الأخبار
بعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكريا بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيينمسؤولون أميركيون:إسرائيل لم تضع خطة لإجلاء المدنيين من رفح..وحماس ستظلّ قوة بغزة بعد الحربنتنياهو: سنزيد الضغط العسكري والسياسي على حماس خلال الأيام المقبلة
2024/4/23
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحائرة بقلم: أنس الشابي

تاريخ النشر : 2009-05-19
الحائرة (*)
بقلم: أنس الشابي
يلحظ المتابع للحياة الثقافية في بلادنا بجلاء رواج مصطلحات " اللاّ مفكر فيه " و"اللاّ مصرّح به" و"المسكوت عنه " و"اللاّ قولي" و"غير مقول ممكن غائب"... وغيرها من الكلمات التي تؤدي إلى أفهام ومعان لا علاقة لها باللفظ أو بالنّص المقروء حيث يشبه الحال ما كان عليه الباطنية والحشويّة ممن ينصرفون بمعاني الألفاظ إلى ما يخدم أهدافهم المحدّدة سلفا،
فيضيع بذلك ما تواضع عليه الناس واستقر في الأنفس من ضبط للمعاني والدلالات وبالتالي التواصل المعرفي. هذه الحيلة التي اعتمدت قديما نجدها اليوم رائجة لدى صنف من الناس لا يملّ تكرار انتسابه إلى الديمقراطية والحداثة والتنوير. وقد تتالت المقالات والكتب التي ينسخ بعضها البعض بشكل لافت مدّعية البحث في "المسكوت عنه" في حين انحصر اهتمامها في المسائل ذات العلاقة بالسلوك أو الأخلاق أو الدين.
في الفترة الأخيرة نشرت ألفة يوسف كتابا سمته "حيرة مسلمة" تناولت فيه جملة من السلوكيات الحميميّة الشخصيّة بالعرض والنشر والإيحاء، مستهدفة بذلك إقناع القارئ بأنّ ما ورد في التراث من أحكام تتعلّق بالإرث والسلوك الجنسي إنّما هو من وضع الفقهاء واختراعهم ولا علاقة له بالأسانيد الشرعيّّة التي يمكن تأويلها باستعمال الأساليب التي ذكرت أعلاه،ولتحقيق ذلك أجهدت المذكورة نفسها على تأكيد جملة من القناعات الشخصيّة القبليّة هي التالية :
القرآن قرآنان
ذهبت الحائرة إلى القول بأنّ القرآن الكريم إنّّما هو: «قرآن أصليّ لا يعرفه أحد وتأويلات الفقهاء والمفسرين من جهة ثانية»(1).
وهي الفكرة نفسها التي صاغتها نائلة السليني في قولها بـ:
«تحوّل كلام الله من مرتبة القرآن أي كلاما مصرّفا في لغة العرب، ومن قرآن هو معجزة النبيّ إلى صحف رتّبها زيد بن ثابت على عهد أبى بكر إلى مصحف إمام جمع عليه عثمان أمّة المسلمين وأقصى كلّ قراءة توازيه"(2) الأمر الذي يعني في نظرهما أنّ للمسلمين كتابين مقدّسين الأوّل منهما لدى الله تعالى "لا يعرفه أحد" والثاني تواضع عليه الصحابة وفرضه عثمان على المسلمين وهو الذي "أوّله الفقهاء والمفسرون".
ومن الجدير بالملاحظة أنّ هذا الافتراض لا سند له فقد أجمعت المصادر المعتمدة كلّها على أنّ القرآن كتب في حياة الرسول (ص) من طرف كتبة الوحي، وإن بقي مفرّقا ولم يجمع إلاّ في عهدي أبي بكر وعثمان فإنّ ذلك لا يعني أنّ إمكانيّة تغييره واردة لسبب بسيط يتمثل في أن النصّ القرآني يتعبّد بتلاوته ويقرأ في اليوم الواحد خمس مرّات فضلا عن حضوره الدائم في كلّ المناسبات هذا من ناحية ومن ناحية أخرى عرفت الأمة الإسلاميّة في فترة الخلافة الراشدة نهوضا تمثـل في توزّع المسلمين في مختلف الأقطار وبذلك انتشر القرآن الكريم فهل يمكن أن يطمئن حصيف إلى القول بأنّه قد زيد فيه أو أنقص ؟ وهل يمكن أن يتجرّأ أحد على تغيير حرف واحد منه وهو رائج في مشارق الأرض ومغاربها؟.
