة عاد إلى حلب فنابلس، ولمّا يمض بعض وقت قصير حتى تراه في آذار من عام 1919 يمثل نابلس في المؤتمر السوري، الذي أعلن استقلال سورية بحدودها الطبيعية، ورفض كل وصاية أو حماية أو انتداب، وأسهم في وضع دستور المملكة السورية لذلك العهد، ومذ تلك السنة نشأت علاقة صداقة بينه وبين العالم والمصلح الديني "محمد رشيد رضا" رئيس المؤتمر السوري، صاحب مجلة "المنار" ومؤلف "تفسير القرآن الكريم".

وقد تسلّم بتاريخ 2 آذار 1920 رسالة من الأمير فيصل الذي كان لا يزال قائدا للجيوش العربية الشمالية، ثم غدا بعد ستة أيام ملكا على سورية ...هذا نصّها.

الأستاذ عادل زعيتر

ايها السيد الكريم،



إن الأمة العربية لتفخر برجالها المخلصين، الذين يجاهدون في سبيل تحريرها وإعادة مجدها. وقد بلغنا ما قمتم وتقومون به من الأعمال الجليلة، في تحقيق هذه الأمنية الشريفة، الأمر الذي يستدعي الشكر والتقدير، وإننا لنأمل من همتكم المثابرة على هذه الخطة الحميدة. ولا ريب أن مستقبل كل أمة هو بأيدي أبنائها. فعلينا أن لا نفتر عن المطالبة بحقوقنا والدفاع عن وحدتنا.

والله يتولاكم بتوفيقه. 12 جمادى الآخر سنة 338 و 2 مارس سنة 920 .

فيصل بن الحسين

ولا بد من الإشارة إلى رسالة بعث بها والده إليه، وهو التلميذ في الآستانة، ولمّا يتجاوز السابعة عشرة من عمره يقول في نهايتها " ......... ثم عندما تذكرون أحد الإخوان في تحريركم تذكرونهم بدون تكريم ولا احترام مثل لفظة "أفندي"، فهذا منافٍ للآداب والإنسانية وحرمان صاحب الحقّ حقه، فلو رأيت واحدا خاطبني بلفظة عمر فقط، أو كتب ذلك بتحريره أيضا، بالطبع أتكدّر، وتكون من أنواع الغيبة فاجتنبوا ذلك. أما قضاء فرض بدلا عن السنّة المؤكدة إن لم يكن الجمع بينهما فأقول: المكلف إذا كان عليه فروض يلزمه أداؤها، فتسديد الحق أولى من النافلة، وقضاء الفرض أمر لازم، لأن تركه يستلزم العقاب، وتأخيره كذلك، وهو الأفضل، مثلا إذا كان عليكم دين لإنسان فمن الأفضل إيفاء الدين أم الصدقة؟ بالطبع وفاء الدين أمر لازم شرعا، والله الموفق للصواب" .

24 ذي الحجة سنة 331

التوقيع والدكم عمر زعيتر

لقد وُفق أثناء وجوده في مصر، واتصاله بالعديد من العلماء ورجال الفكر، للوقوف على مختلف الآراء الثقافية، فوجد منهم فئة مؤمنة، ومقتنعة بآراء الشيخ الشبراوي والمنصوري وغيرهما، التي تقوم على الخصوص في التركيز، والاهتمام المطلق بعلم الفرائض والمواريث الخ.....واعتبار العلوم والفنون الأخرى "فروض كفاية" أي إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين. وأخرى تعارضها وتبشّر بآراء العلماء: العطّار ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني الداعية للإصلاح والتطور.

وكم كان يردد بألم قول الإمام محمد عبده "الأديب في الشرق يموت حيا ويحيا ميتا". وقد رأى بأن المدرسة الأولى ما هي إلا تحجير للعقول، وقيد على حرية التفكير، وأما الثانية ففيها انعتاق ثقافي بشكل موضوعي قد يؤدي إلى انبعاث جديد في حيوية الأمة، وهي ما تطابق أفكاره وآراءه التي نشأ عليها وآمن بها. كما آمن بحتمية التفاعل الحضاري، فما من امة تريد أن تجاري تطورات العصر، وتصبح لها حضارة مرموقة، إلا وعليها التفاعل مع الحضارات الأخرى، فتأخذ منها وتعطيها كل مفيد، وكيف أن الغرب لأجل بناء حضارته، اقتبس من الحضارات التي سبقته، كالعربية واليونانية والرومانية الشيء الكثير الكثير في مختلف العلوم والفنون، فنقلها واستفاد منها وانطلق، بينما المؤسف في الحضارة العربية، أنها أخذت في التثاؤب والركون إلى الاسترخاء، بل تمادت إلى ابعد من ذلك في السير بخطى حثيثة نحو التخلف إلى درجة خطيرة، تهدد وجودها كأمة. من هنا تجده يذكر في رسالته "المنشورة" لولده الشيخ عمر "......رأيت أمتي سمت إلى ذرى العلياء، ثم انخفضت إلى أحط الدرجات، فطربت لرقيها، وبكيت لانحطاطها" ومن هذا الإحساس يستطرد في الرسالة نفسها ".....إما أن أدرك ما أتطلبه من العلوم، وإما أن أفنى وأكون من الهالكين" إلى أن يقول : " وقد عزمت على الجدّ قدر استطاعتي، علّني أصبح ممن هداهم الله ، فأخدم أمتي وأكون من المخلصين". من هذا الإحساس القومي انكبّ "عادل زعيتر" على دراسة اللغات الأخرى من فرنسية إلى إنجليزية؛ حتى يقف بنفسه على ما أنتجه الفكر الأوروبي الحديث من علوم،وقد أسهب في التركيز على اللغة الفرنسية بشكل خاص، حتى أجادها وأتقنها إجادته وإتقانه للغة العربية. وكما بيّنا ذهب إلى نابلس ومنها توجّه في آذار سنة 1919 إلى دمشق ليمثلها في المؤتمر السوري، الذي أعلن استقلال سورية بحدودها الطبيعية. وفي دمشق 29 مايو سنة 1921 مثّل نابلس في المؤتمر الفلسطيني الرابع المنعقد في القدس، برئاسة موسى كاظم باشا الحسيني.

بعد هذا المؤتمر مباشرة توجه إلى فرنسا، للالتحاق بكلية الحقوق في جامعة باريس، وما إن استقرّ به الأمر هناك، حتى غدا ركنا من أركان الجمعية السورية العربية بباريس. كما أخذ في الاتصال والتعرف إلى بعض علماء فرنسا وفلاسفتها، فيحضر مجالسهم وندواتهم، ويذكر منهم على الخصوص الفرنسي الدكتور "غوستاف لوبون" (12) الذي رأى فيه الأكثر بين علماء الغرب إنصافا للعرب، وقد أعجب به الإعجاب كلّه واعتبره أستاذا له.

بدء إنتاجه الثقافي

بدأ إنتاجه الثقافي وهو تلميذ، كما ظهر ذلك في رسالة بعث بها من باريس، إلى والده الشيخ عمر زعيتر مؤرخة في 5 شباط 1923 حيث يقول " ....ربما يمرّ بخاطركم وأنتم تنفقون عليّ عن الصورة التي قضيت بها عطلتي الصيفية التي امتدت أربعة أشهر، وعن الطريقة التي أسير عليها بعد مباشرتنا الدروس فأقول: لقد أقلعت بعد الفحص عن المطالعة أياما، حتى زال عني شيء من التعب، ثم فكرت فيما أعمله لأخدم أمتي التي نذرت نفسي لها، فتذكرت أن المرحوم فتحي باشا زغلول، أخا الزعيم المشهور سعد باشا زغلول، قد ترجم للعلامة الفرنسي الشهير، الدكتور غوستاف لوبون كتابين، وهما "روح الجماعات" و" سرّ تطور الأمم" ووعدني هذا الأخير أن ينقل إلى العربية كتابين آخرين للعلامة المذكور وهما "روح السياسة " و "روح الاشتراكية"، وإن المنون حالت دون إنجاز وعده، فتمنيت لو أتم عمل المرحوم المشار إليه، فطالعت هذين الكتابين، وإن كنت قرأتهما قبل مجيئي إلى باريس، فرأيت نفسي قادرا على ترجمتهما، فباشرت بأصغرهما وهو "روح السياسة" وبعد أن ترجمت منه ما يزيد على خمسين صفحة، بلّغني أحد أصدقائي أن أحد كتّاب الأمة سبقني إلى ترجمته، وهو يترقب فرصة لطبعه، فصرفت النظر عن ذلك، وشرعت في ترجمة الكتاب الثاني وهو "روح الاشتراكية" وإن كان مؤلّفا من خمسمائة صفحة كبيرة، أي أنه يزيد على مجموع صفحات كتابي روح الجماعات وسرّ تطور الأمم بمائة صفحة، وعلى ذلك أكون ترجمت كل يوم خمس صفحات، وقد كانت ترجمة الصفحة الواحدة مع تبييضها تستغرق معي ساعة ونصف الساعة، وإني أؤكد لكم بأنني لم أذق طعم الراحة أيام الترجمة، وقد صادف اليوم الأخير من الترجمة، اليوم العاشر من شروعنا في الدروس الحقوقية، وقد شهد لي من اطلع في باريس على ترجمته، من الواقفين على اللغتين، بأنه لا يقل عن ترجمة كتابي فتحي باشا زغلول أسلوبا، ويفوقهما سهولة وسلاسة.

وللدكتور لوبون كتابان آخران وهما "روح التربية" وله قصة و "روح الثورات" وقد عدّهما العلماء خير ما كتب في موضوعهما، وبما أن الواجب يقضي عليّ بأن أترجمهما إلى العربية فإنني شرعت في ذلك. ولن يمضي عام حتى أكون أكملت ترجمتهما إن شاء الله. ولا تستدلوا من هذا القول على أن قيامي بمثل هذه الأعمال يمنعني من الالتفات إلى الدروس الحقوقية، فروح الاشتراكية الذي ترجمته، هو كتاب يبحث في علم الاجتماع والإدارة والاقتصاد السياسي والسياسة، وإنا لندرس جميع هذه العلوم في الجامعة الباريسية، وكذلك روح التربية و روح الثورات. وأما دروسنا الرسمية فإنني قد خصصت لمزاولتها كل يوم ثماني ساعات، وهذا وقت كاف على ما اعتقد".



بينه وبين عبد الله المشنوق

نشأت صداقة قوية بين عادل زعيتر والأستاذ عبد اله المشنوق (13) منذ ترافقا في الدراسة في جامعة باريس، واستمرت هذه الصداقة حتى انتقال المرحوم زعيتر إلى جوار ربه، فرثاه الأستاذ المشنوق بتاريخ 12 كانون ثاني 1957 في صحيفة "بيروت المساء" بمقال افتتاحي تحت عنوان "الوسيط الأول" يقول في بعضه ".....ولكي نقدر هول الخسارة التي نزلت بالمكتبة العربية، بوفاة فارس ميدانها الأول، يحسن بنا أن نستعرض ما أخرجته الهيئات الرسمية، في مختلف الأقطار العربية من ترجمات ... ونقارن بينها وبين ما أخرجه عادل زعيتر وحده ـ من حيث العدد والنوع والمتانة، لنعلم أن خسارتنا في عادل هيهات أن تعوّض.

• كنا ندرس الحقوق معا في باريس، وكان يطلعني على ترجماته لغوستاف لوبون ....وما أنسى أنني انتقدت ذات ليلة جملة من جمل كتابه، وكنّا في غرفته بالفندق فوافقني على رأيي. وذهبت إلى فندقي منتصف الليل.

• حوالي الساعة الواحدة ـ وأنا أغط في نومي ـ يُقرع باب غرفتي، فأستيقظ مذعورا .. من هذا الطارق؟ فإذا بعادل يطل عليّ بابتسامة الظافر ويقول:

ـ أنت مخطئ ..... وأنا مصيب.

• قلت له معاتبا: ألم يكن بوسعك أن تترك هذا التصويب إلى الصباح؟.

• وأعدنا قراءة الجملة الفرنسية والترجمة العربية... وأقنعته، رحمه الله، بأنه ما يزال مخطئا وأني ما أزال مصيبا" إلى أن يقول:

• " كان حجة في القانون، ولكنه انصرف عن دنيا المحاماة إلى دنيا التأليف والترجمة، فقام بمهمة التأليف والترجمة بمفرده، بالنيابة عن الدول العربية العشر، وأنتج وحده أكثر مما أنتجته متضامنة جامعة الدول العربية من ترجمات للروائع.

• عاش بين الورق والحبر، ورأى الحياة كلها ورقا وحبرا ....ولكنه ما خط على القرطاس بقلمه إلا ما يرفع به رأسه عاليا، ورأس الأمة العربية ورأس الثقافة الإنسانية.

• وإذا كانت الترجمة وسيلة من وسائل التقارب بين الأمم، فقد كان عادل زعيتر الوسيط الأول في العالم ـ بأسره ـ رحمه الله عدد صفحات كتبه، بل عدد سطورها وألفاظها ... فقد كان نسيج وحدة في دنيا التأليف والترجمة" .



بينه وبين طه حسين

أما قصته والدكتور طه حسين، فقد أثيرت من جديد في أوائل الخمسينيات، حين ظهرت في القاهرة، وفي آن واحد، ترجمتان لكتاب "نابليون" للعالم الألماني إميل لودفيغ (14) إحداهما نقلها إلى العربية الأستاذ عادل زعيتر، والأخرى الأستاذ محمود الدسوقي، تلميذ الدكتور طه حسين، الذي كان يرأس آنذاك تحرير مجلة "الكاتب المصري" فنشر طه حسين في مجلته مقالا قرّظ فيه ترجمة الدسوقي، وغمز من ترجمة زعيتر، فتألم من ذلك كثيرا، لشعوره بأن طه حسين كان متجنيا فيما ذهب إليه، وخلافا لما ينتظر من مثله، وعلى الفور تذكر قصة ما حدث له وبعض زملائه في باريس " أوائل العشرينات" عندما ظهرت ترجمة الأستاذ طه حسين لكتاب "روح التربية" للدكتور غوستاف لوبون، وكثر التردد عليه، فقد حمل الكتاب المترجم مع زملاء له في الدراسة هم السادة: عبد الله اليافي وعبد الله المشنوق وموفق الألوسي ونجيب الأرمنازي، وقدّموه للدكتور لوبون مزهوين وفخورين بالأديب العربي طه حسين، متوقعين بأن يُسَرّ لوبون بأن كتبه قد أصبحت تنقل إلى العربية، ولكن حصل العكس تماما، إذ ما أمسك لوبون بالكتاب المترجم حتى أخذ يروزه روزا بيديه، وقال : " يظهر أن لغتكم مختصرة جدا لدرجة الاختزال! ... أو يظهر أن هذا الكتيب تلخيص لروح التربية"!

ويقول ابنه عمر : سمعته وهو يروي ذلك الخبر سنة 1949 لبعض زائريه في فندق شبرد بالقاهرة، ويستطرد والدي قائلا: " تتصورون كم كان ذلك محرجا لنا، وكم تلعثمنا في الرد عليه، وما إن شربنا الشاي حتى خرجنا من لدنه مسرعين متعثرين، وصممت في نفسي أن أعيد ترجمته بشكل أمين ... لكن ظروفي في الدراسة في باريس حالت دون ذلك " .

ولكن لم يمض عام حتى نقل الأستاذ زعيتر كتاب روح التربية بأمانته المعهودة، ويخرج الكتاب بحجمه الحقيقي الذي يربو على الثمانمائة وخمسين صفحة، أي ضعف حجم الكتاب الذي ترجمه طه حسين تقريبا، وقد أشار في مقدمته إلى ما حدث مع الدكتور لوبون، وبهذا يكون قد انتصر لنفسه بما يفيد أمته والمكتبة العربية.

برقية ورسالة

في الثامن والعشرين من يوليو سنة 1924 أرسل لوالده برقية، ينبئه فيها بأنه أنهى دراساته الحقوقية بنجاح، وبأقل من الوقت المقرر، ويستأذنه في متابعة تحصيله العلمي لنيل شهادة الدكتوراة ... وفي 6 أغسطس 1924 أجابه الشيخ عمر برسالة بيّن فيها رأيه؛ وهذا نصها :

ولدنا الأعز، وفقه الله آمين ..

السلام عليك ورحمة الله وبركاته. أخذت "تلغرافك" المنبئ بنجاحك، فسررت جدا لهذه الموفقية، وشكرا لله على نعمائه، أما الستة عشر درسا التي أشرت إليها، والذي يقتضي تحصيلهم في سنة وشهرين من الأستاذ لتحوز على لقب دكتور ليصبح التحصيل كاملا هذا صحيح، ويقتضي على كل إنسان أن يسعى لذلك. أنا الآن في ضائقة مالية شديدة، وعلاوة على ذلك أخوكم أكرم أكمل دراسته هذه السنة، ويلزم إرساله للكلية التي لا يقل مصروفها السنوي عن التسعين جنيها تقريبا فكيف العمل؟ ......كل هذه المدة ما ذكرت أنني في ضائقة ولا أشرت إشارة، خوفا عليك من التشويش، وحرصا على سلامة فكرك وراحتك، فما العمل يا ترى؟ وهل يمكن دراسة تلك الدروس في فلسطين بهذه المدة وتعود إلى باريس لأداء الامتحانات؟ فإن أمكن ذلك كان بها، وإلا فلتبق هناك، وتتحمل المصاريف، ونطلب من الله العون. فعلى كل حال أقول إليك .. أنت حر فيما تريد من الإقامة في باريس أو العودة لنابلس، وأنا أسأل الله أن يوفقك لما فيه خير أمتك وخيرك، فأريد أن تكون على كل مرتاح البال، ولا تدع شيئا يخطر على بالك ويمنعك من التحصيل.

العموم بخير، يسلمون عليك، والله الموفق 6 أغسطس 1924م.

التوقيع

والدكم ـ عمر زعيتر


وفاة والده

بعد هذه الرسالة التي تنم عن عاطفة كبيرة، وحرص شديد على مستقبل نجله لما فيه خير أمته وخيره، ارتأى زعيتر البقاء في باريس والتحضير لنيل شهادة الدكتوراه، لكنه لم يدر أنها ستكون الرسالة الأخيرة .. في أواخر أكتوبر رأى أثناء نومه حلما مزعجا، وهو أن ضرس عقله قد خلع، فنهض مذعورا، وبقي صاحيا حتى الصباح، ليذهب ويرسل برقية لوالده، يستفسر فيها عن صحته ..وما هي إلا أيام، حتى يستلم الخبر المفجع الحزين، المنبئ بحادث الوفاة "في التاسع عشر من أكتوبر سنة 1924 " يقول ابنه عمر : "وهكذا نزل عليه الخبر "كما روى ذلك لنا" نزول الصاعقة، لما كان يكنه لوالده من احترام وتقدير عظيمين، واعتبر أن وفاته خسارة فادحة للوطن".

وما من شك أن وفاة الشيخ عمر (52 سنة) كانت، وهو في قمة عطائه، صدمة للفلسطينيين، وهذا ما أبرزته الصحف والمجلات العربية، منها جريدة الشورى "القاهرة"، الكرمل "حيفا" وصوت الشعب "بيت لحم" ولسان العرب "القدس" واليرموك "حيفا" ومجلة الإخاء "القاهرة" .. ونكتفي هنا بنقل النص الحرفي لما نشر بتاريخ 22 أكتوبر في جريدة الشورى القاهرية لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ محمد على الطاهر (15) تحت عنوان :


"وفاة زعيم فلسطيني"

نُعي إلينا من مراسلنا النابلسي بالبرق أول أمس، سريّ من سُراة فلسطين، وزعيم كبير من زعماء نابلس، هو المرحوم المبرور الشيخ عمر أفندي زعيتر رئيس المجلس البلدي .. توفي رحمه الله بعد مرض قيل إنه السرطان في العنق، وقيل إنه قرحة في الأمعاء، فسهر الأطباء على معالجته شهرا وبضعة أيام، لم تنقطع في أثنائها وفود البلاد عن عيادته والسؤال عنه، ولكن حيل الأطباء لم تنفع، ودعوات الإخوان والأصدقاء لم تشفع .. ففاضت روحه الكريمة عصر الأحد الماضي، فقوبل خبر نعيه بحزن عميق في سائر أنحاء البلاد، وقد جاءنا بعد ذلك من مراسلنا النابلسي، أن جنازته شُيّعت بمشهد حافل، مشت فيه مدينة نابلس بأسرها، وقد أقفلت تماما، وشهدت الجنازة الوفود التي جاءت لهذا الغرض من سائر أنحاء فلسطين.

كان الشيخ عمر من العصاميين الذين سادوا بعبقريتهم وشخصيتهم الممتازة، فكان قبلة أنظار الناس في الرجوع إليه لفضّ مشاكلهم، وخدمتهم بنفسهم وماله ونفوذه.

وكان رحمه الله في مجالسه للناس أنيس العشرة، حلو الحديث، لين الجانب من غير ضعف، وكان مع ذلك كثير الصمت قليل الكلام، أما مع الحكّام، وبالأخص الحكومة المحتلة، فكان وطنيا غيورا، وحكيما رزينا، أكسبته هذه الصفات المحمودة محبة الأهلين واحترام الحكام في وقت واحد. ولعل خير ما تركه من الآثار النافعة، إنشاء مدرسة الأيتام في نابلس، فكان، رحمه الله، يسهر عليها ويشملها بعطفه وعنايته. وإننا ونحن نبكي فقيدنا الكبير نتقدم إلى آله وأنجاله الكرام بواجب التعزية، ونعزّي نابلس بفقد عميدها، والوطن الفلسطيني الذي فُجع بأخلص بنيه. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الجنازة

وهكذا انتقل إلى جوار ربه، المغفور له الشيخ "عمر زعيتر" فشيعته نابلس والوفود الفلسطينية بالحزن والتقدير إلى مثواه الأخير، وقد رثاه الأستاذ الشيخ محمد تفاحة "مفتي نابلس" بقصيدة ألقاها أمام جثمانه في المسجد، يقول في بيت منها مخاطبا :

لا بل فلسطينُ غدوتَ فقيدَها إذ أنت من أبطالها الصيدِ الغُرر

كما رثاه فضيلة الشيخ أحمد البسطامي في المقبرة حين دفنه بقصيدة مؤثرة قال في مطلعها :

فُجعَ العلا بك يا عُمر ولموتك القلب انفطر

قال عمر عادل : قيل لي من الأهل والأقارب أن المنظر المؤلم الذي يفتت الأكباد، هو منظر تلامذة مدرسة الأيتام، التي كانت تضم ما يزيد على مئة يتيم ويتيمة، وهم يسيرون أمام النعش يحملون الأكاليل وينشدون (16):

مولاي يا ربَّ البشر ندعوك والقلب انكسر

بالعفو والغفران جُد لـفقيد نابُلسٍ عُـمَر


عودته إلى فلسطين

بعد وفاة المغفور له والده اضطر عادل زعيتر لترك باريس، والعودة إلى فلسطين، لتحمل مسؤولياته العائلية والوطنية، رغم قطعه شوطا في التحضير لرسالة الدكتوراه. وبعد فترة وجيزة، راح يزاول مهنة المحاماة، ليصبح محاميا من أقدر محاميها وألمعهم، ولهذا اختير سنة 1927 أستاذا لتدريس الفقه الدستوري والاقتصاد السياسي والمالي وقانون المرافعات المدنية والجزائية في معهد الحقوق بالقدس، ويعتبر كثيرون من أعلام المحاماة في فلسطين والأردن من تلاميذه. وله في محاضراته الحقوقية مؤلفات مخطوطة، كان فيها الفقيه المتمكن من مواضيعه.


أستاذي

وللتدليل على مكانته هذه، نجد أحد تلامذته المحامي الأستاذ " أنس الخمرة " يرثيه إثر وفاته في جريدة فلسطين "القدس" بعددها الصادر في 29 كانون الأول 1957 بمقال تحت عنوان "أستاذي" يقول في بعضه: "كان فقيدنا المحامي الكبير أستاذا ـ لي ولكثير من الزملاء المحامين إن لم يكن لأكثرهم ـ بالمعرفة والخلق، ومن قادة الفكر العربي المعاصر. أبت عصاميته أن تخلد للحياة الوادعة الناعمة بعد أن انتهت مهمته بجيش الثورة العربية ـ فالتحق بجامعة باريس حيث درس الحقوق، وغادر باريس مدينة اللهو والمرح دون أن يذوق الخمر. إن الكثيرين من عظماء الأدباء، لم يكونوا يشربون الخمر، مثل ألكسندر دوماس و برناردشو و شارل ديكنس وغيرهم، وعادل زعيتر من هؤلاء الخالدين. كان يتحمل المسؤولية، ويحاول أن يؤدي عمله على خير وجه، وهذه صفة المبدعين، حدّثني ـ رحمه الله ـ أنه لم يكن يتناول غداءه في اليوم الذي يلقي محاضراته في معهد الدراسات الحقوقية، ليحتفظ بصفاء ذهنه.

كان ناصع الجبين، طاهر القلب واليد، لم يرتكب دنيئة رغم الظروف المادية المغرية التي كانت تواكبه، كان قفّازا للمكارم، فكان المساهم الصامت بالحركة الوطنية، والمحامي المدافع بدون جلبة أو تبجح أو ضوضاء، إلى أن يقول " وحبذا لو أن اسم عادل زعيتر أطلق على شارع بالعاصمة (17) وبنابلس وبالقدس، اعترافا بفضله، وتشجيعا لأبناء هذه الأمة لأن يقتدوا بسيرته، ويسيروا على نهجه..أيها الثاوي في ترابك، لئن غاب رسمك فلن يضيع اسمك، وقد خطه قلمك بين عداد الخالدين ".

أبناؤه

أنجب عادل زعيتر ستة أبناء؛ ثلاثة ذكور وثلاث إناث، إحداهن ربيعة؛ توفيت ـ رحمها الله ـ وعمرها ثمانية أشهر، فبقي له خمسة هم .. عمر (18) و وائل الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في روما (19) ونائلة (20) و وضّاح (21) وسلمى (22)، وقد أولاهم اهتماما كبيرا رغم مشاغله الكثيرة. يقول عمر: أذكر انه كان يصطحبني ووائلا إلى صلاة الجمعة، وإذا ألمّ به عارض مرضيّ، يطلب منّا الذهاب وحدنا، وعند العودة كان يسألنا .. من صادفتما؟ ومن خطيب الجامع؟ وماذا قال في خطبته؟ ليطمئن أننا استوعبنا مضمون الخطبة جيدا، وهذا يدفعنا للانتباه الشديد والانتباه الجيد؛ إذ سنواجه بعدها امتحانا صعبا. كما كان في كل رمضان، يطلب إلينا تلاوة القرآن الكريم بصوت مسموع نوعا من غرفة مجاورة لمكتبه المنزلي، وهذا أكثر ما كان يرضيه، وما دمت أتحدث حول علاقته بأبنائه، فأذكر ـ يقول عمر ـ أنني عندما التحقت متطوعا في جيش الإنقاذ عام 1948 أبلغني برسالة حملها صديقه الشاعر الوطني عبد الرحيم محمود (23) وكان أستاذي وصديقي وزميلي في الجيش ذاته .. يطلب إليّ فيها عدم استلام راتب من جيش الإنقاذ حيث هو يتكفل الإنفاق عليّ .. وهكذا كان.

الرسالة الوصية

ويتابع عمر قائلا: عند التحاقي مباشرة بالجيش الأردني، أرسل رسالة يحثني فيها على التمسك بالإنسانية والأخلاق والاستقامة الخ ...جاء فيها " ....أوصيك يا عمر بثلاث: الأخلاق ثم الأخلاق. إن القيادة الحقّة هي التي تجمع بين قوة الكفاءة وقوة الخلق؛ فلا خير بقائد مهما أوتي من كفاءة، إذا كانت تعوزه الأخلاق. يجب أن تكون لديك إنسانية حقة مجردة من كل تعصب أو تمييز أو تحيّز، ودعوة دائمة إلى الخير والفضيلة والصدق، والتمسك التام بالمبادئ والمثل الأخلاقية، كما عليك أن توازن بين القوى الفردية والاجتماعية، وإياك ثم إياك إيثار مصلحتك الشخصية على المصلحة العامة والخير العام .. أدعو الله أن يوفقك إلى سواء السبيل.

الجميع بخير يسألون عنك والسلام عليك ورحمة الله.

والدك

عادل زعيتر

يقول ابنه عمر: ما من شك، أن هذه الرسالة الأبوية التوجيهية "الوصية" الكبيرة في محتواها، العظيمة فيمعناها، قد أثرت التأثير كلّه، وأضحت بالنسبة لي دستورا أضعه نصب عينيّ في جميع أعمالي وتصرفاتي، فحمدا لله على ذلك.


الدعابة الفكاهة

يقول المرحوم أكرم زعيتر في ذكرياته عن شقيقه " كان عادل على ما اتسم به من جد، يأنس بالنكتة البارعة ويطرب للبديهة السريعة، ويُعجب بالأدب الساخر، وأناتول فرانس(24) هو ـ في نظره ـ صاحب القدح المعلى في الأدب التهكمي المعجب، وإعجابه بأناتول حمله على ترجمة كتابيه "حديقة أبيقور" و "الآلهة عطاش" ويرى عادل أن أبرع ما كتبه الأمير شكيب أرسلان ـ على ضخامة ما كتب ـ ترجمته كتاب "أناتول فرانس في مباذله" لجاك بروسون .

وذكر أمامه برنارد شو، باعتباره أمير الأدب الإنجليزي الساخر، ورويت قصة تلك الجميلة التي سألته أن يتزوجها فلعلهما يرزقان مولودا في جمالها وعقله فأجابها " إنما أخشى أن يأتي المولود الجديد في جمالي أنا وفي عقلك أنت وهنا الطامّة!" فنهض عادل إلى احد كتب الأدب، وروى قول الأصمعي: "كان أعرابي طويلا قبيحا، فخطب امرأة وقال أريدها قصيرة جميلة ليأخذ الولد طولي وجمالها، قال : وتزوجها على تلك الصفة، فجاء ولده على قبحه وقصرها" .

وسأل موظف الجمرك المصري ذات مرة عادلا عمّا في حقيبته الكبيرة المليئة فأجابه "البحر والنهر وملكتكم" فبهت الموظف، ورغب في فتح الحقيبة، فلمّا فتحت، وجدها تحتوي نسخا من الكتب "البحر المتوسط" و "النيل" و "كليوباترة" فطرب لنكتته ورجا عادلا أن يسارع في إقفال الحقيبة خشية من أن يغرق المطار في مياه البحر والنهر.

كان عادل يتقبل الدعابة على أن تكون مهذبة، ويستنكرها عامّية غير راقية، وقد أطربته رسالة بعث بها إليه صديقه الأستاذ عادل الغضبان مليئة بالغريب غير المأنوس من الكلمات وأجابه بمثلها مداعبا.

وكان يحتفظ ببيتين من الشعر و ارتجلهما صديقه الأديب المرحوم "حسن بيهم" حين قلع عادل طاحونته وهما :

ذهبت طواحينُ عادلٍ فاعتاضَ عنها باللسان

يَفرِي ويَطحَنُ كلّ بُطلٍ بالفصيحِ منَ البيانِ

ويتابع أكرم قائلا: وكثيرا ما كان البعض يخلط بين اسمي واسمه؛ فإذا عرّفت إليهم باسمي قالوا : إننا نعرفك من مترجماتك العظيمة، وطفقوا يثنون عليّ بما لست أهله، فإذا لم يكن أخي موجودا، بادرت إلى التصويب، ورددت الفضل إلى صاحبه، ثمّ حدثته عن ذلك فكان له منه مجال سرور وتفكّه، وإذا كان هو موجودا، كان ذلك على مسمع منه سكت، فيكون ذلك مثار دعابة.

إلى أن يقول الأستاذ أكرم: قال لي مرة " حين يبلغ ارتفاع كتبي مرصوصة بعضها فوق بعض قامتي، ينتهي أجلي." فأجبته : على أن تطبع على ورق رقيق رقة ورق السيجارة .. فسرّه الجواب، ولكنه كان يتحسّر أن ينقضي العمر ولا يحقق ما يصبو إليه مرددا

لنا في الدهرِ آمالٌ طوالٌ نُرَجّيها وأعمارٌ قِصارٌ

وحول ذات الموضوع في عام 1945، يقول ابنه عمر: أذكر أنني كنت معه يوم الجمعة في البيّارة، وأرادا أن يمرّ أحد أصدقائه "أبي حاتم" في مزرعته بقرية "قاقون" ليستشيره في أمور زراعية، عند وصولنا طلب إليّ أن أقرع الباب "بقي الوالد بالسيارة" فنزلت .. لكن كلبا ضخما شرسا منعني من الاقتراب، فأخرج الوالد من جيبه ورقة، وكتب يبلغه انه حضر لزيارته، ويعاتبه على وضع الكلب المسعور أمام باب المزرعة، وسرد له هذه القصّة وقال : "أيام عصر السلطان الغوري، توجه الشاعر جمال الدين السلموني لزيارة قاضي القضاة شهاب الدين، فمنعه الحارس من الدخول .. فنظم فيه بيتي شعر قال فيهما :

ببابكُمُ كلبٌ عقورٌ مسلَّطٌ عديمُ الحياءِ والعقلِ في البُعدِ والقُربِ

ومن يربط الكلب العقورَ ببابه فإن بلاءَ الناسِ من رابطِ الكلبِ

وتركنا له الرسالة عند الباب، وفي صباح اليوم التالي، توجّه "أبو حاتم" إلى طولكرم واتصل هاتفيا بالوالد معتذرا عمّا حدث، أخذ عتابه عن طيب خاطر، وقد ضحك لذلك كثيرا.


المحامي المثالي

لنقرأ بعض ما ذكره نقيب المحامين، الأستاذ فؤاد عبد الهادي ممثلا عن نقابة المحامين الأردنيين في مهرجان تأبينه سنة 1958 الذي حضرته وفود عربية.

" .. كان إذا دخل في قضية تنبأ عارفوه والواقفون على طباعه، لهذه القضية بالنجاح، لا اطمئنانا إلى كفايته الممتازة وتدقيقاته فحسب، ولكن اعتقادا منهم أنه لم يقدم على المرافعة فيها إلا بعدما درسها واطمأن إلى جانب الحقّ فيها".

رُشّح الفقيد عضوا في المجلس الإسلامي، ومما ورد في تقرير حاكم اللواء البريطاني إلى المندوب السامي إن عادل زعيتر أصدق من عرفت، ومن أكثرهم استقامة ومعرفة، ولكن الفقيد كان زاهدا في مناصب الدنيا، ومن منّا لا يذكر محاضراته في الفقه الدستوري الذي ترجمه عن أستاذه "ايسمن" المرجع الأول في هذا الموضوع لدى حقوقيي العرب. وحسبه مجددا أنه هو الذي نقل إلى العربية، الكتاب العظيم الضخم الخالد (روح الشرائع لمونتسيكيو).

كان الفقيد يعرف قيمة نفسه، فيصونها عن رخيص القدر، وكان القضاة بدورهم يلقونه بمزيد من الاحترام والتقدير.

كان رحمه الله مجاهدا في سبيل أمته ووطنه، وعونا للأحرار والمجاهدين، فقد تولّى المرافعات تطوّعا في اضطرابات سنة 1929 ومظاهرات التسلح سنة 1931 وسنة 1933 وثورة 1936 ويذكر شباب فلسطين وغيرهم يومذاك، وكهولهم اليوم، ما بذل عادل زعيتر من جهود في الدفاع عنهم بنابلس والقدس وصفد، وكيف خلّص كثيرين من حبال المشانق، وحادثته مع الحاكم العسكري "المستربيلي" الذي داس القوانين حتى قانون الطوارئ في إحدى قضاياه السياسية معروفة .

إلى أن يقول : واليوم هو يوم من أيام أحزاننا، وبه ذكرى لعظيم فقدناه لأيام مضت، وبفقده فقدنا علما من أعلام الوطنية الصادقة، وركنا من أركان المحاماة والتشريع والقانون، على شدة حاجتنا إلى الوطنيين كشعب، وإلى العلماء العاملين كأمة. أجل! في هذا اليوم الذي نؤبن فيه قائدا من قدامى قادة الحركة الفكرية في هذا البلد، ومناضلا قاوم الاستعمار والظلم والطغيان، وعالما من علمائنا الأفذاذ، ومحاميا فقيها شريفا، ترك في نفس كل منّا أثرا لا يمّحي، وهذا اليوم سيسجَّل حتما في سجل أحزان الأمة، وسيكون له ذكرى بارزة على كثرة أحزاننا، ووفرة كوارثنا. بمَ نؤبنك، أنتكلم عن عملك وفضلك في الأدب والاجتماع والتشريع والقانون وكلّنا يعرف ذلك، لقد عرفناك زعيما مخلصا من زعماء الحركة الوطنية والعلمية، وعرفناك دائما أستاذا وعالما وقائدا، ما طلبت إلينا ولا وجّهتنا إلا إلى ما يحب الله وما يقتضيه وطننا، وما ترتضيه مصلحة أمتنا، فحسبك أيها الفقيد في حياتك، شرف المبدأ وعزة النفس ونقاء الضمير، وحسبك أنك عشت فينا كريما صادقا لم تُمارِ ولم تتملّق، ولم تأخذك في الحق لومة لائم ...الخ".

تحقيره للجواسيس

يقول ابنه عمر: وعلى ذكر دفاعه عن المتهمين السياسيين، سمعت منه وغيره قصة هذه المرافعة التي حدثت سنة 1931 حيث الجميع في فلسطين يتندرون بها ويستهزئون من رجال المباحث العرب المتعاونين مع الإنجليز ..وباختصار، كان عادل زعيتر يدافع أمام محكمة جنايات القدس عن ثلاثة وطنيين اتُّهموا في قضية سياسية، وهم الدكتور صدقي ملحس، والشيخ صبري عابدين، والسيد جمال القاسم، وكان الحضور كثيفا، وعندما استُدعيَ شاهد الإثبات العربي المدعو ( ش ع ) للشهادة ضدّ المتهمين بدأ محامي التاج "النيابة" في سؤاله عن كل ما يثبت التهمة، فقاطعه الوالد طالا إثبات نوع أو ماهية عمله بالضبط، أجاب الشاهد "مخبر" ...رأسا قال له يعني "جاسوس" ...جاسوس إنجليزي، فاحمرّ وجه الشاهد واصفرّ وأجاب "لا: أنا مخبر" فقال له: كلا أنت جاسوس للإنجليز، أنت جاسوس نعم جاسوس على أبناء وطنك، وطلب من هيئة المحكمة تثبيت ذلك، وأراد محامي التاج الاحتجاج، فضجّت قاعة المحكمة بالتصفيق، وهم يرددون جاسوس، إنه اعترف بأنه جاسوس، فاضطر رئيس المحكمة لرفع الجلسة، وتأجيلها، خاصة وان الشاهد قد بدا عليه الإعياء وعلامات الترنّح، وانتشر الخبر في أنحاء فلسطين ..بعدها علم أن الجاسوس (شين عين) مرض وقدّم استقالته من عمله، وانزوى في بيته لا يرى أحدا خجلا من نفسه، وفي الجلسة الثانية لم تجد النيابة شاهدا للإثبات، فبرّأت ساحة المتهمين الأحرار، وقد حدث مثل ذلك مع زميله؛ المحامي عوني عبد الهادي، وهو يدافع متطوعا عن المعتقلين السياسيين.

زواجه

في عام 1929 أشارت عليه عائلته بالزواج، وأخذت شقيقتاه "عدلة وابتهاج" تبحثان له عن فتاة مناسبة، فاستقرّ الرأي على ترشيح "ميسون" ابنة التاجر المعروف صديق والده، الحاج سعيد عبد المجيد، وعندما فاتحتاه أجاب بأنه يذكرها وهي صغيرة، إذ شاهدها مع والدها في مصر، حيث كان الحاج سعيد مقيما لفترة في القاهرة، واستمهلهن حتى يستشير أشقاءه نبيه وحسن، وأكرم الذي كان مبعَدا سياسيا إلى عكا، حيث عمل أستاذا في ثانويتها "أما أخواه هشام وزياد فكانا صغيرين، فزياد مثلا كان عمره آنذاك أربع سنوات" وبعد مباركتهما له تمّ الزواج باحتفال كبير في منزل خاله الحاج (نمر حماد)، ومما يُذكر أن الأستاذ أكرم زعيتر(25) تزوج أيضا فيما بعد ابنة الحاج سعيد "زينة".


صداقة مثالية

وللتدليل على الصداقة المثالية، التي كانت تربط الشيخ عمر بالحاج سعيد، نذكر هذه القصة التي جرت بينهما، نقلا عن عمر عن أبيه عادل، حتى نظهر للقارئ والجيل الحاضر كيف كانت تقوم بين الناس صداقات حقيقية، ذات معان خلقية سامية، لا أثر للمادة بها .. كان الشيخ عمر زعيتر رئيسا لبلدية نابلس، مصاريفه كثيرة، والتزاماته بحكم عمله كبيرة، لذا كان لزاما عليه أن يعطي بعض أصدقائه من التجار نقودا كي يتاجروا له بها، فذات يوم مرّ على صديقه الحاج سعيد عبد المجيد (أبي حلمي) في مكتبه بالمصبنة (مصنع الصابون) وسلّمه صرّه من النقود، بها خمسون ليرة ذهبا (50 عثملية) كأمانة، وإذا سنحت الفرصة يتاجر له بها في زيت الزيتون، فأخذها الحاج سعيد برحابة صدر، ووضعها في خزانة الحديد الموجودة بجانبه، وللمصادفة لم يكن المحاسب موجودا تلك اللحظة، حتى يسجلها في الدفتر، لذا لم تُسجّل الأمانة، بعد قليل توادعا .. ونسي الحاج سعيد إبلاغ المحاسب تسجيلها ..بعد شهرين تقريبا اضطر الشيخ عمر للمبلغ، فمرّ على صديقه يطلب منه الأمانة، لكن الحاج سعيد كان قد نسيها نهائيا، وقال: أية أمانة، فأوضح له الشيخ عمر الأمر، لكن الحاج سعيد أيضا لم يتذكر، وفتح خزانة الحديد (ذات الأوراق والمستندات الكثيرة المبعثرة) فلم يرها، وقال لا توجد أية صرّة، عندها، وبسرعة خاطر قال الشيخ عمر (المحتاج للمبلغ) : آسف جدا أبا حلمي.. الآن تذكرت أنني سلمت الأمانة لصديق آخر، ولم يشعره إطلاقا بأية إشارة قد تكدّره.. وتمر الأيام والأشهر، وتبقى الصداقة بينهما كما كانت عليه، إلى أن يأتي يوم (جرد الموجودات) وإذا بالصرّة الأمانة موجودة .. فحملها الحاج سعيد مسرعا لمكتب الشيخ عمر معتذرا بشدة لما حصل، ويعاتبه كيف يقول له أنه لم يسلمه إياها بل سلمها لغيره، فأجابه الشيخ عمر: حاج سعيد، أنا متأكد من حسن النية، وأنك قد نسيت ذلك فعلا .. وهل المادة تؤثر على صداقتنا؟! إن صداقتنا أهم وأقوى من المادة .. وهكذا كان .. فعلا إنها ذات معان عظيمة .


المرأة العربية

كان عادل زعيتر يحترم المرأة، يجلها ويقدرها، ويعتبرها المصنع الأول لرجال، كما كان يدعو إلى مشاركتها في جميع مرافق الحياة البنّاءة، من ثقافية ووطنية وتربوية، وأن الكثير من نساء العالم كان لهنّ دور مهم في التاريخ .. ومن هذا الإحساس، أن قدرت له المرأة العربية هذا التوجه الحضاري، فترى الهيئات النسائية في الأردن أن تشارك في تخليد ذكراه.

ولنستمع إلى ما قالته عام 1958 المجاهدة السيّدة (عصام عبد الهادي) أمينة سرّ الاتحاد النسائي آنذاك، في مهرجان تأبينه .. إن المرأة العربية إذ تشترك بإحياء ذكرى العباقرة الأعلام، والمجاهدين الأبرار من الوطنيين من وطننا العربي، إنما تقوم بأداء واجب مقدس يفرضه الواجب، ويدعو إليه الوفاء نحو أولئك، الذين قضوا وهم يعملون لرفع شأن الأمة والوطن، وإنه لشرف عظيم لي، أن أمثل الهيئات النسائية، لتكريم ذكرى مكافح فذّ، ومناضل وهب حياته لبلاده، وعبقريّ قلما يجود الزمن بالعبقريين ـ حتى تقول ـ عرفناه أستاذا محاميا غزير المعرفة، جمّ الاطلاع، نقيّ اليد، عفّ اللسان، مثلا أعلى للنزاهة والإخلاص، يقصده المظلوم الملهوف، فيجد في رحابه الأمن والطمأنينة والسلام، وكان موئلا وملاذا للمتهمين السياسيين، والأحرار الثائرين في شتّى الانتفاضات الشعبية، والحركات الوطنية إبان الانتداب البريطاني البغيض، وله مواقف دفاعية في هذا المجال، انبثقت عن نفس مؤمنة بعروبتها، مؤمنة بوطنها، معروفة مشهودة، إلى أن تقول في النهاية :

ما مات من حازَ الثرى آثارَهُ واستولَتِ الدنيا على آثارِهِ

وسلام عليه في الخالدين.

بعض نصائحه

ورد فيما تقدم نص الرسالة "الوصية" التي بعث بها إلى ابنه عمر، في مستهل حياته العملية، ونذكر فيما يلي بعضا من نصائحه وما أكثرها،.. علّها تلقي بعض الضوء حول شخصيته.

• كان يتكلم الفصحى، يحرص على صحة لغته حديثا وكتابة، قال لابنه عمر وهو صغير لمّا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره: " ألاحظ أنك تلحن في كلامك!" أجابه وهو خَجِل من نفسه.. إذا حصل هذا فليس بيدي، وجلّ من لا يخطئ .. أجابه بحدّه " انتبه يا عمر، إذا حدث خطأ في كلامك، حدث خطأ في عقلك وشخصيتك". قال عمر: ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول تجنّب الحديث بالعاميّة قدر المستطاع.

• وقال: دخلت عليه صباح يوم في مكتبه وقلت " صباح الخير" فغضب عليّ وأنبني كثيرا وقال " حينما تدخل عند أبيك أو من في سنّه، يجب عليك القول .. السلام عليكم .. أما صباح الخير فتقولها للشباب من عمرك .. فهمت؟" قلت: فهمت . ومنذ ذلك الوقت وأنا ألزم نفسي بذلك.

• ذات يوم ذهبت في إجازة إلى نابلس، وحملت إلى أشقائي بعض الهدايا البسيطة، فاكفهرّ وجهه، وأخذ يعطيني محاضرة حول البخل والكرم، وخلص إلى القول " صحيح أن الهدية رمز، لكن يجب أن تكون لائقة ضمن الإمكانات، فالبخل يعتبر نقصا في الأخلاق، ويؤثر على شخصية الإنسان".

• وقال سنة 1955 فكّرت جديا بالزواج من فتاة أمريكية "تدرس في قسم الدراسات العليا بجامعة لندن" إذ تعرفت عليها عندما كنت ضابطا في الجيش الأردني، حين أتت إلى أريحا مع بعثة الجامعة، للتنقيب عن الآثار هناك .. وعندما فاتحت الوالد بالموضوع، أبدى معارضة شديدة لدرجة التهديد بالتبرؤ منّي، وحجته أن كيف تربي الأجنبية أبناءها التربية القومية الصحيحة؟ وللأم دور كبير في تنشئة الأبناء، وبهذه الحجة ثناني عن عزمي، واقتنعت بأنني مخطئ تماما.



وفاؤه

كان عادل زعيتر وفيّا لأصدقائه وأصدقاء أبيه وفاءه لأمته، وكان يحيط أصدقاء أبيه الإجلال البنويّ، وكان يرى من البرّ بأمته، ومن الوفاء لأبيه، أن يزور مقبرة الشهداء كلما زار بيروت، وأن يتلو خاشعا فاتحة الكتاب لأرواحهم، وروح الشهيد سليم الأحمد عبد الهادي (26) الصديق الأول لأبيه، ناقما على جمال باشا السفّاح الذي أمر بإعدامهم الحياة، آسفا ألا تقدرهم أمتهم كما ينبغي أن يُقدّر الأولون، ولبيان العلاقة المتينة، التي كانت تقوم بين والده المرحوم، الشيخ عمر، والشهيد سليم؛ فإن الشيخ عمر عندما استلم رئاسة بلدية نابلس، ذهب وصديقه الوطني الكبير، سليم الأحمد إلى الجامع، ووضعا يديهما على القرآن الكريم، وأقسما على قمع الغشّ والفساد ومحاربة الرِّشوة، وأشهدا الله على ذلك.

ـ نعود إلى زيارة عادل زعيتر لمقبرة الشهداء ـ ففي أول زيارة لها، أخذ يبحث عن قبر الشهيد سليم عبد الهادي، فلم يجده مبنيا، فأرسل تحريرا إلى صديق عمره وزميله في باريس، الأستاذ عوني عبد الهادي (7) يحثّه فيه على بناء ضريح، فأرسل تحريرا آخر، يحثّه فيه على ضرورة إنجاز البناء، وللحقيقة أن عوني بك لم يتوانَ في ذلك، لكن الفرصة لم تسنح له بعد ذلك بزيارة بيروت، فأرسل إلى صديقه الأستاذ أكرم زعيتر يكلفه ببناء الضريح، ويرجوه لفت نظر شقيقه عادل، إلى عدم إرسال تحارير أخرى، لأنها تثير أشجان زوجته السيدة "طرب" فتأخذ في البكاء الشديد. وبالفعل اتصل الأستاذ أكرم برئيس بلدية بيروت آنذاك "عادل بك الصلح" يحثه على بناء ضريح الشهيد سليم بما يناسب منزلته. وعلى الأثر استصدر عادل بك قرارا من المجلس البلدي بتشييد الضريح، وإصلاح المقبرة على نفقة البلدية، بما يتناسب وجلال تضحياتهم.



عوني عبد الهادي

وما دمنا بصدد صديقه المجاهد الأستاذ عوني عبد الهادي، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنه هو الذي نعاه يوم وفاته إلى الصحافة المصرية.. كما أرسل برقية تعزية قال فيها ".. ما عسايَ أقول في علامتنا الفذّ، ووطَنِيّنَا المجاهد الكبير فخر العروبة؟ وإذا جاز الإجمال قلت : أديبنا الكبير من الخالدين، الذين هم جمال الكون حينا بعد حين". كما نذكر باختصار هذه الحادثة التي وقعت بين عادل زعيتر وزوجة (عوني بك) السيدة "طرب" حيث كانت ذات يوم في زيارة لأسرة عادل في منزله في نابلس، وأثناء الحديث احتدم نقاش بينها وبينه فالتفتت إليه قائلة "أبا عمر" لماذا ترفع صوتك عليّ وبأي حق يجوز لك ذلك؟!!" أجابها على الفور " أم مازن .. بكل تأكيد يحق لي ذلك، ألا تعلمين أنك ابنة الشهيد سليم الأحمد عبد الهادي، وزوجة عوني عبد الهادي" هنا أخذت في البكاء وهي تردد .. يحق لك أبا عمر، يحق لك هذا وأكثر من هذا! ما من شكّ أن هذه القصة تنمّ عن الصلات الشريفة، والعلاقات المثالية التي كانت تربط الناس فيما بينهم، والتي يندر وجودها في هذا الزمن.

• وحول الوفاء يقول الشاعر الأستاذ عادل الغضبان (28) في جزء من مرثيته لعادل زعيتر:

مضى الموت بالخِِِلِّ الوَفِيِّ فَلُوّعَت بنار الشّجَى خِلانُهُ ومعاشِرُه

بكوا صاحبا لم يُخلِفِ العمرَ عهدَه ولا عَرَفَت إلا الوفاءَ سرائرُه



اعتزازه بنفسه

• يقول شقيقه الأستاذ أكرم في ذكرياته عنه " كان يعتز بنفسه أقصى حدود الاعتزاز، وقد لقيه الأستاذ إميل البستاني في طائرة من بيروت إلى القاهرة، وكان يجلس إلى جانبه فسأله: هو أنت أخو أكرم زعيتر؟ فأجابه: كلا إن أكرم زعيتر أخو عادل زعيتر، وهو يعرَّف بي ولا أعرَّف به .. ثم تبادلا الدعابة والأحاديث المستملحة"!

• في عام 1951 دُعي من قبل وزير الدفاع الأردني لحضور استعراض للجيش يقام في عمّان .. وقد تألم لما اعتبره تجاهلا لمكانته العلمية، فأرسل إلى وزير الدفاع رسالة اعتذار(29) مؤرخة في 7 /4/ 1951 هذا نصها " شكرا لحضرة وزير الدفاع دعوتي لحضور استعراض الجيش في 11 نيسان سنة 1951، وذلك وفق البطاقة البيضاء (الصف J، والمقعد 33 )، فبما أنني لا أستطيع الحضور، رأيت أن أقدّم اعتذاري، فلعلّ غيري يشغل المقعد المذكور.. وختاما أقدم وافر الاحترام ـ عادل زعيتر".

• يقول الأستاذ وديع فلسطين(30) في مقال نشرته مجلة الرسالة "بيروت" يناير 1958 تحت عنوان، كان جامعا ومجمعا: " وكان عادل زعيتر عازفا عن الدنيا، منطويا على نفسه في تواضع حبيب، ولكنه كان معتزا بذاته وبكرامته إلى أبعد الحدود. وكان بعيدا عن الأضواء، يهرب من مناسبات التكريم، ويمجّ عبارات المديح الجوفاء، ولكنه كان في قرارة نفسه، يشعر بأن أهله ومواطنيه والعرب أجمعين، لا يقدرون له كفاحه الدؤوب في سبيل رفعة الضاد والثقافة العربية ـ إلى أن يقول ـ وصفته ذات مرّة بأنه الأديب النابلسيّ" فثار غضبا، وأردت تصحيح ما وقعت فيه من خطأ؛ فقلت عنه إنه "الأديب الفلسطيني" فهاج وماج وأرعد وأزبد وقال لي "إنني أديب عربيّ" نعم، لقد كان عادل زعيتر أديبا عربيا عرقا ونبتا، وثقافة وعقيدة ومنهاجا، ورسالة وقلما ووجدانا، ومثله في هذا شقيقه أكرم زعيتر، الخطيب المُفَوّه، والداعية المبرّز، والمحامي المِدره في الدفاع عن حقوق العرب السليبة.

أحكام جائرة

بتاريخ 23/ 10/ 1936 أجازت محكمة الاستئناف العليا برئاسة القاضي كوبلاند، حكم الإعدام على السيدين الوطنيين عادل فتح الله المصري ومحمد يوسف الحاج أسعد، المتهمين بإطلاق النار على الجند البريطانيين؛ فهتفا "نحن فداء الوطن" فأُرسِلَت الهيئات تطلب من المندوب السامي البريطاني تخفيض الحكم، فرفض وأصرّ على التنفيذ، وصدّقه بتاريخ 11 نوفمبر رغم كل المحاولات التي بُذِلت، وتقرر شنقهما بتاريخ 17 نوفمبر وكان شهر رمضان، فثار عادل زعيتر غضبا، واتصل بالصحف، وأملى عليها البيان التالي "ألفت نظر السلطة ومحامي السيدين عادل المصري ورفيقه محمد الحاج أسعد إلى المادة 22 من قانون الجزاء العثماني، التي لا تزال معمولا بها في فلسطين، وهي تنص على أن عقوبة الإعدام لا تُنفذ في الأيام المخصصة بدين المحكوم عليه ومذهبه، وبما أن شهر رمضان المبارك هو من الأيام المخصصة بدين السيدين المذكورين، فإن تنفيذ الحكم الصادر بحقهما مخالف للقانون بما يوجب على السلطة أن تتجنبه، وعلى وكيل الدفاع أن يلفت نظر السلطة إليه، أو يرفع قضية مستعجلة لدى محكمة العدل العليا بهذا الشأن" . وفي صباح يوم 14/ 11/ 36 صدرت الجرائد الصباحية وفيها البيان، وفي اليوم التالي قرر المندوب السامي، تأجيل تنفيذ الحكم إلى أجل غير مسمى ..ومما يتعلق بذات الموضوع، فإن الشيخين عبد الله الجزار "مفتي عكا" وأسعد الشقيري، قد أبرقا إلى أحد المسؤولين العرب، حول تصديق المندوب بالموت على هذين الشابين بالبرقية التالية: " يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرُّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين" فردّ عليهما بالآية التالية برقيا : إلى حضرات أصحاب السماحة "من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" ثم قال ومن لم يحن أجلُه سينتظر أجلَه الموعود" على كل حال سيسجل التاريخ لفلسطين بطولات أبنائها، ولبريطانيا "العظمة" جرائمها.

بعض رسائله (32)

نورد فيما يلي جزءا من رسالتين متبادلتين بينه وبين شقيقه الأستاذ أكرم زعيتر تتعلقان بالقضايا العربية ورأيه فيها:ـ

• كتب الأستاذ أكرم مقالة بعنوان "مصطفى كمال وإسكندرون ـ عبد العزيز وفلسطين" فقرأها أخوه وكتب بتاريخ 29/ 8/ 1938 تحريرا إلى شقيقه يقول فيه "..فالحقيقة أنها ممتعة، والفائدة في الإكثار من طَرق مثل هذه المواضيع، مع السعي إلى إيصالها إلى الملك عبد العزيز، ولكن علاقة إسكندرون أيضا بالملك عبد العزيز كعلاقته بفلسطين من حيث المثل الأعلى العربي المطلق، وهو المتاخم ملكه لسورية ولشرق الأردن والعقبة، وهي أهم نقطة دفاع للبلدان العربية والاتحاد العربي المقبل" .

• سنة 1938 أخذت الفوضى تدبّ بين صفوف الثائرين على قوات الاحتلال البريطاني، وكان أكرم يعمل موجّها قوميا في العراق، والرسائل بينه وبين شقيقه عادل كثيرة، خاصة ما يتعلق منها بفلسطين وشؤون الثورة، وقد أبلغه في إحداها ضيقه الشديد من الفوضى بين فصائل الثائرين، فأجابه أكرم بقوله "ربما كانت معالجة بعض الفوضى بحضور عناصر جديدة إلى فلسطين لدرس الحال وإبداء المشورة في كيفية القضاء على الفوضى ..." فأجابه برسالة قال في بعضها " ..إن المسألة لا تعالج بالمسكنات، والفوضى بعد السكون قد تعود إلى أشدّ مما كانت عليه، فلا بدّ إذا من المعالجة الأساسية الجذرية التي تقتلع جذور الداء. وهذا لا يكون إلا بتوحيد القيادة وجمعها في قبضة قائد قدير ذي حنكة، عالم، بصير، محيط بجميع أطراف المسألة، لا يُرَدّ له قول، فإذا قال قولا أجابه الكلّ بالسمع والطاعة، وإذا كان لديكم رجل جامع لهذه الصفات فأهلا وسهلا، ولو كان من العراق أو من سورية أو من الهند والسند، حينئذ تتوجه الجهود نحو الغاية السامية، ولا تتجاوز نطاقها وتنحصر في دائرة عملها ـ إلى أن يقول ـ إن المسألة لا تحتاج إلى تسويف، فليحضر القائد المسموع الكلمة، الموحّد للمجهودات، الموطن لنفسه على أن يفنى قبل أن يُمَسّ العمل القومي بسوء ..الخ" . ويقول أكرم في يومياته "قرأت هذا الكتاب كثيرا. ما أظن أن أحدا ممن عرفت تتوافر فيه الصفات المطلوبة !".


نكبة فلسطين

كان عادل زعيتر صريحا واضحا، وصلبا إلى أبعد الحدود فيما يتعلق بمصير الأمة ومستقبلها، ففي مذكرة أعدها على أثر وقوع نكبة فلسطين يوجز فيها أسباب النكبة، وواجب الأمة إزاءها، فدعا إلى بيته في نابلس بتاريخ 5/11/1948 نخبة من رجالات اللواء للاطلاع عليها، فأقروها ورفعوها إلى رؤساء الوزارات المصرية والعراقية والسورية واللبنانية والأردنية ووزير خارجية السعودية وأمين سرّ الجامعة العربية ورئيس وفد اليمن لدى الجامعة وإلى عموم رؤساء المجالس النيابية في الدول العربية ورئيس مجلس الشيوخ المصري ورئيس مجلس الأعيان العراقي، وقد وقّع عليها عدا عادل زعيتر السادة سليمان طوقان، فريد عنبتاوي، حكمة المصري، هاشم الجيوسي، عبد الحميد السائح، الدكتور مصطفى بشناق، فائق عنبتاوي، حلمي العبوشي، فضل الطاهر. ولضيق المكان أكتفي بذكر فقرة واحدة منها: "...ويظهر أن العوامل الإقليمية تحتل المكان الأول لدى طائفة الدول العربية، فلا ترى هذه الدول أن تتخذ أي تدبير حازم تجاه ما للدول الأجنبية التي تؤازر اليهود من المصالح الاقتصادية في بلاد العرب، وإن كانت تلوّح في الحين بعد الحين بتهديدات لا تجوز حتى على الولدان، والعرب قد بلغوا من الخور في الانتصار لقضيتهم الكبرى، ما صاروا يطالبون مجلس الأمن بالانتصاف لهم من اليهود ودرء اعتداء هؤلاء عنهم !! .. "



الوحدة العربية

ومن حديث لعادل زعيتر في مجلة العالم العربي التي كانت تصدر في القاهرة آنذاك؛ يقول فيه " ...إن الدور الذي تمثله الأمة على مسرح التاريخ، إنما يكون بنسبة قوة المثل العليا التي تخالطها، فإذا كان مثل الأمة الأعلى ضعيفا أو مفقودا، فإن هذه الأمة تفسح لغيرها مجالا للسيادة عليها، لا سيّما الأمم صاحبة المثل الأعلى. وإني أرى أن يكون المثل الأعلى للعرب في مختلف أقطارهم هو الإيمان بالوحدة العربية، ومثل هذا الإيمان لكي يكمُل، على العرب أن يستعدوا لأداء ما يتطلبه من بذل وتضحية تناسب جلاله وأهميته، فإذا اعتنقت الأمة العربية هذا المثل الأعلى ولم تتخلَّ عنه، فلن يذهب جهدها سدى، بل يظل مثلها الأعلى المنارة التي تهديهم .."

الجامعة العربية

عند إنشاء الجامعة العربية وتوقيع ميثاقها، أخذ البعض يتهكم عليها، ويغمز من قناتها، باعتبار بريطانيا وراء قيامها، مشيرا إلى تصريح وزير خارجيتها في مجلس العموم البريطاني في 24 شباط 1943 بأن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى قيام وحدة عربية اقتصادية أو ثقافية أو سياسية؛ فنشر عادل زعيتر مقالا في جريدة فلسطين "يافا" يبين رأيه في الميثاق واعتراض البعض عليه. جاء في جزء منه "...إن ميثاق جامعة الدول العربية هو مقدمة لميثاق الوحدة في المستقبل، وإن شئت فقل الخطوة المباركة الأولى، في سبيل جهاد العرب لتحقيق وحدتهم، وبالشعوب لا بالحكومات تتم الوحدات، والسيل إذا طغى لم يقف أمامه حائل، ولا يجزعَنَّ العربي من أن الأجنبي هو الذي حفّزه إلى تلك الخطوة المباركة، ما دام هو العربي مستعدا لتحقيق هدفه الأسمى، ولا يخافّنّ العربي من رجوع الأجنبي عمّا أحبه له، فالوحدة العربية إذا تمت، وأراد الأجنبي أن يصرف العربي عنها، حدث مثلما وقع بين فانوس وتاييس(34) كما قصّه أناتول فرانس ..."

حديث مع فائزة عبد المجيد

كان من أسعد أوقات راحته على قلتها، تلك التي يزوره فيها مثقف مطلع، يتذوق العلم والأدب، وكان منهم الأديبة المعروفة الآنسة فائزة عبد المجيد(35) ففي مقال لها نشرته جريدة الدفاع "القدس" بتاريخ 13 ديسمبر 1957 تحت عنوان "عادل زعيتر ..ظاهرة قومية خالدة" أجتزئ منه ما يتعلق برأي عادل زعيتر في الأمة العربية إثر نكبتها في فلسطين، تقول: الإيمان والمشاعر هي عماد الشعوب في حركاتها التحررية، فتحت ظلال الإيمان والعاطفة الوطنية العميقة تسير الشعوب، وكانت هذه عقيدته. جئت أسأله ـ والكلام لا يزال لفائزة عبد المجيد ـ إثر نكبة فلسطين عن الأمة العربية وهل هي فعلا "أمة" وهي التي تُمتَحن بكرامتها وتُهَدّدُ بوجودها؟ فأجاب في ألم بالغ : "وددت لو أعفيتِني من سؤالك.. ألا لو كان العرب اليوم أمة لها مقومات الأمم الحية، من إيمان وعاطفة وروح جامعة، إذا لانصهرت خلافاتهم وتوحدت صفوفهم، ولو وُجدت الأمة العربية ذات الشعوب الواعية، لزُلزِلَت لكارثة فلسطين... وفرضت مشيئتها، لقد كان في كارثة الأندلس محو حضارة وتاريخ، ولكن في نكبة فلسطين تهديد كيان لأمة بأكملها .. إنه لن يكون خلاص لهذه الأمة، إلا بجيل جديد يجهر بالحق، ويضحي بالمناصب والمظاهر في سبيلها، ويحمل آمالها وتبعاتها" ـ وتتابع الأديبة فائزة القول: وحلت الكارثة في الوطن، وسقطت الراية العربية عن مدنه العامرة وسبعمائة قرية، فإذا هو يشتعل حزنا، ويهب يوم معاهدة رودس، فيدعو إلى عقد اجتماع في بيته، كان منه تلك الوثيقة التاريخية التي وضعها بقلمه بالاشتراك مع زعماء ووجهاء المثلث. وهذا هو "عادل زعيتر" يوم يشهد جموع اللاجئين تتجاوب أطراف الأرض والسماء بظُلاماتهم وصرخاتهم يهيب بالمرأة وبكل فرد للجهاد، ويردد، ونفسه تتقطع حسرات، في القادة المستسلمين "إنهم لا أيمان لهم!" .."قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" .


درس في الأخلاق

يقول ابنه عمر: ذات يوم استدعاني وشقيقي وائل إلى مكتبه،وكنا يافعين، وسلمنا ورقة كتبها، وطلب منا استنساخها كل على حدة، مع تشكيلها وعرضها عليه، وكانت في معظمها تدور حول الأخلاق، أذكر منها ما قاله المتنبي:

وما الحسنُ في وجه الفتى شرفا له إذا لم يكن في فعله والخلائقِ

وقول عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه فإن القرين بالمقارن يقتدي

وقول السموأل:

إذا المرء لم يُدَنّس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

وقول شوقي:

إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا

كذلك ..

وليس بعامرٍ بُنيانُ قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا

وأيضا .

وإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

بعد أن نفذنا رغبته توجهنا إليه، فاطلع عليها، وصحح لنا بعض الأخطاء في التشكيل "وللأمانة كانت الأخطاء في إجابتي أكثر قليلا ، مما في تشكيلات إجابة وائل .. طلب منا حفظها وأعطانا مهلة ساعتين، ومن يلقيها أمامه بشكل جيد دون خطأ فله مكافأة، وبالفعل عدنا إليه وألقيناها فنجحنا بالامتحان، ووعدني بكرة قدم، حيث كنت أعشق الرياضة، أما وائل فكافأه بسمفونية لبتهوفن، حيث كان يعشق الموسيقى. في اليوم التالي استدعانا و طلب منا الأصعب وهو "إعراب" تلك الأبيات، وأمهلنا يوما كاملا! ..وللحقيقة أخفقنا في الامتحان، فأخذ يوجهنا إلى ضرورة الاهتمام والتركيز على القواعد العربية والشعر الجيد، وأن الشعر الجاهلي هو أحد مقومات التراث العربي .. ومن بعض أبيات الشعر التي وُجدت ضمن أوراقه، حيث تدلنا على ما كان يشعر به ويؤلمه من جحود الأمة نحوه، قول المتنبي:

لمّا وَزَنتَ بك الدنيا رَجَحتَ بها وبالورى قلّ عندي كثرةُ العدََدِ

وقوله كذلك :

قطّعتَهم حسدا أراهم ما بهم فتقطعوا حسدا لمن لا يحسد

وكثيرا ما سمعته يردد قول المتنبي :

أنا في الله أمةٍ تداركها الله غريب كصالح في ثمود (36)

وتراه حينا يعزّي نفسه ويردد في تواضع شديد قول الشافعي :

كلما أدبني الدهر أراني ضعف عقلي

وإذا ما ازددتُ علما زادني علما بجهلي


بينه وبين زوجته



كان عادل زعيتر يعيش بنابلس في بيت جميل كثير الأعمدة، يعتز كونه بناه على الطراز العربي الأندلسي، وكانت زوجته "ميسون" أم عمر تماحكه بين الحين والآخر، فتردد أمامه ما كانت تردد سميّتها "ميسون البحدلية" أمام زوجها معاوية بن أبي سفيان:

لَبيت تخفق الأرياح فيه أحب إليّ من قصر منيف

ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إليّ من لبس الشفوف

فيجيبها ضاحكا ومماحكا وهي الشهيرة بإعداد الطعام المتقن :

وأكل كُسَيرة في كِسرِ بيتي أحب إليّ من أكل الرغيف

ذكريات أكرم زعيتر

يقول شقيقه المؤرخ الأستاذ أكرم، وما أكثر ذكرياته عنه " ... كان عادل يطرب للشعر الرائع .. وقد يحفظه غيبا، وهو يُكبِر المتنبي، ومما حفظه غيبا قصيدة "البردة" للبوصيري، وما أكثر ما تغنّى بأبياتها، وكان يؤثرها على معارضة شوقي لها، مع بالغ إعجابه بشوقي، وقد جادلته ذات مرة في هذا، فراح يوازن بين القصيدتين، ولمّا وصل إلى قول البوصيري في وصف الصحابة :

كأنهم في ظهور الخيل نَبتُ رُبىً من شدّة الحَزم لا من شدّة الحُزُم

قال: هذا البيت وحده يعدل قصيدة رائعة! ومما حفظه في مستهل شبابه، قصيدة رثاء الأندلس المنسوبة إلى أبي البقاء صالح الرُّندي ومطلعها :

لكل شيء إذا ما تمّ نقصان فلا يُغَرّ بطيب العيش إنسان

وعمرية حافظ إبراهيم ومطلعها:

وحسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الفاروق أهديها

يقول ابنه عمر: وقد أغراني بمكافأة كي أحفظها، وأنا لا أزال طالبا في الابتدائية ففعلت، وما أكثر ما سمعته يردد قول الإمام الغزالي :

غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكَسَّرتُ مِغزَلي

ولست أنسى انه كان يردد في مرضه الأخير :

وإن تسأل الأيامَ عني ما درت وأين مكاني ما عَرَفنَ مكانيا


مهرجان ابن سينا (37)

ويستطرد الأستاذ أكرم قائلا " وجئته يوما وقد ركم أمامه عشرات المؤلفات بالعربية وغيرها عن الفيلسوف ابن سينا ويغوص فيها باحثا، دارسا، منقبا، وحدث أن كان يُقام في ذلك الحين المهرجان الألفي لابن سينا في بغداد، ودُعي إليه كثيرون من الأقطار العربية، وأُغفلت دعوة عادل، وقلت له في تعليل ذلك: إن عزوفك عن الشهرة، وزهدك في الإعلان، هما سرّ ما ترى، فسخر بهذه الحجة ثم قال: إن الجواب تجده عند ابن سينا نفسه في قوله:

لما عَظُمتُ فليس مصرٌ واسعي لما غلا ثمني عدمتُ المشتري

ولم تمض أيام قليلة حتى جاءت جريدة "لواء الاستقلال" العراقية، تحمل مقالا للأستاذ "فائق السامرّائي" يندد فيه بالقائمين على الاحتفال، لأمور جعل في مقدمتها، إغفال دعوة عادل زعيتر إغفالا هو منقصة للاحتفال، واطلع عادل على الكلمة، فرآها أكرم من الدعوة وقال " ربّ كلمة يقولها مفضال، خير من ألف وسام ووسام" .


شعراء الترك

ويضيف الأستاذ أكرم " وعادل واسع الاطلاع على الآداب التركية، وله في شعرائها وكتّابها آراء، وكثيرا ما كان يفاضل بينهم، فيضع الشاعر التركي الأعظم "عبد الحق حامد" في الذروة، وأذكر انه كان يتحسر على فقدان ديوان الشاعر التركي "توفيق فكرة" واسمه "رباب شكسته" أي القيثارة المحطمة، وفي الديوان قصيدة رائعة بعنوان "سيس" (38) أي الضباب، وكان عادل مفتونا بها يردد كثيرا من أبياتها، حتى إذا علم أن السري العراقي محمود صبحي الدفتري، ضليع في الآداب التركية، بعث إليه يرجوه بأن يتحفه بصورة عنها، فأرسلها إليه مصحوبة بأخرى لتوفيق فكرت عنوانها "رجوع". والقصيدة الأولى يتحدث فيها الشاعر عن الآستانة المتوارية وراء ضباب من الشرور في العهد الاستبدادي، وكان عادل يرجو أن يترجمها إلى العربية، وكنت أحدث الأستاذ محمد الشريقي في هذا، فسمعته يتلوها غيبا في نشوة غامرة، وقال لي أنه ترجمها في مطلع صباه، ولكنه يرجو أن يترجمها ثانية ليطلع عليها أبناء العربية، ولعله يقدّمها إلى روح صديقه عادل زعيتر" .


تركه المحاماة

على أثر إجهاض الثورات والانتفاضات التي قامت ضد الانتداب البريطاني، ووعد بلفور المشؤوم، والهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتنكيل الإجرامي بالعرب أصحاب البلاد ... دون نجدة حقيقية مخلصة من الدول العربية "الشقيقة"، وجد عادل زعيتر أن السبب الرئيسي لبدء انحسار راية العرب هما "التخلف" و "التشرذم" ! وأن طريق الأمة الوحيد لإيقاف هذا التدهور والنهوض بنفسها لن يكون بغير "العلم" والإيمان بمثل أعلى هو "الوحدة العربية" . ومن هنا تجده يرسل رسالة إلى شقيقه الأستاذ أكرم مؤرخة في 19 فبراير يقول فيها "... بلغت التاسعة والأربعين من عمري، وأصبحت بذلك على أبواب الخمسين، ولا أدري ماذا بقي لي من العمر، ويكاد قلبي يتحرّق من أنني لم أقم بشيء تجاه أمتي مما تطمئن إليه نفسي في عالم العلم والسياسة، فترونني عازما على تطليق المحاماة، وسلوك السبيل الذي كتبت لك عنه في العمل الدؤوب لإنقاذ كرامة الأمة واستعادة مكانتها المرجوّة" .

ناسك المعبد الثقافي

وهكذا انقطع عادل زعيتر إلى العلم والأدب والسياسة المثالية، فاعتكف، وانكبّ على إكمال أضخم رسالة ثقافية يمكن لإنسان "فرد" أن يقدمها لأمته. علما أن هذا الاعتكاف لم يمنعه من المشاركة قدر المستطاع في السياسة، والدفاع بقوة عن حقوق الأمة القومية، فتجده حين حلت بالأمة العربية كارثة فلسطين، وقامت الهدن الروديسية، انبرى إلى إعداد المذكرات والبيانات السياسية داعيا إلى وحدة الصف الوطني والقومي، والوقوف بصلابة في وجه الكوارث، وكلما سأله سائل حول عزلته التي اختارها لنفسه، وانكبابه على نقل الفكر العالمي المبدع إلى العربية أجاب: أمتي بحاجة إلى العلم البنّاء الذي يخدمها ويخدم البشرية، واللحاق السريع بركب الحضارات التي سبقتها .. والأعمار قصيرة، فلا مجال لإضاعة الوقت فيما لا يجدي أو ينفع" . أما حول اعتكافه عن الناس وإحساسه بالجحود، فيردد قول الشاعر:

لما عَدِمتُ مؤانسا وجليسا ناديتُ بُقراطاً وجالينوسا(39)

وجعلتُ كتُبَهما شفاَ تَفَرُّدي وهما الشفاءُ لكل جرح يوسى

وما أوقع وأجمل ما وصفه به الأستاذ الأديب المعروف "وديع فلسطين" حول اعتكافه هذا قوله "عادل زعيتر .. راهب القلم والفكر، وناسك المعبد الثقافي" .

وقول الشاعر العربي الكبير الأستاذ محمد عبد الغني حسن (40) حول ذات المعنى في صديقه عادل زعيتر :

ينام الورى ملءَ العيون وأنت لا ترى النوم إلا ساهراً مترقبا

وتحمل منظاراً كأنك كاشف به ما اختفى خلف السطور وما اختبا

تصوغ معاني الخالدين بلاغة وتسكبها للضاد لحنا معرَّبا

كذلك قول الشاعر الكبير عادل الغضبان:

إذا سُمِعَت في هجعة الليل همسةٌ فوقّف مأخوذا على الدرب عابره

وهبّت نؤوم الطير من وَكَناتها ينافرها حلو الكرى وتنافره

تبيّنَ أن الصوت صوتُ يراعةٍ تمرّ بها فوق الطروس خناصره

تبارك من أهدى كريمَ يراعِهِِ إلى العرب كنزا لا تُعَدُّ ذخائره


الهوامش

1. ملخص لسيرة الفقيد عن "مجلة المجمع العلمي العربي" بدمشق مؤرخة في كانون الثاني 1958 وقد نعته بوصفه عضوا فيه .. وعن جريدة "الحياة" البيروتية المؤرخة في 10 كانون الأول 1957

2. جاء في رسالة بعث بها الفقيد إلى والده فور الاحتلال البريطاني لنابلس " ولكن القافلة التي كنت فيها ضلّت السبيل في البادية التي بين هاتين القبيلتين، فقدنا الماء، ولحقنا من العطش الشديد ما جعلنا مشرفين على الموت ولا أمل لنا في الحياة، ثم ذهب منا فارسان أحدهما إلى الشرق والآخر إلى الغرب، علهما يعثران على منبع ماء فتشفى غلتنا، وما هي إلا أربع ساعات حتى جاء الخبر بالاهتداء إلى بئر، فركعت لله ساجدا، وعددت نفسي خُلقت من جديد، وعزمت على وقفها على أمتي، وعاهدت الله على ذلك، ثم أقبلنا على الماء وارتوينا، ثم توجهنا نحو صاحب السمو الملكي، الأمير فيصل، قائد الجيوش العربية الشمالية بأبي اللسل".

3. كان من أركان الجمعية السورية العربية بباريس، وكان من زملائه في جامعة باريس السادة: عبد الله اليافي، حبيب أبو شهلا، محسن البرزي، محيي الدين النصولي، عمر الفاخوري، نجيب الأرمنازي، إحسان الشريف، راشد طبارة، عبد الله المشنوق، كمال عيتاني، جميل صليبا، جعفر الجزائري، موفق الألوسي، أنيس الصغير، عبد الحميد القشطيني، وغيرهم، وكان الشهيدان الدكتور صالح قنباز وعادل نكد والدكتور يوسف ميرز من أصدقائه الحميمين.

4. الحاج نمر حماد .. درس في إسطنبول والأزهر. كان مديرا لأوقاف نابلس، ومن ثم رئيسا لبلديتها، وعضوا في اللجنة التنفيذية لحزب الإصلاح الداعي إلى الفكر الوحدوي. له دراسات منشورة في الفقه الإسلامي توفي عام 1941.