ورغم ذلك فإننا لا نعدم أخبارا لا يتجاوز عددها الثلاثة تذهب إلى أنّه قد أنقص أو زيد فيه وهي أخبار ناشئة أساسا عن التعصّب المذهبي والتوتّـر السياسي بين السنّه والشيعة من ذلك أن غلاة الشيعة ذهبوا إلى اتهام عثمان (ض) الذي ينالون منه كلّما ذكر اسمه بأنّه حاول أثناء جمعه القرآن إسقاط حرف منه حتّى يتغيّر معنى الآية.
هذا الخبر المختلق يجد له اليوم رواجا بهدف تيسير استباحة القرآن وتلبيسه من المفاهيم ما لا تسمح به اللّغة وهو ما سنأتي عليه لاحقا.
وفي تقديرنا أن الالتجاء إلى خبرين أو ثلاثة أخبار من جملة موروث كامل والاستدلال بها بطريقة انتقائية غير متبصّرة على أن القرآن الموجود بين أيدينا مختلف عمّا نزل على الرسول (ص) دون نقد أو تمحيص لها ودون وضعها في إطارها التاريخي يحمل الكثير من المهانة الفكريّة.
ضمن هذا التوجّه ذهب عبد المجيد الشرفي وتبعه في ذلك من لفّ لفـّه إلى القول: " بورود الوحي على لسان عمر أو على لسان غيره من الصحابة." (3) الأمر الذي يعني لديه أن القرآن الذي هو بين أيدينا اليوم اشترك في كتابته مجموعة من الصحابة، وهو أمر لم يدر بخلد السيوطي الذي نقلوا عنه هذا الخبر لأنّه ذكر في بداية الفصل الذي خصّصه للمسألة أنه : " في الحقيقة نوع من أسباب النزول والأصل فيه موافقات عمر"(4) وشتّان بين ورود الوحي على لسان عمر وبين موافقة القرآن لرأي رآه عمر، ذلك أن موافقة القرآن لما رآه عمر أو غيره من الصحابة لا ضير منها، لأنّ الحقّ يمكن أن ينطق به حتّى من لا يتوقع منه ذلك فما بالك بعمر بن الخطّاب أحد أهمّ القادة في التاريخ الإسلامي وأحد أعدل الحكّام الملقب بالفاروق، فمن كان هذا حاله هل نستكثر عليه أن يكون ذا رأي راجح وفهم صائب وفكر نيّر وعزم صادق ؟ وهل أنّ الإقرار بنزول القرآن كاملا على الرسول (ص) يستلزم وفق ما انتهى إليه الشرفي ومن لفّ لفّه وجود صحابة لا يتّسمون بالفكر الثاقب والرأي السديد ؟
اجتهاد عمر
في حديث الحائرة عن الخليفة الثاني قالت: «بأنّه قد سبق لعمر أن عطّل حكمين قرآنيّين صريحين وهما قطع يد السارق ومنع الصدقات للمؤلفة قلوبهم»(5). وفي ذلك دعوة صريحة إلى تعطيل الأحكام الشرعيّة وإلغائها بحجّة أنّ عمر بن الخطّاب قد سبق له أن قام بذلك، وفي تقديرنا أن هذه الدعوة لا تستهدف مسألتي السرقة والمؤلفة قلوبهم بل التمهيد والإعداد لخرق أحكام أخرى تتعلّق بالأسرة كالإرث والمهر وتعدّد الأزواج، غير أنّ سهم الحائرة - كما هو دائما- صاف عن المرمى فالاستشهاد في غير محلّه وإيراده دون توضيح تلبيس على خلق الله.