5. الحاج توفيق حماد .. أحد رجالات الرعيل الأول في فلسطين، ولد في مدينة نابلس،وكان ذا شخصية قوية، فرضت زعامتها على أبناء جيله، انتُخِبَ رئيسا للبلدية من 1902 ـ 1908 فأنشأ المستشفى الوطني، انتخِبَ عضوا في الوفد الفلسطيني إلى لندن، كما انتُخب نائبا لرئيس المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عقد في جنيف عام 1921 ثم عضوا باللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي عام 1931 وتوفي عام 1934.

6. الشيخ عمر زعيتر ..عمل مدرسا بالمدرسة الرشيدية ثم عضوا في محكمة الحقوق بنابلس فعضوا في المجلس البلدي عام 1914 فممثلا لنابلس في المجلس العمومي لولاية بيروت سنة 1915 التي كانت نابلس تابعة لها. ثم رئيسا للجنة الأشغال "النافعة" والزراعة ثم عين رئيسا لبلدية نابلس عام 1917. كلفه الترك عام 1918 حال رحيلهم من المدينة بتأليف حكومة مؤقتة لإدارة شؤون المنطقة، وظلت الحكومة تمارس أعمالها إلى ما بعد دخول القوات البريطانية إلى فلسطين بشهر وعدة أيام. قام بإنشاء دار للأيتام ومدرسة العرفان. توفي عام 1924.

7. المجاهد صبحي الخضرا .. من رجالات الرعيل الأول في فلسطين، تخرج في الكلية العسكرية في الآستانة، التحق بالثورة العربية الكبرى وشارك في عدة معارك منها "أبو اللسل" حيث جرح، عُهدَ إليه بمديرية الأمن العام في بداية الحكم العربي الفيصلي بدمشق سنة 1918 واشترك في معركة ميسلون بقيادة المجاهد يوسف العظمة، درس في معهد الحقوق بالقدس، عمل محاميا مرموقا، واختير عضوا في اللجنة التنفيذية العربية برئاسة موسى كاظم باشا، فمديرا لمكتبها عام 1929 كما شارك في تأسيس حزب الاستقلال الذي كان يرأسه الأستاذ عوني عبد الهادي. توفي عام 1954.

8. عندما نفّذ جمال باشا السفاح حكمه بإعدام بعض أحرار العرب سنة 1915 كان من المفترض أن يكون معهم الوطني السيد حسن حماد، لكنه نجا بأعجوبة، إذ لم يستلم إشعار استدعائه للمحاكمة بسبب تأخر في إجراءات التبليغ، فلم يحضر الجلسة، فحُكِمَ عليه بالإعدام غيابيا، وحين وصله إشعار الاستدعاء، سافر للمثول أمام المحكمة العسكرية في عاليه، وصدفة جنحت العربة "الحنتور" التي كان يستقلها على جانب طريق عاليه، وفي طريقه إلى أحد الفنادق اشترى صحيفة وإذا به يفاجأ بخبر حكم الإعدام. فهرول بحقيبته إلى دمشق، حيث اختبأ في منزل السيد "أبو الخير الموقّع" حيث أطلق لحيته، وتزوج من ابنة الرجل الشجاع، وعاد سالما إلى نابلس بعد انتهاء الحرب.

9. بتاريخ 3 تشرين الأول 1918 ونتيجة لإحساس القوات التركية بالخطر البريطاني.. كلف متصرف لواء نابلس "فائق بك" وبكتاب رسمي رئيس البلدية الشيخ عمر زعيتر بتشكيل حكومة للمحافظة على حقوق الأهالي في المنطقة فشكلها على النحو التالي:

الحاج نمر حماد مدير تحريرات، ورئيس ديوان، الشيخ رشيد البيطار قاضيا شرعيا، الدكتور البشناق رئيسا للصحة، شاكر أفندي الجوهري رئيسا للمالية، شريف أفندي صبوح رئيسا للمعارف، الشيخ نمر الداري رئيسا للمحاكم النظامية، وفائق أفندي العنبتاوي، وزهدي أفندي العنبتاوي، وجميل أفندي كمال مديري أمن. بعد شهر وعدة أيام من مجيء الحاكم البريطاني، استلم العمل من الشيخ عمر الذي عاد لرئاسة المجلس البلدي.

10. الحاج أحمد حسن زعيتر.

11. السجيّة: مجموعة من مقومات عقلية وعاطفية وشخصية.

12. الدكتور غوستاف لوبون: فيلسوف فرنسي وعالم اجتماعي، يعتبر أكثر من أنصف العرب من علماء الغرب، نقل له المرحوم زعيتر اثني عشر مؤلفا، منها حضارة العرب، حضارات الهند، روح الجماعات، السنن النفسية لتطور الأمم، فلسفة التاريخ، روح التربية، الآراء والمعتقدات وحياة الحقائق، توفي عام 1934.

13. الأستاذ عبد الله المشنوق: من أعلام الأمة، تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت، درس الحقوق في جامعة باريس، ثم تولى إدارة كلية التربية والتعليم في بغداد، فإدارة كلية المقاصد الإسلامية في بيروت. أسس سنة 1962 جريدة المساء ورأس تحريرها، انتخب سنة 1960 نائبا عن بيروت، فوزيرا للبلديات ووزيرا للداخلية والأعلام، وله مؤلفات مهمة جمة في التربية وتاريخها وفلسفتها، توفي عام 1948.

14. أميل لودفيج: عالم ألماني اشتهر بما وضع من سير العظماء رجالا ونساء، وقد نقل له المرحوم زعيتر سبعة مؤلفات منها النيل، البحر المتوسط، بسمارك، نابليون، كليوباترة، توفي عام 1948.

15. المجاهد محمد علي الطاهر، أحد رجالات الرعيل الأول في فلسطين، وكنيته "أبو الحسن" صاحب ورئيس تحرير جريدة "الشورى" القاهرية، شهم وصلب في آرائه ومعتقداته. ناضل ضد الصهيونية والانتداب البريطاني، ولقي في سبيل ذلك السجن والنفي. اتخذ من القاهرة مقرا، حيث اعتبر المعتمد الأول للحركة الوطنية الفلسطينية فيها، وكان مكتبه يعج دوما برجالات الأدب والسياسة وقادة التحرر الوطني من المشرق العربي ومغربه. من مؤلفاته "نظرات الشورى" و "ظلام السجن" و "معتقل هاكستب" تربطه صلات بنوة بالشيخ عمر، وصداقة حميمة مع عادل وأكرم زعيتر، وكذلك صلات أبوية مع عمر عادل وشقيقه الشهيد وائل، توفي في بيروت سنة 1974 .

16. النشيد من نظم فضيلة الشيخ أحمد البسطامي.

17. سمي شارع باسمه في جبل اللويبدة بالعاصمة الأردنية .

18. عمر عادل زعيتر: لواء ركن متقاعد، درس في النجاح بنابلس، والفرندز برام الله، وحصل على الثانوية من مصر، والتحق ضابطا في الجيش الأردني عام 1951 ودرس في معاهده وكليته، كان آخرها كلية القيادة والأركان 1974 وتخرج في جامعة مؤتة. شارك كمتطوع بوحدات المغاوير في جيش الإنقاذ عام 48 وجرح في معركة مستعمرة "النقيب" على بحيرة طبريا، كما شارك في حرب67 على الجبهة المصرية في سيناء، وحرب 73 على الجبهة السورية في الجولان. أهم أوسِمته الواجب العسكري من الدرجة الأولى، والممتازة من أمير دولة الكويت، وسام الشجاعة من الرئيس جمال عبد الناصر، ووسام الشجاعة من الرئيس حافظ الأسد، عمل في الجيش الكويتي ثلاثين عاما، رأس عدة وفود عسكرية، أهمها إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا، كان آخر منصب له "قائد لسلاح المدفعية" تقاعد بناء على طلبه سنة 1986، وله دراسات عسكرية منشورة، ومقالات فكرية وسياسية.

19. الشهيد وائل زعيتر: مفكر ومناضل وأديب، أتقن الإنجليزية والإيطالية ونوعا ما الألمانية والأردو، عمل في الكويت والعراق وألمانيا وإيطاليا، أخيرا ممثلا لحركة فتح في إيطاليا. اغتالته الصهيونية في روما سنة 1972، صدر عنه كتاب بالإيطالية "إلى فلسطيني في ذكرى عادل زعيتر" وتُرجِمَ ونُشِرَ بالإنجليزية، أهم أصدقائه الكاتب العالمي ألبرتو مورافيا الذي رثاه بحرقة.

20. نائلة زعيتر: درست الثانوية في نابلس ودار المعلمات برام الله، وحصلت على الدب الإنجليزي من جامعة القاهرة، والماجستير من جامعة لندن، وتدرّس حاليا في جامعة النجاح بنابلس.

21. وضّاح زعيتر: مهندس مدني، درس في نابلس والكويت، وحصل على البكالوريوس والماجستير من جامعة "دار مشتات" بألمانيا الغربية، وعمل 12 عاما مع شركة "هوكتيف" عام 1972 أبعدته السلطات الألمانية تعسفا لنشاطاته الوطنية، ثم كسب قضية ضدها وعاد إلى عمله هناك، يعمل حاليا في السعودية.

22. سلمى زعيتر: حصلت على الثانوية العامة من نابلس، وبكالوريوس علم الاجتماع من الجامعة الأردنية، متزوجة تسكن حاليا في دبي.

23. الشهيد عبد الرحيم محمود: شاعر مناضل وأديب، شارك في ثورة 1936، ولجأ بعدها إلى العراق، ودرس وتخرج في الكلية العسكرية عام 41، شارك في ثورة رشيد عالي، وعاد بعدها إلى فلسطين ليعمل مدرسا في النجاح بنابلس، عمل سنة 48 ضابطا في جيش الإنقاذ، واستشهد في معركة "الشجرة" قرب الناصرة، من آثاره قصائد شعرية تدل على روح وطنية متوقدة، ومن أهم شعره الذي يدور على الألسنة قوله:

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا

24. أناتول فرانس: كاتب فرنسي كبير وروائي عظيم، كان عادل زعيتر يزوره في آخر سني حياته، وقد أعجب بعلمه وثقافته أيما إعجاب، مُنحَ جائزة نوبل في الأدب عام 1921.

25. المؤرخ المجاهد أكرم زعيتر: مجاهد كبير ومؤرخ موثوق وخطيب مفوّه، وحدويّ وأحد قادة النضال الوطني ضد الاستعمار والصهيونية، اعتقل وسجن وأبعد عن دياره أربعة عشر عاما، اشترك في معظم المؤتمرات الوطنية والإسلامية المناصرة لفلسطين، بالإضافة إلى شهاداته العلمية، تتلمذ على يد عادل زعيتر والنشاشيبي والسكاكيني، ورشيد رضا و شكيب أرسلان، وله مؤلفات عدة أهمها، القضية الفلسطينية، وثائق الحركة الفلسطينية، الحركة الوطنية الفلسطينية بواكير النضال، من أجل أمتي، بدوي الجبل و إخاء أربعين عاما، ولد في نابلس سنة 1909 وتوفي ـ رحمه الله ـ في عمان 1996، وستصدر هيئة الموسوعة التربوية كتابا خاصا يتضمن سيرته وآثاره.

26. الشهيد سليم الأحمد عبد الهادي: من رجالات فلسطين المناضلين، وواحد من الشهداء الذين أعدمهم جمال السفاح، اختارته اللجنة العليا لحزب اللامركزية في القاهرة معتمدا لها في جنين وحيفا، فأسس لها مكاتب في كلا المدينتين، ونشط في الدعوة لمبادئها، ولهذا سجن في عاليه عشرين يوما اقتاده الترك بعدها أي في 2/8/ 1915 إلى دائرة الشرطة ببيروت حيث أُعدم ، اشتهر بوطنيته ومروءته ورباطة جأشه، وسجل تلك اللحظة وصيته المشهورة التي يقول في بعضها " ...إني أكتب هذه قبل موتي بنصف ساعة، أكتب هذه وأحد رفاقي المحكومين معي، محمد المحمصاني، أُخذ (ليصلب) وإني مسرور بلقاء الله سبحانه وتعالى" وبعد أن يقيم عمّه حافظ باشا وصيا على طفلته طرب، وكان عمرها أربع سنوات، وعلى زوجته يقول " .. ليصرف عمي وولي نعمتي حافظ باشا من مالي الخاص ثلاثين ألف قرش، منها خمسة آلاف إلى الفقراء والمحتاجين، وعشرون ألفا يشتري بها قطعة ملك توقف على المعارف، ويصرف ريعها على تعليم أبناء المستقبل ـ إلى أن يقول ـ كتبت هذه بقلم حديد، ومن التدقيق بالخط يعلم أنه كتب جيدا، مما يدل أنني أستقبل الموت بصدر رحب، ذلك لأنني خرجت من هذه الدنيا ناصع الجبين طاهر الذيل، مسلما مؤمنا بالله واليوم الآخر. " وبعد إعدامه نقلت جثته وجثث إخوانه عبد الكريم الخليل ومحمد ومحمود المحمصاني وصالح حيدر و عبد القادر الخرسا ونور الدين.

27. عوني عبد الهادي: مجاهد كبير، وأحد رجالات العرب البارزين الذين ناضلوا ضد الاستعمار والصهيونية فاعتقل عدة مرات، درس في نابلس واسطنبول، وتخرج في السوربون بباريس، وشارك هناك في تأسيس جمعية العربية الفتاة، لمع في المحاماة وفي الدفاع عن القضايا العربية، فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام غيابيا، شارك في معظم الوفود الفلسطينية إلى الخارج، وفي عام 1932 عمل مع آخرين على إعادة تشكيل حزب الاستقلال، وقد انتُخبَ عميدا له. عام 1948 وقّع على ميثاق حكومة عموم فلسطين، وكان أحد أعضائها، لكنه استقال بعد فترة وجيزة. آخر عمل له نشر في جريدة الفجر الجديد "بغداد" العدد 862 تاريخ 26 تشرين الثاني 1964

28. عادل الغضبان: أديب عربي وشاعر كبير، كان مديرا عاما لدار المعارف بمصر ورئيسا لتحرير مجلة "الكاتب" الأدبية الشهيرة. توفي أوائل الثمانينات.

29. الرسالة منشورة بالزنكفراف ص 245 "الجزء الثالث" من قاموس تراجم الأعلام لأشهر الرجال والنساء العرب ـ تأليف خير الدين الزركلي.

30. وديع فلسطين: أديب عربي وأستاذ علم الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كان رئسا لتحرير جريدة المُقطّم المصرية، وحاليا المشرف على موسوعة تاريخ الصحافة العربية.

31. المرجع: الحركة الوطنية الفلسطينية /يوميات أكرم زعيتر

32. المصدر نفسه

33. المرجع: كتاب ذكرى عادل زعيتر

34. كان بافنوس تقيأ وكانت تاييس بغيّا، فاهتدت تاييس بمواعظ بافنوس، فأصبحت قدّيسة، ثم أراد بافنوس أن يصرف تاييس عن تقواها لنفسه فلم يقدر على ذلك.

35. الآنسة فائزة عبد المجيد: أديبة وكاتبة معروفة، كرست نفسها لخدمة القضية والدفاع عن المعتقلين السياسيين. لها نشاط كبير في الحقل النسائي الوطني الفلسطيني والعمل الخيري، لها مؤلفات أهمها المرأة في ميادين الكفاح، الليل والفجر العظيم، الطفولة الفلسطينية في الميدان، توفيت 1996.

36. تداركها الله: بمعنى أصلح الله حالها.

37. نقل عادل زعيتر إلى العربية ككتاب ابن سينا للعالم الفيلسوف كرادفو.

38. يقول ابنه عمر: كثيرا ما كنت أسمع الوالد يردد هذا البيت، وأعتقد انه من نفس القصيدة " أنكوسوسوز ديشماندر لوسيز كوتمايز .. كوتمايز" مع الاعتذار عن التهجئة إذ أنني لا اعرف التركية.

39. جالينوس: طبيب وحكيم روماني

40. الأستاذ محمد عبد الغني حسن: شاعر كبير وأديب وعالم، عضو في المجمع اللغوي بالقاهرة والمجمع العلمي العربي بدمشق والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. له أكثر من أربعين كتابا بين مؤلف ومحقق ومترجم منها: حياة مي، الترجمة في الأدب العربي، الشعر العربي في المهجر، جوانب مضيئة من الشعر العربي، ابن الرومي، الشريف الرضي، وعلم التاريخ عند العرب. لُقِّبَ بشاعر الأهرام وله خمسة دواوين منشورة، توفي عام 1985.




قالوا في عادل زعيتر

كان في "عادل زعيتر" قوة على العمل، وصبر على السهر، وقدرة على الدأب، قلّ أن يعد جهده بالساعات والدقائق، فنجعل من ذلك مادّة للتفكّه والمعابثة، وهو يضيق بهذه المفاكهة أحيانا، ويغضي عنها حينا، وما كنا نعلم أن القضاء راصد له ليتخطفه منا في خلسة المختلس ...

وكان في عادل دقة في الترجمة ـ إلا ما تحدثه الترجمة عن لغة ثانية من فروق ـ كما كان فيه أصالة في التعبير، وفحولة في التركيب، وضلاعة في اللغة، وميل إلى إحياء الفظة الغريبة، لا استكراها في جلبها، ولكن إشاعة لاستعمالها.

( عبد الغني حسن، كتاب التأبين ص 46 )

* * *

عاش أيام حياته كلها بين الحبر والورق، ولفظ أنفاسه الأخيرة ـ بين الحبر والورق ـ وهو يمسك بيده قلما ويكتب .. ويكتب .. كانت حياته كلها كتابة ـ تأليفا وترجمة ـ وكانت حياته حافلة بالروائع التي نقلها إلى العربية .. حقا إنه حصاد ضخم .. هذا الحصاد الذي تركه لدنيا العلم والأدب والفلسفة في عالمنا العربي، المغفور له الطيب الذكر عادل زعيتر.

خمسة وثلاثون مجلدا تضم روائع الفكر الغربي في نواحي التاريخ والفلسفة والاجتماع والسياسة والسيرة والحقوق .. هذا هو التراث الغني الذي خلفه لنا عادل زعيتر.

ـ مؤلفات غوستاف لوبون ـ كلها ـ ترجمها بدقة وأمانة وأناقة وفصاحة وإخلاص ما بعده ولا فوقه إخلاص .

ـ كان حجة في القانون ولكنه انصرف عن المحاماة إلى دنيا التأليف والترجمة بمفرده بالنيابة عن الدول العربية العشر (1) وأنتج وحده أكثر ما أنتجت متضامنة في جامعة الدول العربية من ترجمات للروائع.

_ عاش بين الورق والحبر ورأى الحياة كلها ورقا وحبرا .. ولكنه ما خط على القرطاس بقلمه إلا ما يرفع به رأسه عاليا، ورأس الأمة العربية، ورأس الثقافة الإنسانية.

_ وإذا كانت الترجمة وسيلة من وسائل التقارب بين الأمم، فقد كان عادل زعيتر الوسيط الأول في العالم ـ بأسره ـ رحمه الله عدد صفحات كتبه، بل عدد سطورها وألفاظها .. فقد كان نسيج وحدة في دنيا التأليف والترجمة.

عبد الله المشنوق، بيروت المساء (بيروت): 12، (كانون الأول) 1957)

* * *

أخي! كنت أرجو أن أراك على الحمى تبادلني بالود أهلا ومَرحَبا

وتفتح من حبٍ ذراعيك باسطا جناحيك، وضّاح الثنايا مرحِّبا

تصارحنا ـ ألا بما أنت منتج ـ فيبقى على الكتمان سراً محجّبا

تروح وتغدو للمطابع دائبا أشد من السهم انطلاقا وأدأبا

فكم شهدتك الضفتان من الحمى تدبُّ رفيقا بالثرى متوثّبا

وتحمل أثقال (التجارب) (2) راضيا كأنك قد حُمّلتَ غنما ومكسبا

وما عملوا ماذا بذلت لأجلها وكيف قضيت العمر فيهن والصبا

وكيف أذبت العين فيها قريحة وكيف صببت القلب فيها مذوبا

* * *

أخي! قد نعوا لما نعوك محامدا كما شيّعوا جيلا من العلم غُيِّبَا

فما كنت إلا واحدا فاق أمة وفردا، ولكن كنت جهدا مركَّبا

نهضت بعبء آد غيرك حمله تخذت له الإكباب والبر مركِبا

ينام الورى ملء العيون وأنت لا لا ترى النوم إلا ساهرا مترقبا

تدير على القرطاس لحظك دائبا مصعد جولات العيون مصوبا

وتحمل منظارا كأنك كاشف به ما اختفى خلف السطور وما اختبا

تصوغ معاني الخالدين .. بلاغة وتسكبها للضاد لحنا معربا

وتضفي عليها من بيانك حلة وتلبسها ثوبا قشيبا مذَهّبا

وتنقلها نقل الأمين .. كأنما خلعت عليها من صفاتك أضربا

وتؤثر في النقل الفصيح وتنتقي من اللغة اللفظ الفصيح المهذبا

حفاظا على الأصل الذي أنت ناقل وصونا لعدنان، وحفظا ليعربا ومن عق من جهل مواريث قومه فقد عق في الحق الأمومة والأبا

فقدانك فقدان الربيع موليا وقد كان منضور المرابع مخصبا

وأجدبت الآمال منك واقفرت وقد كنت روضا مونق الزهر معجبا

وكنت على ما فيك من غضبة،تُرى رفيق الحواشي، صافي القلب، طيبا

تجاوز عن لؤم اللئيم تكرما وتصفح عن ذنب المسيء تأدبا

وتلقاه، لم تذكر ذنوبا، ولم تعثر عيوبا، وتنسى أنه كان مذنبا ..

وما عرفتك النفس إلا مغاضبا لدينك مشبوب اللظى متلهبا

تؤدي حقوق الله، لا متحيفا وتحفظ حق الناس لا متنكبا

ومن طاب في الله الكريم علائقا يكون مع الإنسان أنقى وأطيبا

* * *

نفضنا الأكف اليوم من عادل فلم يعد بيننا إلا خيالا تأوّبا

دفنتم غداة البين جسما مذوبا ولم تدفنوا ذكرا جميلا محببا

وما مات من أسدى إلى قومه يدا تقلّب في أعطافها من تقلّبا

وليس هناك اليوم من أسنى عطية من الفكر يُهدَى ولحضارات تُجتَبى

لك الله من ضخم التراث كانّما تحاول منه في ربى الخلد مأربا . (محمد عبد الغني حسن، كتاب التأبين ص 164،165 )

* * *

عجاج نويهض-في" الحياة"

" وآل زعيتر في نابلس هم من السلسلة الفقارية في البلد، وكان عمر زعيتر شخصية راجحة الوزن، من شخصيات فلسطين الذين نشأوا في العهد العثماني، ونفخوا في الأفق العربي نفحات الحياة الوطنية".



ولنعد إلى الفقيد عادل زعيتر: ففي ربيع 1920 انعقد المؤتمر السوري العربي في دمشق، وبايع هذا المؤتمر فيصلا ملكا على سورية، وكان أعضاء هذا المؤتمر من جميع الأقطار الشامية الداخلية والساحلية والجنوبية، يمثلون جميع سورية، شمالا وجنوبا، داخلا وساحلا، أي مع لبنان رغم وجود الاحتلال الفرنسي فيه، وفلسطين رغم وجود الإنجليز واليهود فيها ووعد بلفور.

وأما "الأردن" فكان وقتئذ، هو القسم الجنوبي التابع للدولة الفيصلية، ولكن تقف حدوده الجنوبية عند "معان" . وكان مجموع هؤلاء النواب الممثلين لهذه الرقعة العربية، لا يقل عن 93 نائبا منهم 41 يمثلون سوريا الداخلية،و22 لبنان والساحل باصطلاح ذلك الدور،و23 يمثلون فلسطين، و7 يمثلون المقاطعات الأردنية، ومعدودون من جملة نواب سورية، فيضافون إلى الواحد والأربعين، وأرسلت نابلس، إحدى مدن فلسطين أربعة ممثلين إلى المؤتمر السوري، وكان الأستاذ عادل زعيتر أحد هؤلاء الأربعة، ولعله كان أصغر أعضاء المؤتمر سنا".

أحببنا الإتيان بهذا الإجمال كله، لتستقر صورة منه في ذهن القارئ، إذا شاء، وليكون الكلام بعد هذا الإجمال على عادل زعيتر، دائرا في إطار واضح الجوانب والأطراف.

ونسوق الحديث كله بعد الآن مساقا خاصا بالفقيد، وما كتب له أن يقدمه إلى الأمة العربية من خالد التراث الأدبي الفكري، وفي هذا المضمار، والأمر واضح بيّن، لا نعلم عربيا آخر في هذا العالم العربي كله، وقد ضارع عادل زعيتر لا في ضخامة الإنتاج الفكري ومقداره، وكفى، بل ولا في نوع هذا الإنتاج ودقة نسيجه وعلو طرازه، مما نأتي على قصته الآن.

درس الأستاذ عادل زعيتر في "سلطاني" بيروت، ثم في "سلطاني" الآستانة، ثم درس الحقوق في باريس وتخرج من جامعتها واتجه فور عودته من فرنسا إلى المحاماة ليتخذها مسلكا له، فكان محاميا قديرا، بارز الضمير النقي، وإذا هو لم ينغمس في الحركة الوطنية انغماسا كليا، فإنه لم ينقطع عنها مع التصميم،على الشروع في بناء هذا التراث الذي خلده، تراث الأدب والفكر، ولعل العناية التي أخذت بيد عادل إلى مضمار الثقافة مزاوجا بينها وبين المحاماة، هي العناية التي هيأته لهذا المضمار فجنبته أشواك السياسة، وكان بهذا الخير للأمة العربية كما سترى الآن.

يلوح لي أن عادل زعيتر لما قرر اتجاهه في معركة الثقافة والفكر، لم يفعل ذلك ارتجالا، ولا ذهابا مع عابر الخاطر والمزاج وهوى النفس، إنما قرّر ما قرر، عن عزيمة مكينة، في قرارة نفسه، وعن توطينه النفس على أن يقوم برسالة. فنظر في هذا مليا، وتدل نتائج عمله، بعد أن زرع واقتطف وحصد، على أن الرسالة التي اختارها من أبواب الفكر والفلسفة، ليست من نوع تجاري ليملأ جيبه من ورائها في روايات أو أقاصيص أو ما سهل علاجه من الترجمات. بل تعلق رأسا بغرض هو أسمى ما تتطاول إليه عقول نقلة الأفكار من حضارة إلى حضارة.



مترجمات عادل زعيتر هي الآن بأيدي الناس، ولا أحسَبُ أن واحدا من القراء في العالم العربي قد اقتنى في مكتبته الثمانية والثلاثين مجلدا كلها، إلا أن يكون هذا في مكتبات بعض المعاهد، ونفر قليل من عشاق الأستاذ زعيتر.

ولغته في الترجمة هي النقية العالية الطبقة، وقد رسخت قدمه في هذا الفن رسوخا، يجعل القارئ يؤمن بأنه إنما يقرأ عبارة عربية، كأنها خلقت عربية، ولم تنقل ترجمة بحال، واعتنى بكثير من المصطلحات التاريخية والاجتماعية، نادرا كان معناها أم كثير الشيوع، فجاء بها محض عربية. وكثيرا ما رأينا أن فردا من الكتاب تخير لفظا أو مصطلحا فوفّق فيه أكثر مما يوفق المجمع العلمي بأسره. وأحيانا يثبت في الحاشية اللفظة الأجنبية التي أتاك بتعريب مختار لها.

أما براعته في نقل المعاني، فمتجلية في كل أجزاء المساق. ولا يَغرُبَنّ عن ذهن القارئ في هذا الوطن، أن هذا النوع من النقل الفلسفي الاجتماعي التاريخي العمراني، هو أدق أبواب الترجمة، إذ العبرة تتعلق بناحية تبدو للقارئ بعد أقلّ تأمل، وهي أن مجرد معرفة اللغتين المنقول إليها والمنقول منها، معرفة لغوية ولو واسعة، لا يفيد الغرض كاملا، إلا إذا سبحت معرفة اللغة المنقول إليها بعد ذلك في محيط من الثقافة الغزيرة النيرة، البصيرة الحاذقة، بحيث يجعل الناقل نفسه في هذا المحيط؛ يعلو في مستوى تخيره الصور الجميلة للمعاني في العربية. وهذه الصور إنما هي من هذا المحيط الواسع، وهنا شرف الفن وسموّه، ومن هنا ينطلق نوره وإشراقه. كان الأستاذ عادل زعيتر في هذا الباب عبقريا.

* * *

هناك جملة أسباب لإجمال سيرة هذا المنتج الأول من العرب في هذا الجيل. فالسبب الأول أن الشعوب العربية بحاجة إلى أن يظهر فيها فرد يبذل قواه كلها في سبيل النقل الفلسفي، فظهر هذا الفرد وبذل ماله وعلمه وصحته، ونقل هذا النقل، ومات في نابلس وهو بالنساك والعبّاد أشبه.

وإني على يقين بان الأمة العربية كلها، كلما هدأت الزعازع السياسية في سمائها، وامتد رواق السكينة فوق أوضاعها، وتلفتت إلى البناة الراحلين من أبنائها، وجدت عادل زعيتر أحد هؤلاء العصبة الذين منحوا أمتهم هذه القطعة النفيسة من المجد الخالد.



" ان سيرة هذا العبقري الصامت، يجب أن تحفظ للأجيال المقبلة، وما هذه بسيرته كما قلنا في موضوع سابق، وإنما هي إجمال لا أكثر، فنرجو أن تُجمع سيرته، وتُحفظ آثاره من أوراق وأقلام ومنضد، حتى وألبسة وأدوات منزلية مختلفة، ومكاتيبه ورسائله ودفاتره، فلقد نسمع بعد قليل من الزمن، محاضرا في معهد أو باحثا في مجلة أو كتاب ينقب عن آثار عادل زعيتر المتوفى في نابلس سنة 1957.

إن أدباء العرب في دنيا العرب، يحلو لهم أن يعلموا من هو ناقل مونتسكيو وروسو، وغوستاف لوبون ورينان وغيرهم إلى العربية، فهؤلاء فلاسفة من كبار فلاسفة الغرب، قد أُفرغت بضاعة أدمغتهم في رفوف مكاتبنا على يد عادل زعيتر، فأكرم بهذا وأعظم. وفي هذا فليتنافس المتنافسون !

( عجاج نويهض، الحياة/ بيروت 11 كانون الأول 1957 )



* * *

لقد كان المرحوم صديقي في مدرسة إعدادي نابلس،وكان الأول في الصف، وقد حافظ على هذه الولية في جميع المعاهد والجامعات التي تلقى علومه فيها. ولد الفقيد في نابلس 1897 وبعد إتمام دراسته في مدرستها الإعدادية، يمم وجهه شطر بيروت، ثم سافر إلى استانبول، وأخذ الشهادة في الآداب من الكلية السلطانية، وفي بدء الحرب الكونية الأولى، دعي إلى الخدمة في الجيش العثماني، فأهلته مواهبه لأن يكون في عداد الضباط المرموقين.

ولما أبصر ما يضمره الضباط الأتراك من حقد على العرب، وعداء لضباطهم، وعلم بثورة المرحوم صالح الصمادي، الذي كان لا يقل ذكاء وحماسا للعروبة عنه، وكان فرارهما عن طريق جبل الدروز، الذي أُطلق عليه أخيرا جبل العرب، لما لأهله من الفضائل على أحرار العرب المجاهدين.

ولما رأى قادة الثورة العربية ميله إلى العلم، أجازوا له السفر إلى مصر ليتم تحصيله، لأن الذي تجنيه العروبة من ثمار عقله وقلمه، أجدى مما يجنيه سيفه، وهناك جنى من العلم ما شاء له الوقت أن يجني، وعندما وضعت الحرب أوزارها، وتم احتلال فلسطين عاد إلى نابلس،وهناك كانت الحركات الوطنية قائمة في دمشق على قدم وساق، وكانت دمشق بوتقة هذه الحركات، تصاغ فيها المعادن العربية التحررية، فرمت إليها البلاد العربية بفلذات أكبادها، ليذوب أبناؤها في بوتقة الوحدة، فتألف عليها تحت راية ساكن الجنان؛ فيصل بن الحسين، المؤتمر السوري، الذي انعقد في دمشق 1920 فانتخبت نابلس المغفور له فقيدنا مع من انتخبتهم، ليمثلوها في ذلك المؤتمر العتيد، وكان أصغر أعضائه سنا، فبايع المؤتمرون فيصلا، وأعلن تحت رايته استقلال سورية بحدودها الطبيعية، فلم يشأ المستعمرون أن يتم صهر المعادن العربية بهذه الوحدة، فضغطوها وهي طفلة في المهد، ثم خنقوها .. وكان الاحتلال الفرنسي البغيض سنة 1920 فغادر فقيدنا دمشق مع من غادر من أحرار العرب، وسافر إلى باريس حيث درس الحقوق في جامعتها، وتخرج منها حائزا على أكبر شهادة في الحقوق، ومن زملائه فيها السادة مع حفظ الألقاب: حبيب أبي شهلا، عبد الله اليافي، راشد طبارة، نجيب الأرمنازي، إحسان الشريف، محسن البرازي، عبد اله المشنوق، محيي الدين النصولي وغيرهم من الأشخاص الذين لهم موازينهم في البلدان العربية، ثم عاد فقيدنا من باريس إلى نابلس، ليصبح ألمع المحامين فيها. وإلى هذا اختير أستاذا للفقه الدستوري السياسي وأول المحاكمات المدنية في كلية حقوق القدس.

( من كلمة حسني كنعان، كتاب التأبين ص 70 ـ 71 )

* * *

لقد كان عادل زعيتر في اعتقادي أعظم وأبلغ مترجم في العصر الحاضر، للأعاظم من علماء أوروبا ومفكريها، وقد سُئل عادل ذات مرة، لماذا نترجم كتب الغير ولا يؤلف علماء وطننا كتبا مثلها؟ فقال عادل انه في اليوم الذي يصل فيه علماؤنا ومفكرونا إلى درجة علماء الغرب في الابتكار والتأليف فلن نترجم كتبا لأحد. وهذا صحيح لأن الناس سيترجمون يومها مؤلفاتنا إلى لغاتهم.

ذلك أن عادل حين تبتّل للعلم، كان قد عزف عن مباهج الدنيا وعن السياسة منذ أن رأى الدجاجلة يظهرون، وأهل "الغوغائية" يبرزون، وأهل الحجى يهملون، فتقززت نفسه من سوء ما رأى، ونأى بخلقه القويم عما يتهافت عليه أبناء جيله، ولا سيما حين وجد أمته المعذبة بالاحتلال الأجنبي وتمزيق أوصالها، تسبح فوق جهلها وبؤسها في بحر من الادعاء والغرور، فوق حرمانها نعمة الحرية التي لا ينمو العقل ولا ينصقل الفكر بدونها، ولا في غير ظل الاستقلال الظليل..



وسمعت الأستاذ عادل ذات مرة، ونحن نسير في أحد شوارع القاهرة، يتعجب من جريدة معينة، تقرّظ كتابا تافها، وتتحدث عن كثرة رواجه، وتهافت الناس عليه، ثم تهمل كتاب "حضارة العرب" الذي ترجمه عادل وتعب عليه نحو عامين، مع انه أهدى لتلك الجريدة نسختين منه!

فقلت له: أما اهتمام الجريدة بالكتب التافهة، فهو اهتمام مفتعل لأنه مأجور، وأما شدة رواج الكتاب الذي قرظته الجريدة فلكونه امّا من الكتب المضحكة أو الكتب المسلية...

محمد علي الطاهر



وممّا قاله نظير زيتون احد أدباء المهجر في حفل التأبين :

ورأيناه في معهد الحقوق في القدس، أستاذا علامة، يلقن الطلبة أمتع الدروس. يروي بها ظمأ كاسفا في النفوس، ويشبع نهما جارفا في الرؤوس، وينسج لهم من العلم خير اللبوس، ويطوف عليهم من نهى العبقرية بأشهى الكؤوس، فإذا هم والفضل لمن صقلهم وصاغهم، شموس وأي شموس. كنت تبني أمة وديارا. وما همك أن تجمع لؤلؤا ونضارا، ومن كان غنيا بخلقه وعلمه، سَخِر بالمال وغُنمه. فكان على زهادته الزاهدة أغنى الكاسبين، وأكبر الشاكرين

مع هذا ما اهتديت إلى نفسك ورسالتك. ولا تلمست طريقك في حياتك، ولا قنعت بكل وثباتك، فرحت تجوب عالما كبيرا بعميق نظراتك، ورهيف حصافتك وزكانتك، حتى انشق لك الحجاب عن أبعد غاياتك. وكان أن دفعك حبك لأمتك العربية، وللفصحى وللعرفان، إلى ما هو أبعد من المحاماة وأوسع من التدريس.

نظير زيتون


كلمة نقابة المحامين للنقيب فؤاد عبد الهادي



كان المرحوم عادل زعيتر خادما للحق والعدالة والقانون، بل يكفي أن أقول الحق، فما العدالة وما القانون إلا صور عملية من صور الحق،وما أجمل الحق وما أروعه وأجله، وقد كان الحق الشعلة التي يستنير بها الفقيد في مواقف المحاماة وفي ميادين الجهاد، حين عاد المرحوم من دمشق "وكان عضوا في المؤتمر السوري الذي أعلن استقلال سورية" على أثر معركة ميسلون، عرض عليه منصب كبير في فلسطين العزيزة، التي تأبى إلا أن تظهر في كل حزن وكارثة، لأنه ما ذكرت الأحزان والكوارث، إلا كانت فاجعة العرب بفلسطين، بوطنهم العربي، بقطر من أقطار الشعب العربي بجراحها الدامية، أروع الكوارث.

جرح يصيح على المدى وضحية تتلمس الحرية الحمراء

وما ذكرت الكوارث إلا وكانت منورة حرب فلسطين ـ أو طوشة فلسطين ـ لست أدري ـ حرب الدسّ والخداع والظلم والاستهتار أم الكوارث.

كلنا وارد السراب وكل حمل في وليمة الذئب طاعم

قد رجونا من الغنائم حظا ووردنا الوغى فكنا الغنائم

عفوك أيها الفقيد الكبير إذا ما ذكرت فلسطين العربية بحفلة تأبينك، فموقف حزننا عليك أثار في النفس كوامن ألمها، لأن اسم فلسطين كان محببا إليك، وهو اسم لاصق بكل قلب من قلوبنا، خالد في ضمير التاريخ.

قلت انه عرض عليه في فلسطين منصب كبير فزهد فيه، وبادر إلى باريس حيث درس الحقوق في جامعتها، وبعدما ظفر بشهادتها متفوقا، عاد إلى وطنه، حيث آثر المحاماة على الوظائف، فلمع نجمه، فدعي إلى التدريس في معهد القدس، حيث آوي إلى ظله الظليل، جمهرة من أبناء الجيل، هم اليوم محامون وقضاة، مع استمراره بمهنة المحاماة.

عرف في المحاماة مثاليا، فما لجأ في حياته الحقوقية، إلا إلى ما يشرف المهنة، وما عرف عنه أنه توكل في جميع حياته الحقوقية، في قضية لا يعتقد أنها عادلة، ولا يرى أن مقتضيات الأخلاق تحتم عليه التوكل فيها.

وما عرفت المحاماة محاميا يُعنى أكثر منه بقضيته، يسهر عليها ويحيط بجميع ملابساتها.

فؤاد عبدالهادي

* * *

"ستظل ذكرى عادل زعيتر باقية متصلة ما بقيت الأمة العربية المجيدة. "

( القاهرة، سعيد العريان )

" إنما تفقد الأمة العربية في عادل زعيتر، عالما كبيرا، ووطنيا نقيا، وكنزا من كنوز المعرفة، وآية من آيات الصبر والجلد.

" فإن بعض الأرواح الصافية، تستشف قرب الأجل فتسارع من خطوها في ميدان الحياة، وتضاعف من جهدها، حتى تترك وراءها أكبر تراث تطمع في بلوغه، وهذا ما كان عليه أستاذنا عادل، وهو مكب على عمله آناء الليل وأطراف النهار. "

( الرياض، أحمد الشقيري)

" خسر الوطن العربي بوفاة عادل زعيتر، وطنيا كبيرا، ومجاهدا فذا، ومحاميا مثاليا، ومحاميا قدم إلى بلاده أضخم تراث علمي يخلده أبد الدهر."

(نابلس، حكمة المصري)

" لقد كان عادل، يرحمه الله، بمثابة امة بكاملها، في جميع مواطن العربية، من شواطئ الهادئ حتى ضفاف الخليج.

وفي يقيني، أن واجب كل قطر من هذه الأقطار، أن يوفيه حقه عليه وعلى لغتنا المشتركة، وتراثنا الحضاري الواحد.

وما إقامة الحفلات إلا أضعف ما يرجو المؤمنون أن تقوم به الشعوب الحية، في سبيل تخليد الأفذاذ من أبنائها الغرّ الميامين، وكان عادل زعيتر، واحدا من هؤلاء، الذين تأبى الحياة إلا أن تضن بهم ضنها بكل نفيس.

ويقيني أن أبناء هذا الجيل، سيحدّثون أحفادهم ذات يوم بزهو واعتزاز عما حققه العلم من معجزات، وكشفه الفكر البشري من معميات فيقولون: لقد عاصرنا مكتشفي الطاقة النووية، والأقمار الصناعية، وعادل زعيتر أيضا، ذلك الذي فجر لنا ينابيع المعرفة، ويسر لأمتنا طريق ورودها."

بيروت، رشاد دارغوث

"لقد خسرت الثقافة العربية عالما عاملا جليلا، لا يمكن أن يعوض"

(القاهرة، صلاح المنجد)



" باغتنا نعي فقيد العروبة والفكر العربي، بينما كنا ندخره لغد العروبة، بعدما أسدى بالأمس ما أسداه من نور عينيه، ووميض روحه، وكيان جسمه ليقدم للعرب أغلى ما عند الفكر الغربي من ثمرات، فأحيا سنة العباسيين في أزهى عصورهم، وجاء المصاب به مصاب العلم واللغة والأدب."

( يوسف مشاقة )

" أبو عمر جدد في جيلنا عصر بركليس المأمون، ورفد أدب العرب آداب الغرب، ووصله بتيار الأفكار الحديثة."

(بغداد، نعمان العاني)

" مثل عادل زعيتر في الأمم، لا يقوّم بثمن"

(عمان، عبد الحليم عباس)



وهو حين يصمم أن يترجم كتابا فلا ينتقيه انتقاء عشوائيا،أو انه سيمتع القراء ويسليهم، بل كان يريد لقارئه أن يُتعب عقله، ويضع عصارة وجدانه في القراءة الجادة المستأنية الهادفة. ولهذا فقد حرَص على الأسلوب العربي الراقي المتميز، الذي كان يضطره أن يشتق أو ينحت الكلمات العربية، التي تعطي المعنى الدقيق للكلمة الفرنسية، حين يعجز أن يجد هذا المعنى في المتوفر من قواميس اللغة ومصادرها، ولقد كان ما قدمه من خدمة للغة العربية، من خلال هذا العمل الخلاق، الفضل في انتخابه في مجمع اللغة العربية في دمشق وبغداد.

نابلس، شوكة زيد الكيلاني


نكبة فلسطين (3)

(مذكرة وطنية)

بقلم: عادل زعيتر



اشتدت المصائب على العرب، وأحاطت الخطوب بهم، وأصيبت قضيتهم الفلسطينية الكبرى، بما أصيبت به، فنرى أن نعرض الوضع بما يأتي:

1. فُرِض الانتداب البريطاني على فلسطين، فقامت سياسة على تهويدها ودحر أصحابها العرب بشتى الأساليب من مراكزهم، حتى تغدو مهيضة، فتصير غنيمة باردة لليهود، وفلسطين العربية لم تكن في أي زمن، غير جزء من بلاد العرب، وعرب فلسطين لم يكونوا في أي دور، غير فرع من الأرومة العربية.

2. لم تألُ حكومة الانتداب جهدا في تنفيذ تلك السياسة الظالمة، فسارت في ثلاثين سنة على ما فيه إبادة عرب فلسطين، واستئصالهم بما يرضى عنه الصهاينة، ولم يقصّر عرب فلسطين في إحباط تلك السياسة، فعملوا في ثلاثين سنة، على دفع عادية الانقراض عنهم، وتغضي حكومة الانتداب عن تسلح اليهود، وعن إقامتهم للمعاقل و تنظيمهم للكتائب، فيغدون مدججين بالسلاح، كاملي العدة، وتمعن حكومة الانتداب في تجريد عرب فلسطين من أي سلاح، فتفرض على من يحمل منهم قديفة أو مسدسا أفظع العقوبات، كالسجن المؤبد أو الإعدام، وعرب فلسطين صابرون مرابطون، ومن خلفهم العرب الآخرون عاطفون محتجّون.

3. ويقلب الصهاينة لحكومة الانتداب ظهر المجنّ، بعد أن جعلتهم يمشون على أرجلهم، فيمعنون في مناهضتها، حتى قررت إنهاء الانتداب، والجلاء عن فلسطين ليتدبر الصهاينة الأمور فيها، وتترك حكومة الانتداب العرب وحدهم، بعد كيد وهشم كيان، فلم يهِنوا، وعن الجهاد لم ينثنوا، وقد صمدوا للقوى الغاشمة حتى 15 مايس، وحتى بعد 15 مايس (أيار)، ولم ينفك عرب فلسطين يجاهدون بما لديهم من وسائل دفاع قليلة، وبما عندهم من مواد غير كثيرة، وعرب فلسطين ما فتئوا يطالبون الدول العربية بتسليحهم وتدريبهم؛ حتى يكونوا في الصفوف الأمامية من ميادين القتال، ولكن هل من مجيب؟؟

4. وكأن حكومة الانتداب لم ترغب في مغادرة فلسطين، قبل أن يتم تمثيل دورها، وتحمل أوزارها كاملة، فساعدت الصهاينة على إخراج العرب من أمهات مدنهم، كحيفا ويافا وصفد وطبرية، ومن سياسة الصهاينة استئصال شأفة العرب، وهدم بيوتهم، وتخريب أملاكهم وسلب أموالهم أينما وجدوا، فكانت مشكلة اللاجئين.

5. ويتسابق رجال الدول العربية في صوغ التصاريح وعقد الاجتماعات، ويعدون عرب فلسطين، ويتوعدون الصهاينة، فيخيل إلى الإنسان أن الصهيونية مقضي عليها بالزوال بين عشية وضحاها. وتدخل كتائب من الجيوش العربية، ومن غير إنكار لتحسينها الوضع، وتأخيرها الانهيار نسأل ماذا حدث؟؟

أ‌- لقد احتلت تلك الكتائب ما بقي في أيدي عرب فلسطين من مدن وقرى وأماكن، ولم تتقدم في مركز إلا لتتأخر في مركز آخر، ويبدو الفتور، وتفرض الهدنة الأولى لشهر واحد، ولا تنفذ تلك الهدنة إلا بعد تقريرها بأيام كثيرة، ولا تغتنم فرصة ذلك ولا يهزم الصهاينة.

ب‌- ويتقوى اليهود في ذلك الشهر ويستعدون، وتظل كتائب العرب كما كانت، ويستأنف القتال وتظهر آثار قوة الصهاينة، بتوسيعهم رقعة ما بأيديهم وتقلص ظل العرب، وتزيد الفجائع وتستحفل الكوارث، وتفرض الهدنة للمرة الثانية، ويرضى العرب بوقف القتال، مع علمهم أن مجلس الأمن لا يفرض الهدن إلا ليزيد اليهود استعدادا، فيقضوا على ما بقي لدى العرب اقتسارا وتشريدا، ويبدو العرب جميعا كالباحث عن حتفه بظلفه.

ج ـ ويبحث عن أسباب ذلك فيرى انه نشأ عن تنافس الدول العربية، وعن عدم الانسجام في سياستها، وعن عدم الوحدة في قيادتها، وعن التزام جيوشها خطط الدفاع دون الهجوم، وعن عدم سوق كتائبها موحدة بسرعة من جبهة إلى أخرى، وعن عدم المبادرة إلى نجدة الجبهة التي يهجم العدو عليها. وما إلى ذلك من العوامل المؤدية إلى التخاذل فإلى التقهقر، خلافا للعدو.

د ـ وعلى ما في ذلك من بداهة لم يعمل في سبيل الانسجام وتوحيد القيادة، بل عمل ما يوجب الارتباك بين دول العرب، ويزيد الطين بِلّة، فكان نقض اليهود للهدنة الثانية، وكانت مصائب النقب ورزايا الجليل، وبذلك أصبحنا كالذي يكسب مرة ليخسر مئة مرة.

هـ ويظهر أن العرب لم يشعروا بالخطر الداهم، فيعبئوا جميع قواهم المادية والأدبية في جميع ميادين العمل والجهاد، وقد ثبت أن تعبئتهم العسكرية كانت ناقصة، فلم تثبت كتائبهم أمام عصابات اليهود.

ويظهر أن العوامل الإقليمية تحتل المكان الأول لدى طائفة الدول العربية، فلا ترى هذه الدول أن تتخذ أي تدبير حازم تجاه ما للدول الأجنبية التي تؤآزر اليهود، من المصالح الاقتصادية في بلاد العرب، وإن كانت تلوح في الحين بعد الحين بتهديدات لا تجوز حتى على الولدان.والعرب قد بلغوا من الخور في الانتصار لقضيتهم الكبرى، ما صاروا يطالبون مجلس الأمن بالانتصاف لهم من اليهود ودرء اعتداء هؤلاء عنهم !!

6. وهنا نعود إلى مسألة اللاجئين العرب فنقول ـ إن هؤلاء اللاجئين قد أخرجهم العدو من ديارهم قهرا أو خرجوا منها خشية الإبادة، وهم لم يجلوا عن ديارهم إلا لما حدث من تقصير في الدفاع عنها أو لما كان من تخلية كتائب دول العرب لها لأسباب حربية وغير حربية.

على أن أكثرية اللاجئين قد جلت عن أماكنها إلى ما بقي بأيدي العرب من فلسطين، فتضاعف بذلك عدد سكان هذه البقعة من البلاد، وغدت زاخرة بالأهلين، واليوم نرى اليهود يغزون جبهة بعد جبهة من تلك البقية، بسبب عدم وحدة القيادة، فيحملون على الجلاء أهل ما يستولون عليه من البقاع، لاجئين كان الأهل أو غير لاجئين، فإذا أمعنت الدول العربية في التخاذل، وحكمنا في أمر المستقبل بما حدث ويحدث، فافترضنا اكتساح العدو لبقية فلسطين، اضطر من في هذه البقية من مئات الألوف من اللاجئين وغير اللاجئين إلى قصد البلاد العربية المجاورة، التي ضاقت بالمشردين ذرعا، والتي أعلن الكثير منها رفضه لقبول لاجئين آخرين، والبلاد العربية هذه، وهي تعج باليهود، لم تفكر في تعويض مشردي العرب، عن بعض ما سُلب منهم بمال أولئك اليهود، الذين يسرحون ويمرحون فيها بلا رقيب.

ومعنى ذلك السماح للعدو بذبح العرب أفواجا أفواجا، ومعنى ذلك زوال راية العرب عن فلسطين إلى الأبد، نتيجة لتقاطع دول العرب وتخاذلهم، وتنافسهم فيما لا يعود على الجميع بغير العار والشنار.

ومعنى ذلك تخلي الدول العربية عن قضية العرب المقدسة، وتطويحهم بعرب فلسطين على مذبح المآرب والشهوات.

وما كان الأمر ليقتصر على إيواء المشردين عند السماح به، فنرى المشردين، وقد أعوزهم القوت وعضهم الجوع، يلجأون في الغالب إلى التسول والاستجداء حفظا لحياتهم، وهل في ذلك غير انحطاط أخلاقهم، وذهاب كرامتهم، وهدر شرفهم، وزوال إنسانيتهم؟؟

7. وما كانت النكبة لتقف عند هذا الحد، وللنكبة ما بعدها، فقد افتضح كل شيء، وقد ظهر عجز العرب وتخاذلهم للبعيد قبل القريب، وليس يستبعد أن تغدو أقطار العرب مسرحا للمطامع الأجنبية، وعرضة لنزع ما لها من استقلال.

8. فالرأي إذن، هو:

أ ـ أن يسود الانسجام بين الدول العربية بسرعة.

ب ـ أن توحد جيوشها بسرعة، فالخطر الصهيوني لا يدفع إلا بكيان عربي موحد.

ج ـ أن تعبأ جميع قواتها بسرعة، وأن يسلح عرب فلسطين وأن يدربوا على عجل ليقوموا بما يجب من القتال.

د ـ ألا يعطى اليهود فرصة الاستعداد كما حدث بالأمس، وأن يُؤتى بعمل عسكري جدي خاطف، فلا يفل الحديد إلا الحديد، وإرادة الكفاح لا ترد إلا بأقوى منها.

هـ ـ أن تنظم شؤون اللاجئين، وأن تحتل مكان الصدارة من العناية.

فإذا تعذر ذلك كله، والرزية كل الرزية في ذلك التعذر، كان من الاستهانة بمستقبل العرب ألا توزن المسألة باتزان، وأن يصر على سياسة مؤدية إلى ضياع ما بقي من عروبة فلسطين موجبة لاستخفاف الأمم بالعرب.

فلتكن الشجاعة رائد ساسة العرب، وليوجهوا الأحداث برباطة جأش، وليعالجوا القضية العربية الفلسطينية بالحكمة، وبشرط السلامة، أي بترك باب مكافحة العدو مفتوحا، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

إلا أن النكبة الحاضرة هي محك وتجربة وامتحان، فإما انحلال وزوال، وإما بقاء وعزة وكمال.

إلا أن الواقع يدل على أن الحق ليس إلا قوة مستمرة، وأن للعرب أكبر العبر فيما حدث.

وختاما، نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى سواء السبيل.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

نابلس في 5 ـ 11 _ 1948



الوحدة العربية

رأي عادل زعيتر

قال الفقيد في مقال له في جريدة فلسطين (يافا) لمناسبة توقيع ميثاق الجامعة العربية:

" ...إن ميثاق جامعة الدول العربية هو مقدمة لميثاق الوحدة في المستقبل، وإن شئت فقل الخطوة المباركة الأولى في سبيل جهاد العرب لتحقيق وحدتهم، وبالشعوب لا بالحكومات تتم الوحدات، والسيل إذا طغى لم يقف أمامه حائل، لا يجزعنّ العربي من أن الأجنبي (4) هو الذي حفزه إلى تلك الخطوة المباركة، ما دام العربي مستعدا لتحقيق هدفه الأسمى، ولا يخافنّ العربي من رجوع الأجنبي عما أحبه له، فالوحدة العربية إذا تمت وأراد الأجنبي أن يصرف العربي عنها، حدث مثلما وقع بين بافنوس و تاييس، كما قصه أناتول فرانس. (5)

ومن حديث للفقيد في مجلة العالم العربي (القاهرة) :

" إن الدور الذي تمثله الأمة على مسرح التاريخ، إنما يكون بنسبة قوة المثل العليا التي تخالطها، فإذا كان مثل الأمة الأعلى ضعيفا أو مفقودا، فإن هذه الأمة تفسح لغيرها مجالا للسيادة عليها، ولا سيما الأمم صاحبة المثل الأعلى.

وإني أرى أن يكون المثل الأعلى للعرب في مختلف أقطارهم، هو الإيمان بالوحدة العربية، ومثل هذا الإيمان لكي يكمل، على العرب أن يستعدوا لأداء ما يتطلبه من بذل وتضحية، تناسب جلاله وأهميته، فإذا اعتنقت الأمة العربية هذا المثل الأعلى ولم تتخلّ عنه، فلن يذهب جهدها سدى، بل يظل مثلها الأعلى المنارة التي تهديهم. "

وفي مقال آخر له في "فلسطين" عن الإسلام:

" كان الإسلام الذي دعا إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل العرب الأعلى، وكان خلاصة رغائبهم و احتياجاتهم وأمانيهم من حيث لا يشعرون، وكان لهم باعتناقه تجانس فكري فيه سر وحدتهم وقوتهم، وكان على صاحب الدعوة أن يعمل على إدخاله إلى قلوبهم، وهم الأعزاء الذين إذا ما دانوا به، خضعت لهم الدنيا. "



الهوامش

1) كان عدد الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية عشرا آنذاك (1957) .ي.ج.

2) تجارب المطبعة

3) هذه مذكرة أعدها الفقيد الأستاذ عادل زعيتر على أثر وقوع نكبة فلسطين، وفيها إيجاز لأسباب النكبة، وواجب الأمة العربية إزاءها، وقد دعا إلى بيته بنابلس نخبة من وجوه اللواء، فأقروها ورفعوها إلى كل من المراجع الآتية: رؤساء الوزارات المصرية والعراقية والسورية واللبنانية والأردنية، ووزير الخارجية للمملكة العربية السعودية، وأمين سرّ الجامعة العربية، ورئيس وفد اليمن لدى الجامعة العربية، ورؤساء المجالس النيابية في مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن، ورئيس مجلس الشيوخ المصري، ورئيس مجلس الأعيان العراقي.

وقد وقع عليها عدا الفقيد السادة: سليمان طوقان، فريد عنبتاوي، حكمة المصري، هاشم الجيوسي، عبد الحميد السايح، الدكتور مصطفى بشناق، فائق عنبتاوي، حلمي العبوشي، فضل الطاهر.

4) إشارة إلى تصريح وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في 24 شباط 1943 بأن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى قيام وحدة عربية اقتصادية أو ثقافية أو سياسية.

5) كان بافنوس تقيا وكانت تاييس بغيا، فاهتدت تاييس بمواعظ بافنوس فأصبحت قديسة، ثم أراد بافنوس أن يصرف تاييس عن تقواها لنفسه فلم يقدر على ذلك.


أقباس من مترجمات عادل زعيتر

"إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانيةِ الإسلامَ، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.

ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا، كالترك ولمغول.

أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، إن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا، فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقا، في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف متسامحين مثل العرب ولا دينا سمحا مثل دينهم."

(حضارة العرب لغوستاف لوبون)

* * *

"إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم، فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعرب هم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة، الذين قضوا على دولة الرومان، والعرب هم الذين فتحوا لأوروبة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا ممدنين لنا و أئمة لنا ستة قرون ... وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرا وحيدا، تقريبا، للتدريس في جامعات أوروبية خمسة قرون أو ستة قرون ... وإذا كانت هناك أمة نقرّ بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم، فالعرب هم تلك الأمة. فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم، في إنقاذ الكنوز الثمينة اعترافا أبديا، قال مسيو ليبري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ، لتأخرت نهضة أوروبة الحديثة في الآداب عدة قرون"

(حضارة العرب لغوستاف لوبون)

* * *

" وليؤذن لنا، في إيراد صفحة من لامارتين عن النبي بدلا من مقدمة لهذه النظرة السريعة في مذهب الإسلام، قال هذا الشاعر الكبير:

" لم يظهر، قط، رجل عقد نيته، طوعا أو كرها، حول غاية أعظم سموا"، ما كانت هذه الغاية فوق قدرة البشر، وهذه الغايات هي هدم الخرافات القائمة بين الخلق والخالق، ورد الرب إلى الإنسان والإنسان إلى الرب، وإصلاح المبدأ العقلي السليم حول الألوهية في خلق خواء آلهة الوثنية الغلاظ المشوهين .. ولم يظهر، قط، رجل مثله قام في أقل وقت، بثورة بالغة الاتساع والدوام في العالم، ما دام الإسلام بعد الدعوة إليه قد بشّر به وسلح فنشر في أقسام جزيرة العرب الثلاثة، وفتح لوحدانية الله بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر والهند والشام ومصر وأثيوبية وجميع القارة المعروفة بإفريقية الشمالية وكثيرا من جزر البحر المتوسط، وإسبانية، وقسما من بلاد المغول.

" وإذا كان عِظَمُ المقصد وصغر الوسائل واتساع النتيجة مقاييس عبقرية الرجل الثلاثة، فمن ذا الذي يجرؤ، من الناحية البشرية، على تشبيه رجل عظيم من رجال التاريخ الحديث بمحمد؟ لم يصنع أبعدهم صيتا غير هزّ السلاح وإزاحة الشرائع وزعزعة الدول، وهم لم يقيموا، عند إقامتهم شيئا، غير سلطات مادية تنهار قبلهم غالبا، أجل، إن ذاك قد هز سلاحا و زعزع دولا وشعوبا وبيوتا مالكة و ملايين من الآدميين في ثلث الكرة المعمورة، غير انه قلقل أفكارا ومعتقدات ونفوسا زيادة على ذلك، وهو قد أقام على كتاب أصبح كل حرف منه شريعة جنسية روحية لأمم من جميع اللغات وجميع العروق، وهو قد طبع هذه الشريعة الجنسية الإسلامية بسمة لا تمّحي مقتا للآلهة الباطلين، وحبا لله الواحد غير المادي ... فيلسوف، خطيب، رسول، مشرع، محارب، فاتح لأفكار، مصلح لعقائد عقلية، محيٍ لعبادة بلا صور، مؤسس لعشرين دولة دنيوية، ومنشئ لدولة روحانية، ذلك هو محمد، فمن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان؟ "

(مجالي الإسلام لحيدر بامات)

* * *

" وشأن الأنبياء في العالم كشأن قوى الطبيعة الهائلة النافعة، كشأن الشمس والمطر، كشأن عواصف الشتاء التي تهز الأرض وتثيرها لتتزين ببساط أخضر في بضعة أيام، ويقدر الأنبياء بما أسفرت عنه رسالاتهم من النتائج، وأحسن شهادة لهم ما يورثونه من راحة العقول وسكينة القلوب وشد العزائم والصبر على الشدائد وشفاء الأخلاق المريضة والدعية والصلوات التي تصّعّد في السماء.

يأتي الأنبياء وهم الذين لا حول لهم ولا معين، وهم الذين يقاتلهم الناس غرورا بسرّ الحرية العليا، فيقولون خير للإنسان أن يعصي الناس من أن يعصي الله الذي يتساوى الجميع أمامه وحده، والذي يجب على الجميع أن يسجدوا له دون سواه، ويقولون أن المقصد والمعنى أفضل من اللفظ والمبنى.

قام محمد الأمي، الجاهل لكل ما لا يمت إلى العلم المطلق بصلة، والنقي الفطري الكامل الطليق من فساد العقل والقلب، يدعو العلماء ليفقهوا ما يقولون، ويقوم ما يتيه فيه الحكماء من الطرق المعوجة، فالناس حين يستمعون إلى كلامه الموحى إليه به ولأمثاله الملائمة لروح الزمن (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) يعود إليهم سابق اتصالهم بالسر المحيط بهم خاشعين لله، عالمين كيف يسلكون أحد النجدين، مهتدين إلى مبدأ حي ناطق لا يجدون مثله في نصائح الفلاسفة وآراء أقطاب السياسة، وكان ظهور محمد في دور من أشد أدوار التاريخ ظلاما، في دور كانت الحضارات التي قامت في البلدان الممتدة من بلاد المغول الميروفنجية إلى بلاد الهند مضطربة متداعية. "

(حياة محمد لدرمنغم)

* * *

" ومن المؤسف أن جهل أفضل علمائنا في اللغة لهجات الشرق، فظلت اللغة العربية التي حافظت على صفائها بفضل القرآن، وهي ادعى اللغات إلى العحب، حرفا ناقصا عندهم، حتى أنه لم يدر في خلدهم أن الكلمات التي يفترضونها إيطالية أو إسبانية أو برتغالية فلا تنم على أصل لاتيني، قد اقتبست من العربية، وهم الذين لا يستطيعون، مع ذلك، أن ينسوا أن شبه جزيرة ايبرية ظلت كلها تقريبا خاضعة لسلطان الإسلام من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر، وأن جزر البحر المتوسط الكبرى، وصقلية على الخصوص، والشواطئ الإفريقية كانت قبضة العرب في تلك المدة، وأن البابا يوحنا الثامن كان يدفع إليهم جزية سنوية ليقي إيطالية الجنوبية من غاراتهم، وأن المدن: بلرم والقاهرة وفاس، الخ. كانت زاهرة في الآداب ازدهار بغداد وقرطبة، وأن الإدريسي كتب، في سنة 1150م، رسالته العربية في الجغرافية، إلى الملك النصراني روجر الثاني، وأن الإمبراطور فريدريك الثاني استقبل في بلاطه حفدة ابن رشد بعد قرن، وأنه يجب، في الحقيقة، ألا يبالى بمؤلفات السادة: ناردوتشي ودوزي وسوزا ومستشرقي فرنسة حتى تجد الافتراضات العريقة في الوهم لها مجالا. "

(تاريخ العرب لسيديو)

* * *

"حياة الدول كحياة الأفراد، فكما انه يحق للناس أن يقتلوا في حال الدفاع الطبيعي يحق لدول أن تحارب حفظا لنفسها.

ويحق لي أن أقتل عن دفاع طبيعي، وذلك لأن حياتي لي كما أن حياة الذي يهجم علي هي له، والدولة، كذلك، تحارب لأن بقاءها حق ككل بقاء آخر.

ولا يستلزم حق الدفاع الطبيعي بين الأهلين ضرورة الهجوم مطلقا، وليس للأهلين غير الالتجاء إلى المحاكم بدلا من الهجوم، وهم لا يستطيعون ممارسة حق هذا الدفاع، إذن، في غير الأحوال العابرة التي يهلك فيها إذا ما انتظر عون القوانين، غير أن حق الدفاع الطبيعي بين المجتمعات يقتضي ضرورة الهجوم أحيانا، وذلك عندما ترى أمة أن السّلم الطويلة تجعل أمة أخرى في حال تقضي معه عليها فيكون الهجوم في هذا الحين وسيلة وحيدة لمنع هذه الإبادة.

ومن ثم يحق للمجتمعات الصغيرة في الغالب أن تحارب المجتمعات الكبيرة، وذلك لأنها تكون غالبا، في حال تخشى معه أن تباد.

إذن يشتق حق الحرب من الضرورة والعدل الصارم، وإذا كان من يوجهون ضمير الأمراء أو آراءهم لا يقفون عند هذا الحد ضاع كل شيء، وعندما يستند إلى مبادئ مرادية للمجد واللياقة والمنفعة تغمر الأرض سيول من الدماء.

ولا يحدَّث عن مجد الأمير على الخصوص، فمجده يقوم على زهوه، وهذا هوى، لا حق شرعي. "

( روح الشرائع لمونتسكيو)

* *

" ولاحظوا الطبيعة واتبعوا الطريق التي ترسمها لكم، فهي تمرن الأولاد دائما، وهي تقوي مزاجهم بمحن من كل نوع، وهي تعلمهم ما الألم وما التعب باكرا، وتؤدي الأسنان التي تطلع إلى الحمّى فيهم، ويؤدي المغص الحاد إلى تشنجات فيهم، ويختنقون بالسعال الطويل، وتؤذيهم الديدان، وتفسد الأخلاط دمهم، وتتخّ فيه خمائر شتى فتوجب بثورا خطرة، ويعد دور الطفولة دور المرض والخطر تقريبا ويهلك نصف الأولاد قبل بلوغهم الثامنة من سنيهم، ومتى تمت التجارب اكتسب الولد قوى، ومتى استطاع الولد أن ينتفع بالحياة كان مبدؤها أكثر ضمانا"

( إميل لروسو )

* * *

" إن قدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميّز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون الذين لا أثر للثقافة فيهم من باديتهم ليستقروا بفلسطين وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتهم، أي لم يقتبسوا غير عيوبها الضارية ودعارتها وخرافاتها. "

" إن تاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يؤشرون بالمنشار أحياء أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والولدان. "

" إن تأثير اليهود في تاريخ الحضارة صفر، وإن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة، إن فلسطين أو أرض الميعاد لم تكن غير بيئة مختلفة لليهود فالبادية كانت وطنهم الحقيقي. "

( اليهود في تاريخ الحضارات لغوستاف لوبون)

* * *

" وإذا ما استطاع كل واحد أن يبيع نفسه فإنه لا يقدر على بيع أولاده، فهؤلاء الأولاد يولدون أناسا وأحرارا، وتكون حريتهم خاصة بهم،فلا يستطيع أحد غيرهم أن يتصرّف فيها، ويمكن أباهم قبل أن يبلغوا سن الرشد أن يضع شروطا لحفظهم وسعادتهم، لا أن يهبهم هبة مطلقة لا رجعة فيها، وذلك لأن هذه الهبة مخالفة لمقاصد الطبيعة وتجاوز حقوق الأبوة، ولهذا يقتضي تحول الحكومة المرادية إلى حكومة شرعية، على أن يكون الشعب في كل جيل حكما في قبولها أو رفضها، ولكن هذه الحكومة تعود غير مرادية إذ ذاك.

" وتنزّل الإنسان عن حريته يعني تنزلا عن صفة الإنسان فيه، وتنزلا عن الحقوق الإنسانية، وعن واجباتها أيضا، ولا تعويض يمكن لمن يتنزل عن كل شيء، وتنزل كهذا يناقض طبيعة الإنسان، ونزع كل حرية من إرادة الإنسان هو نزع كل أدب من أعماله، ثم إن من العهود الباطلة المتناقضة اشتراط سلطان مطلق من ناحية وطاعة لا حد لها من ناحية أخرى، أليس من الواضح أننا غير ملزمين بشيء نحو شخص يحق لنا أن نطالبه بكل شيء؟ أليس هذا الشرط وحده يتضمن بطلان العقد عند عدم وجود بدل أو معادل؟ وأي حق يكون لعبدي تجاهي ما دام كل ما عنده خاصا بي، وما دام حقي هذا تجاه نفسي كلمة لا معنى لها مطلقا عن كون حق عبدي هو لي؟

( العقد الاجتماعي لروسو )

* * *

"... وذلك لأن الحرية هي كتلك الأغذية الجامدة والعصارية أو تلك الخمور السخية الصالحة لتغذية وتقوية البنيات القوية المتعودة إياها، ولكن مع إرهاقها وتقويضها وإسكارها الضعفاء والنحاف الذين لم يخلقوا لها قط، وإذا ما تعودت الشعوب سادة ذات مرة عادت لا تستغني عنهم، وإذا ما حاولت الشعوب إلقاء النير ابتعدت عن الحرية بالمقدار الذي تحولها به إلى تحلل جامح معاكس لها، وتسلمها ثوراتها تقريبا إلى غواة لا يفعلون غير إثقال قيودها".

( أصل التفاوت بين الناس لروسو)

" ...فيبصرانه لم يكن لدى الإنسان من الشرور غير ما أعطى نفسه إياه، وليس من غير مشقة أن انتهينا إلى جعل أنفسنا بالغي الشقاء، فإذا ما نظر من ناحية إلى أعمال الناس الواسعة وما وقع من تبحر في العلوم واختراع في الفنون، وما استخدم من قوى، وما ملئ من هوى، وما هدّ من جبال، وما حطم من صخور، وما جعل من انهار صالحا للملاحة، وما أحيي من أرضين، وما حفر من بحيرات، وما جفف من مستنقعات، وما أقيم على الأرض من مبان ضخمة، وما ستر بالسفن والملاّحين من بحار، وإذا ما بحث من ناحية أخرى، مع قليل تأمل، في المنافع الحقيقية التي نشأت عن جميع ذلك في سبيل سعادة النوع البشري، لم يسع المرء إلا أن يصدم بما يسود هذه الأمور من تفاوت عجيب، فيرثي لعمى الإنسان الذي يسوقه بشده وراء كل شقاء يمكن أن يصيبه، وراء كل شقاء كانت الطبيعة المحسنة قد عنيت بإقصائه عنه، وذلك تغذية لزهوه السخيف وإعجابه الباطل بنفسه. "

( أصل التفاوت بين الناس لروسو )

* * *

" المرأة هي التي تصنع العالم، وهي المسيطرة عليه ولا شيء يصنع فيه إلا من أجلها وفي سبيلها، والواقع أنها أكبر مربية للرجل، فهي تعلمه الفضائل الفاتنة، وهي تعلمه الأدب والاتزان، وذلك الزهو الذي يخشى الظهور به ثقيلا. "

* * *

" ليست الحقيقة غرض الفن، وإنما تطلب الحقيقة من العلوم لأنها هدفها، ولا ينبغي طلب الحقيقة من الآداب التي لا يمكن أن يكون لها غير الجميل موضوعا! "

* * *

" لا داعي في كبر الأرض وصغرها لاكتراث الإنسان، هي كبيرة بما فيه الكفاية على أن يُؤلَم فيها، على أن يحب فيها، فالألم والحب مصدران توأمان لجمالها الذي لا ينفد. الألم! يا له من منكور رباني! نحن مدينون له بكل ما فينا من خير، بكل ما تكافئ به الحياة، نحن مدينون له بالرحمة، نحن مدينون له بالشجاعة، نحن مدينون له بجميع الفضائل".

( حديقة أبيقور لأناتول فرانس)

* * *

" لا يعني هذا أنني اكره المديح، ولا سيما عند صدوره عن قضاة للفضيلة بالغي الصلاح مثلكم، وإنما الذي أخشى هو أن أحب المدح كثيرا، أي أن المدح يفسد الرجال، أي انه ينفخهم ويجعلهم مغرورين مختالين، ويقضي الواجب بأن يستحق الرجل الثناء وأن يتجنبه لما بين طيب الثناء وفاسده من شبه، ويرى أن الطغاة الذين هم شر الناس، هم الذين يحملون المنافقين على مدحهم أكثر من غيرهم، وما اللذة في نيل الرجل مدائح كما ينالون؟ إن أجمل أمدح به هو ما تنعمون به علي من ثناء في غيابي إذا ما كنت سعيدا باستحقاقه، وإذا ما كنتم تعتقدون صلاحي بالحقيقة فإنني أرجو أن تعتقدوا، أيضا، أنني أريد أن أكون متواضعا يخشى الزهو، ولذا تفضلوا علي بعدم إطرائي كما تطرون رجلا يحب أن يطرى. "

* * *

" امزجوا التهذيب باللعب، ولتبد الحكمة للولد في فترات وعلى وجه ضاحك، واعلموا أن الولد إذا ما تنور عالم الفضيلة باكتئاب وكرب ضاع كل شيء ."

(تلماك لفنلون)

* * *

" والحق أن العرب تلاميذ بزنطة في غير حال، تلاميذ بزنطة في صناعة السفن مثلا، فجعلوا قناة السويس صالحة للملاحة مدة قرن، والحق أن العرب لم يتعلموا العلم اللازم من مواطئ جمال جزيرتهم، وما فطر عليه العرب من الروح التجارية يذكر بالفنيقيين، وقد نما بسرعة فارتقى بعد بلوغهم البحر المتوسط كما يلوح ، وقد قبضوا على زمام جميع التجارة مع الشرق الأقصى، ولم يلبثوا أن وصلوا إلى روسيا والبحر البلطي، ومع ذلك فإن أهم ما أتى به العرب إلى البحر المتوسط كان ذهنيا، كان ثقافيا تهذيبيا، ومن العرب في إشبيلية وقرطبة كان قد تلقى الحكمة، حقا، البابا سلفستر الذي عزي علمه المشهور إلى السحر. "

( البحر المتوسط للودفيغ)

* * *

" وتقلب الجماعات، ذلك، يجعل قيادتها أمرا صعبا لغاية، ولا سيما عند قبضها على قسط من السلطات العامة، ولو لم تكن مقتضيات الحياة اليومية ناظمة خفية للحوادث ما عاشت الديمقراطيات قط لذلك السبب، غير أن الجماعات التي ترغب في الأمور متهورة لا ترغب في هذه الأمور لطويل زمن، فالجماعات تعجز عن الإرادة الدائمة عجزها عن التفكير.

وليست الجماعة مندفعة منقلبة فقط، بل هي كالهمجي أيضا، ولا تسلم الجماعة بوجود حاجز بين رغبتها وبين تحقيق هذه الرغبة، وذلك لما تمن الكثرة عليها من الشعور بقدرة لا تقاوم، والحق أن مبدأ الاستحالة يزول لدى الفرد في الجماعة، وإذا كان الآن، وهو منفرد يشعر انه لا يستطيع وحده أن يحرق قصرا و ينهب مخزنا فإن مثل هذا العمل لا يدور في خلده، وإذا كان الإنسان وهو من الجماعة يشعر بالقدرة التي يمنحها العدد فإنه ينقاد من فوره لأول تلقين بالقتل والسلب فيحطم العائق غير المنتظر بعنف، ولو كان النظام البشري يحتمل دوام الغضب لأمكننا أن نقول أن الغضب هو الحال الطبيعية للجماعة. "

( روح الجماعات لغوستاف لوبون )

* * *

" والعقيدة القوية تبلغ من المنعة ما لا تستطيع أن تكافحها معه كفاح المنتصر غير عقيدة مماثلة، وليس للإيمان عدو يخشاه، سوى الإيمان، والإيمان لا بد من انتصاره عندما تكون القوة المادية التي تصوب إليه مؤيدة لمشاعر ضعيفة ومعتقدات متداعية، بيد أن ذلك الإيمان إذا ما قابله إيمان قوي مثله اشتد الصراع وصار الفوز رهين أحوال ثانوية، أدبية في الغالب، كروح الإيمان والتفوق في التنظيم "

( السنن النفسية لتطور الأمم لغوستاف لوبون )

* * *

" وعلى ما ألقاه كثير من الاكتشافات من نور يبقى تفسير الحوادث التاريخية العظيمة ناقصا، ويظل معظم المسائل بلا جواب، فكيف وفق أعاظم المتهوسين الخالقين للأوهام لإيجاد آلهة شتى سيطروا على التاريخ؟ وكيف يخرج الحقيقي من غير الحقيقي؟ وكيف تولد العزائم الشعبية وتتحول؟ وما السبب في أن شأن الأغاليط الجماعية في حياة الأمم أعلى من شأن العقل؟

وإذا كان التاريخ مملوءا إبهاما وتفاسير وهمية فلأنه ليس، في الحقيقة، غير تعبير باطني عن بعض الحوادث الوجدية التي تتألف الحياة من مجموعها، فدراسة الحياة أمر ضروري لفهم التاريخ، ولذلك رأينا أن نتكلم في هذا الكتاب عن السنن التي تسيطر عليه.

( فلسفة التاريخ لغوستاف لوبون )

* * *

" ويحتاج قيام المجتمع على أساس متين إلى حيازة مثل عالٍ مشترك، سواء أكان هذا المثل دينيا أم عسكريا أم شيئا آخر، وهنالك، فقط، تولد الروح القومية، وتبقى الأمة، حتى تكوينها، نقعا من البرابرة يستطيع أن يلتحم، لوقت، تحت إمرة رئيس، ولكن من غير تماسك دائم.

ويتم الانتقال من البربرية إلى الحضارة باعتناق مثل عال مشترك.

وتعود الأمم إلى البربرية عند انحلال الروح القومية، فقد هلك الرومان حينما زالت من قلوبهم عبادة رومة والنظم التي عينت عظمتها. "

( الآراء والمعتقدات لغوستاف لوبون )

* * *


" مميزات الزمن الحاضر الحقيقية هي : أولا إقامة سلطان العوامل الاقتصادية مقام سلطان الملوك والقوانين، ثانيا اشتباك المصالح بين الأمم التي كانت منفصلة، فلم يكن عند بعضها ما تستعيره من بعض.

ويصبح تأثير الحكومات، العظيم في الماضي، أكثر ضعفا في كل يوم أمام العوامل الاقتصادية التي تزيد أهمية، والآن تخضع الحكومات للضرورات الحاضرة وعادت لا تقود.