ففيما يخصّ حدّ السرقة الوارد في القرآن إنّما ورد كقاعدة عامّة يستلزم تنزيلها في الواقع اجتهادا من الحاكم رعاية للعباد ودرءا للحدود بالشبهات لأن الأحكام الشرعيّة لم ترد لذاتها إنّما وردت لتحقيق المصلحة، وقد اجتهد عمر عام المجاعة وكان رأيه صائبا في إيقاف تطبيق الحدّ لأنّ : "الأحكام الشرعيّة شرعت لعلل تقتضيها ومقاصد تؤدّي إليها. وإنّها تدور مع عللها وجودا وعدما وإن أدّى ذلك إلى تخصيص النصّ أو ترك ظاهره أحيانا" (6) .
أمّا منع عمر للزكاة عن المؤلٌّفة قلوبهم فقد أدرجته الحائرة ضمن "تعطيل الأحكام القرآنيّة الصريحة " وليس الأمر كذلك، لأنّ مصارف الزكاة الذين حدّدتهم الآية لم تحدّدهم بأعيانهم كزيد أو عمرو بل بصفاتهم كأن يكونوا فقراء وهي صفة تطرأ وتزول وكذلك الأمر بالنسبة إلى الغارمين وابن السبيل... والمؤلٌّفة قلوبهم وهم الذين رغب المشرّع في كفّ أذاهم ومنعهم من الإساءة للمسلمين، وبما أنّ الإسلام انتشر وتعزّز بالفتوحات فقد المؤلفة قلوبهم الصفة التي على أساسها أدرجوا ضمن مصارف الزكاة.
ففي خلافة أبي بكر الصدّيق تقدّم اثنان من المؤلفة للحصول على نصيبهم من الزكاة فمنعهم من ذلك عمر قائلا: "إن رسول الله (ص) كان يتألّفكما والإسلام يومئذ قليل أمّا اليوم فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم ."(7)
وهكذا يفصح عمر بحكميه المذكورين عن فقه بصير واجتهاد عميق ودراية متبصّرة بمصالح الناس وبمقاصد الشريعة تنأى به عمّا توهّمت الحائرة في قولها بأنّه : "إذا كان الرّجل قد تجرّأ على النصّ الأصلي الذي حفظه الله عزّ وجلّ من النقصان والتحوير فلم نتعجّب من نهي عمر عن متعة سمح بها الرسول؟"(8). وبيّن أنّ القدح في عمر وسوء الظنّ باجتهاداته والانحراف بها عن مقاصدها إنّما سببه المصرّح به هو منعه نكاح المتعة، وهو نوع من الأنكحة التي أقرّت ومنعت في فترات مختلفة إلى أن استقرّ أمر الأمّة على منعه.
ولأنّ ألفة يوسف من دعاة الزواج المؤقت والمروّجين لنكاح المتعة لم تجد أمامها إلاّ أن تجرّح ثالث الخلفاء تقول :"ولعلّ نشدان المفسرين والفقهاء تأكيد سيادة الزوج على الزوجة هو ما حمل جلّهم على تحريم زواج المتعة الذي لم يحرّمه القرآن بل عمر بن الخطّاب وحده ذلك أنّ زواج المتعة يمكّن المرأة من بعض حريّة اختيار ومن انفصال سريع لا تسمح به المنظومة الفقهيّة." (9) لتصبح بذلك الهواجس النفسيّة والرغبات المكبوتة "اللاّ مصرّح بهما " مدخلا لإثارة مالا يمكن عدّه إلاّ في باب اللّغو.