وولد مع تقدم العلم والصناعة والصلات الأممية سادة بالغو القدرة يجب على الأمم وملوكها أن يطيعوهم. "

(روح السياسة لغوستاف لوبون )

* * *


" يجب أن يذكر بين صفات الجماعات سرعة تصديقها الذي لا حد له، وحساسيتها البالغة وعدم تبصرّها وعجزها عن التأثير بالبرهان، ويتألف من التوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ وسائل وحيدة لإقناعها تقريبا ويمكن أن تحمل الجماعة على تصديق كل شيء، فليس لديها شيء مستحيل.

والإنسان في الجماعة يهبط كثيرا في سلم الحضارة، فهو يصير من البرابرة ويظهر ما يتصفون به من عيوب ومحاسن، أي يبدي عنفا خاطفا كما يبدي حماسة وبطولة.

والجماعة في الحقل العقلي تكون دون الإنسان وهو منفرد دائما، والجماعة في الحقل الأدبي والعاطفي قد تكون أعلى منه.

والجماعة تأتي عملا إجراميا بعين السهولة التي تأتي بها عملا زهديا.

وتأثير الجماعات عظيم في الأفراد الذين تتألف منهم، ففيها يصبح البخيل مبذرا والملحد مؤمنا والصالح مجرما والجبان بطلا. "

( روح الثورات لغوستاف لوبون)

* * *


" والطريق التي سار منها فطريو المغاور إلى المدن الحاضرة الساطعة كانت طويلة خطرة، وكانت الأشباح الوهمية دليل الإنسان عليها في الغالب لا ريب، ولكن هذه الأشباح هي مصدر الآمال والجهود، والأوهام التي تقود إحدى الأمم إذا ما تبددت بسرعة أظلم مصير هذه الأمة وجنّ عليه الليل، والبشرية القديمة لو اكتشفت أن حقائقها مؤقتة غير ثابتة ما سارت نحو مستقبل أطيب من حالها. "

( حياة الحقائق لغوستاف لوبون )

* * *


هذا رصيدك في الحساب مع القدر

قصيدة فائق العنبتاوي

في الحي صوت خلته من أضلعي قالوا: انتهى قلت: اكتموا عني الخبر

ما مثل هذا الرزء يمكن حمله أفلا يودع صحبه قبل السفر؟

قالوا: انتهى أزف الرحيل فودعوا قبل الفراق فصحت مهلا يا قدر

لم جُرتَ لم ترعَ الأحبة والهوى رفقا بقلي قدّ منه فانشطر

ودنوت مرتجفا أودع صاحبي قبلته وخشعت والدمع انهمر

وسألت قلب أين طيرك؟ قال لي لم أدرِ أين؟ وكيف طار وكيف فرّ؟

وإذا بصوت في النفوس مجلجل هو في الخلود وهذه الدنيا ممر!

يا قلب صبرا لست وحدك مثخنا فالخطب خطب عروبة بأبي عمر

لمَ لمْ تصنه بأضلعي وجوانحي إني أدينك كيف كنت بلا حذر

يا عرب صبرا من فقدتم رائدٌ صدق العروبة دون صد أو ضجر

عرف العروبة أمة بناءة قد أمرت في الخلد وهو بها انصهر

بهر الوجود سموها بحضارة عرف الفقيد جلالها يوم ازدهر

فتملّكَتْ من عادل قلبا سما مجد العروبة في جوانبه استقر

النيل مع بردى ودجلة قد أتوا أردننا ليخلدوك أبا عمر

فاهنأ بفخر سوف يعقبه الصبا ح بوحدة أخذت يؤلف ما اندثر

وانعم بخلدك يا أخي واهنأ به هذا رصيدك في الحساب مع القدر





50 كتابا وخمسة أسطر


بقلم كامل الشناوي

في خمسة أسطر وفي صفحة الوفيات على وجه التحديد نشرت جريدة واحدة هي "الأهرام" نعي أستاذ جليل كبير.

عالم أديب ظل أربعين عاما يغذي المكتبة بأمهات الكتب العالمية، وقد بلغ عدد هذه الكتب خمسين كتابا، صدر بعضها في طبعات فخمة أنيقة، وبعضها الآخر في طريقه إلى الصدور.

هذا العالم الأديب هو أستاذ عادل زعيتر. وقد نقل إلى العربية في مدى أربعين عاما، آثار الكتاب العالميين؛ إميل لودفيغ وجوستاف لوبون وفولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو ودرمنجهم.

وكان يقوم وحده بإخراج ما يترجمه من كتب، وكان في كثير من الأحيان يطبع هذه الكتب على نفقته الخاصة، وليست هي بالكتب التي تجذب القراء إليها، فهي ليست من كتب الإثارة والتشويق، وإنما هي كتب تمتاز في شكلها وجوهرها بالرصانة.

وكان عادل زعيتر حريصا على نقل الكتب والكتاب والجو إلى لغتنا، بدقة فهم، وقد جشمه ذلك انتهاج أسلوب صعب معقد. ولكن هذا الأسلوب رغم صعوبته وتعقيده ينطوي على أمانة لا يستطيعها كثير من الناقلين والمقتبسين.

ومنذ سنوات قليلة عهدت إليه اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بترجمة "روح الشرائع" لمونتسكيو و "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو. وكتاب العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، يقع في 212 صفحة، ويعد ما سجله روسو في هذا الكتاب أحد الأسس الضخمة التي نهضت عليها الثورة الفرنسية وقد وصفه المؤرخ الأسكتلندي توماس كارليل فقال: " لقد وجدت الثورة الفرنسية انجيلها في كتابات روسو. "

أما كتاب روح الشرائع لمونتسكيو، فهو يقع في أكثر من ألف صفحة، ويعد هذا الكتاب أعظم كتاب فرنسي في القرن الثامن عشر وقد جمع بين الفلسفة والتشريع، وحكمة التاريخ، والنقد الدستوري.

وقد قارن الأستاذ عادل زعيتر بين فولتير ومونتسكيو، قال: يظهر في النصف الأول من القرن الثامن عشر لمونتسكيو وفولتير، وكلا الاثنين من رجال الطبقات العليا وكلاهما كان راضيا بالمجتمع الذي يعيش فيه. فلا يرغب في قلبه، وإنما يطلب الإصلاح، وكان الدين أظهر ما عني به فولتير وإن بحث في السياسة، وكانت السياسة أظهر ما عني به مونتسكيو وإن بحث في الدين وكلاهما ناهض عدم التسامح في جميع وجوهه، كما ناهضا الاضطهاد والتفتيش والحروب الدينية.

بهذه الطريقة الهادئة الأمينة الفاهمة قام عادل زعيتر بتحليل جميع الآراء والشخصيات التي نقلها إلى العربية.

إن هذا الرجل أحد أساتذتي الذين اخترتهم لجامعتي الخاصة، وقد لقنني أصعب الدروس في السياسة والأدب والاجتماع وأنا مدين له بالكثير من ثقافتي القليلة !

لم أره، ولم ألتق به، وحين قرأت نعيه اليوم طفر الدمع من عيني كما لو كنت أقرأ نعي صديق.


تبارك من أهدى الكريم يراعة إلى العرب كنزا لا تعد ذخائره

قصيدة عادل غضبان (1)


قضى سيد الفصحى فتلك منابره صوامت خرسا بعد أن فُضّ سامرُه

وعطلت الأقلام بعد أميرها وجفت أسىً يوم الوداع محابره

مالت موازين العدالة حسرة على ناصر للحق والحق ناصره

ونكست الأعلام بعد مجاهد فدى الوطن المغصوب سلتْ بواتره

فوا لهف نفسي كلما لاح شارق بأفق المعالي غيبته مقابره

كواكل مجد حولت رقعة الثرى إلى فلك تشأى النجومَ زواهره

ـــــــــــــــــــــ

(1) قدمه الأستاذ العريف بقوله : " الأستاذ عادل الغضبان، الشاعر العربي الكبير، والقيم الأول على أكبر دار نشر في العالم العربي، دار المعارف، الدار التي أخرجت إلى الأمة العربية معظم كتب فقيدنا العظيم، وهو رئيس تحرير مجلة الكتاب الشهيرة، سميّ الفقيد الكريم وصديقه الحميم. "



بكى وطن الأحرار حرا قضى على وطن جارت عليه جوائره

أمينا على عهد الحمى لو درى الحمى وفيا يراعي مهبط الوحي ناظره

حمى لا يزال البغي يجتاح أرضه وتعشو به ذؤبانه وكواسره

ويعشو إليه كل علج وآبق ويُطرد منه أهله وعشائره

تحكّم فيه من تنكر للهدى ومن مزقت قلب المسيح خناجره

فلولا يقين النفس بالله لم يعشْ يغالب جبّار الأسى و يصابره

أعادل أعزز أن تموت ولا ترى زمانا على الباغين دارت دوائره

إذا جئت رب العرش والعرش حافل تحف به أجناده وعساكره

فسبح وألمِمْ بالحمى واذكر الحمى وصف نكبيته في الذي أنت ذاكره

وقل خاشعا يا باعث النور والدّجى حنانيك ليل الظلم طالت دياجره

بكى المسجد الأقصى وماجت بشجوها محاريبه ملتاعة ومنابره

وناح بأنحاء "القيامة" هيكل حزين ولاحت بالحداد ستائره

ودقت نواقيس الهدى نغم الأسى وبثته في سمع السماء منائره

على كل بيت للعليّ مقدّس غدا الدين فيه لا تقام شعائره

على كل كرم ذلّ في قبضة العدى وأصبح مقصيا عن الكرم عاصره

على شجر الزيتون وشّحه الأسى وأينع مغبرا من الحزن ثامره

ولو انصف الزيتون كانت ثماره رصاصا وأشواكَ القتادِ غدائره

فيا وطني صبرا على البغي وإنه يزول وإن الله لا بد قاهره

غدا تتهادى راية العدل في الورى فينصر موتور ويوتر خاذله

وتضرب أسد العرب ضربة غالب تهيج لها من كل غاب قساوره

وتزهى بنصر كالربيع ملألئ وتكلل هامات الرجال أزاهره

ويهنأ من ولى ولم يشهد الحمى محررة أرباضه وجزائره

أعادل لم ترحل فكلّ أخا علاً إذا ما طواه الموت فالذكر ناشره

ستذكر ساحات القضاء بك الفتى تولّى ولكن خلدته مفاخره

يخوض بسيف العدل معترك الظبى ويتركه وقد قُدّت أظافره

يرقّ فيجري كالحرير بيانه ويقسو فتطغى كالهدير زماجره

مزامير رفّ الحق في نغماتها وغنّت بها أحكامه و ومحاضره

أطاح الردى من هيكل العلم عالما قرابينه آيُ النّهى ونذائره

أفاء إليه خاشعا متنكسا يلازمه راد الضحى ويساهره

مكبا على آي الأسفار بفتي بآيها ويبعثها في كل ما راع باهره

إذا سُمِعَت في هجعة الليل همسةٌ فوقّف مأخوذا على الدرب عابره

وهبّت نؤوم الطير من وَكَناتها ينافرها حلو الكرى وتنافره

ومالت غصون الدوح ترهفُ سمعَها وتحسب ان الزهر صاتت أساوره

تبيّنَ أن الصوت صوتُ يراعةٍ تمرّ بها فوق الطروس خناصره

جرى عربيا سحره ولو انه على وتر للغرب شُدّت مزاهره

ترثّ أواخي كلّ عهد وموْثِق سوى العلم لا تبلى الغداة أواصره

فلو وصل الله النبوة في الورى لأخلف فيها الأنبياء عباقره

تبارك من أهدى كريمَ يراعِهِِ إلى العرب كنزا لا تُعَدُّ ذخائره

أ أذكر منه "النيل" وهو مرقرق أم "البحر" جاشت باللآلى زواخره (1)

أم السيرة الزهراء من كل نابغ تشع بلألاء السماء خواطره(2)

أم الباقيات الصالحات وكلها نفيس إلى الإبداع متّت عناصره

تعزّ على الفرسان إلا على فتى جرت وجيادَ المنشئين ضوامره

إذا نسجت ثوب الفخار يراعة فمن نسج أقلام الخلود مآزره

مضى الموت بالخلّ الوفي فأوعت بنار الشجى خلانه و معاشره

بكوا صاحبا لم يخلف الدهرَ عهده ولا عرفت إلا الوفاء سرائره

ترقبتُ أن ألقاه في مصر زائري ولا ادري أني فوق مثواه زائره

أُسائل عنه كل دار وأنثني إلى كل قفر لا تجيب خفائره

ولكن هدتني للثرى نفحة الثرى تضوّع منها ذكره ومآثره

وقفت به أسقي التراب بأدمعي وفي القلب وقدُ الحزن تذكو مجامره

يناجي خيالي طيفه فإخاله يسامرني في لحده وأسامره

كأنا استعدنا سالف العهد بيننا وعدنا إلى ركب البيان نسايره

كأني أراه تحمل الدرّ كفّه وينثره في الشرق والغرب ناثره

فيا ساجع الأردن هات هات رثاءه شجيّا فإن النيل قد كلّ شاعره

ويا بردى والرافدان تدفقا بموج الأسى فالأرز فاضت محاجره

فوا لهفا أن يذوي الزهر في الربى و واحزنا أن يهجر الأيك طائره

ــــــــــــــــــــــ

(1) إشارة إلى كتاب "النيل" وكتاب "البحر الأبيض المتوسط" وهما من آثار الفقيد.

(2) إشارة إلى كتاب السير والتراجم التي نقلها إلى العربية من مثل كتاب "بسمارك" وغيره.

من الرئيس القوَّتلي

رئاسة الجمهورية السورية

حضرة الأخ الأستاذ أكرم زعيتر المحترم

أبعث إليكم بخالص التحية، راجيا أن تكونوا بتمام الصحة والعافية وبعد فقد نمى إليّ أنكم أجريتم بعض العمليات الجراحية التي تمت ولله الحمد بنجاح، فسررت لهذه النتائج الطيبة ولتمتعكم بالصحة والعافية التي أرجو لكم دوامها واطراد التوفيق والنجاح.

ولقد آلمني غاية الألم أن أسمع بالنبأ الفاجع، نبأ وفاة أخيكم الكاتب الكبير المرحوم عادل، ولشدّ ما حزّ في نفسي أن تنطفئ هذه الشعلة الفكرية التي كرّست أجمل سني حياتها لخدمة لغتنا الأم ونقل روائع الفكر الغربي وتزويد المكتبات العربية بذخائر العقل وكنوز المعرفة الإنسانية.

ولا شك أن البلاد العربية التي أدى الفقيد الكبير هذه الخدمات الجلّى ستذكر بالخير والعرفان أيادي الأديب الجليل على اللغة والفكر العربيين.

وإني إذ أبعث بأصدق تحياتي، وخالص تعازي أرجو أن يمتعكم الله بالصحة التامة ويتولاكم برعايته وعنايته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دمشق في 16 جمادى الثانية 1977

8 كانون الثاني 1958

شكري القوتلي







مقالات ودراسات حول عادل زعيتر









من يحمي تراث عادل زعيتر من النهب؟

«تاريخ العرب العام» للمستشرق الفرنسي سيديو تظهر باسم «مترجم» آخر بعد نصف قرن على رحيل المترجم الفلسطيني

للناقد السعوديّ حسين محمد بافقيه

في هذه المقالة، يتهم كاتب سعودي عبد الله علي الشيخ بالسطو على ترجمة الراحل عادل زعيتر لكتاب «تاريخ العرب العام» للمستشرق الفرنسي سيديو ونسبتها لنفسه. وكانت «ترجمة» الشيخ قد صدرت عام 2002 في العاصمة الأردنية عن «الأهلية للنشر والتوزيع». وقد اتصلت «الشرق الأوسط»، من خلال مكتبها بعمان، بمدير الدار الذي أكد أنه فوجئ بالأمر وأن الدار لم تكن على علم بترجمة زعيتر، وحاول الاتصال بالمترجم، الذي تبين أنه عراقي كان يسكن في العاصمة الأردنية. لكننا لم نتسلم شيئاً بالرغم من متابعتنا اليومية، وبالرغم من وعوده المتكررة. ونحن هنا ننشر الموضوع مع الوثائق المرفقة، مؤكدين في الوقت نفسه على حق المترجم أو ناشره بالرد على صفحات هذه الجريدة

يعدّ عادل زعيتر (1895 ـ1957)، الذي وُلِد وتوفّي في نابلس، عَلاَمة مهمّة في حركة الترجمة إلى اللغة العربيّة في العصر الحديث، بما امتلكه من صبر على ترجمة عددٍ من الكتب التي ينوء بترجمتها العصبة من أولي العزم، فأعاد ـ فيما تقرِّر بنت الشاطئ ـ «إلى الترجمة اعتبارها بعد أن هبط بها المرتزِقة والمأجورون وصنائع الاستعمار الفكريّ، وأنّه الذي وقف في غمرة الظلمة الداجية، يحمل المشعل بيده الكريمة ليضيء لقومه العرب، طريق الحقّ والخير والعِزّة. وما كان مشعله المضيء سوى قلم قويّ، نبيل أصيل، يستمدّ قوّته ونبله من عقل ناجح، وضمير حيّ، وقلب كبير، وذكاء ساطع».

ومن يطالع ترجماته، عيونَ كتب المستشرقين; يظفرْ بفضل ما أسداه هذا الرجل إلى الثقافة العربيّة واللغة العربيّة، وذلك بانتخابه عددًا من الكتب الفلسفيّة والفكريّة التي قام عليها الفكر الحديث في الغرب، وتركتْ أبلغ الأثر في تفكير ساسته وشعوبه، كترجماته الباذخة لـ«روح الشرائع» لمونتسكيو، و«العقد الاجتماعي»، و«إميل» لجان جاك روسّو، و«الرسائل الفلسفيّة» لفولتير، وكأنه، بترجماته تلك، يصل، وبِطَرَف خفيّ، العرب المحدثين بأسباب النهوض والتقدُّم، وبخاصّة ما له صلة بالدستور والتشريع وحقوق الشعب وحريّاته، والأسس التي تقوم عليها الدولة المدنيّة الحديثة التي تأثّلت في الغرب الحديث، وبلغ صداها الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر، لدى مفكري عصر النهضة، لتتحوّل تلك المدوّنات الفكريّة المهمّة، مع عادل زعيتر وجيل من المترجمين الكبار، إلى مادّة فكريّة وذخيرة ثقافيّة لدى كوكبة عريضة من المثقفين العرب.

ولم يكتفِ عادل زعيتر، الذي بلغت مترجماته، فيما ذكر الزِرِكْليّ، سبعة وثلاثين كتابًا، بنقل كتب الشرائع والفلسفة، فحسب، ولكنّه انتخب من عيون كتب المستشرقين عددًا من المؤلفات المهمّة، في التاريخ الإسلاميّ وحضارته، ورجالات السياسة والقادة في أوروبا، وكأنّه آلى على نفسه أن ينقل إلى لغة قومه ما يؤصِّل العمق الحضاريّ لتاريخهم، ومن ذلك كُتُب «حياة محمد» لإميل درمنغهام، و«نابليون«، و«كليوبترة» لإميل لودفيغ; و«ابن خلدون» لبوتول، و«ابن رشد والرشديّة» لرينان، و«حضارة العرب»، و«حضارات الهند»، و«روح الاشتراكيّة»، و«روح الثورات والثورة الفرنسيّة»، و«فلسفة التاريخ»، و«روح السياسة» لغوستاف لوبون، و«البحر المتوسط»، و«النيل: حياة نهر» لإميل لودفيغ; و«تاريخ العرب العامّ» لسيديّو.

والذي له صلة بما نقله عادل زعيتر من كتب المفكرين الغربيّين، يدرك أنّ الرجل كان ينتمي إلى جيل من المترجمين العلماء الذين كابدوا المشاقّ لجعل الجملة العربيّة قادرة على تمثُّل الفكر الحديث، بإحياء النمط العربيّ من القول، وبعْث موات الكلمات، من دون أن يضطرّ إلى هلهلة التركيب اللغويّ باحتذاء الأساليب الغربيّة، التي يلجأ إليها، عادة، غير قليل من النَّقَلَة والمترجمين. فقارئ مترجمات زعيتر أمام لغة بيانيّة من النمط العربيّ العالي، ذلك النمط الذي يملأ عليك وعيك ووجدانك، حتى لتشعر بحصار اللغة لك، وحتّى لتحسب أنّ الرجل ينحت الكلمات ويسبك التراكيب سبكًا، بيدٍ صَنَاعٍ ماهرة، وكأنّه ابتغى تحديث أوصال الجسد العربيّ بتطعيمه بأسباب النهوض والتقدّم، كما رآها في الفكر الغربيّ، وأنْ يتمّ ذلك كلّه بلسان عربيّ مبين.

يقول في تقديمه لترجمته كتاب «النيل: حياة نهر» لإميل لودفيغ: «ومن يطّلعْ على كتب لودفيغ ومَنْ إليه من أساطين الأدب في الغرب يَرُعْه ما بين الأدبين، العربيّ والغربيّ، من بون واسع في الوقت الحاضر، مع ما كان من غِنَى لغة الأدب العربيّ في الزمن الغابر، ولا بُدَّ، لذلك، من تطعيم لغتنا الراهنة مقدارًا فمقدارًا بما تحتويه معاجمنا من كلمات غير نابية، فلعلّها تصير مألوفة، وهذا ما سرتُ عليه بعض السير في كثير من الأسفار التي ترجمتها، ولكن مع تفسير هذه الكلمات في هامش الصفحات تسهيلاً للمطالعة».

وبالفعل فإنّ من يطالع مترجمات عادل زعيتر; يظفر بمتعة لغويّة وبيانيّة، ويخرج، من مطالعته تلك، بوفرة من المفردات العربيّة القديمة التي أعاد إليها الحياة بعد موتها، وكأنّك أمام نصّ أدبيّ ينتمي إلى القرن الرابع الهجريّ، جودة وصلابة ورواء ، وإنْ لم يسلم، مع ذلك، ممن انتقد أسلوبه العربيّ المتين الذي يحتاج ـ كما ينقل وديع فلسطين عن بعض نقّاده ـ إلى «ترجمة عربيّة بعبارات مفهومة»!

ومنذ ردح من الزمان استهوتني قراءة ترجمات عادل زعيتر، فهي، فضلاً عن انتخابها عيون الفكر الغربيّ الحديث، والتأريخ للحضارة الإسلاميّة، والشرق عامّة، تحظى بمتعة العبارة العربيّة القديمة، التي تعمُر العين والسمع، فأطلبها، في بعض الأحيان، مستجمًّا مما ابتليت به أساليبنا اللغويّة من اعوجاج ونبوّ عن الذوق العربيّ، ومتأمّلاً في تراكيبه، وطريقة سكّه للعبارات، فيزداد إكباري لذلك الرجل الذي تنزوي لغتنا أمام بيانه، وقد رشَحَتْ وأعياها النصَب، بحثًا عن مفردةٍ جديدة، أو تركيب عجيب!

في رمضان الفائت ابتعتُ، من معرض الكتاب الدوليّ بجدة، كتاب «تاريخ العرب العامّ» للمستشرق الفرنسيّ سيديّو، بطبعة جديدة نشرتها «الأهليّة للنشر والتوزيع» بعمّان عام 2002، ونقلها إلى العربيّة عبد الله علي الشيخ. وكان يقودني إلى هذه النشرة الجديدة، رغبتي في تأمُّل الأسلوب العربيّ -تركيبًا ومفرداتٍ ـ في ترجمتيْن، أوّلاهما، ترجمة عادل زعيتر، الذي ينتمي إلى جيل المترجمين الروّاد في الثقافة العربيّة المعاصرة; وأخراهما ترجمة عبد الله علي الشيخ، الذي ظنَنْتُه من المترجمين الجُدد، مُمَنّيًا نفسي بمتعة المقابلة بين ذينك النصّيْن، فلعلّي أكتشف عبقريّة الجملة العربيّة لدى عادل زعيتر، فأنا أحد مريدي لغته!

وفي الأمس القريب جُبْتُ ترجماتِ عادل زعيتر التي تضمّها مكتبتي، متأمِّلاً لغتَه العالية الرفيعة، ومن ذلك أنّني أخذت أقرأ في ترجمته كتاب «تاريخ العرب العامّ» لسيديّو، وفجأةً تذكّرتُ أنّ في مكتبتي ترجمةً أخرى للكتاب، فهُرعْتُ إليها، طلبًا للمقابلة بين النصّيْن العربيّين للترجمة; ترجمة عادل زعيتر البيانيّة المتينة، وترجمة عبد الله علي الشيخ التي كنتُ أحسبها ستسير في نهج الترجمات العربيّة الحديثة، في حرفيّتها، وميلها إلى أوّل خاطر للكلمات والمعاني، من دون أن يكابد المترجم المعاناة في النقل إلى الفضاء الذهنيّ للغة العربيّة والثقافة العربيّة.

هكذا كنتُ أظنّ.. وهذا ما كنتُ أبتغيه من النشرتيْن!

غير أنّ المفاجأة لم تكن سعيدة، بل كانت صدمة عنيفة، حينما اكتشفتُ أنّ نشرة عبد الله علي الشيخ التي أصدرتها «الأهليّة للنشر والتوزيع» بعمّان، لم تكن سوى سرقة علميّة وفضيحة أخلاقيّة ضخمة، فمنذ الفقرة الأولى للكتاب تطابقت الكلمات والجمل والعبارات، والفواصل والنقاط والفقرات! فما كان منّي إلا أن سوّيتُ جلستي، وحملقتُ عينيّ، فلعلّي واهم، أو أخذتني سِنَةٌ من نومٌ، فانتقلتُ إلى الفقرة الثانية، فالثالثة، فالفصل الأول، فالثاني، فالثالث، فالأخير، فإذا نشرة «الأهليّة للنشر والتوزيع»، هي ترجمة الراحل عادل زعيتر بحذافيرها، ولم يختلف عنها سوى محْو اسمه من الغلاف، ووضع اسم عبد الله علي الشيخ، بعد اختصار مقدّمة الكتاب، وحذف تعليق مجمع البحوث الإسلاميّة في الأزهر في خاتمة الترجمة، أمّا ما دون ذلك فليس ثمّة سوى سرقة في رابعة النهار، وفاجعة علميّة مؤلمة، من دون حياء من الله والنّاس والعلم، وكأنّ الناشر و«المترجم» وَهَما في أنّ النشرة القديمة (مطبعة عيسى البابي الحلبيّ وشركاه) قد اختفت، وأنّ الزمان أبلاها، فسوّلت النفس الأمّارة بالسوء نَهْبَ تراث المترجم الكبير عادل زعيتر، ولعلّ سرقاتٍ أخرى اعتدت على تراث آخرين، وبخاصة الطبعات القديمة التي يعزّ وجودها بين أيدي القراء والباحثين، والمدهش أن لا يخفي السارق أثر سرقته، كما يفعل، عادةً، دهاة السَرقة، ولكنّه يتبجّح بأنّ يعدّ نفسه مترجمًا، وما هو بمترجم، ولكنّه سارق ينبغي أن يقدَّم إلى المحاكمة، وإن ثبت ضلوع دار النشر في الجناية، فينبغي، كذلك، محاكمتها، قضائيًّا، وإيقاف نشاطها، ومنعها من الاشتراك في المعارض الدوليّة للكتاب.

رحم الله المترجم الكبير عادل زعيتر الذي كابد المشاقّ والصعاب، وهو ينقل إلى أبناء لغته صَوْب العقول المفكّرة في الغرب، والذي توفّاه الله قبل نحو نصف قرن، وهو مُكِبّ على ترجمة سِفْر فكريّ جديد، وما كان ليظنّ أن سيكرّمه قومه إلا بالوفاء له، والإشادة بعمله، أمّا أن يُسْرَق جهده وتعبه، فما أحسب أنّ هذا الخاطر طرأ على ذهنه.. ولكنّه زماننا العربيّ الجديد.. فيا لردءاة زماننا!


رد «الأهلية» للنشر والتوزيع

جاءنا من دار النشر «الأهلية» الأردنية رد على اتهام الكاتب حسين محمد بافقيه المترجم عبد الله علي الشيخ بانتحال ترجمة كتاب «تاريخ العرب العام»، تؤكد فيه الدار أنها فوجئت بالأمر ولم تكن على علم بترجمة عادل زعيتر للكتاب نفسه.

وذكرت الدار في ردها: «بالإشارة إلى مقالة حسين محمد بافقيه حول كتاب تاريخ العرب العام لمؤلفه سيديو والذي صدر عن دارنا، نود إعلامكم بأننا لم نكن على علم بترجمة عادل زعيتر والذي نعتز بتاريخه الفكري وتراثه الجليل ونضم أنفسنا إلى كل من يدافع عنه ضد لصوص الثقافة المحدثين لذا سنقوم برفع دعوى ضد عبد الله علي الشيخ إذا ثبت لنا انه قام بسرقة ترجمة عادل زعيتر.

لقد أسعدنا أن يهتم حسين محمد بافقيه بتراث الراحل الفلسطيني الكبير عادل زعيتر والدفاع عنه وكنا سنعتبر مقالته شهادة مهمة لصالح الثقافة العربية وحقوق منتجيها لكنه بدلا من أن يدافع عن حق أصاب باطلا باتهامنا ونحن أبرياء مما اتهمنا به.

لذا نرجو منه إذا كان يرغب في نشر مقالته أن يحرص على حذف كل ما يسيء إلى سمعتنا منها لكي تكون مقالة موقوفة على الحق وخدمته والدفاع عنه».














-1-

عادل زعيتر وفن الترجمة

أ.د. يحيى جبر

رئيس مجمع اللغة العربية ببيت المقدس سابقا

مؤســــــس الجمعية العلميـــة الفلســــطينية

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنيـــــــة

تمهيــد :

عادل عمر زعيتر عالم عربي من فلسطين، ولد في مدينة نابلس عام 1897 في بيت علم ودين ورياسة، وتلقى علومه الأولى في مدارس نابلس وبيروت والآستانة، فثقف العربية والتركية والانجليزية، والتحق عام 1916 بالجيش التركي، وما لبث حتى التحق بالجيش العربي، وبينما هو في الطريق اذ ضلت القافلة، ولما نجوا نذر أن ينقطع لخدمة الامة ورفعة شأنها.

مثّل نابلس في المؤتمر السوري العربي عام 1920 الذي أعلن استقلال سورية الكبرى بحدودها الطبيعية ، ولكن تغلب الانجليز والفرنسيين وهيمنتهم على مقدرات الامة جعله يدرك أن ما بالأمة من جهل هو السبب في تخلفها واحتلال أرضها، فقرر ان يلج باب العلم من جديد فاتجه الى فرنسا حيث درس الحقوق، وتتلمذ على فلاسفتها ومفكريها مباشرة، أو من خلال مؤلفاتهم، كما أتيح له أن يطّلع على آداب الشعوب الغربية، فوقف فيها على آفاق جديدة من المعرفة، مما أغراه من بعد بترجمة روائع ما ألف في أوروبة، اذ ترجم نحوا من أربعين كتابا اختارها بدقة وعناية، وترجمها بوعي واتقان.

وقد كان لعادل زعيتر ذكر واسع في أرجاء الوطن العربي، ويتجلى ذلك في حفل تأبينه، اذ شارك فيه أعيان السياسة والعلم والأدب في مصر وسورية والسعودية والعراق والاردن وفلسطين ، ولا عجب في ذلك، اذ كان عضوا في مجمعي اللغة العربية بدمشق وبغداد، وكان يحج مصر كل شتاء، يشرف بنفسه على طباعة كتبه .

ولم يؤلف زعيتر سوى بعض مقالات نشرتها له الصحف، وبعض أوراق في الحقوق عندما كان يعمل مدرسا في كلية الحقوق في بيت المقدس، ومما يؤثر عنه انه قال، وقد سئل عن عدم اشتغاله بالتأليف : عندما أشعر ان مؤلفاتي ستكون على مستوى ما أترجمه من أعمال الاوروبيين فانني سأفعل .

عمل في المحاماة زمنا، ورافع مدافعا على الثوار في محاكم الانجليز، ولكنه في أخريات



-2-

سنينه (بعد سنة 1946) عكف على الترجمة، وكانت فرحته اكبر ما تكون يوم ينجز ترجمة كتاب. جاء في رسالة وجهها لشقيقه أكرم في 19/2/1946."يكاد قلبي يتحرق من أنني لم أقم بشيء مما تطمئن له نفسي في عالم العلم والسياسة ، فترونني عازما على تطليق المحاماة وسلوك السبيل الذي كتبت لك عنه" يريد الانقطاع للترجمة .

وقد انتهج عادل زعيتر في ترجمته منهجا واضحا لم يحد عنه، واتسمت كل مترجماته بطابع خاص، وأنه لو لم يترجم ...تلك المجلدات العديدة من أمهات الكتب...واكتفى بترجمة كتاب حضارة العرب لجوستاف لوبون وحده لكفاه ذلك فخرا وخلودا ، ويقيني أن خدمته للأمة العربية تفوق أضعافا مضاعفة خدمات رجال السياسة والأدب من أبناء العروبة. (من برقية طه الهاشمي للجنة التأبين )

وكان عادل زعيتر قومي الهوى لا يعترف بالعصبية الوطنية ولا بالاقليمية، على نحو ما نجده في قول وديع فلسطين "وصفته ذات مرة بأنه الأديب النابلسي" فثار غضبا وأردت تصحيح ما وقعت فيه من خطأ، فقلت عنه أنه "الأديب الفلسطيني" فهاج وماج وأرعد وأزبد، وقال لي: أنني أديب عربي ...".(الرسالة بيروت 15/1/1958).

ذلكم هو عادل زعيتر، ونستعرض في ما يأتي رأيه في فن الترجمة من خلال أعماله، وما قيل فيه .

غزارة انتاجه :

كان عادل زعيتر يأخذ نفسه بالعزيمة، ويكلفها فوق طاقتها في ما يحملها عليه، فقد صدف أن اعتراه الاجهاد المشفي على الموت غير مرة، ولكنه لم يكن يبالي، فأمامه غاية نبيلة بينه وبينها شأو بعيد، ولولا تلك النفس العنيدة في اصرارها، الطموح في تطلعاتها، المحبة لأمتها، المخلصة لدينها وربها، لما أفلح عادل زعيتر في مهمته التي وقف نفسه عليها، ولما نجح في بناء ذلك الهرم من الكتب المترجمة .

فقد ترجم نحوا من أربعين كتابا هي عيون ما صنفه الفرنسيون بخاصة والغربيون بعامة في مجالات الفكر والاجتماع والفلسفة والتاريخ والتربية، مما يشير بوضوح تام الى غزارة انتاجه، ذلك الانتاج الذي تعجز عنه المؤسسات العلمية المتخصصة لاسيما أنه انجز في زمن يكاد يكون قياسيا، وبمستوى رفيع .

واليك ثبتاً بمترجماته مقرونة بسني نشرها، ومنها ما نشر بعد رحيله.

1 - من مؤلفات جان جاك روسو



-3-

أ - العقد الاجتماعي أو مبادىء الحقوق الاساسية 1945 .

ب - أميل أو التربية 1956 .

جـ - أصل التفاوت بين الناس 1945 .

2- من مؤلفات جوستاف لوبون

أ - حضارة العرب 1945 .

ب - حضارة الهند 1948 .

جـ - روح الجماعات 1950 .

د - السنن النفسية لتطور الامم 1950 .

هـ - فلسفة التاريخ 1954 .

و - روح التربية 1949 .

ز - حياة الحقائق 1949.

ح - الآراء والمعتقدات 1946.

ط - روح الثورات والثورة الفرنسية 1946 .

ي - روح الاشتراكية 1948 .

ك - روح السياسة 1947 .

ل - اليهود في تاريخ الحضارات 1945 .

3 - من مؤلفات اميل لودفيج .

أ - النيل 1951 .

ب - البحر المتوسط 1951 .

جـ - كليوباترا 1952 .

د - بسمارك 1952 .

هـ - نابليون 1946 .

و - ابن الانسان 1947 .

ز - الحياة والحب 1959 .

4 - من مؤلفات آرنست رينان .

أ - ابن رشد والرشدية 1957 .

5 - من مؤلفات فولتير

أ - كنديد (التفاؤل) 1955 .



-4-

ب - الرسائل الفلسفية 1959 .

6 - من مؤلفات أناتول فرانس :

أ - حديقة أبيقور 1955 .

ب - الآلهة عطاش 1957 .

7 - من مؤلفات مونتسكيو

أ - روح الشرائع 1953 بتكليف من اليونسكو

8 - من مؤلفات فنلون

أ - تلماك 1957 .

9 - من مؤلفات حيدر بامّات

أ - مجالي الاسلام 1956 .

10 - من مؤلفات اميل درمنغم

أ - حياة محمد 1956 .

11 - من مؤلفات سيديو

أ - تاريخ العرب العام 1948 .

12 - من مؤلفات غاستون بوتول .

أ - ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية 1955 .

13 - من مؤلفات ايسمن

أ - اصول الفقه الدستوري 1955 .

14- من مؤلفات البارون كرادوفو

أ - الغزالي 1959 .

ب - ابن سينا 1959 .

جـ - مفكرو الاسلام 1959 ويقع في جزأين لم ينشرا.

وكان يخطط لترجمة عدد من الكتب نذكر منها :

أخر ملوك بني سراج لشاتـو بريان، وسيرة الابطال لبلوتارك، وتدهور الغرب لشبينجلر، والسلطة لبرتراند ذوجوفنيل، وتاريخ الاندلس لبروفنسال، لولا أن هذا طلب مبلغا كبيرا لقاء ذلك، وهو ذا الانسان، لنيتشه، سنة 1938، ثم عدل عنه لمرضه. والمحمدية، والعبقرية السّامية الآرية في الاسلام لكرادفو، والشهداء لشاتوبريان وتاريخ الاندلس لدوزي (ترجم فصلا منه ثم عدل عنه) غيــر أن الأجل عاجله دون أن ينهض بها ، وظل بعض أعماله مخطـــوطا لم ينشر بعد، وهي في



-5-

مجال الحقوق، حقل تخصصه الأساسي.

"وكان عادل يرجو ان يختم حياته بتأليف تاريخ عام للعرب يكتبه باسلوب علمي، وعلى ضوء النظريات الاجتماعية والفلسفية التي يعتنقها... على أنه كان واثقا بأن الأدوات اللازمة لتحقيق أمنيته في تاريخ أمته لا تتوافر في نابلس، فكان يطمع في ان تتاح له سكنى القاهرة من أجل ذلك (اكرم تأبين 207)

اللغات التي ترجم عنها :

يعتبر عادل زعيتر في طليعة المترجمين العرب عن الفرنسية، من حيث عدد الكتب التي ترجمها ، والموضوعات التي تناولها مؤلفو تلك الكتب فيها، وسلامة الترجمة. وقد كنا نتوقع من الدكتور حسام الخطيب ان يخص عادل زعيتر بكلمة توضح مكانته بين المترجمين العرب بعامة والفلسطينيين بخاصة . (انظر كتابه حركة الترجمة الفلسطينية، وبحثه "حركة الترجمة لدى ابناء فلسطين" العدد 11 سنة 1986 - المجلة العربية للثقافة- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ص 67).

وكان يتقن الى جانب العربية كلا من اللغة التركية والفرنسية والانجليزية والألمانية ، غير أن جل ترجماته كانت عن الفرنسية، وبعضها عن الألمانية .

" ان الثقافة العالية الرفيعة التي وصل اليها عادل زعيتر بجده وسهره ونشأته في المحيط الوطني المجاهد الذي عاش فيه؛ مع تمكنه من نواصي اللغات العربية والتركية والفرنسية والانجليزية... جعله يملك زمام موضوعه بهذه الأدوات العلمية التي قل ان يظفر بها احد من المعاصرين، ويبز كل من يتصدى -ويتعدى- للترجمة ونقل علوم الامم الغربية وتعريبها بمثل الدقة التي تمكن بها عادل من ترجمة وتدقيق اكثر من ثلاثين كتاباً ضخما من انفس وأروع ما وصل اليه العقل المعاصر من تفكير ..( محمد على الطاهر، مجلة الاديب،.بيروت ك 2/1958).

نهجة في الترجمة

درج عادل زعيتر على منهج متميز في جل ترجماته، ويسهل على المطالع استظهار ذلك المنهج في الكتب التي ترجمها بشكل واضح، ويمكن ان نرصد أبرز معالمه في النقاط التالية :

- يعّرف زعيتر بمؤلف الكتاب المترجم بتقديم نبذة قصيرة عن حياته .

- يعقب ذلك بتعريف بالكتاب المترجم والدوافع التي حدت بمؤلفه الى وضعه ، وقد يطول ذلك فيأتي به كأنه يحكى حكاية.



-6-

- ويردف ببيان الدوافع التي حملته على ترجمته، وهي غالبا ما تتضمن الاشارة الى حرصه على الا تخلو المكتبة العربية من مثله، والاهتمام بنشر الوعي على طريق النهوض بالأمة. جاء في تقديمه لكتاب بوتول عن ابن خلدون " وفي الكتــــــاب يرى ما يعز وجوده عند غيره من النزاهة والاعتدال، فحملنا هنا على نقله الى العربية ردا للتحية، واطلاعا على ما يحتويه من فوائد "

ومن الطرائف التي توقفنا على سبب ترجمته بعض الكتب ما حكاه لاخوانه من سبب ترجمته لكتاب روح التربية لجوستاف لوبون على نحوما رواه محمد على الطاهر في مقالته التي نشرتها الأديب البيروتية (كانون الثاني 1958) اذ جاء فيها :

" أما قصة عادل القديمة مع طه حسين كما حكاها لي عادل، فقد وقعت في باريس حوالي 1922 - 1924، وخلاصتها انه لما ظهرت ترجمة "روح التربية"، أخذها عادل وبعض الطلاب العرب وذهبوا الى مؤلفها الدكتور جوستاف لوبون، وكان شيخا كبيرا، وطلب منه السماح له بترجمة كتابه الشهير "حضارة العرب" وقدم اليه ترجمة كتاب روح التربية معتزا بالدكتور طه حسين (مترجمها) الاديب العربي، وكأنه يقول لجوستاف لوبون مباهيا" انظر كيف ان كتبك تنقل الى لغتنا".

ولما أمسك لوبون بالنسخة العربية، وفحصها ووزنها بيده، قال لهم: يظهر ان لغتكم مختزلة ومختصرة كثيرا، والا فهذا تلخيص لكتابي اذن، وهذا لا يجوز ولا يليق بأهل العلم . قال عادل : وخرجنا من عنده نتعثر بتلك العلقة التي اكلناها بسبب الدكتور طه، ونويت ان اترجم انا في مستقبل الأيام كتاب "روح التربية" كما هو النص والأصل، ولكني شغلت عنه في ترجمة حضارة العرب وحضارات الهند والكتب الأخرى، فلما ظهرت ترجمتي لكتاب نابليون وانتقصها طه بدون حق، متحيزا لصديقه (محمود ابراهيم الدسوقي تلميذ طه حسين والذي ترجم الكتاب نفسه) فطنت الى ما كان بالامس البعيد، وقررت الانتقام منه .. وظهر كتاب "روح التربية" الضخم للدكتور جوستاف لوبون مترجما بقلم عادل زعيتر في اكثر من 800 صفحة ... "

وهذا يوضح ان السبب كان ثأرا ، وتصحيحا لترجمة مختزلة، ويقف المطالع والمتمعن في موضوعات كتبه ان الرجل كان يترجم الكتب التي تعالج قضايا المجتمع وحركته، والتي تبسط فيها آراء المتمردين على الظلم والمكافحين، وأصحاب المعاناة من المؤلفين، قال عادل الغضبان في تقديمه لآخر كتاب ترجمه عادل زعيتر، وهو الرسائل الفلسفية لفولتير (ط دار المعارف 1959) : وكان آخر تلك الروائع هذا الكتاب الذي تصدى فيه مؤلفه لمحاربة الاســـــتبداد في بلده



-7-

على متباين صوره، فصادف موضوع الكتاب هوى من نفس فقيدنا المتألم لفلسطين المنكوبة الشهيدة، فنقله الى العربية "

- وينهي تقديمه ببعض الملحوظات التي تختلف من كتاب لآخر، كأن يحقق في نسبة الكتاب لصاحبه، " يقول في معرض تقديمه لكتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو (دار المعارف 1954 ص 15): "وفي سنة 1755 نشر روسو رسالة " الاقتصاد السياسي "، وهنالك شك في كونها وضعت قبل رسالة " أصل التفاوت" أو بعدها، فالذي يظهر أول وهلة كون رسالة "الاقتصاد السياسي" على نمط "العقد الاجتماعي" وهذا يدل على أنها الفت بعد "أصل التفاوت" ونحن نقول بدورنا : وهذا منهج من التحقيق دقيق تفرد به عادل زعيتر، ويقوم دليلا على أمانته وتبحره .

وقد فعل مثل ذلك في تقديمه لكتاب فوليتر " كنديد " او التفاؤل (دار المعارف سنة 1955 ص 15-16) اذ قال : وكتاب كنديد مؤلف من جزأين، فأما الجزء الأول فيوجد اجماع على انه وضع بقلم فولتير، وأما الجزء الثاني فقد ذهب كثير من النقاد الى انه من وضع كاتب آخر، ولذا يرى اقتصار بعض الطبعات وبعض الترجمات على الجزء الأول منه، كما يرى اشتمال طبعات اخرى وبعض ترجمات على الجزأين معا، وذلك مع اشارة قسم منها الى هذا الأمر، ومهما يكن من أمر فان الجزء الثاني وضع على نحو الجزء الأول وروحه ، ولا يكاد الناقد النفاذ يلمس فرقا بينهما ، وكيف يدرك هذا والجزء الثاني ينمّ عن براعة ولباقة كالأول، وقد حفزنا هذا الى ترجمة الجزء الثاني ايضا اتماما للفائدة وامتاعا للقارئ العربي ".

قلت : وهذا يذكرنا بما كان من أمر الحمادين الثلاثة وغيرهم من منتحلي الشعر وناحليه سواهم، اذ كانوا يأتون به على غرار الشعر الجاهلي، فلا يختلف في شيء الا عند بعض النابهين.

وكان من عادته - رحمه الله - أن يقرأ كثيرا في موضوع الكتاب الذي يتصدى لترجمته، وذلك شأن العلماء ، كيما تنحكم له الصنعة، ويلم بأطراف الموضوع. قال في تقديمه لكتاب غاستون بوتول " ابن خلدون - فلسفته الاجتماعية" .. الفه سنة 1930 ، وقد قرأناه، غير مرة، فوجدناه ينطوي على عناية عظيمة بابن خلدون ..."

ولم يكن عادل يقرأ وحسب، ولكنه كان يسأل أهل الاختصاص دون أن يجد في ذلك حرجا، فهو يعلم أن المعرفة لا تكتمل لانسان، ويتضح ذلك في بعض الشهادات نوردها في ما يلي:



-8-

1- عندما ترجم كتاب حضارات الهند بعث الى اصدقائه في الهند يستفتيهم في نطق الاسماء الادبية، فجاء النطق الصواب الذي التزم في السفر جميعا مثل بدهة بدلا من بوذا، وهمالية بدلا من هيمالايا، ودهلى بدلا من دلهي (وديع فلسطين - الرسالة - بيروت 15/1/ 1958).

2- عندما ترجم كتاب تاريخ العرب قبل الاسلام لســـــيديو ، عرض له فيه طرف من تاريخ القبط في مصر فأراد أن يتحرى بعض حقائق ذلك التاريخ، فاستعان بوديع فلسطين في الظفر بكتاب عن تاريخ الكنيسة القبطية لجلاء حقيقة الامر (المصدر السابق نفسه).

3- استعان في ترجمة كتاب النيل لاميل لودفيع بوديع فلسطين ليدله على أسماء أصناف قديمة من القطن المصري، فاستعان وديع بالدكتور يوسف نحاس للغرض نفسه، واستعان بوديع في معرفة نص أغنية دارجة كان أبناء النوبة يرددونها، لان اميل لودفيغ ترجمها في كتابه، وكان عادل حريصا على ادراجها في ترجمته الضادية بنصها الشائع. (المصدر السابق نفسه)

4- يحرص عادل على ايراد النصوص الاصلية للمقتبسات ويبذل في هذا جهودا عظيمة وقد يقتضي أياما في البحث عن نص أصلي، وتحقيق حادث او اسم ، ولا يفتأ يكاتب الثقات والمختصين في مواضعهم، فيتصل بالعلامة الهندي المرحوم عبد الرحمن صديقي للاتفاق على الصورة الصحيحة لكتابه الاسماء الهندية. ويكاتب العلامة الأب قنواتي الدومينكاني للتحقق من صحة بعض الاسماء ، ويكون صديقه الاستاذ شوقي أمين (أستاذنا رحمه الله) واسطة الوقوف من ناحوم أفندي عضو المجمع اللغوي على صحة بعض أسماء فلاسفة اليهود في اسبانية، ويكاتب الاستاذ احمد شاكر لتحقيق احاديث نبوية، ويتصل بأئمة الاديان لتحقيق نصوص فقهية، ويزور الأديرة والكنائس .. ويزور سفير ايران بالقاهرة لتحقيق لفظة فارسية .. وما أكثر ما كان يشتري من الكتاب الواحد طبعات متعددة ليلحظ التفاوت بين تلك الطبعات (من ذكريات اكرم زعيتر - كتاب التأبين ص 204، 205).

- كما كان يقف عند حد النص، ويتقفاه حرفا بحرف، وبهذا الصدد يقول في مقدمته لكتاب اميل لودفيع "الحياة والحب " ط دار المعارف 1959 ص 7" .. وهذا ما أردنا جلاءه بالصقل جهد المستطيع مع المحافظة على حرفية الترجمة ".

ويقول وديع فلسطين بهذا الصدد (الرسالة ، بيروت 15/1/1958) وهو في الترجمة حرفــي لا يتصرف مالم تكن هناك ضــرورة لا مفر منها، ولكنه يطبع اسلوبه بطابع عربي بالــــغ



-9-

الابانة، لا يتأتى الا للبلغاء المؤثلين في اللغة، ولا يسهل فهمه ان كان القارئ عجلان او ناقص ثقافة: وكان يقول دائما ان بغيته العليا في الترجمة ان يحاكي الاصل الافرنجي متانة اسلوب وروعة أداء ودقة تحرٍ وسلامة من العيوب "

وكانت هذه واحدة من خصال عادل زعيتر، إذ كتبت جريدة الاثنين القاهرية في 24/3/1958 ما نصه : وعادل زعيتر واحد من القليلين الذين حافظوا في نقل كتب الغرب الــــى لغة العرب، على حرفية الترجمة بدون ان يمسوا المعنى او يشوهوه او ينقلوه ناقصا او زائدا .. وعادل زعيتر واحد من الذين اثبتوا ان التوفيق يبين الترجمة الحرفية وصيانة المعنى امر ممكن، بخلاف ما يدعي "العاجزون" عن تحقيق هذه المعجزة، الذين لم يحققوا هذا من المترجمين كانوا يبحثون عن العمل السهل، ويستعجلون الربح المادي، ويتسابقون مع الوقت فيسلقون الترجمة كما يسلقون البيض " .

وكان من دقته يشرف على طباعة كتبه بنفسه (انظر مقدمة اكرم - شقيقيه - لترجمته لكتاب البارون كارادوفو "الغزالي" ولم يكن ليتجاوز خطأ في الكتاب دون تصحيحه ولو بالحاق ثبت بالكتاب يرصد فيه الاخطاء وتصويباتها. ويتضح ذلك في ما كتبه الأديب العربي الكبير وديع فلسطين بعنوان (عادل زعيتر - تعريب مؤلفات الغرب - جريدة الحياة - لندن، 24 شباط 1995) اذ قال : وعندما طبعت له دار المعارف كتاب "البحر المتوسط" لاميل لودفيغ اكتشف بعد مراجعة تجاربه عدة مرات وقوع اخطاء مطبعية يسيرة، وفي وسع القارئ ان يستدركها دون عناء، لكن عادلا غضب اشد الغضب، وأصر على ان يزين الكتاب بلائحة بهذه الاغاليط، في حين أصر شفيق متري صاحب الدار على رفض ادراج هذه اللائحة قائلا : ان الدار عرفت بدقتها، ولا نريد ان تسيء الى سمعتها بادراج لائحة فيها اعتراف بوجود اخطاء مطبعية في كبتها، وأصر كل طرف على رأيه، وعندئذ ابدى عادل زعيتر استعداده للإقرار على نفسه بمسؤولية هذه الاخطاء، وللاعتذار لدار المعارف، وعلى هذا ذيل الكتاب بلائحة التصويبات مع عبارة نصها : "ظهرت الأغاليط القليلة الاتية تصويباتها في هذا الكتاب الضخم (وقوامه 905 صفحة) الذي طبع باشرافي في خمسة اسابيع، فأنشر هذه التصويبات مع الاعتذار لدار المعارف التي اسجل لها شكري"، لقد كان كل من الطرفين حريصا على الكمال، فجاءت هذه العبارة لتسجل ذلك" .

- وكان لفرط تدقيقه، وحرصه على اخراج الترجمة في أبهى صورة وأدق معنى - يطالع الكتاب الذي يتصدى لترجمته في اكثر من لغة ، ان كان مما ترجم الى غير لغته الاصلية، فقد اعتمد في ترجمته الكتاب السابق للودفيغ على اصله الانجليزي وترجمته الفرنسية وقد نرى مرد ذلك



-10-

الى انه كان يتقن الفرنسية اكثر، وفي الاطلاع على المعنى بلغتين اسعاف وتمكين من الترجمة بشكل دقيق .

- ولعادل زعيتر مذهب في الترجمة اذ يرى جواز الترجمة عن ترجمة اخرى الى غير لغة الكاتب الاصلي، ويرى ان الترجمة عن الأصل أولى عندما يكون الموضوع علميا، توخيا للدقة ونقل المعنى الصحيح للاصطلاحات. وفي هذا الصدد ننقل ما أورده صاحب المقال السابق، وقد أورد أحوالا أدت بعادل زعيتر الى اظهار سخطه وتبرمه، فقال "ومرة ثالثة انفجر فيّ عادل زعيتر عندما كتبت كلمة عن ترجمتين لكتاب "نابليون" لاميل لودفيغ اتفق صدورهما في وقت واحد : ترجمة عادل زعيتر المنقولة عن النص الفرنسي مع الاسترشاد بالترجمة التركية لأنه كان يجيد هاتين اللغتين، وترجمة محمود ابراهيم الدسوقي المنقولة عن النص الالماني، وهو النص الاصلي للكتاب، وانتهيت في كلمتي الى ان النقل المباشر عن لغة الكاتب الاصلي أدق من النقل غير المباشر عن لغة اخرى ترجم اليها الكتاب، ولم يوافقني عادل زعيتر على هذا الرأي قائلا: ان الكتب الادبية يجوز ترجمتها من نص مترجم، أما الكتب العلمية او الفنية فيحسن ان تترجم عن النص الاصلي للتأكد من الترجمة الدقيقة للمصطلحات والتعبيرات، وكتاب نابليون هو كتاب ادبي في المقام الأول.

قلت : نوافق وديع فلسطين، ونخالف المرحوم زعيتر، اذ ربما كانت ترجمة النصوص العلمية عن لغتها الأصلية او عن لغات اخرى ترجمت اليها - مقبولة اكثر وأدق ، لأن العلم واحدة معانيه ومفهوماته ونظرياته في كل اللغات والبلدان، على العكس من لغة الادب .

- ومن مظاهر الدقة في ترجمات عادل زعيتر - رحمه الله- انه كان يضبط الألفاظ بالشكل الدقيق، لاسيما الألفاظ الملبسة التي تحتمل غير وجه واحد، والغريبة التي يستنبطها من معجمه وسنزين البحث بنماذج من ترجماته توضح ذلك .

وقد اعتمدت اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية المنبثقة عن اليونسكو ترجمات عادل زعيتر وأجازتها ، وكانت تكلف من يراجعها والنظر فيها، وقد نجد اشارة لذلك على بعض الكتب ككتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، اذ حمل الكتاب اسم اللجنة، وعلى صفحته الداخلية عبارة " قرأ هذه الترجمة وفق احكام منظمة الاونسكو : توفيق الصباغ، كمال الحاج" وانظر كلمة الدكتور مصطفى جواد : كلمة المجمع العلمي العراقي ، كتاب التأبين ص 26 .

وكتب محمد عبد الغني حسن (بريد المطبوعات الحديثة - مصر، ديسمبر كانون الأول 1957) مقالة بعنوان عادل زعيتــر جاء فيها : وكان في عادل دقة في الترجمة، إلا ما تحدثـــــــه



-11-

الترجمة عن لغة ثانية من فروق - كما كان فيه أصالة في التعبير، وفحولة في التركيب، وضلاعة في اللغة وميل الى احياء اللفظة الغريبة لا استكراها في جلبها ولكن اشاعة لاستعمالها. وجاء في نعي مجمع اللغة العربية بدمشق له (مجلة المجمع عدد 33 سنة 1977 ص 66) ما نصه : كان الفقيد في طليعة المترجمين، أمينا في نقله سليما في اسلوب انشائه" . ويقف المطالع في مترجماته على هذه الحقيقة بسهولة ويسر. ونشرت مجلة الحياة البيروتية (12/1/1957) مقالة بعنوان "اكبر المنتجين العرب" تعني عادلا، جاء فيها " ولغته في الترجمة هي النقية العالية الطبقة، وقد رسخت قدمه في هذا الفن رسوخا يجعل القارئ يؤمن بأنه انما يقرأ عبارة عربية كأنها خلقت عربية، ولم تنقل ترجمة بحال ... وكثيرا ما رأينا ان فردا من الكتاب تخير لفظا او مصطلحا فوفق فيه اكثر مما يوفق المجمع العلمي بأسره، وأحيانا يثبت في الحاشية اللفظية الاجنبية التي أتاك بتعريب مختار لها" قلت : وهذا منهج غدا اليوم متبعا على نطاق واسع، ومطلب يقتضيه البحث العلمي، أي ان يثبت الاصطلاح الأعجمي الى جانب الاصطلاح العربي المترجم او موازيا له في الهامش، إمعانا في الدقة والاحتياط .

ومن شأنه رحمه الله انه كان يتخير فصيح الألفاظ لا رغبة في التقعر ولا تحذلقا، ولكن احياء لتلك الالفاظ وادراجا لها على الأقلام، لأن الألفاظ تتأبد ما لم تؤنسـها الألسن بتداولها، والآذان باستماعها .

وفي هذا الصدد يقول عبد الله المشنوق في مقالة بعنوان "الوسيط الاول" نشرتها بيروت المساء (بيروت 12 كانون الأول سنة 1957) : "ولم تعرف العربية مدققا في اختيار الألفاظ الفصيحة كالمرحوم عادل زعيتر ... وقد حدثني شقيقه الاستاذ الكبير اكرم زعيتر - رحمه الله - عن غلطة اكتشفها اكرم في إحدى ترجمات عادل اذ استعمل عادل كلمة الماس - الجوهر الثمين المشهور معرفا مرتين بالالف واللام (الالماس) فكتب له يقول له : الصواب ان تقول الماس، وبعد عام التقيا على التلفون، وكان اولى كلماته لاخيه اكرم بعد تبادل السلامات: الصحيح الألماس، وأنا على صواب ... والحقيقة ان عادلا هو المصيب" .

وفي هذا المعنى قال مصطفى جواد ممثل المجمع العلمي العراقي يؤبنه في أربعينه (كتاب التأبين ص 126) : "ولقد كان - رحمه الله - ينتقي الكلمات العربية انتقاء ليعبر بها عن كلمات فرنسية يعز على غيره الاهتداء الى ما يقابلها في العربية حق المقابلة، انه كان عِدًّا لاخصاب اللغة العربية، ولكن هذا العد قد انقطع" وجاء في ذكريات شقيقه المرحوم اكرم (كتاب التأبين ص 205) انه كان يدخل في ما يكتب كلمات غير مألوفة، ولكنها ليست نابية، وهي تأتيه عفوا من دون تكلـف



-12-

وكان هذا مثار جدل بينه وبين بعض أصدقائه من الأدباء والعلماء، وأن صديقه الاستاذ نصوح الأيوبي كتب اليه من دمشق مثنيا على احد كتبه، وقد اعترض على ايراده في الكتاب كلمة "الخنراونة"(1) بمعنى الكبر، وداعبه قائلا: "وليس من المفجع يا سيدي ان تموت كلمة الخنزاونة -من اللغة العربية" فتلقى عادل تلك الدعابة ضاحكا وأجابه بضرورة تطعيم اللغة بكلمات على الا تكون نابية. ومما قاله ان كلمة عنجهية تفيد المعنى ذاته، ولم تكن تستعمل حتى رددها الامير شكيب أرسلان فغدت مألوفة سائغة" قلت : ولعل هذا التعلق الشديد بالعربية، والحرص عليها هو القاســـم المشترك بين كل من زعيتر وارسلان الذي اغرى محمد على الطاهر بمقالته التي نشرتها له الاديب البيروتية (عدد كانون الثاني 1958) بعنوان" الشبه بين عادل وشكيب" .

ويتوالى شريط الذكريات، فيقول اكرم (ص 206) كان عادل يحرص على صحة لغته حديثا وكتابه، ويعني بتشكيل كثير من الكلمات التي يحتمل الالتباس في صحة لفظها، فكم من فائدة لغوية يجتنيها قارئ كتبه، وقد تعلمت منه مثلا ان أقول "المُتحف" بضم الميم لا بفتحها، لأنها مشتقة من أتحف لا من تحف .. .

ومن الشهادات التي تؤكد مذهب عادل زعيتر في تخير الفاظه ولو كانت من الغريب ما نشرته مجلة الثقافة في عدديها الصادرين في 2/3/1948، 20/4/1948 من نقاش بين الدكتور احمد فؤاد الاهواني استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة آنذاك، وعادل زعيتر بعد صدور ترجمته لكتاب حضارات الهند، اذ كتب الاهواني "ان المترجم في سبيل الارتفاع بالاسلوب جعل ينقب الالفاظ الغريبة يضعها في مكان الالفاظ الفرنسية كاتخاذه كلمة "العرق" بدلا من الجنس ، وكاتخاذه كلمة "شماريخ الجبال" بدلا من "رؤوس الجبال" ... ويرد عادل رد لغوي أديب، يصدر عن قلب مفعم بحب اللغة والحرص عليها، وبتمثل رده في :

1- ان ما ورد من غريب لم يأت تكلفا وانما جاء عفوا .

2- ان ادراج هذا الغريب مفيد نافع لما يؤدي اليه من تطعيم للغة الدارجة والنهوض بها ..

3- انه لا يضير كتابا ضخما كحضارات الهند ان يشتمل على بضعة الفاظ من هذا النوع لا سيما انه كتاب ادب .

4- ان هذه الالفاظ ليست نابية، وانه استخدم الى جانب الشماريخ الرؤوس والذرى، ولكنه يرى

-----------------------------

1- انظر تحقيقنا لكتاب العشرات في غريب اللغة لأبي عمر الزاهد ط عمان 1984 ص 86 وهـ 14 ص 87.



-13-

ان "شماريخ" في موقعها الذي استخدمت فيه " أوقع في النفس من كلمة رؤوس" ويؤكد وديع فلســـطين ذلك المنحى في ترجمات عادل زعيتر (الحياة - لندن. 24 شباط 1995) قائلا: كان عادل زعيتر يتأنق في ترجماته تأنقا شديدا، وصفه بعض نقاده بالتقعر والتفاصح اذ لم يكن يستخدم اللفظة السهلة القريبة المنال، بل كان يؤثر عليها اللفظة المعجمية غير الدارجة ثم يشرحها في هامش الصفحة، ومن ذلك مثلا قوله: ان زيدا من الناس تزوج فتاة صغيرة بعدما "آم" ويشير في هامش الصفحة الى ان لفظة (آم) معناها فَقَد الزوجة. وكان يصف الصـــورة التي تعبد بالنصمة، ويترجم لفظـــة Puritain بالحنبلي، فــي حين يرى ناقدوه ان الحنابلة فرقة اسلامية، أما البيوريتان فهم فرقة مسيحية.(1) .. وهو يستخدم عبارة "يكردح الحمار" ثم يشرحها في الهامش بقوله : ان كردح تعني ان الحمار عدا عدوا قصيرا .. ومن هذا القبيل استخدامه لعبارة "ارتعج البرق" بمعنى تتابع البرق، واستخدامه كلمة الاضوار بمعنى السحب السود، والطاخية بمعنى المظلمة ، والأضواج بمعنى منعطفات الوادي، والمراتج بمعنى الطرق الضيقة ، واستغدر المكان بمعنى صار فيه غدران، والجذول بمعنى الاصول الباقية للأشجار بعد ذهاب فروعها، والثول بمعنى الحماقة.. وهلم جرا، ورأى النقاد أن هذه الهوامش، اقتضاها تقعره في اللغة دون مسوغ .

قلت : ان من هذه الالفاظ ما يستخدم في اللهجات الدارجة في جنوب الجزيرة العربية الى اليوم، وما هي بالغريبة الا عند من تغرّب عن أرومته وصدف عن نهج الأصالة .

وعادل زعيتر عروبي الهوى والنزعة، يترجم روائع الادب والفكر العالميين ليسد ثغرة في المكتبة العربية، وليقدم للقارئ العربي تلك الروائع لتسهم في صقل فكره، وحفزه على المضي قدما على طريق الرقي والتحضر، ومن هنا كان يعف عن ترجمة الكتب الهزيلة، التي تدر مالا كثيرا على مترجميها، لأنه لم يكن طالب مال ولا جاه، وانما كان يتحرق لما آل اليه أمر الامة، وهو بذلك قد رد للترجمة اعتبارها، وهذا هو عنوان مقالة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في تأبينه، والتي جاء فيها (كتاب التأبين ص 119، 120) "وكم حاول بعض الناشرين ان يغروه بالنزول عن مستواه ليكسب مزيدا من القراء، لكن المحاولة ضاعت سدى، وبقي حيث هو مصعــدا، .. وكما عصي قلمه عن الاســـفاف والهبوط، عصي منهجه في اختيار المترجمــات

----------------------------------

1- في اللهجات الدارجة في بلاد الشام بكثر استخدام كلمة حنبلي للمتشدد، لما عرف عن الامام احمد بن حنبل من تشدده .



-14-

علــى الانحراف والزيغ والضلال، فأبى أن يستجيب لتجار التموين العقلي، أو يأجر قلمـــــه لمـــن أرادوا ان يجعلوا الترجمة أداة غزو مقنع، يدمر معنوياتنا، ويسمم عقولنا ووجداننا، كما أبى ان يتملق أهواء العوام وميول المراهقين، ولم يحد قط عما رسمه لنفسه من نهج كريم الهدف، نبيل المقصد، رفيع المستوى. فما نقل أثرا لكاتب غربي الا بعد أن اطمأن الى جدواه على قومه العرب، ولا اهتم بمفكر غربي الا اذا رآه اهلا لان يهتم بمثله.

ومما يؤكد ترفعه ونزاهته أنه ترجم فصولا من كتاب "الاعترافات" لجان جاك روسو، ثم كف عن الترجمة لأن مزاجه لا يسيغ أن ينقل قلمه الاعترافات المكشوفة (كتاب التأبين ص 209). ويؤكد أكرم زعيتر شقيق عادل - رحمهما الله- أن عادلا كتب اليه في 10/8/1953 يقول : أخذت في ترجمة " هو ذا الانسان" لنيتشه، وبعد أن قطعت شوطا بعيداً في أسبوع، أصبت بمرض الروماتزم في ظهري، فأقعدني عن العمل، وطرحني في الفراش، ثم شفيت منه منذ يومين، فرأيت ألا أستأنف العمل في ذات الكتاب لإفراط المؤلف في اللادينية، وتهجمه على الأنبياء، وحملته الشديدة على المبادىء الانسانية، أي، لأمور لا أقر نيتشه عليها لا في قليل ولا في كثير. (المصدر السابق ص 209).

وهذا يعكس بجلاء ووضوح أن عادل زعيتر كان يتوخى النزاهة والاستقامة ويأخذ بأسباب الأدب في اختيار مترجماته، لأن حرصه إنما كان على تزويد المكتبة العربية بأمهات الأسفار التي ضمنها مفكرو الغرب آراءهم ومعارفهم التي تبلورت في أعقاب مخاضات عسيرة مرت به ديارهم، وكــأن مشاعل أضاءت دروبهم في اتجاه الحضارة التي تنعم بها أوروبة اليوم لو لم تكن مادية وحسب. وقد أكد هذه الحقيقة محمود سيف الدين الايراني في مقالته التي نشرتها له جريدة الدفاع المقدسية في 14/3/1958 اذ قال "وانه ليبدو لي أن عادل زعيتر ما نقل كتابا الا بعد أناة وتدبر وتساؤل طويل عن فائدته وقيمته وعن مدى انتفاعنا به، وما يمكن أن يضيفه الى ثقافتنا من رفد ومدد، حتى اذا رجح الكتاب في كفة البحث والتمحيص والتحقيق والتدقيق والنظر السديد في قيمته وفائدته أكب على ترجمته ... فيجيء النقل على هذا النسق الرفيع من الأحكام والدقة والأمانة والبلاغة المعجزة .

وخلاصــة لهذا البحث يمكن القول ان عادل زعيتر قدم للقراء خلاصة الفكر الغربي ممثلا في عيون المراجع التي ترجمها لأعلام المفكرين والكتاب الغربيين، وبذلك يكون قد جمع بين الكم والكيف، مما أغنى المكتبة العربية وأمدها بتلك الروائع، وفتح بابا على الثقافة الغربية الرصينــة.ولم يكن عادل حاطب ليل، بل كان ينتقي ويختار، ولم يكن يتعجل أمره، بل كان يتأنـــى



-15-

في عمله، وبحكمـه، كما انه لم يكن طالب شهرة ولا مال ولا مجد رخيص، اذ كان يتعفف عن ذلك كله، ويأخذ نفسه بالعزيمة، يشهد له بذلك كل من عرفه الا اولئك الذين رأوا في عمله تعرية لنكوصهم وتقصيرهم.

وكان أمينا في عمله، ويعتني به اعتناء منقطع النظير، وهو يصدر في كل ما قدمه عن عروبية فاعلة تحتدم في وجدانه، وغيرة على أمته وتراثها قّل أن نجدهما عند غيره .













عادل زعيتر ومكانته بين المترجمين

أ.د. يحيى جبر وأ. عبير حمد

عكف يحيى جبر عامين على جمع مادة علمية ووثائقية تعكس سيرة العلامة عادل زعيتر المتوفى عام 1957، وفي أواخر عام 1996 خاطب جهات عربية ودولية عدة لتنظيم ندوة في الذكرى السنوية الأربعين لرحيله ، على غرار تلك التي نظمناها في جامعة النجاح الوطنية في الذكرى العاشرة لرحيل المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة، وبادر إلى إنجاز دراسة نشرت في العدد الأخير من مجلة التعريب الدمشقية بعنوان عادل زعيتر وفن الترجمة، وقد ضمنها الكتاب الذي أصدره في الموسوعة التربوية الفلسطينية برقم 23 ع 4 وهو مخصص لسيرة عادل زعيتر.

1

لا يملك المطلع على جهود عادل زعيتر في مجال الترجمة والخدمة القومية مقارنة بذيوع اسمه في المحافل الثقافية والعلمية إلا أن يؤيد المستشرق الألماني شتفان فلد في ما ذهب إليه من قوله "إن عادل زعيتر واحد من المترجمين المجهولين"(1) الذين لم يُنْصَفوا، ذلك لأن منجزاته تفوق في عظمتها وأهميتها ما أولته إياه المؤسسات الثقافية في الوطن العربي عموما، وفلسطين خصوصا، من الاهتمام وسعة الذكر؛ اللهم إلا ما نجده في مدينة نابلس من مدرسة ابتدائية تحمل اسمه تقع غير بعيد من منزله.

وقد نجد في تبدل الأوضاع الثقافية في الوطن العربي، وتوالي الفتن التي تجتاحه سببا في عدم الانتباه إلى عادل زعيتر وأمثاله من رموز العطاء الثقافي، إضافة إلى أنه كان يجسد في شخصه وأدائه بعدا قوميا لم يعد قائما؛ بسبب ما حل بالأمة من عوامل الهدم والتمزق..فقد كانت حياته على مفترق طرق، فمن عثماني إلى سوري إلى فلسطيني خاضع للانتداب الإنجليزي، فأردني، إلى مصري هوى ودار عمل؛ فكأنه بذلك قد استجاب لواقع الأمة؛ فأصابه ما أصابها ، وكان باختصار، شاهدا على عصره الذي عاش فيه، واستطاع أن يتحول بدأبه وجهده وصبره وكفاحه إلى عَلَم من أعلام الأمة الخالدين. وانطلاقا من حرصنا على رأب الصدع ما وسعنا الجهد، وعلى تدارك ما يمكن أن نلحق به قبل فوات الأوان، فقد بادرنا إلى رفع لواء الوفاء للذاهبين من أعلام ثقافتنا، نعرف بهم، ونتقصى آثارهم نتقفاها ونقتدي بها، ومن يدري، فقد يمثل ذلك بداية أمينة لمنهج جديد، نصل به الحاضر بالماضي المجيد.

وقد سبقنا إلى إنصاف عادل زعيتر كثير من الباحثين ممن أتيح لهم إن يطلعوا على منجزاته، وهم لم يفعلوا ذلك مأخوذين بمقدار ما ترجم وحسب، بل بنوعه ومضمونه وموضوعاته أيضا، ولا يملك من يعرف سيرة عادل زعيتر وآثاره إلا أن تهتز نفسه إعجابا به وبها، ومن هنا فنحن لا نستغرب أن يقول فيه محمد علي الطاهر "لقد كان عادل زعيتر - في اعتقادي- أعظم وابلغ مترجم في العصر الحاضر للأعاظم من علماء أوروبا ومفكريها " (خمسون عاما ص345) إذ هو عظيم وترجم للعظماء، فكان في عداد عظماء مفكري الأمة في العصر الحديث كشكيب أرسلان ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وغيرهم.

حركة الترجمة العربية في العصر الحديث:

نشط التراجمة العرب في القرنين الأخيرين، فعادت الروح إلى هذه الظاهرة الحضارية بعد أن كانت توقفت - أو قل تراجعت كثيرا - في العصر العثماني وعصر المماليك المتتابعة من قبله. وكانت بداية البداية الحديثة على يد نفر من مصر يمثلون علامة بارزة على الطريق أبعدهم ذكرا رفاعة الطهطاوي، وازدهرت هذه الحركة من بعد في بلاد الشام بالنقل عن التركية والروسية والفرنسية والإنجليزية، وراجت سوقها، وازداد عدد اللغات المترجم عنها فنقل العرب عن الأسبانية والألمانية والعبرية وغيرها، وازدحمت بذلك السكة على نحو لم يسبقه مثيل.

والغالب في المترجمين أن يختص كل منهم بلغة يترجم عنها، فهناك من اختصوا بالترجمة عن الروسية، وأكثرهم من بلاد الشام لاسيما فلسطين، وقد أحصاهم عددا عمر محاميد في كتابه "صفحات من تاريخ مدارس الجمعية الروسية - الفلسطينية في فلسطين" وجلهم نشطوا ما بين عامي 1882-1914 لأن قيام الحرب العالمية الأولى ونتائجها وقيام الثورة الاشتراكية في روسيا أدت إلى جمود الحركة، وانكماش العلاقة الثقافية بين اللغتين العربية والروسية، هذه العلاقة التي لم تتجدد إلا في أعقاب ثورة 1952 بمصر وانفتاح بعض البلدان العربية على الاتحاد السوفيتي، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه، لا في زخمها ولا في الموضوعات التي برزت فيها.

وفي غضون هذه الفترة، كانت الفرنسية والإنجليزية قد احتلتا مواقع الروسية والتركية، وكثر المشتغلون في مجال الترجمة، وتنوعت أغراضهم، وأساليبهم، وما نرى تلك الكثرة إلا نتاجا للأوضاع التي واكبت فترة الاحتلال الأجنبي سواء أكان ذلك بابتعاث أعداد كبيرة "نسبيا" إلى بلاد الغرب، أم بفتح معاهد غربية في بلاد العرب وتطبيق المناهج الغربية فيها وغير ذلك من الوسائل.

ويوما بعد يوم يتواصل المد، وتقع السفينة تحت تأثير موجة أخرى، لسبب أو لآخر، وتزداد اللغات المترجم عنها، وتتنوع الموضوعات التي تسترعي انتباه المترجمين إليها وتختلف الدوافع المحركة، وتغدو الترجمة مهنة لعدد لا بأس به من العاملين، ويختلط الحابل بالنابل، ويتسلل كثير من الكتب السقيمة إلى الساحة من الأبواب الجانبية، ويطرأ في الأفق نجوم خافتة لا تكاد تبين. وفي هذا الذي تقدم ما يدعو إلى تقويم حركة الترجمة في العصر الحديث والتوجه إليها بالنقد في جميع أبعادها من أجل تخليصها مما يشينها والارتقاء بمستواها لما تمثله من مظهر حضاري راق، وتسهم فيه من تقدم وإبداع.


عادل زعيتر مترجما:

ومن أعيان التراجمة في هذا العصر عادل زعيتر، وهو يحتل مكانا رفيعا بين المترجمين، ويمتاز أداؤه عن غيره بعدد كبير من الصفات الحميدة، ونستعرض في ما يأتي جملة ما أسهم في تكوين كفاءته ومكنته، وما ارتقى به وبعمله هذه المكانة العالية.

أولا: علو همته وإصراره وذكاؤه.

فقد عرف عنه أنه كان يأخذ نفسه بالعزيمة منذ صغره، وكان متفوقا في دروسه "فلقد كان دوما من الأوائل في دراسته وفي إتقانه لما يتعلم من علوم أو لغات، أو ما يقوم به من عمل وجهد" (الكيلاني ص 3) "وفي عام 1946 وقد اشرف على الخمسين من عمره، أحس بانقضاء أكثر العمر، ومن يدري ما تبقى منه؟ فقرر اعتزال المحاماة والاعتكاف كليا في صومعته مكرسا وقته وجهده وحياته وماله للترجمة، وحين أقول وقته وجهده فلقد كان ذا طاقة جبارة يعمل في مكتبه بين القراءة والكتابة والتنقيب عن الكلمات والمعاني بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميا يكاد خلالها لا يأكل ولا يشرب ولا يقابل أحدا" (الكيلاني 3) وفي هذا ما يشير إلى انه كان طوال عمره على وتيرة واحدة من الجدية والاجتهاد. ويعبر صديقه محمد علي الطاهر عن هذه الروح التي امتاز بها عادل فيقول: "إن عادل حين تبتل للعلم كان قد عزف عن مباهج الدنيا وعن السياسة منذ رأى الدجاجلة يظهرون، وأهل الغوغائية يبرزون، وأهل الحِمى يهملون، فتقززت نفسه من سوء ما رأى، ونأى بخلقه القويم عما يتهافت عليه أبناء جيله... لذلك انصرف عادل عن المحاماة وكان من أعلامها، ونذر نفسه للقيام بمهمة تنوير العقول والارتفاع بالأفهام، فكان عادل بهذه المثابة سراجا لأمته ومنارا لقومه، وسوف يعجز كل من يأتي بعده، وسيحير الذين يتصدون بعده للترجمة ونقل علوم الغير من لغة إلى لغة، وما مات عادل ولحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن قام بما تعجز المجامع العلمية عن القيام به، وناب عن الجامعات في تقريب العلم إلى الناس، بل قام وحده بما لم تستطع الحكومات أن تقوم به" الطاهر 345، 346.

وفي هذا المعنى يقول محمود الأرناؤوط (23، 24) "واستطاع أن يتحول بدأبه وجهده وصبره وكفاحه إلى علم من أعلام الأمة الخالدين وان ما استطاع أن يقدمه إلى قراء العربية من نفائس الأعمال العلمية الرصينة لجمهرة من عمالقة الثقافة في فرنسا في العصر الحديث، بلغة راقية، وأسلوب عالي المستوى، ليشهد له بالعبقرية والنبوغ".