اللٌفظ والمعنى
تجهد الحائرة نفسها على الانحراف بالألفاظ عن معانيها التي تواضع عليها الناس واستقرّت في الأنفس لتتحوّل إلى خليط من الأفهام لا سند لها، وقد وصلت بها الجرأة إلى حدود ليّ عنق الآيات، من ذلك أنها لمّا تعرّضت للآية :" نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنّى شئتم "(10) ذهبت إلى القول بأن «أنّى» تفيد الكيف أي كيفما شئتم تقول : "فتكون الآية مبيحة لطرق الإتيان المختلفة ." (11) وقصدها الإتيان من الدبر مستدلّة على ذلك بأنّ "عموم استعمال القرآن لهذه الأداة يجد معنى الكيف غالبا عليها ممّا يرجّح معنى الكيف ." (12) وهو دليل ساقط لأنّ غلبة استعمال دلالة معيّنة للفظ ما في نص من النصوص لا تعني إسقاط غيرها من الدلالات الأخرى، مضيفة لما ذكر أنّ الحرث: " استعارة... تشير إلى حركة الجماع المتميّزة... فلماذا لا يكون وجه الشبه إمكان الحرث بمعناه الحركي."(13) مستنتجة أنّ :" استنكار أغلب المسلمين اليوم لنكاح الدبر متّصل بما قد يذكّر به من العلاقة الجنسيّة بين الرّجلين باعتبارها علاقة مستهجنة بشعة."(14)
للحائرة أن تعتقد فيما تشاء وكيفما تشاء ولكن أن تتعسّف على اللّغة للوصول إلى أفهام ما أنزل الله بها من سلطان فذلك ما نعترض عليه. ففي حديثها عن الحرث اقتصرت ألفة على اجتزاء البعض من النصّ القرآني لأنّ تعبير الحرث جاء كما يلي :"ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله إن الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهّرين، نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم."(15)
الأمر الذي يعني أنّ المؤمن مطالب باعتزال المرأة في فترة الحيض باعتباره أذى فإذا تطهّرت فله أن يأتيها في المكان الذي منع عنه سابقا، فهل يصحّ أن يمنع الزوج عن إتيان الزوجة من موقع الحيض فإن تطهّرت أبيح له إتيانها من الدّبر ؟ لا يخلو الحال من أمرين إمّا أنّ الدبر هو الآخر موقع للحيض يشمله حكم المنع كما ذهبت إلى ذلك ألفة وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة أو أنّ الحائرة تلوي عنق الحقائق.
ثمّ يرد في القرآن الكريم تشبيه النكاح بالحرث مبيحا الإتيان في قوله : " أنّى شئتم" ويعلم كل مبتدئ أنّه إن تعدّدت الدلالات فالسّياق كفيل بترجيح إحداها فأنّى تطلق على الكيف وهو ما ذهبت إليه الحائرة وتطلق على الزمان وهو الأصحّ ودليلنا على ذلك أنّ الحرث الذي يقصد به الزرع والإخصاب لا يكون إلاّ في الأرض الصالحة وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة فبانتهاء الحيض تصبح مستعدة للإنجاب، أمّا الأرض الصخريّة أو السباخ فلا محلّ لها في الآية ولا معنى لحرثها والمستفاد ممّا ذكر أن الحرث لا يكون إلاّ في موقع الحيض بعد الطّهر وما خلا ذلك فتخليط لا يعتدّ به .
أمّا اللّواط فإن الحائرة تأتي فيه بالعجب العجاب، فبعد أن تورد الآيات المتعلقة بالموضوع وبعد أن تخلّط في الأخبار التي جمعتها من هنا وهناك تخلص إلى القول بأنّ :" فاحشة قوم لوط قد تتجاوز الضرب والحدف بالحجر والشتم إلى مواقعة الرجال عنوة أي إلى اغتصابهم... ويبدو أنّ الاغتصاب كان يتّجه أساسا إلى الضيوف أي إلى الغرباء العابرين للقرية... إن إتيان الرجال.... لا يعدّ منهيّا عنه إلاّ إن كان فيه التفات عن النساء وإعراض عنهنّ." (16) الأمر الذي يعني لدى الحائرة أن اللّواط لا يتمثل في إتيان الذكر فقط بل تشترط فيه أن :
ـ يكون الملتاط ضيفا وليس من أهل الدار.
ـ يكون عابرا وليس من أهل القرية.
ـ يتمّ اغتصابه وإكراهه على ذلك فإن رضي فلا بأس.
ـ يكون اللوطيّ ملتفتا عن النساء أي كارها لهنّ فإن كانت الرغبة فيهن موجودة فلا بأس.
تلك هي شروط الحائرة فسبحان الله ولا حول ولا قوّة إلاّ به.
ما سكت عنه القرآن
سكت القرآن عن تحديد الحكم في العديد من القضايا، هذا الإغفال استغلّته الحائرة للإيهام بأن ما لم يأت فيه نصّ قرآني يجوز التصرّف فيه دون ضوابط ودون محدّدات ويمكن أن يكون محلّ أخذ وردّ.