فهذه شهادات توضح ما كان عليه زعيتر من الإصرار والعزيمة وبعد الهمة، مما أتاح له ما لم يتح لغيره فكان في عصاميته واعتداده نسيج وحده.

ثانيا: تبحره في الثقافة الأجنبية

امتاز عادل زعيتر بسعة اطلاعه وإقباله على المعرفة بنهم شديد، فبعد احتلال الفرنسيين لدمشق غادرها إلى باريس ليدرس القانون، "وهناك تشرب الثقافة الفرنسية، وقرأ أعمال المفكرين السياسيين الفرنسيين قراءة مستفيضة" أبو غزالة 43 وقد مكنه من ذلك إتقانه للفرنسية والإنجليزية والتركية، مما أتاح له فرصة الاطلاع على آداب الشعوب الناطقة بها الإحاطة بعلومها وإنجازاتها.

"إن الثقافة العالية الرفيعة التي وصل إليها عادل زعيتر بجده وسهره ونشأته في المحيط الوطني المجاهد الذي عاش فيه، مع تمكنه من نواصي اللغات العربية والتركية والفرنسية والإنجليزية جعلته يملك زمام موضوعه بهذه الأدوات العلمية التي قل أن يظفر بها أحد من المعاصرين" الطاهر ص 345 ومما يشهد بهذه الحقيقة ذلك المستوى الرفيع من الأداء الترجمى، وذلك التنوع في موضوعات الكتب المترجمة على الرغم من انه يعد في مجلة المتخصصين على نحو ما سنورده لاحقا.

ثالثا: البعد القومي

لم يكن عادل زعيتر ينطلق من فراغ، ولم يقم بما أنجزه دون حافز، بل انه لم يندفع إلى عمله استجابة لمآرب خاصة، بل كان حاديه في كل ما فعل هو ما كان عليه وضع الأمة من سوء، وتكالب القوى الاستعمارية عليها، وتردي أحوالها، وتخلفها الثقافي، بعبارة أخرى، لقد كان عمله مسيَّسا يهدف به إلى رفع شأن الأمة، ولذلك راح يترجم للأعمال التي أثرت عميقا في المجتمع الأوروبي عموما، والفرنسي خصوصا، أملا في أن تحدث تلك الأعمال في شعبه ما أحدثته في الغرب.

"إن الرسالة التي اختارها من أبواب الفكر والفلسفة، وليست من نوع تجاري ليملأ جيبه من ورائها في روايات وأقاصيص أو ما سهل علاجه من الترجمات، بل تعلق بغرض هو أسمى ما تتطاول إليه عقول نَقَله الأفكار من كل حضارة.. ولكنه حدد رسالته وعينها، ووثق من حاجة أمته إليها، وأمن من نفسه الكفاية العلمية لأداء هذا الغرض على أتم وجه وأنفعه وأبدعه. فكان في اختياره كتابا للترجمة يُعنى بأن يكون مما تحتاج إليه الأمة العربية، وإلا يكون له نظير في لغتها..." الأرناؤوط 28، 29 انه بذلك يستحق أن يوصف بأنه كان قَيّما على الأمة يرعاها بما أوتي من جهد، ويسهر على مصالحها أملا في إصلاح ما يمكن إصلاحه من شأنها.

ويتضح البعد القومي في سيرته بحرصه على ترجمة بعض الكتب التي كان "يعتقد بوجوب نقلها إلى العربية، وكان يرجو أن تتيح له الأقدار عمرا يستطيع فيه أن يتولى هو هذا النقل ككتاب سير الأبطال لبلوتارك.. الذي كان يعجب به كل الإعجاب، ويرى أن ترجمته ضرورية، ويتحسر ألا يقرأ العرب هذا لكتاب لخالد.. (الأرناؤوط ص 35 ) وشبيه بذلك ما ورد في مقدمة ترجمته لكتاب بسمارك من قوله (ص 3) "نقدم هذا الكتاب إلى الأمة العربية في وقت هي في اشد الاحتياج إلى مثله، فلعل العرب يبصرون من مطالعته كيف تقام الجامعات، وكيف توحد الشعوب والدول على أسس صحيحة.."

وكان عادل زعيتر حريصا أشد الحرص على ترجمة الكتب التي انصف مؤلفوها الأمة الإسلامية وعلماءها، على طريق بعث أمجاد الأمة، وبيان فضلها بشهادة الأجانب، فقد جاء في مقدمة ترجمته لكتاب حضارة العرب لمؤلفه جوستاف لوبون (ص 7)" أكون قد أدخلت كتب لوبون المهمة الأخذ بعضها برقاب بعض إلى العربية إدخالا يخيل إلى الباحث معه أن هذا الحكيم الجليل من العرب، ولا عجب، فلوبون واضع سفر "حضارة العرب" وأكثر من ذلك، فقد كان عادل زعيتر "يعني بالرد على كل خطأ يقع فيه المؤلف خاصة إذا اتصل بتاريخنا" الجندي - تطور الترجمة ص 77 والنثر العربي ص 568.

لقد آمن عادل زعيتر بأن تحرر الأمة رهين بقيادة سليمة، وبتنظيم دقيق لحركة وطنية بين العرب، "فقرر أن يضع تحت تصرف الزعماء الوطنيين الفلسطينيين خلاصة الأفكار الأوروبية في القومية، ولذلك فقد خصص جل وقته للترجمة، ولكونه متشربا الثقافة الفرنسية ومؤمنا بان فكرة القومية الحديثة نشأت في فرنسا، فقد ترجم للكتاب الفرنسيين المشهورين بشكل خاص" أبو غزالة ص 44. وقد عبر أبو غزالة عن هذا التوجه لدى عادل زعيتر في موضع آخر من كتابه "الثقافة القومية في فلسطين" بقوله "ولا يزال هناك مظهر آخر للنهضة الأدبية في فلسطين تحت حكم الانتداب، هو ترجمة المؤلفات الغربية من الإنجليزية والفرنسية غالبا، وتعكس هذه المترجمات الوعي الوطني لدى المترجمين، لقد حاول بعض هؤلاء الرجال، مثل عادل زعيتر، أن يعرفوا أبناء بلدهم (وأمتهم) على الفكر السياسي في الغربي في الحكم الشعبي وأفكار أخرى حول الحكومة" (ص 92).

أجل، لقد كانت الترجمة عينا أخرى على الغرب، وكانت أعمال عادل زعيتر أجلّ ما وقعت عليه تلك العين، وما نرى إميل توما إلا قاصدا أعمال عادل زعيتر في مقالته "مدخل البحث في الثقافة العربية" (الجديد ص 6) حيث قوله "كما أن هذه الثقافة لم تتقوقع في التراث القديم على الرغم من ظهور دعاة إلى ذلك، بل آثرت الانفتاح على الثقافة الأوروبية، واستوعبت مبادىء الثورة الفرنسية وأقبلت على نتاج الأدباء والمفكرين وبخاصة الفرنسيين والروس".

ولم يكن عادل زعيتر يرى فاصلا بين الدين والقومية، بل كان في توجهه القومي مسلما شديد التمسك بتعاليم دينه والمبادئ التي يقوم عليها. ويتضح ذلك في كثير من مواقفه وملامح سيرته، ومن ذلك ما واجهه في ترجمة ابن الانسان السيد المسيح عليه السلام، من تردد طويل توّجه بقوله : إنني كمسلم لا أوافق المؤلف على ما ذهب إليه في أمر السيد المسيح" الجندي - المحافظة والتجديد ص 571.

رابعا: الدقة

تتصف مترجمات عادل زعيتر بدقة بالغة، وكان يذهب بعيدا في ترجمته فيغير على المفردات الرصينة، وقد لا نعجب من ذلك، إذ عاش زعيتر في فترة شهدت توجها عاما نحو إحياء التراث واللغة بوجه خاص. وتظهر دقته في انتقاء مفرداته، واختيار معانيه، وضبطه الألفاظ بالشكل، وشرح غامضها، وتنوير بالنص بما يجلو مبهمة، ويفسر غريبه، ناهيك عن تأنقه في كل عمله. ويتضح هذا المنهج في سيرته وعمله في قول محمد الحلبي صاحب دار إحياء الكتب العربية في القاهرة في حينه "إنني أدير مطبعتنا منذ اثنين وثلاثين عاما، وقد تعاملنا في أثناء ذلك مع عدد كبير جدا من المؤلفين والمترجمين والمحققين من مصر وسائر البلاد العربية والإسلامية، فلم أجد أدق من الاستإذ عادل زعيتر في عنايته بتصحيح كتبه وسهره عليها وحرصه على إتقانها" الأرناؤوط ص 30 هـ1.

ويتفق مع الدقة فهم النص والتعمق في ذلك بسبر غوره، والنفاذ غلى روح الكاتب، ومما أثر عن عادل زعيتر قوله بهذا الصدد " إن مهمة المترجم ليست نقل العبارة الأجنبية إلى العربية، بل إن هناك ما هو أهم وأعظم من هذا بمراحل كثيرة، وهو أن ينفذ المترجم إلى روح الكاتب، وأن يفهم شخصية المؤلف تمام الفهم" خورشيد ص 57.

ولأن ينفذ المترجم إلى روح الكاتب يقتضي ألا تكون الترجمة حرفية، ذلك لما بين اللغات من تفاوت في مناهج التعبير وطرق النظم، ولكن عادل زعيتر "كان يلتزم بحرفية النص مع التصرف في حدود الخير بعد قراءة كل المراجع التي تتصل بالكتاب الذي يترجمه" الجندي - تطور 77، حتى لكأنها وضعت أصلا بالعربية "والمترجم البارع هو من ينقل الكتاب إلى لغته وكأنه هو المؤلف " الجندي - تطور 79.

وكان من تمام الدقة في أعماله انه لم يكن يركن في تدقيق مسوداتها وتجارب طبعها إلى أي احد كان، وإنما كان يقوم بذلك بنفسه، يقول صديقه محمد علي الطاهر (ص 348) في هذا الصدد "وان سألني سائل أين المال الذي قبضه عادل من دور الطبع والنشر مقابل ترجمته تلك المكتبة التي قدمها لأمته، فأني مخبر السائل بأن عادلا كان يدفع قيمة أتعابه إلى شركات الطيران وفنادق القاهرة حين كان يأتيها ويقيم فيها ثلاثة أشهر في كل عام لتصحيح (بروفات) هذه الكتب.. لأن إتقان مترجماته لا يتم في نظره إلا إذا طبعت صحيحة، وأن تطبع أتقن وأجمل طبع".

ولا شك في أن ذلك كله قد اضطره إلى بذل جهود مضنية، وكبده مشقات جساما، لأن الترجمة المحكمة إبداع وأمانة، ناهيك عما كان يقتضيه حرصه على العربية وبعث ألفاظها مع مراعاة موافقتها للذوق والسلاسة، وعما كان يتجشمه جراء ذلك من نفقات إذ يقول"لم نتوخ الربح المادي، وكانت وجهتنا خالصة لوجه الثقافة والأدب وخدمة العرب مع ما كابدنا من جهود عنيفة مضاعفة في سبك عبارتها وجعلها بعيدة عن العجمة والألفاظ الحوشية ومع ما زهدنا عنه في أثنائها من كسب مناله من مهنة المحاماة وغيرها" الجندي - المحافظة والتجديد ص 568. وكان يتصل بأصدقائه وغيرهم يستشيرهم ويتحرى بعض المعلومات، فكان بذلك لا يخرج بترجمته على الناس إلا قد أوسعها تمحيصا، وأشبعها مراجعة وتدقيقا _راجع جبر - عادل زعيتر وفن الترجمة).

خامسا: التخصص

يعد التخصص سمة العصر الحديث، وهو مفض إلى الدقة والإتقان لا محالة، ذلك بما يتيحه للمرء من تمكن في سبر غور الموضوع. وقد كان عادل زعيتر متخصصا إلى حد كبير في مترجماته، فقد ترجم عن الفرنسية، وفي مجالات متداخلة متناصية في موضوعاتها. يقول حسام الخطيب (ص 71، 116) "...سجلت الفرنسية وجودا خاصا عن طريق عادل زعيتر الذي أغنى المكتبة العربية بترجمات من عباقرة المؤلفين الفرنسيين وإذا كانت الترجمات العلمية والوظيفية قد سجلت طغيانا فائقا للغة الإنجليزية فان الترجمات الفكرية والأدبية ظلت تجنح باتجاه اللغتين الروسية والفرنسية"، ويقول في موضع آخر (ص 83، 139، 140) "ولا بد من ختام هذا البند حول ظاهرة التخصص الايجابية (في الترجمة) من التذكير بان لهذه الظاهرة جذورا في تاريخ الترجمة الفلسطينية بدأها المترجم الفلسطيني الأول خليل بيدس وتابعها بجدية مثيرة للإعجاب عدد من رجال الرعيل الأول أبرزهم عادل زعيتر (في مجال التاريخ والسياسة والمجتمع) ونجاتي صدقي (في المجال الأدبي)".

وكان لسعة ثقافته لا يترجم وحسب، وإنما كان يبدي رأيه مؤيدا أو معارضا بين حين وآخر، فجاءت مترجماته حافلة بآرائه النقدية وبتعليقاته وتصويباته. "إن المتتبع للآثار التي خلفها الاستإذ عادل زعيتر في حقل الترجمة يجد له فيها دورا لا يقل أهمية عن دور الترجمة، ألا وهو دور الناقد النافذ البصيرة، حيث يتصدى للجوانب التي جانب الصواب فيها المؤلف، ناقداً، معلقا، معيداً الكاتب والكتاب والقارئ إلى الرأي القوي السديد " (الأرناؤوط ص 36).

سادسا: الكثرة

يمتاز عادل زعيتر عن غيره من المترجمين بكثرة ما ترجمه من الكتب، ولا نعرف من ترجم أكثر مما ترجم عادل سوى خيري حماد، إذ بلغت عدة مترجماته نحوا من مائة كتاب (الخطيب ص 71)، غير أن في ضخامة الكتب التي ترجمها زعيتر ما يرقى بجهوده إلى مرتبة عالية، إذ يقع كثير من كتبه في عدة مجلدات.

وبلغ من حرصه على الإكثار انه قال مرة لأخيه أكرم "حين يبلغ ارتفاع كتبي مرصوصة بعضها إلى بعض طول قامتي ينتهي أجلي" فأجابه الأستاذ أكرم" على أن تطبع على ورق رقيق رقة ورق السيجارة، فسره الجواب" الأرناؤوط ص 35، لقد بلغت كتبه ومحبّراته أضعاف طوله، وكان مع كثرة إنتاجه مجيدا أيما إجادة.

وأخيرا، لقد كان عادل زعيتر ظاهرة نادرة، وعلامة بارزة على طريق التحضر العربي المعاصر، عمل في مجالات مختلفة، في المحاماة والسياسة والترجمة، ولم يكن في فكره مقلدا، بل كان مبدعا مجددا وقد وجد في الفكر الغربي المعاصر، لاسيما أعمال جان جاك روسو وفولتير ما رسّخ لديه هو وجيله الأفكار القومية والثورة الاجتماعية والتحرر، مما أدى إلى تكوّن تيار فكري جديد يقوم على أساس من الرابطة القومية، ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلت شتفان فلد (ص 388) يقول في عادل زعيتر وترجماته "انه مع روسو وفولتير يكون قد اختار خصمين رئيسيين لجمال الدين الأفغاني".

وما نظن عادلا كان يرى فرقا كبيرا بين الرابطتين الشرقية الإسلامية والقومية العربية، وما نظنه عمد إلى ترجمة أعمال فولتير وجان جاك روسو انطلاقا من عداء لجمال الدين الأفغاني وطروحاته الفكرية، أو لفكرة الرابطة الإسلامية، فقد كان "يعجبه التدين في المرء من غير تعصب، وكان محبا للاطلاع على الفقه الإسلامي، ويقرأ القرآن مرة كل عام قراءة تدبر وتفهم، ويقارن بين مختلف التفاسير والسير، وإذا عرضت قضية شرعية كان عادل الحجة التي لا تنازع، وهو إلى تقواه وأدائه للفروض الدينية أداء كاملا، كان نير الفكر إصلاحيّ النزعة، وكان معجبا بالشيخ محمد عبده، وبسعة اطلاع الشيخ محمد رشيد رضا..." الأرناؤوط ص 34.

باختصار، إن عادل زعيتر يمثل بجهوده وتطلعاته مرحلة متميزة من مراحل التحضر العربي في العصر الحديث، ويضاهي في أعماله وآثارها ما أحدثته الترجمة عن اليونانية واللاتينية في العصر العباسي، وما أحدثته حركة الترجمة عن العربية إلى اللغات الأوروبية في الحقبة الاندلسية من أثر في التحضر الأوروبي في العصور الوسطى مما ترك بعض ظلاله على العصر الحديث، هذا العصر الذي نقل أوروبة وامتداداتها الحضارية نقلة جبارة في المجالات العلمية والاجتماعية والتقنية، ولما كانت حال الأمة الإسلامية على ما هي عليه من التخلف، فقد رأى عادل زعيتر في الفكر الذي أحدث في الغرب تلك الثورة الاجتماعية وذلك التقدم العلمي، رأى فيه فكرا صالحا لأن يحدث في أمته ما يفجر كوامنها، ويعجل مسلسل التفاعلات الاجتماعية المفضي إلى تبدل الحال إلى ما هو أفضل، ولذلك فقد بادر إلى نقل أمهات الكتب الفرنسية عن قصد وإصرار، هادفا إلى تنوير العقل العربي ورفد المكتبة العربية بما يثريها، وقد فعل ذلك كله منطلقا من علم جم، ودراية باللغات واسعة. فاستحق بذلك أن يتبوأ مكانة خاصة يمتاز بها عن سائر مترجمي العصر نظرا للدوافع السامية التي كانت تحركه، وللمواصفات الرفيعة التي اتصفت بها أعماله.



المراجع

1- الثقافة المصرية العدد الصادر في 2/3/1948.

2- زهرات الياسمين، محمود الأرناؤوط. مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. الكويت 1409/1988.

3- حركة الترجمة لدى أبناء فلسطين. حسام الخطيب، المجلة الثقافية (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، عدد أيلول سبتمبر 1986).

4- حركة الترجمة الفلسطينية. حسام الخطيب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. الطبعة الأولى سنة 1995.

5- الثقافة القومية في فلسطين، عدنان أبو غزالة، ترجمة حسني محمود، دار الأسوار، عكا، د.ت.

6- الأستاذ الكبير عادل زعيتر، شوكة زيد الكيلاني. كلمة في ذكراه.

7- الترجمة. إبراهيم زكي خورشيد، مجلة الفيصل، الرياض، عدد تشرين الثاني، نوفمبر 1984.

8- تطور الترجمة، أنور الجندي. مطبعة الرسالة بمصر 1963.

9- خسمون عاما في القضايا العربية، محمد علي الطاهر، مؤسسة دار الريحاني، بيروت 1974.

10- المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مائة عام. أنور الجندي، مكتبة الأنجلو مصرية 1961.

Wild, Stefan. Islamic Enlightment and the Paradox of aver roes, Die welt Des Islam. Band xxx v1, 3. 1996.









وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره


الجزء الأوّل


دار القلم ـ دمشق 2003


عادل زعيتر

بعنوان "رحيل غوستاف لوبون المدافع الأوّل عن الفكرة العربية" كتب الأستاذ إبراهيم العريس كلمة في عدد قريب من "الحياة" عرّف فيها بهذا العالم الفرنسي الذي صنّف ضخام الكتب ذات الأثر الباقي ، ولكن فاته أن يشير إلى أنّ آثار هذا العالم الكبير لم تُعرَف في اللغة العربية إلا عندما نقلها إلى الضاد العلامة الراحل عادل زعيتر، الذي اضطلع بنقل معظم آثار هذا العالم الفرنسي في ترجمات تكاد تكون في نسجها العربيّ الفريد تحاكي نصّها الفرنسيّ. فقد ترجم عادل زعيتر للدكتور لوبون، الذي عرفه شخصيا في باريس عندما كان يدرس في جامعة السوربون، الكتب الضّخام الآتية: "حضارة العرب" و "حضارات الهند" و "روح التربية" و "روح الثورات و الثورة الفرنسية" و "روح السياسة" و "روح الجماعات" و "حياة الحقائق" و "الآراء والمعتقدات" و "السنن النفسية لتطور الأمم" و "فلسفة التاريخ" و "اليهود في تاريخ الحضارات"، وهو عمل فذّ في الترجمة اضطلع به مترجم واحد لمؤلِّف واحد، وكان خليقا بأن يستشهَد به في معرض الحديث عن العالم الفرنسيّ الذي وصفه كاتب المقال المذكور بأنّه "ذاكرة القرن العشرين".

ولو أن عادل زعيتر طاوع مجال دراسته وميدان تخصصه الأصيل، لانصرف إلى الاشتغال بالمحاماة إلى جانب تدريس الفقه الدستوري وأصول المرافعات المدنية والجزائية (أو الجنائية) والاقتصاد السياسي في معهد الحقوق بالقدس.

وفي تلك الفترة من حياته نقل إلى العربية كتاب "الفقه الدستوري" لأستاذه البرفسير أيسمن. ولكن عادل زعيتر، الذي سخّر مكتب المحاماة الخاص به للدفاع عن مواطنيه الذين كانت السلطات العسكرية لحكومة الانتداب تطالب باقتصال أعناقهم، آثر أن يقف شبابه وكهولته وشيخوخته على الترجمة، ناقلاً إلى اللغة العربية ـ عدا ما أسلفت بيانه من كتب لوبون ـ كتباً أخرى نفيسة كثيرة لأعلام المؤلفين في الغرب مثل "روح الشرائع" لمونتسكيو، وقد ترجمه في جزأين ضخمين بتكليف من منظمة اليونسكو، ومثل طائفة من مؤلفات الكاتب الألماني إميل لودفيغ وهي: "النيل" و "البحر المتوسط" و "ابن الإنسان" و "نابليون" و "بسمارك" و "كليوباترة" و "الحياة والحبّ"، ونقل عن فولتير "الرسائل الفلسفية" و "كنديد أو التفاؤل". وعن أناتول فرانس "الآلهة عطاش" و "حديقة أبيقور". وعن جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" و "أصل التفاوت" و "إميل أو التربية". وعن حيدر بامات "مجالي الإسلام". وعن رينان "ابن رشد والرشدية". وعن إميل درمنغم "حياة محمد". وعن فنلون "تلماك". وعن بوتول "ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية" وعن سيديو "تاريخ العرب العام". وعن البارون كرادفو "ابن سينا" و "الغزالي" وقد نشر هذان الكتابان بعد وفاته. وهناك كتاب ثالث للبارون دفو عنوانه "مفكِّرو الإسلام" انقصفت حياة عادل زعيتر وهو مكبٌّ على نقله، ولمّا يُستَكمل أو يَصدُر.

هذا الرجل الضخم أورث الضاد هذه الذخيرة الضخمة من الآثار الجليلة التي رأى أن الحاجة ماسّة إليها في عالمنا العربيّ. وكان له ـ كما قال بحقّ محمد عبد الغني حسن ـ : "في تخيُّر الكتاب للترجمة منهجٌ معيَّن وقصد مرسوم، ولم يكن اختيارا يجيء عفو الخاطر أو وليد اللمحة الخاطفة، وإنما كان اختيارا نتيجة الأناة والتروِّي، وتمليه مصلحة القارئ العربيّ، وتفرضه اعتبارات وملاحظ كثيرة، ومن هنا كان رائدا عظيما من روّاد حركة النقل في العصر الحديث".

عرفتُ عادل زعيتر في مكتب المجاهد العربيّ الكبير محمد علي الطاهر (1896 ـ 1974)، المُكَنَّى بأبي الحسن، حيث كان يعقد ندوة لا إخالها تتكرر في حياتنا، ولا أظنّ التاريخ يسقطها من حسابه. لقد كانت ندوة الطاهر الملاذ والمقصد لجميع المجاهدين الصابرين من أمّة العرب والإسلام أيام استفحال شرور الاستعمار في ديارهم. وقد حمل هذا الرجل العظيم على كتفيه هموم أمَّته جميعا، فهو صوتها الصّارخ ـ ولو في البرّيّة ـ وهو لسانها الفصيح في الصحف والمنابر، وهو محاميها الدؤوب الذّرب اللسان في كلّ محفل، وهو مسعفها في كل موقف عصيب. لقد كان الطاهر رجلا نذر نفسه لقضايا أمّته الممتدة من أندونيسية والملايو إلى المحيط الأطلسيّ. وفي مكتبه التقيت "بعصبة أمم" من مجاهدي هذه البلدان جميعا ومن رجال الفكر فيها، وهي ندوة انتقلت بعد ذلك من القاهرة إلى بيروت وتواضع روّادها على تسميتها "بالأكاديمية".

ولقد كنت من الذين يغشون ندوة أبي الحسن، وفيها التقيت للمرة الأولى بعادل زعيتر في شتاء 1947، وهو رجل تراه صامتا وكأنّه مستغرق في تفكير عميق، فإن تكلم فبحساب، ولا يقول إلا القول الفصل بعدما يكون قد أنعم التفكير في الموضوع المطروح وقلّبه على جميع وجوهه. فإن غضب لأمرٍ حسبتَه بركانا ثائرا، ولكنه لا يغضب أو يثور إلا لقضية وجيهة وحكمة أكيدة. تراه أميَل إلى القِصَر مع بدانة ظاهرة، تطلّ عيناه من وراء عوينات غليظة قضى بها عكوفه على الأقلام والمحابر والقراطيس. فيه كثير من التحفظ والصرامة والجدّ، فلا تراه ضاحكا أو باسما إلا بعد ما يأنس إليك وتأنس إليه. ولا أحسبني انجذبت إليه بعاطفتي في اللقاء الأول بسبب هذه الصرامة البادية منه وتلك الجهامة التي تتراءى في محيّاه. ولهذا دُهشت عندما علمت من أبي الحسن بأن عادلا قد عاد إلى نابلس بعدما فرغ من طبع كتابه "تاريخ العرب العام" لسيديو، وأنه ترك لي نسخة مجلّدة هديّة منه، وأنه رجاه إبلاغي تحيّته على وعدٍ بلقاء أوسع في زيارته الموسمية المقبلة في العام التالي.

كان عادل زعيتر قد درج على أن يخلو إلى نفسه في مكتبه في بيته في نابلس، صارفا النهار بطوله في ترجمة الكتب التي وقع عليها اختياره. حتى إذا ما حلّ فصل الشتاء، حمل مخطوطاته وجاء إلى القاهرة لطبعها في دار المعارف أو في مطبعة عيسى البابي الحلبي، وكان يتخيّر فندق شبرد القديم القريب من ميدان الأوبرا للإقامة فيه طوال مدّة مكثه بالقاهرة. فإذا أفطر في الصباح سار على قدميه من الفندق إلى دار المعارف قاصدا التخفف من بدانته، ويظل في الدار من الصباح الباكر إلى أن تغلق أبوابها في آخر النهار. وهناك يعكف على مراجعة كتبه بنفسه، فلا يأمن قيام غيره بهذه المهمّة. ولم يكن يتناول أي طعام في فترة الغداء قاصدا الانصراف إلى العمل من ناحية وتوخيا للحمية من ناحية أخرى عساه ينقص وزنه. حتى إذا ما انقضى النهار، عاد إلى الفندق سيرا على القدمين، وهي مسافة يقطعها في نحو ساعة في كل من الاتجاهين، فيتناول عشاء خفيفا قبل النوم. هذا هو نظامه اليوميّ الرتيب، فلا وقت لديه لغشيان المسارح أو دور السينما، ولا لقبول دعوات من أصدقائه. فقد جاء من بلده لمهمة محددة يبغي إنجازها دون تأخير ثم العودة من حيث أتى.

وعندما طبعت له دار المعارف كتاب "البحر المتوسط" لإميل لودفيغ اكتشف بعد مراجعة تجاربه عدة مرات وقوع أخطاء مطبعية يسيرة، وفي وسع القارئ أن يستدركها دون عناء. ولكن عادلا غضب أشدّ الغضب، وأصرّ على أن يذيل الكتاب بلائحة بهذه الأغاليط في حين أصرّ شفيق متري (توفي في باريس في 20 فبراير 1994) صاحب الدار على رفض إدراج هذه اللائحة قائلا إن الدار عُرفت بدقّتها ولا تريد أن تسيء إلى سمعتها بإدراج لائحة فيها اعتراف بوجود أخطاء مطبعية في كتبها. وأصرّ كل طرف على رأيه، وعندئذٍ أبدى عادل زعيتر استعداده للإقرار على نفسه بمسؤولية هذه الأخطاء وللاعتذار لدار المعارف. وعلى هذا ذيّل الكتاب بلائحة التصويبات مع عبارة نصّها "ظهرت الأغاليط القليلة الآتية تصويباتها في هذا الكتاب الضخم (وقوامه 900 صفحة) الذي طُبع بإشرافي في خمسة أسابيع، فأنشر هذه التصويبات مع الاعتذار لدار المعارف التي سجّل لها شكري". لقد كان كلّ من الطرفين حريصا على الكمال، فجاءت هذه العبارة لتسجّل ذلك.

وبعدما فرغ عادل زعيتر من مراجعة جميع تجارب كتاب "البحر المتوسط" ظهر يوم 26 كانون الثاني (يناير) 1952، عاد إلى الفندق مبكّرا على غير عادته، فخلع سترته (جاكتته) وجلس على كرسيّ مريح في الغرفة، وراح في سبات عميق بعد خمسة أسابيع من الجهد الشاقّ في الإشراف على طباعة هذا الكتاب. واستيقظ من نومه فجأة وهو يحسّ باختناق، فقام إلى زرّ كهرباء يعالجه، ولكنّ الضوء كان مفتَقدا، وفتح النافذة للتهوية فإذا بدخان أسود كثيف يملأ الغرفة. ففتح بابها واتجه إلى المصعد للهبوط والظلام الدامس مخيم في الممر، فسمع صوتا يقول له: "المصعد معطّل، اتجه يمينا إلى الدرج". فأطاع الصوت في الظلام وهبط عددا من الدرجات ثم سمع الصوت يقول له: "انحرف يسارا مع الدرج". وظلّ يسمع توجيهات هذا الصوت إلى أن ألفى نفسه في حديقة الفندق، والنار ممسكة بكل تلابيب البناء. كان ذلك يوم حريق القاهرة المشهود، فكُتبت له النجاة، وإن كان قد فقد كلّ أمتعته، بما فيها ساعة ذهبية ورثها عن أبيه الشيخ عمر، وبعض الأشياء الثمينة التي كان يحرص على حملها معه أينما ذهب. والغريب أن شقيقه أكرم زعيتر ـ شفاه الله وعافاه ـ كان بدوره نزيلا في هذا الفندق، ولكنه كان في زيارة لبعض الأصدقاء عند احتراقه.

وعندما قصّ عليّ عادل زعيتر هذه القصّة نشرتُ فحواها في جريدة "المقطّم" التي كنت أعمل بها، وقلت: إن الذي أنقذه هو هذا الهاتف الذي كان يسمعه دون أن يراه أو يعرف كنهه أو مصدره. وعندما قرأ عادل هذا الموضوع، انفعل كعادته، وقال لي: لم يكن هاتفا وإنما كان صوت إنسان. فقلت له: وما الفرق، ما دام الصوت مجهول المصدر؟ فأجاب: عن الهاتف يعني وجود قوى خفيّة، وهذا غير صحيح. فاحرص دائما على الدقّة في تعبيراتك.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي ينفجر فيها عادل زعيتر بسبب "عدم دقتي". فقد أشرت إليه مرة في سياق الحديث عن كتاب من كتبه بوصفه "الأديب النابلسيّ"، وكان قصدي تنبيه القارئ إلى أنني اعرف المدينة التي ينتسب إليها عادل زعيتر وهي مدينة نابلس في فلسطين. فلم أسلم هذه المرّة من "انفجارات" عادل زعيتر، الذي عنّفني بقوله: لمَ تستصغر شأني إلى هذا الحدّ؟ فأنا لا أقبل بأن يقال عنّي حتى أديب فلسطيني، لأنني أديب عربيّ. وقبل أن أوضح وجهة نظري. ألجمني بسؤال: هل تصف أستاذ الجيل عندكم لطفي السيد باشا (1872 ـ 1963) بأنه "الأديب البرقيني" نسبة إلى القرية التي جاء منها؟ يا أستاذ نحن أدباء عرب، ننتمي إلى أمة العرب الكبرى، فلا "تسخطنا" بحصرنا في مدننا وقرانا!

ومرة أخرى انفجر فيّ عادل عندما كتبت كلمة عن ترجمتين لكتاب "نابليون" لإميل لودفيغ اتفق صدورهما في وقت واحد: ترجمة عادل زعيتر المنقولة عن النصّ الفرنسيّ مع الاستشهاد بالترجمة التركية لأنه يجيد هاتين اللغتين، وترجمة محمود إبراهيم الدسوقي المنقولة عن النصّ الألماني، وهو النصّ الأصلي للكتاب. وانتهيت في كلمتي إلى أن النقل المباشر عن لغة الكاتب الأصليّ أدق من النقل غير المباشر عن لغة أخرى ترجم إليها الكتاب. ولم يوافقني عادل زعيتر على هذا الرأي قائلا: إن الكتب الأدبية يجوز ترجمتها من نص مترجم، أما الكتب العلمية أو الفنية فيحسن أن تترجم عن النصّ الأصليّ للتأكد من الترجمة الدقيقة للمصطلحات والتعبيرات التي قصدها المؤلف. وكتاب "نابليون" هو كتاب أدبيّ في المقام الأول.

وكان الدكتور طه حسين قد غمز عادل زعيتر في كلمة نشرها في مجلة "الكاتب المصريّ" في سياق حديثه عن ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي وهو من تلاميذ طه حسين. ويقول عمر عادل زعيتر (توفي 25 ديسمبر 1997) في الحديث عن هذه الواقعة: إن أباه تألم كثيرا من غمزة طه حسين لشعوره بأنه كان متجنيا فيما ذهب إليه، ولكنه "تذكر قصة ما حدث له ولبعض زملائه في باريس في أوائل العشرينات عندما ظهرت ترجمة الأستاذ طه حسين لكتاب (روح التربية) للدكتور غوستاف لوبون. وحيث إن الوالد معجب جدا بالدكتور لوبون وكثير التردد عليه، فقد حمل الكتاب المترجم مع زملاء له في الدراسة هم السادة عبد الله اليافيّ وعبد الله المشنوق وموفّق الآلوسي و نجيب الأرمنازي وقدّموه للدكتور لوبون مزهوين فخورين بالأديب العربيّ طه حسين، متوقعين أن يُسرّ لوبون بأن كتبه قد أصبحت تنقل إلى العربية. ولكن حصل العكس تماما، إذ ما كاد لوبون يمسك بالكتاب المترجم حتى أخذ يروزه روزا بيديه وقال: "يظهر لغتكم مختصرة جدا لدرجة الاختزال! ويظهر أن هذا الكتيّب هو تلخيص لروح التربية! " ويستطرد عمر زعيتر فيقول نقلا عن أبيه: "لا تتصوروا كم كان ذلك محرجا لنا، وكم تلعثمنا في الرد عليه. وما عن شربنا الشاي حتى خرجنا من لدنه مسرعين متعثرين، وصممت في نفسي أن أعيد ترجمته بشكل أمين. وما هي إلا سنة حتى نقل الأستاذ زعيتر كتاب (روح التربية) بأمانته المعهودة، وخرج الكتاب بحجمه الحقيقي الذي يربو على الثمانمائة وخمسين صفحة، أي ضعف حجم الكتاب الذي ترجمه طه حسين تقريبا. وقد أشار في مقدمته إلى ما حدث مع الدكتور لوبون، وبهذا يكون قد انتقم لنفسه بما يفيد أمته والمكتبة العربية".

هذه "الانفجارات" علّمتني درسا ما كنت لأتعلّمها لو أن عادل زعيتر سكت عن هفواتي أو تغاضى عن سوء تقديري. وأشهد بأن عادلا كان بعد كلّ انفجار يلاطفني ويعاملني بمنتهى الودّ والحبّ والرّعاية ليشعرني بأن غضبه انصبّ على موقف وليس على شخصي.

أما سيرة حياة عادل زعيتر فقد رواها نجله الأكبر عمر في سلسلة من سبعة فصول نشرها في مجلة "النهضة" الكويتية في شهري كانون الأول (ديسمبر) 1988 وكانون الثاني (يناير) 1989.

ولد عادل زعيتر في نابلس عام 1897 حيث تلقّى دراسته الابتدائية، سافر إلى بيروت حيث استكمل دراسته الإعدادية، وانتقل بعد ذلك إلى الآستانة في تركية حيث التحق بالكلية السلطانية وكان الأول بين أقرانه. وعند حصوله على شهادة الآداب جُند في الجيش التركي أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنه أفلح في الهرب والانضمام إلى الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل بن الحسين (الملك فيصل الأول) فحكم عليه الترك بالإعدام غيابيا عام 1917. وفي عام 1919 مثّل مدينة نابلس في المؤتمر السوري بدمشق الذي أعلن استقلال سورية بحدودها الطبيعية، واشترك في صياغة دستور المملكة السورية في ذلك الوقت.

وعندما احتل الفرنسيون دمشق، غادرها مع أحرار العرب، وقرر السفر إلى باريس للالتحاق بجامعة السوربون التي ظفر منها بشهادة الحقوق عام 1925، وعاد إلى فلسطين ليزاول مهنة المحاماة وتدريس الحقوق، مواصلا الاشتغال بقضية بلاده مع أحرارها، سواء بالاشتراك في اللجان الوطنية، أو بالكتابة في الصحف والخطابة في المحافل، أو بإعداد المذكرات والبيانات السياسية، أو بالدفاع في المحاكم عن مواطنيه المجاهدين. ولكنه آثر أن ينصرف عن الحياة العامة إلى الرسالة التي وقف حياته عليها وهي ترجمة أمهات الكتب إلى اللغة العربية. وقد انتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي، وعضوا في مجمع القاهرة، ولكن أمنيته لم تتحقق.

وفي يوم 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 استيقظ عادل زعيتر في الصباح كعادته، وتناول فطوره، ثم اختلى في غرفة مكتبه لإنجاز ترجمته لكتاب "مفكرو الإسلام" لكارادفو. ولكنه أحسّ بتعب، ففتح الباب ونادى زوجته (أم عمر) لتسعفه بقدح من ماء، فلما عادت ألفته قد فارق الحياة بأزمة قلبية مفاجئة. وشيّعته نابلس و وفود من الأردن في احتفال مهيب، تخلّف عنه شقيقه الأصغر أكرم زعيتر (1909 ـ 1996) لأنه كان يستشفي في بيروت، وتمّ كتمان الخبر عنه. فلما عرف الخبر بعد أوبته من الاستشفاء، أقام لشقيقه مجلسا جديدا للعزاء، ونظم حفلا ضخما لتأبينه في نابلس في 14 آذار (مارس) 1958 شارك فيه ممثلون من معظم الأقطار العربية، و طبعت وقائع الحفل و مقالات في الصحف في رثائه في كتاب عنوانه "ذكرى عادل زعيتر".

كان عادل زعيتر يتأنّق في ترجماته تأنقا شديدا، و وصفه بعض نقاده بالتقعر والتفاصح، إذ لم يكن يستخدم الفظة السهلة القريبة المنال، بل كان يؤثر عليها اللفظة المعجمية غير الدارجة، ثم يشرحها في هامش الصفحة.