ولا يخفى أنّ فصل القرآن عن الأدوات المعرفيّة التي تضبط معناه وتخصّص عامّه وتفصّل مجمله يستهدف الانتقال به من كتاب دعوة إلى دليل سلوك يومي ومن كتاب يجمع الناس حول القواعد الأخلاقيّة والسلوكيّة والدينيّة التي لا يختلف حولها اثنان إلى مجال الجزئيات والتفاصيل التي لا تثبت على حال . فالاكتفاء بالقرآن وحده لاستمداد الأحكام الفقهيّة غير مجز إن لم يستند إلى السنّة النبويّة وإجماع الصحابة والعرف والمصلحة وغيرها من القواعد التي فصّلها الأصوليون.
عند حديث الحائرة عن تحديد سنّ الزواج قالت : " فالغالب أنّ المجتمع الجاهلي ومجتمع صدر الإسلام كان يعدّ (الصّواب كانا يعدّان وهو خطأ من الحائرة) الطفل القريب من البلوغ قابلا لأن يكون موضوعا جنسيّا ممّا يفسّر في المجال التشريعي عدم منع الزواج بصغيرات السنّ بنصّ صريح وممّا يفسّر في المجال الثقافي التغزّل بالغلمان المرد."(17)
على هذا النسق الغريب المستهجن تذهب الحائرة إلى القول بأن الاستغلال الجنسي للأطفال والتغزّل بالغلمان المرد مردّه أن الله تعالى لم يحدّد في القرآن سنّا معيّنا للزواج وفي تقديرنا أن تسنين الزواج للذكر أو للأنثى يخضع لعاملين اثنين كانا في اعتبار المشرّع :
أوّلهما يتعلق بالنموّ الجسمي الذي عليه المترشح للزواج، وهي مسألة لا تحدّدها السنوات بل القدرة على الوطء لذا اختلف الفقهاء القدامى في تحديد السنّ، أمّا مجلاّت الأحوال الشخصيّة وإن اختلفت في تحديد السنّ فإن بعضها اتّجه إلى الأخذ بالأبعد والأحوط كما هو الحال في بلادنا حيث حدّد ب 18 سنة، ولمن كان سنّه أقلّ من ذلك فيطلب ترخيص من المحكمة لعقد الزواج.
وثانيهما العرف والعادة، ذلك أنّ التنظيم الاجتماعي المستقرّ يفعل فعله ولا يمكن إلغاؤه أو تغييره بجرّة قلم لذا نجد أن الفقهاء يتعاملون مع واقعهم حالة بحالة، ومن المعلوم أنّه كان للشافعي مذهبان، مذهب وهو في بغداد ومذهب وهو في مصر لاختلاف العرف والعادة في البلدين، فسكوت القرآن عن تحديد سنّ معيّن للزواج فيه رفع للحرج عن الناس وتوسعة في التصرّف وأخذ بعين الاعتبار لاختلاف الأحوال والأزمان والمصالح، هذا المعنى أجاد تحريره الإمام نجم الدٌين الطّوفي قال في رسالته : "إنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها لأن العبادات حقّ للشرع خاص به ولا يمكن معرفة حقّه كمّا وكيفا وزمانا ومكانا إلاّ من جهته فيأتي به العبد على ما رسم له... ولا يقال إنّ الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلّـته، لأنّنا قد قرّرنا أن رعاية المصلحة من أدلّة الشرع وهي أقواها وأخصّها فلنقدّمها في تحصيل المصالح ثمّ هذا إنّما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أمّا مصلحة سياسة المكلّفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل فإذا رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنّا أحلنا في تحصيلها على رعايتها. " (18)
وتتواصل رحلتنا مع هذا المنطق العجائبي الذي وصلت فيه الحائرة إلى حدّ القول : " فإذا كان القرآن كتابا إلاهيا حكيما فإنه ....يجوّز لقارئه التساؤل عمّا لم يرد فيه من الممكن وروده."(19) متسائلة عن سبب :"صمت القرآن عن السّحاق أي العلاقة الجنسيّة بين الأنثيين." (20) ومجيبة نفسها بقولها: "إن سكوت القرآن عن السّحاق ليس سوى وجه من وجوه تغييب المرأة مستقلّة عن الرجل في القرآن."(21) مضيفة لذلك في شرحها للآية: " زيّـن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين..."(22) بعد انتزاعها من سياقها أنّه : " قد زيّن للنساء باعتبارهنّ من الناس حبّ الشهوات من النساء... لتشمل إشارة ضمنيّة رمزيّة إلى شوق ممكن بين أنثيين."(23) أي أن الحائرة تذهب إلى القول بأن السّحاق حلال لأنّه لم يرد نصّ قرآني يحرّمه وأنّ تعدّد الأزواج للمرأة الواحدة هو الآخر حلال لأنّنا حسب قولها : " لا نجد في القرآن آية صريحة تحرّم زواج المرأة بأكثر من رجل ". (24)
لو جاريناها فيما ذهبت إليه لأمكننا القول كذلك بأن إتيان البهيمة حلال طالما أن القرآن سكت عن المسألة.
كما ينتج عن إرجافها الغريب أنّه طالما أن مجلٌّة الأحوال الشخصيّة لم تجرّم تعدّد الأزواج فإن هذا التعدّد جائز عندها.
المصادر
اعتمدت الحائرة على مراجع ثانويّة ومقالات صحفيّة ومدوّنات الملح والطرائف سندا لها فيما ذهبت إليه، فحسن اختيار المصادر يكشف عن طبيعة الدراسة ومدى جدّيتها، إذ كلّما كانت ملتصقة بالموضوع وأصليّة في بابها كلّما كان التناول علميّا موثّقا، واللاّفت للنظر أنّ صاحبة الحيرة ذكرت بعض الأحكام الفقهيّة إلاّ أنّها لم تستند إلى أيّ كتاب فقهي، فعند حديثها عن المواريث اكتفت بالاستناد إلى بعض التفاسير التي لا تعتمد في هذا الباب كمفاتيح الغيب للرازي وهو تفسير كلامي فلسفي إن تطرّق لمسألة المواريث ففي إطار الشرح اللّغوي ومناسبة النزول فقط بحيث لا يِؤصّل للمسألة، ذلك أن أحكام الميراث لا تستمدّ إلاّ من كتب الفريضة وكذا الحال في قضايا الزواج والمهر والعدّة والطلاق... فما ورد في القرآن من أحكام في هذه المسائل لا يتجاوز القواعد العامّة وإن وجد تفصيل فلا يعدو أن يكون مرتبطا بحادثة معيّنة. والمستفاد ممّا ذكر أن درس الأحكام الشرعيّة التفصيليّة يستلزم العودة إلى كتب الفقه وأصوله لأنها تشرح الغوامض وتبين المبهمات وتعلّل الأحداث وتؤصّل المقاصد وترتّب الأدلّة والقواعد.
لو توقفت الكاتبة عند حدود الاستعانة بالتفاسير فيما سوّدت لهان الأمر أمّا أن تستعين بالمقالات الصحفيّة للحديث عن الغيبيّات وإبداء الرأي فيها فلا يعدّ إلاّ من قبيل الهزء والسخرية بالقارئ أوّلا وأخيرا لأن محمد جلال كشك الذي سلخت من كتابه ما سوّدت عن غلمان أهل الجنّة واللواط وغير ذلك لا يعدو أن يكون من أصحاب الإثارة الذين يتصيّدون المواضيع الشاذّة لإثارة اللّغط حولهم كما عرف عنه أنه يؤجر قلمه لمن يدفع أكثر، فهل يعقل أن نطمئن لمن هانت بضاعته وباع ذمّته؟
ومن الجدير بالملاحظة أن الحائرة في استشهاداتها استندت إلى " نزهة الألباب " للتيفاشي وهو كتاب جمع فيه صاحبه ملحا ونوادر وأشعارا محورها الجنس على سبيل التفكّه والانبساط، ممّا يضعه ضمن المجاميع الأدبية التي تزخر بها مكتبتنا وينأى به عن أن يكون مصدرا للتأصيل الشرعى.