ومن ذلك مثلا قوله: إن زيدا من الناس زوج فتاة صغيرة بعدما "آم"، ويشير في هامش الصفحة إلى أن "آم" معناها فقد الزوجة، وكان يصف الصورة التي تعبد "بالنصمة" ويترجم لفظة puritan بالحنبلي في حين يرى ناقدوه أن الحنابلة فرقة إسلامية، أما "البيوريتان" فهم فرقة مسيحية تعرف بهذا الاسم الذي يمكن ترجمته إلى "الطهريين". وهو يترجم لفظة Villas إلى المغاني، فيقول نقاده: إن المغنى هو مكان اللهو ولطرب، وكان أستاذنا الزيات يترجمها إلى "الدارة". وهو يستخدم عبارة "يكردح الحمار" ثم يشرحها في الهامش بقوله: إن كردح تعني أن الحمار عدا عدوا قصيرا. ومن هذا القبيل استخدامه لعبارة "ارتعج البرق" بمعنى تتابع البرق، أو استخدامه للفظة "الأضوار" بمعنى السحب السود، ولفظة "الطاخية" بمعنى المظلمة و"الأضواج" بمعنى منعطفات الوادي، و "الراتج" بمعنى الطرق الضيقة، و "استغدر المكان" بمعنى صارت فيه غدران، و "الجذول" بمعنى الأصول الباقية للشجار بعد ذهاب فروعها، و "الثول" بمعنى الحماقة، و هلمّ جرّا.

وارتأى النقاد أن هذه الهوامش قد اقتضاها تعره في اللغة دون مسوّغ، وانضم إلى نقاده عدد من الأدباء منهم الدكتورة بنت الشاطئ (1908 ـ 1970) ومحمود اللبابيدي (من حلب). بل إن ناقدا تناوله في مجلة الرسالة وأبى أن يرقّع مقاله.

وكان عادل زعيتر ينفعل إزاء هذه التعليقات التي كان يعدا ظالمة،فيردّ على بعضها ويتجاهل البعض الآخر. وقد أقرّت الدكتورة بنت الشاطئ في الكلمة التي ألقتها في حفل تأبين عادل زعيتر بقولها: إن الزهو كان يعمي بصيرتها فدفعها إلى نقد ترجمات عادل زعيتر التي كانت تعدّ مطالعتها أمرا شاقا مجهدا، وأشارت عليه فينقدها بأن يعمد إلى شيء من التبسيط والتيسير كيما يتيح لعامة القراء أن ينتفعوا بهذه الذخائر الثقافية.

وتقول بنت الشاطئ: إن عادلا رآها في دار المعارف فدعاها إلى لقائه وظنّت وقتها أنه كره منها أن تنقده. "فصممتُ على أن ألقاه بكلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (أصابت امرأة وأخطأ عمر). غير أني ما كدت أراه حتى أخذني ما يشبه التهيب أمام جلال سمته و وقار شخصيته. فلم أقل كلمةً واحدةُ مما أعددت للموقف، بل جلست إليه في خشوع أصغي إلى ما يريد أن يقول. وجاء حديثه على غير ما توقعت. ما من كلمة واحدة قالها تشر بأنه يستعلي على النقد، أو يدّعي العصمة من الخطأ، وإنما الذي آلمه أن تطالبه مثلي بأن يخون رسالته، وينزل هابطا إلى مستوى العامة، مع أني كنت مرجوة عنده لأن أقف مع القلة المعتزّة بكرامة العلم، المناضلة عن تساميه أمام الكثرة الداعية إلى الهبوط والانحدار. وانصرفت من حضرته يومئذٍ وأنا أعدّه أستاذا لي ...... ومنذ ذلك اليوم لم اعد أطالع آثاره مطالعة القارئة الناقدة، وإنما هي قراءة التلميذة الدارسة. وإذا كان رحمه الله قد غفر لي زلّة قلمي، فما غفرتها لنفسي قطُّ".

ولا ادري ماذا كان يكون ردّ فعل عادل زعيتر لو أن العمر امتدّ به ليقرأ الانتقادات الحديثة العهد التي وجهت في بعض المجلات للترجمات التي اضطلع بها، لا من حيث أسلوبه في الترجمة، ولا من حيث مدى دقته في النقل، ولكن من حيث إنه كان ينقل كلام مستشرقين على عِلاته من دون أن يردّ عليهم أو يحذف أقوالهم إرضاء للقارئ العربيّ. وهو انتقاد، على وجاهته، كان ينبغي توجيهه إلى المترجم في حياته سواء لكي يدافع عن وجهة نظره أو لكي يستدرك ما فاته في الطبعات التالية.

أما أن يجيء النقد ـ بما يشبه الاتهام ـ بعد أكثر من ثلاثين سنة من وفاته، وبعد أن تعددت طبعات كتبه ولا سيما "حضارة العرب" فهو أمر مستغرب إ^ن لم يكن مستهجنا. وعلى كل حال، لقد تصدى شقيقه أكرم زعيتر للردّ على نقاد الزمن المتأخر في فصول مسهبة نشرها في الصحف.

ولئن جاءت منية عادل زعيتر عن عم~ر لم يزد على واحد وستين عاما، فقد أكرم الله مثواه ، إذ دُفن في بلاده ومسقط رأسه، وشيعه مواطنوه في جنازة مشهودة، كما أكرمه الله إذ جنّبه الصدمة المزلزلة التي أصابت الأسرة كلّها، ولا سيما أم عمر، بمصرع ابنه الشهيد وائل زعيتر في رومة عام 1972 بسبب انضوائه تحت لواء منظمة "فتح". وقد رثاه صديقه الكاتب الإيطالي الكبير ألبرتومورافيا، كما أصدرت عنه أديبة إيطالية كتابا عنوانه "إلى فلسطيني تخليدا لذكرى عادل زعيتر" صدر باللغة الإيطالية وترجم إلى اللغة الإنجليزية، كما أن مواطنته الشاعرة فدوى طوقان (1917 ـ ) جعلته موضوعا لديوانها "على قمة الدنيا وحيدا".

عندما رثيت عادل زعيتر بعيد وفاته قلت: إنه كان جامعة ومجمعا. والحقيقة انه بما أنجزه من عمل فكري يعتبر من بناة النهضة الحديثة في العالم العربي. ولا غرو أن يُمنح اسمه "رصيعة القدس" رمزا للجهد العلمي العنيف الذي بذله في سبيل وطنه الصغير وأمته العربية الكبرى. وإذا كانت الدكتورة بنت الشاطئ قد اعترفت بزلة قلمها لأنها نعت على عادل زعيتر تضلّعه في اللغة العربية، فما أحراني بأن أعترف بزلّتي الكبرى عندما وصفته "بالأديب النابلسيّ" وهو العربيّ المحتدّ الذي يؤمن بقول الشاعر محمود أبي الوفا (1901 ـ 1979) :

وطني هو الفصْحَى، فكلّ بلادها في مصرَ أو في الشام هنّ بلادي

هذا هو الوطن الذي أحيا له وله أوالي صادقا، وأعادي

* * *



مترجم ذو رسالة

كان عادل زعيتر مترجما ـ وصفه محمد عبد الغني حسن (1907 ـ 1985) بحقّ بأنه "شيخ المترجمين العرب وإمامهم في عصرنا الحديث" ـ ولكنه لم يكن مجرّد مترجم، بل سلك في عمله مسلك أصحاب الرسالات. ذلك لأنه لم ترجم اعتباطا أي كتاب، ولا راعى اعتبارات السوق عند اختياره لأيّ كتاب يترجمه، ولا صاغ ترجمته في أيّ أسلوب دارج، ولا جاءه توجيه من أي هيئة، وإنما جعل من نفسه مؤسسة قائمة بذاتها، فهو هو الذي ينتقي الكتب، وهو هو الذي يحمل عبء الترجمة، وهو هو الذي يرسم لنفسه المنهاج الذي يتبعه في الترجمة، فلا يستهول المهمة وإن وقع الكتاب في مئات من الصفحات، ولا تخور عزائمه حتى لو واجهته صعاب معقّدة. فهو صاحب رسالة؛ يقدم للقارئ أحسن الكتب وانفعها حسب تقديره ـ تثقيفا لذهنه وارتفاعا بوعيه الحضاريّ، وتعريفا له بكنوزٍ من كتب الحضارات والسير والمذاهب الفلسفية والفكرية هي عنه بعيدة المنال. وهو في كلّ هذا يتوسّل بأسلوب من أنصع الأساليب العربية وأمتنها، ولو اقتضاه الأمر استخدم ألفاظا وعبارات يراها البعض غير مأنوسة في سوق التداول اليوميّ، ومَنْ كانت قامته على هذا القدر من الارتفاع، فلا بدّ أن يحسن الظنّ بقارئه ويسمو به إلى مستواه، وينأى بنفسه وبقارئه عن مستويات العوامّ. ولهذا وصفتُ عادل زعيتر بأنه كان "جامعو ومجمعا". فعنه تؤخذ المعارف، وبه تؤصل اللغة وتؤثل.

وإن نظرة عجلى على قوائم الكتب التي ترجمها عادا زعيتر تهول المرء بسبب ضخامة عددها، وغزارة مادّتها، وتنوّع موضوعاتها، وشهرة مؤلفيها، وتناولها لمباحث في التاريخ والجغرافية والتراث والسياسة والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والتربية. وكل فرع من هذه الفروع يحتاج إلى تخصص أكاديمي. ومع ذلك استطاع عادل زعيتر أن يجعل من نفسه ـ بعصاميته الثقافية الفذّة ـ هذا المتخصص الأكاديمي في جميع هذه الفروع. كما أن إعجابه بعدد من أساطين المؤلفين الفرنسيين مثل غوستاف لوبون، وجان جاك روسو، وأناتول فرانس ومونتسكيو و ارنست رينان، ومن الألمانيين مثل إميل لودفيغ، ألهمه نقل كثير من آثارهم إلى العربية إلى جانب غيرهم من كبار مفكري الغرب. حتى لقد قرر عادل زعيتر أن انصرافه إلى ترجمة كثير من كتب لوبون "قد أدخل كتبه المهمّة الآخذ بعضها برقاب بعض إلى العربية إدخالا يخيَّل إلى الباحث معه أن هذا الحكيم الجليل من العرب، ولا عجب فلوبون واضع سفر (حضارة العرب)".

ويمكن تصنيف الكتب التي ترجمها عادل زعيتر إلى أربعة أبواب. فهناك التراجم، ومنها "حياة محمد" لإميل درمنغم، و "كليوباترة" و"بسمارك" و "نابليون" لإميل لودفيغ، و "ابن رشد والرشدية" و "ابن الإنسان" لأرنست رينان، و"الغزالي" و "ابن سينا" و "مفكرو الإسلام" (وهو ما زال مخطوطا في جزأين) للبارون كارادفو، و "ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية" لبوتول، و "تليماك" لفنلون.

وهناك الكتب التي تتناول الحضارات والتاريخ ومنها "حضارة العرب" و "حضارات الهند" و "اليهود في تاريخ الحضارات" لغوستاف لوبون، و "النيل" و "البحر المتوسط" لإميل لودفيغ، و "تاريخ العرب العام" لسيديو، و "مجالي الإسلام" لحيدر بامات.

وهناك الكتب التي تتناول الشرائع والمذاهب السياسية والاجتماعية والعقائدية ومنها "روح الشرائع" لمونتسكيو، و "العقد الاجتماعي" و "إميل أو التربية" و "أصل التفاوت بين الناس" لجان جاك روسو، و "روح الجماعات" و "السنن النفسية لتطور الأمم" و "فلسفة التاريخ" و "روح التربية" و "حياة الحقائق" و "الآراء والمعتقدات" و "روح الثورات والثورة الفرنسية " و "روح الاشتراكية" لغوستاف لوبون، و "حديقة أبيقور" و "الآلهة العطاش" لأناتول فرانس، و "الرسائل الفلسفية" لفولتير.

وهناك موضوعات أخرى تناولها عادل زعيتر في ترجماته مثل رواية "كنديد أةو التفاؤل" لفولتير، و "الحياة والحب" لإميل لودفيغ.

محصول ضخم أنجزه عادل زعيتر، ولو امتدّ به العمر لازداد المحصول وفرةً وغنى لأنه كان يخطط لترجمات أخرى لولا أن الموت فاجأه وهو عاكف على ترجمة كتاب "مفكرو الإسلام" للبارون كارادفو، فوضعت المنون نقطة الختام لحياة خصبة عامرة بالعطاء.

كان عادل زعيتر يجيد اللغة الفرنسية بفضل متابعته لدراسته العليا في الحقوق في باريس، ولا غَرْوَ إذن أن يكون احتفاله بالمؤلفين الفرنسيين عظيما، ولا سيما أن اللغة تطاوعه، وهو من فنونها متضلع متمكن. كما كان يجيد اللغة التركية القديمة التي تعلمها في استنبول، ويلمّ إلماما جيدا باللغة الإنكليزية التي كانت اللغة الأجنبية الأولى في فلسطين زمن الانتداب البريطاني. وإذا كان قد نقل إلى العربية كتب المؤلفين الفرنسيين من نصوصها الأصلية، فقد تعذر عليه ذلك عند ترجمة الكتب المؤلفة باللغة الألمانية ككتب إميل لودفيغ لاستعصاء هذه اللغة عليه، فاضطرّ إلى الترجمة عن الترجمة، مع الاستعانة بأي ترجمات أخرى بالإنكليزية أو التركية ـ إن وجدت ـ للكتب التي ينشغل بترجمتها، كيما تتكامل لديه من هذه الترجمات المتعددة صورة شبه متكاملة للنص الألماني البعيد عن منتاوله.وهو قد عبّر عن ذلك بقوله: "إن مهمة المترجم ليست نقل العبارة الأجنبية إلى اللغة العربية، بل إن هناك ما هو أهمّ وأعظم من ذلك بمراحل كثيرة، وهو أن ينفذ المترجم إلى روح الكاتب، وان يفهم شخصية المؤلف تمام الفهم".

وبدافع من الأمانة تجاه القارئ، كان عادل زعيتر يحدد في مقدمات كتبه اللغة التي نقل عنها، كقوله: إنه اعتمد في نقل كتاب "النيل" على ترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية. وهكذا، فإن عادل زعيتر لم يجعل من اللغة الألمانية سدّا منيعا يحول دون ترجمته الأسفار النفيسة، وإنما نفذ إلى تحقيق غايته من خلال اللغات الأخرى التي يحسنها.

وإن عاب عليه بعض النقاد، ومنهم طه حسين، الترجمة عن الترجمة، فالأرجح أنه لولا اضطلاع عادل زعيتر بترجمة آثار الكتّاب الألمانيين عن ترجمات بغير لغتهم لبقيت هذه الآثار غير منقولة إلى الضّاد حتى يومنا هذا. يضاف إلى هذا أنه لو اضطلع مترجمان بنقل نفس النصّ من نفس اللغة الأجنبية، فمن المؤكد أن الترجمتين ستجيئان مختلفتين جد الاختلاف غير متطابقتين، لأن لكل مترجم أسلوبه الخاص و ذوقه في اختيار العبارات والألفاظ. فهناك مَنْ يتمسّك بحرفية الترجمة، في حين يترجم غيره بالمعنى وليس بالفظ مع ما قد يكون في هذا من تجاوز في النقل.

وأكبر ما يميّز ترجمات عادل زعيتر هو هذا الأسلوب العربيّ المشرق، الذي بلغ من فرط احتفاله به استخدامه للكثير من الألفاظ القاموسيّة الصعبة المنال عوضا عن الألفاظ السهلة ذات المعنى التي تبده للقارئ مباشرة. وهو ما عرّضه لنقد النقّاد ـ ومنهم الدكتورة بنت الشاطئ ـ الذين ذهبوا إلى أن ترجماته إلى العربية تحتاج إلى ترجمة عربية بعبارات مفهومة.

ولكن عادل زعيتر كان يعتقد ـ وهذا جزء من الرّسالة التي توخّاها وأخذ نفسه بها ـ أن عليه الارتفاع بمستوى القارئ عوضا عن النزول إلى مستواه، وأن يعمل على زيادة حصيلته من المفردات اللغوية ـ وإن تكن ألفاظا مهجورة ـ عوضا عن التقاط العبارات الدارجة التي تستخدم في الأساليب الصحفية استخداما تساوت معه أساليب الكتّاب، وباتوا وكأنّهم نسخة واحدة متكررة، لا يتميز أي منهم بأسلوب خاص يدلّ عليه ويؤثَر عنه.

ولا بأس في هذا المقام من التمثيل على بعض الألفاظ القاموسية التي استخدمها عادل زعيتر في كتاب واحد، هو كتاب "النيل" هاجرا الألفاظ الأشدّ منها وضوحا. فهو يستخدم لفظة "الإملاس" و"الطرفسة" للدلالة على الظلام، ولفظة "البرامع" بمعنى الدوّامات، ولفظة "الخِثْي" عوضا عن روث البهائم، ولفظة "الفحّال" للدلالة على ذكر النحل، ولفظة "التمرّاد" عوضا عن برج الحمام، ولفظة "السِّرْجين" بدلا من زبل الحمام، ولفظة "الحَثَر" بمعنى آثار الرّمد في العين، ولفظة "المُبير" أي المهلك، ولفظة "المِسْعار" وهو ما تُشعل به النار، ولفظة "الخوادع" وهي الأبواب الصغيرة في الأبواب الكبيرة. ولولا أن عادل زعيتر شرح هذه الألفاظ المستعصية في هوامش الصفحات، لصار حتما على القارئ أن يتلمّس معانيها الدقيقة في المعاجم. ومع ذلك لا أحسب أن إصرار عادل زعيتر على استخدام أمثال هذه الألفاظ العصيّة قد ساعد على ذيوعها وانتشارها، سواء على أقلام كتّاب الصحف أو حتّى في مدوّنات الدراسات الدبية المتخصصة، إذ بقيت مهجورة معدودة من حفريات اللغة.

وقد دافع عادل زعيتر عن هذا المنهاج في مقدمة كتاب "النيل" حيث قال: "من يطلع على كتب لودفيغ ومَنْ إليه من أساطين الدب في الغرب، يَرُعْه ما بين الأدبين العربي والغربي من بون شاسع في الوقت الحاضر، مع ما كان من غنى لغة الأدب العربيّ في الزمن الغابر، ولا بدّ لذلك من تطعيم لغتنا الراهنة مقدارا فمقدارا بما تحتويه معاجمنا من كلمات غير نابية، فلعلّها تصير مألوفة. وهذا ما سرتُ عليه بعض السير في كثير من الأسفار التي ترجمتها. ولكن مع تفسير هذه الكلمات في هامش الصفحات تسهيلا للمطالعة.

وقد واجهت عادل زعيتر في ترجمته مشكلات حاول التغلّب عليها، مرّة باستخدام "عبارته الخاصة لا عبارة المؤلف العربيّ القديم" ـ كما اعترف بذلك في ترجمته لكتاب "ابن رشد والرشدية"، ومرّة " بالبتر والحذف وإهمال بعض العبارات كيلا يُؤذى شعور القراء" ـ كما اعترف في ترجمته لكتاب "حضارة العرب". ومع ذلك لم يسلم عادل زعيتر من المطاعن التي وجهت إليه بعد سنوات طويلة من وفاته في بعض الصحف السعودية التي نعت عليه نقل أوهام المستشرقين دون الردّ عليها.

هذا ما حدا بمحمد عبد الغني حسن، الذي قدّم لكتابَي "ابن سينا" و "الغزالي"، اللذين نشرا بعد وفاة عادل زعيتر، إلى أن يدافع عن مسلك المترجم، فسجّل ما لديه من تحفّظات على الآراء التي أوردها المؤلف البارون كارادفو، حيث قال في مقدمة كتاب "ابن سينا": "على انه قد يكون هناك من آراء كارادفو ما لا نقره عليه، وما لا نطيل الوقوف أمامه ... ولكن حسب هذا الكتاب أن يقرأه العرب والمسلمون في ترجمته الدقيقة أن يعرفوا آراء غيرهم ليناقشوها ويدفعوها في معرض المناقشة والدفاع، وان يأخذوا أطيب ما في الكتاب من بحث ودرس ومنهج. فنحن حين نكلّف القوم غير ما في طباعهم، نتطلب في الماء جذوة نار".

وقال في تقديم كتاب "الغزالي": "إن البارون كارادفو تغلبه نزعة ليست غريبة على آذاننا ولا على أبصارنا، وهي نزعة فريق من المستشرقين الذين لا يخلصون لقضايا العلم. فلا يكادون يمضون في طريق البحث حتى تغلبهم آراء خاصة ليست علما خالصا، ولا يراد بها الوجه الصحيح للعلم، وإنما قد تحمل بين سطورها ما يشوّه الصورة الصحيحة للإسلام بغمزة هنا ولمزة هناك ... وإذا لم تكن ترجمة كتاب "الغزالي" ضرورية لما بين دفتيه من بحث أصيل، فإنها ضرورية ليعرف المسلمون ما يقال في الإسلام وما يقال فيهم".

وأضاف عبد الغني قوله عن ترجمة كتاب "ابن سينا: "ولقد كان يكون نقصا في المكتبة العربية أن تخلو منها ترجمة لهذا الكتاب الذي يعد تقديرا من مفكر أوروبي مسيحي لفيلسوف مسلم، وتوضيحا لفلسفته، وتحليلا لآثاره في التفكير الإسلامي".

كما أن عادل زعيتر كان يتغلّب على ما يصادفه من صعوبات أحيانا بالتعريب كقوله في مقدمة كتاب "النيل": "وفي الكتاب كلمات قليلة عرّبناها لمّا رأينا من عدم وجود ما يقابلها في كتب لغتنا، كما أننا اجتنبنا النسبة في الكلمات المعرّبة خلافا لما اعتمده كتّابنا".

وتغلّب على مشكلة كتابه الأعلام الفرنجية، ولا سيما في كتاب "حضارات الهند" بأن ردّها إلى صورتها المستخدمة من جانب الهنود أنفسهم، فاستعمل لفظة "بودهة" بدلا من بوذا، ولفظة "همالية" بدلا من هيمالايا، ولفظة "بمبي" دلا من بومباي، ولفظة "دهلي" بدلا من لفظة دلهي، وهلم جرا. بل لقد سعى في سبيل الحصول على جداول خاصة من الهند وغيرها لضبط الأعلام.

ولعل ترجمته لكتاب "حضارات الهند" هي الترجمة الوحيدة التي اعترف فيها عادل زعيتر بالعناء في إنجازها، فقد سجّل في مقدمته قوله: "وقضينا في سبيل ذلك كلّه أوقاتا شديدة، ولا قينا مصاعب كثيرة يقدّرها القارئ .... وإننا نطمع أن تمتاز هذه الترجمة، التي لم نتجوّز فيها قطّ، بالصحة والوضوح والدقة، فلا يضيع فيها معنى، ولا يضطرب فيها لفظ".

وصادفت عادل زعيتر صعوبة أخرى غير هيّنة تتمثل في البحث عن النصوص العربية الأصلية التي نقلها المؤلّفون الأجانب إلى لغتهم ـ ربما بكثير من التصرف ـ ودون أن يشيروا إلى مصادرها. فهناك مثلا استشهادات بأقوال لمفكرين أو باحثين عرب وردت مترجمة في كتب مثل "ابن رشد والرّشدية" و "الغزالي" و "ابن سينا"، وهناك كذلك أهازيج وأغنيات شعبية وردت مترجمة في كتاب "النيل"، والأرجح أن لودفيغ التقطها من أفواه الناس في تطوافه بحوض هذا النهر ـ الذي يسميه عادل زعيتر بالنهر الفحل ـ فاجتهد المترجم في البحث عن نوصها العربية الأصلية في كتب مثل "هز القحوف" وغيرها، واستعان ببعض من أصدقائه مثل العلامة الدكتور جورج شحاتة قنواتي (1905 ـ 1994) والمعجميّ محمد شوقي أمين (1910 ـ 1992)، كما استعان بي في بعض الأحيان، ولم يكن يجد في هذا غضاضة حتى وإن عدت إليه صِفْر اليدين. فإن تعذّر عليه الاهتداء إلى النصوص المطلوبة، لم تكن هناك مندوحة من الاجتهاد في ترجمتها بأسلوبه الخاص مع التنبيه إلى ذلك في مواضعه.

ففي مقدمة كتاب "حضارة العرب" سجل عادل زعيتر أن العلامة لوبون اقتطف كثيرا من كتب الحديث والأدب والعلم والفلسفة والتاريخ...الخ من غير أن يشير إلى المصادر، فعانينا كثيرا من المصاعب للعثور على النصوص العربية الأصلية، فوفّقنا لذلك خلا القليل، فنشرنا ما انتهينا إليه في الأصل العربيّ، وأما اليسير من النصوص فلم نتوصّل إليه، فنعتقد أنه اقتُطف في الغالب من ترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية في عصر النهضة وبعده، فضاع أصلها العربيّ، فاضطررنا إلى ترجمته من الفرنسية مع وضع علامة (*) عليه في موضعه تنبيها للقارئ".

ومثل هذا التنبيه ورد في مقدمة عادل زعيتر لكتاب "تاريخ العرب العام" حيث قال:

"وفي الكتاب نصوص مقتطفة من الكتب العربية، فأعدنا أكثرها إلى أصلها العربيّ. وأما النصوص التي لم نعثر على أصل عربيّ لها، وهي قليلة جدا، فقد ترجمناها من الأصل الفرنسيّ إلى العربية فوضعنا عليها إشارة (*) تنبيها للقارئ. كما وضعنا علامة استفهام على بضعة الأسماء التي لم نجد لها أصلا في الكتب العربية لشدّة تحريف رسمها في الأصل الفرنسيّ".

كما قال محمد عبد الغني حسن في تقديمه لكتاب "ابن سينا" الذي نشر بعد وفاة عادل زعيتر : "وكل ما في هذه الترجمة من نصوص عربية مردود إلى أصله، إلا في ثلاثة مواضع اكتفى فيها المترجم ـ رحمه الله ـ بالترجمة عن الفرنسية مع الإشارة إليها بهذه السمة (*) تنبيها عليها".

وصفوة القول: إن عادل زعيتر كان ينشد الأمانة الكاملة في النقل، فلا يحيد عنها إلا مضطرا، سواء لمراعاة المشاعر العربية العامة التي تتأذّى من عبارة بعينها، أو لأن في النص الفرنجي اضطرابا يمكن الالتفات عنه كما هو الشأن في جميع كتب إميل لودفيغ التي لاحظ فيها عادل زعيتر "غموضا والتباسا في الفكر والتعبير".

وقد قلت عن عادل زعيتر في مقال منشور: "عن الرجل الذي يترجم لوبون ولودفيغ وروسو و مونتسكيو لا يمكن أن يكون صنوا لهؤلاء جميعا، يحاكيهم في المعرفة ومحيط الفكر، ويفضلهم في إتقان فنٍ لا يحسنونه هو الترجمة، ويتفوق عليهم بتبحّره في لغات كلها كالمحيط في انبساط أرجائه". ولا أظنني كنت مغاليا في هذا القول.

وفي تصوري إن الخطّة التي كان عادل زعيتر يتبعها في عمله تبدأ بالقراءة المستوعبة للآثار الفرنجية ذات القيمة الباقية كيما ينتقي الكتب التي ينبري لترجمتها. وهو قد يقرأ الكتاب مرة ومرتين للإحاطة بمادته إحاطة وافية قبل أن يدرجه في برنامجه الموضوع لترجمة الآثار الفرنجية، غذ كان يعمل بناء على خطة موضوعة سلفا وبتوقيت محدد فرضته عليه برحلته الشتوية إلى القاهرة لطبع كتبه إما في دار المعارف وإما في مطبعة عيسى البابي الحلبي. وكان يعدّ هذه القراءة الأوّلية ضرورية لأنها تعينه على تكوين نظرة كليّة شاملة عن الكتاب يتحقق بفضلها الترابط والتناسق بين فصوله، فلا يتنافر أوله مع آخره، بل يتجانس الأسلوب والمصطلحات في جميع أقسام الكتاب. فإذا قرر أن يترجم كتابا ما، حدد له الوقت المطلوب، وتوافر عليه توافرا تاما، متفرّغا لهذا العمل يوما بعد يوم دون كلل أو ملل، مخليا نفسه من جميع الارتباطات الأخرى التي تشغله عن عمله في منسكه الخاص المغلق عليه. ولا تشاركه في خلوته إلا المعاجم وجمهرة كبيرة من كتب المراجع التي لا محيص عن الاستعانة بها من جانب المترجمين.

ولا أعرف على وجه التحديد هل كان عادل زعيتر يعد مسوَّدة ثم يتعهدها بالتبييض، أو أن البديهة الحاضرة والخبرة الطويلة والكفاءة المعترف بها، أغنته عن التسويد ثم التبييض. ومع أنني اقتربت من عادل زعيتر كثيرا، ولقيته مرارا في كل زيارة سنوية إلى القاهرة، واستوضحته في أمور غير قليلة، فلم أوجّه إليه سؤالا بشأن هذه النقطة. والأرجح انه كان يراجع الترجمة بعد إنجازها، ويدخل عليها من التنقيحات ما يستصوبه قبل أن يدفع بها إلى المطبعة. كما أن الترجمة لا تسلم حتى عند مراجعة تجاربها في المطبعة بنفسه من التحسينات التي يصرّ على إدخالها على الرغم من تضرّر عمال المطبعة من ذلك.

وكان يقول لي : إنني بهذه الترجمات أتحدّى غيري من المترجمين والنقلة أن يأتوا بما هو أصحّ منها أو أمتن سبكا أو أبلغ عبارة أو أن يأتوا حتى بمثلها. ومرادي هو أن يجيء النص العربيّ محاكيا النص الفرنجيّ. وهو ما عبّر عنه في تقديمه لكتاب "النيل" حيث قال: "لقد بذلنا جهدا كبيرا في تذليل ذلك (الأمر) لشوكة اللغة العربية مع حرفية النقل، وجعل أسلوب الترجمة مساويا للأسلوب الأصليّ جهد المستطيع".

ومن آيات تحدّيه أنه قام بترجمة "السنن النفسية لتطور الأمم" لغوستاف لوبون الذي سبق إلى ترجمة أحمد فتحي زغلول باشا (1863 ـ 1914) (شقيق الزعيم سعد زغلول باشا (1859 ـ 1927)) بعنوان "سرّ تطور الأمم" وذلك لن ترجمة زغلول باشا "لم تخلُ من التجوّز والعجمة والغموض ـ وإن بذل المترجم جهدا مشكورا في المحافظة على المعاني". على أن عادل زعيتر التمس لزغلول باشا الأعذار ـ متوخيا في ذلك منهاج العالم المبين ـ حيث قال: "إن الموضوعات الاجتماعية التي وردت في الكتاب كانت في ذلك الحين غير مطروقة كثيرا كما هي الآن، ولهذا تعثر المترجم في نقلها". واستطرد زعيتر بقوله: ولنفاد ما طبعه زغلول باشا من نسخ ترجمته، ولما وجدت من ضرورة ترجمة كتاب "السنن النفسية لتطور الأمم" ترجمة تتساوق هي وما ترجمته من كتب لوبون في السنن الأخيرة على الخصوص معتمدا على النص الفرنسيّ ومعوّلا عليه، نقلتُ هذا الكتاب النفيس على الوجه الذي أعرضه به على القرّاء". فهو من ناحية نعى على زغلول باشا قصوره في الترجمة، ومن ناحية أخرى طمأن القرّاء على أن ترجمته هي الواضحة الصحيحة التي يُعوّل عليها.

ولقد سئل عادل زعيتر غير مرة: لِمَ لا تؤلف عوضا عن أن تترجم؟ فأنت تملك جميع أدوات البحث والدرس والاستقصاء، ثم إنك في التأليف تعفي نفسك من جريرة الآراء التي يذهب إليها المؤلفون الأجانب ولا سيما حين يتصدون لتاريخ العرب أو عقائدهم أو فلسفاتهم أو حضاراتهم؟ وكان عادل زعيتر يقول ـ وبروح من التواضع ـ لو كنت أجيد التأليف بمثل ما أجاده المؤلفون الغربيون، لآثرت طريق التأليف. فالعبرة بالمادة النفيسة سواء أكانت مترجمة أم مؤلفة. ثم عن الترجمة لا تقل إبداعا عن التأليف، فهي عمل تحتشد له القريحة والموهبة والدراية الموسوعية، ومن الخطأ النظر إلى الترجمة باعتبارها عملا آليا يقدم عليه كل من عرف لغتين.

ويؤكد عادل زعيتر في معظم ترجماته بأنها ترجمة حرفية، إلا في حالات قليلة أشار إلى انه تجوّز تجوّزا يسيرا في النقل لاعتبارات ارتآها وفرضت نفسها عليه فرضا. وقد عنّ لي أن أقوم بمضاهاة بعض الفصول من ترجمة عادل زعيتر لكتاب "النيل" مع الترجمة الإنكليزية لهذا الكتاب عينه التي أعدتها ماري لندزاي Mary H.Lindsay وهي قطعا مقارنة ظالمة لأن عادل زعيتر نقل عن الفرنسية في حين نقلت ماري لندزاي عن الألمانية ولا مناص من وقوع تفاوت في النقل بين النصين المترجمين، فألفيت عادل زعيتر يتصرف في الترجمة تأخيرا وتقديما، ويضيف من عندياته عبارات وصفية أو شاعرية تزيد الأسلوب حسنا، كقوله عن النيل "إنه مبارك الغدوات ميمون الروحات" أو قوله عن مصر "فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، فإذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمرّدة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء"، وهي محسنات لفظية تضيف إلى الترجمة بعدا شاعريا جماليا وتجعلها قطعة من الأدب المصفّى.

والنصوص التي ترجمها عادل تحتمل مثل هذا التصرف المقبول، لأنها ليست من قبيل العقود القانونية التي تقيد المترجم بالحرفية الباغية، ولا هي من شاكلة الاتفاقات التي تبرم بين الدول والتي تصاغ بعبارات اصطلاحية ليس منها فكاك. فالمترجم الأدبي، كعادل زعيتر، يحتشد للترجمة بكل حصيلته الأدبية واللغوية والبلاغية، وليس عليه لوم أو تثريب إذا ما حوّل النصّ الجافّ المنقول من مادة تاريخية أو جغرافية ثقيلة إلى أثر أدبيّ رفيع يحكي كتابات بلغاء العرب. والمهمّ ألا يجور اللفظ الإنشائيّ على المعنى الدقيق، وأن تكون أمانة النقل هي ديدن الناقل في إنجاز عمله، ولاسيما لأن قارئ الترجمة باللغة العربية قد يقنع بها، إما لجهله اللغة الأجنبية المنقول عنها، أو لأن النص الفرنجي ليس في متناوله. فالترجمة بالنسبة للقارئ العربيّ هي إذن السبيل، وربما الوحيد، إلى معرفة آراء المؤلف، أو الاستشهاد بها اطمئنانا من القارئ إلى أن المترجم قد توخّى الأمانة الكاملة في النقل.

والذي يعمل بالترجمة لا بدّ أن يتحلى بما يمكن أن يطلق عليه اسم "ضمير المترجم"، وهو الذي يجعله يبذل أقصى الجهد حتى لا يقع في ما يطلق عليه الإيطاليون عبارة "الترجمة خيانة". فالمترجم الأصيل ذو الرسالة كعادل زعيتر لا يخون القارئ الذي وثق به، ولا يخون النص الذي ينقل عنه، وإنما يؤدي رسالته بأقصى قدر من الأمانة ويقظة الضمير. إذا كان هناك ناشرون لا يطمئنون إلى ترجمة نص إلا بعد عرضه على مراجع يسجل اسمه على غلاف الكتاب، فإن عادل زعيتر قد حمل عن نفسه عبء المراجعة وخرج إلى القارئ متحمّلا بمفرده المسؤولية الكاملة عن عمله. بل لقد قال لي مرة: إن عبارة "مراجعة فلان" التي يقد بها طمأنة القارئ على دقّة الترجمة وصحتها إنما تلقي بظلال كثيفة من الشك على أهلية المترجم نفسه، لا تعني أن عمله منقوص ولا بدّ من استكماله بالمراجعة، ومن يدري، فقد تحتاج هذه المراجعة إلى مراجعة تالية للتثبت من أن المراجع لم يفلت منه شيء.

وللمرء أن يسأل عن مكونات المترجم الكفء، وكيف استطاع عادل زعيتر أن يبلغ الشأو الذي بلغه في الترجمة وهو أصلا من رجال القانون وصناعة المحاماة وتدريس الحقوق على المستوى الجامعيّ؟ وفي الردّ على هذا التساؤل نقول: إن الترجمة ـ وحتى وإن دُرست في معاهد متخصصة ولا تسلس قيادها للمترجم إلا إذا استكمل أدواته، وهي تتحصل في الموهبة أولا، ثم في رحابة الثقافة ثانيا، ثم في إتقان اللغات التي يشتغل بها ثالثا، ثم في الممارسة العلمية الدؤوبة مع الانتفاع بملاحظات النقّاد رابعا، ثم في الاستمساك بمبدأ "ضمير المترجم" الذي يلزمه الأمانة في العمل، والصرامة الجادة في أدائه خامسا، ثم في معرفته بفنون البلاغة الأسلوبية التي تكفل للمترجم مستوى رفيعا من حيث فصاحة اللغة سادسا، يضاف إلى هذا جميعه قدرة المترجم على سكّ المصطلحات بعبارة سائغة كلما اعترضه شيء منها. وأشهد أن عادل زعيتر قد دانت له جميع هذه العناصر، فهانت عليه مهمته على الرغم من صعوبتها، واستطاع بين عامي 1924 و 1957 أن يترجم نحو أربعين كتابا من أضخم الكتب حجما وأغزرها مادة، وما كان هذا ليتأتى له لولا أنه ألزم نفسه بصرامة منهجية، وتفرغ لعمله الذي كان ينفق عليه أكثر مما كان يكسب منه، تاركا المحاماة ـ وهي عمل ربيح. كنت أراه يقيم في فندق شبرد الشهير ـ قبل احتراقه ـ شهرا بعد شهر للإشراف على طبع كتبه، فأسأله: وهل تعوضك كتبك عن النفقات التي يتقاضاك الفندق إياها؟ فكان يقول: ومنذ متى كان المال رائدي وقائدي في الحياة؟ حسبي أن أخدم أمّتي بما أنقله من نفائس المدوّنات، وهذا هو الجزاء الأوفى للعمل الذي أضطلع به.

والأخطاء المطبعية هي آفة فاشية قلّ أن يسلم منها كتاب عربي. ولكن عادل زعيتر كان ينبري بنفسه لمراجعة تجارب كتبه مرتين وثلاثا اجتنابا للخطأ الذي كان يعده جناية لا تغتفر. شهدت مرة نقاشا حادا جرى بينه وبين شفيق متري صاحب دار المعارف. فقد اكتشفت عادل زعيتر بعد طبع ملازم كتاب "البحر المتوسط" ـ وهو في 900 صفحة ـ أن هناك اثنتي عشرة غلطة مطبعية أفلتت من المراجعات المتكررة، فأصرّ على إثبات لائحة بهذه الأخطاء في نهاية الكتاب ـ ولكن شفيق متري أصرّ بدوره على عدم إثبات هذه اللائحة قائلا إن فيها ما يسيء إلى سمعة دار المعارف التي اشتهرت بالدقة المطلقة في جميع كتبها. ولكن عادل زعيتر لم يقنع بهذه الحجّة وأكّد أن تصحيح الخطأ المطبعي هو مسؤولية يتحملها أمام القرّاء. وارتضى الطرفان بعد أخذٍ وردٍ طويلين أن تُنشر لائحة التصويبات مصدرة بعنوان تقول: إن أغاليط قليلة ظهرت في هذا الكتاب الضخم الذي طبع بإشراف عادل زعيتر نفسه في خمسة أسابيع، الذي أبدى اعتذاره لدار المعارف وسجل لها شكره. فتحمل بذلك وزر الخطاء المطبعية وأعفى الناشر من تبعاتها.

وصفوة القول: إن عادل زعيتر يمثل ظاهرة فريدة في حركة الترجمة المعاصرة، وإن أي تقييم منصف لدوره في الترجمة لا بدّ أن ينوّله أعلى مراتبها، فهو في هذا الميدان قد انتبذ لنفسه مكانا سامقا يكاد يتأبّى على المقارنة مع غيره من المترجمين. ولا غروَ، فقد كان ـ كما قلت في بداية هذا الحديث ـ مترجما ذا رسالة.

* * *