وبعد
إن غياب الجدّة والجديّة في طرح أي مسألة علميّة في هذا الكتاب أدّى بوسائل الإعلام التي تناولته بالتعريف إلى الاقتصار على الحديث عن الجنس وملحقاته المسكوت عنها في مجتمعاتنا تأدبا ولياقة والمثارة بصخب وضجيج من قبل بعض النسوة اللاّئي يصفن أنفسهن "بالديمقراطيّات" ممن دأبن منذ مدّة على الترويج للمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، ولأنهن متيقنات أنّ قطعيّة الدلالة في النصّ القرآني تمنعهن عن الوصول إلى مبتغاهنّ شمّرن على سواعدهنّ لإثارة الشبهات والتشكيك في دلالات الألفاظ واجتزاء الأحكام من سياقاتها والاستناد إلى الشاذّ من المرويّات وهو الأمر الذي نلحظه بجلاء في عدد من الكتب التي أعدّت في منوبة كأطاريح جامعية في قسم الحضارة الإسلامية واستهدفت جميعها تخريب تراثنا الفكري والثقافي من الداخل تحت ستار الحداثة والتنوير وذلك باعتماد الشاذ والأسطوري والعجائبى والخرافي في حين أنّ أي طالب مبتدئ يعلم أن نقد التراث إنٌّما يستدعي أصالة تشذيبه ممّا أشرنا إليه والإفادة من كنوزه التي أثرت الفكر الإنساني وساهمت مساهمة جلٌى في تطوّره فحفظت بذلك لتراثنا وحضارتنا الإسلامية موقعا متميّزا هو محلّ إكبار إلى يوم الناس هذا.
ليس لنا أن نختم هذا المقال إلا بالقول إن نهضة الأمم لا علاقة لها بأنصبة الورثاء أو الوطء أو المهر، فاليابان حققت نهضتها رغم أنّ : "الأفضليّة في الوراثة لم تكن للذكور فحسب دون البنات بل أيضا للابن البكر دون سواه حيث يرث عن أبيه المال والنفوذ والسلطة وحقّ تمثيل العائلة في جميع المناسبات."(25) ويضيف مسعود ضاهر قائلا : " في حين كانت أوضاع المرأة اليابانية سيّـئة قبل الإصلاحات وكان عدد المتعلمات منهن قليلا للغاية فإن إصلاحات مايجي الجديدة شرعت الباب واسعا أمام الفتيات للعلم والعمل معا"(26).
ذاك ما تقول التجارب الناجحة، أمّا لدينا فإن النسوة "الديمقراطيات" والتوابع لا يجدن من النهضة إلا التسوية في الإرث ولا يعرفن من التنوير وأدواته سوى الدعوة للتحرر الجنسي.
ـــــــــــــــــــ
الهوامش
(*) وهو الوصف الذي أطلقته ألفة على نفسها ونوافقها عليه معتبرين أنّه أصدق ما ورد في الكتاب، وهل أبلغ من وصف الإنسان نفسه ؟
1- حيرة مسلمة، ص 11
2- تاريخيّة التفسير القرآني، المركز الثقافي العربي، المغرب 2002 ص 9
3- الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة بيروت 2001، ص 36
4- الإتقان في علوم القرآن، تقديم وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، دمشق 1987، ج 1 ص 110
5- حيرة، ص 99 و51
6- العقوبة في الفقه الإسلامي، للدّكتور أحمد فتحى بهنسي، دار الشروق، القاهرة 1989 ص 109
7- فتح القدير، ج 3 ص 14
8- حيرة، ص 99
9- حيرة، ص 160
10- سورة البقرة الآية 223
11- حيرة، ص 87
12- حيرة، ص 87
13- حيرة، ص 109
14- حيرة، ص 112
15- سورة البقرة الآيتان 222 و223
16- حيرة، ص192 و194
17- حيرة، ص 120و121
18- المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدّين الطّوفي، للدكتور مصطفى زيد، دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص 48
19- حيرة، ص 171و172
20- حيرة، ص 171
21- حيرة، ص 173
22- سورة آل عمران الآية 14
23- حيرة، ص 177و 180
24- حيرة، ص 126
25- النهضة العربية والنهضة اليابانية، تشابه المقدّمات واختلاف النتائج، للدكتور مسعود ظاهر، سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 252 بتاريخ ديسمبر 1999، ص 151
26- المصدر السابق، ص 260.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف