الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أُسطوانة المديــر مشــروخـة كتبها:نعيم عودة

تاريخ النشر : 2009-03-16
أُسطوانة المديــر مشــروخـة


هذا يوم رائع ، فنحن في عطلة نصف السنة ونسيم الربيع يبعث في النفس إحساسا بالراحة وشعورا بالاستجمام. كنت جالسا تحت الشباك والنسمات تداعب الشعيرات القليلة المتبقية فوق رأسي .. سرحت بخواطري بعيدا … ورحت أقلّب أسطوانات عمري الكثيرة العتيقة .. تسمّرت عيناي على واحدة منها .. إنها أسطوانة تحوي لوحات ذات ألواح والوان ودسر .. نفضت عن الذاكرة غبارها لأستعرض ما فيها:

الوجــه الأوّل:

شقراء .. مدينة تترامي أطرافها المبعثرة على طريق الحجاز .. تستلقي بيوتها على رمال النفوذ .. ساحاتها الرملية تغريك بالمشي حافيا.. والمقاهي الشعبية بأسرّتها المرتفعة تدعوك إلى السهر والسمر وتذكّرك بأيام امرئ القيس وهو واقف لدى سمرات الحيّ ينقف الحنظل في انتظار عنيزة. والمدرسة الثانوية في الطرف الشرقي من المدينة..ضخمة البنيان ، واسعة الساحات، أمامها مسجد كبير خلفه مساحة ترابية تكفي لبناء قرية صغيرة .. هناك في تلك المساحة كانت تقام احتفالات مديرية التعليم في نهاية كل عام دراسي.

ومدير التعليم .. رجل فاضل حقا .. بعيد عن الدنايا وخصوصا لغة الأنجليز .. قريب من معسكر الفضائل، ودود هاشّ باشّ دائما في غير ابتذال.. كان احترامه لنا يدفعنا إلى العمل الجاد والتفاني ، وكان سؤاله عنا يعطينا حماسا أكثر مما تعطيناه كل الفيتامينات المتواجدة في صيدليات منطقة الوشم.. كان يؤمّنا في صلاة الظهر عندما نكون في الأدارة، فأحرص على الوقوف خلفه في الصفّ الأوّل ، وعندما تنتهي الصلاة أتراجع إلى الوراء لألبس حذائي فلا أجده، يضحك الزملاء ويشيرون إلى سيارة فورد عتيقة تنطلق في البعيد: أخذ سعد المحيميدحذاءك كي تعود حافيا.. أشاركهم الضحك ونعود جميعا أدراجنا إلى بيوتنا فأجد حذائي عند عتبة البيت منتظرا إيابي بينما سعد يقهقه من خلف الباب.

كانت الحياة سهلة وأمور معاشنا بسيطة وراحة البال متوفّرة تماما كما يتوفّر القلق وينتشر التعقيد وتفوح رائحة الإحباط في الجيل المعاصر هذه الأيام.

في نهاية العام الدراسي من كل عام يدعو مدير التعليم أحد كبار رجالات وزارة المعارف لحضور الحفل العام للمنطقة.. وكان يطلب مني أن أكتب قصيدة ترحيبية ألقيها بين يدي الضيف .. وكذلك فعل في تلك المناسبة. جاء الموعد وكانت الشمس تميل نحو الغروب ونسمات من صبا نجد تهبّ في كلّ اتجاه، والساحة الرملية تكتظّ بمئات من الطلاب والأهالي وأعضاء الهيئات التدريسية في منطقة الوشم.. جلس وكيل الوزارة وغاص في كنبة ضخمة ، على يمينه ابو عبدالله مدير التعليم وأبو سعد وكيله وموظفو الإدارة، وعلى يساره وجهاء المنطقة يبرز من بينهم الهديان .. تاجر لا يقنع بالقليل وله في عالم التجارة صولات وجولات وبخاصة في أوساط المدرسين الجدد.. لا شئ يسرّه أكثر من أن ينتف ريشهم أولا بأوّل .. والويل كل الويل لمن يتعامل م‘ غيره من التجار.

في الواجهة المقابلةوقف- الجلاّل – عريف الحفل يجلجل بصوته مرحّبا وقدّم مدير المدرسة الابتدائية ليلقي الكلمة الترحيبية ، تقدّم المدير بخطوات ثابتة وامسك الميكروفون في ثقة من يعلم أنه لا يعلم :

(بسم الله الرحمن الرحيم ، العلم نورٌ والجهل ظلامٌ ) ويبدو أنّ الحرارة قد ارتفعت فجأة فجفّ حلق العنقري.. وطقّت الأسطوانة وامتدّ الشرخ حتى وصل حافتها العظمى ، وظلّت الإبرة تتردد بين أطراف العبارة التي نطقها ابتداء.. وسرت همهمة وحدثت حركة عصبية بين الواقفين خلف المدير ، تحرّك شخص آخر وامتدّت يـدٌ اختطفت الميكروفون منه .. بينما دفعته اليد الأخرى بعيدا في غير احترام. لم يطق صبرا فتقدّم. هذا هو سعود الشعلان مدير الثانوية .. رجل قصير القامة دقيق الأنف صغير العينين فيه صرامة الحجّاج وضعفه.

ألقى كلمته مزهوا كأنه ديك فصيح بينما انزوى الآخر مغلوبا يرتجف في ركن قصيّ .. ألقيت من موقعي نظرة أستظهر الوجوه: فوزي الصافي وعلي مجاهد وخضر والطلاّع .. شلة أنس .. تبدو عليهم سعادة لا توصف.. لقد سقط المدير .. مسكين .. إنه مدير .. نعم .. ولكنه غير مؤهّل.. ها هو قد نهض من عثرته ولوى عنقه في يأس المغلوب وعاد إلى بيته دون أن يشعر به أحد.



جاء دوري .. الآن يلقي الأستاذ.. الشاعر .. قصيدة ترحيبية ، فليتفضّل.. لمع في عينيّ خبث فريد. مدير التعليم ينتظر قصيدة ترحيبية أذكر فيها أمجاد إدارته وصولات المدرسين .. وأنا أعددت قصيدة فيها قليل من الترحيب ألقيت في بؤرته صليات فتحاوية حامية:

هتفت له شقرا تزغرد مرحبا أهلا وســهلا

بالشوق تنتظر اللقاء وقد بدا لك بل تجـلىّ

ثم عـرّجت على هدفــي:

يا أسمر الوجه الملوّح إنها شمس البنادق

طلعت تدير عيونها الحمراء تنــذر بالصواعق

هذي الجماهير التي تحميك ظهرك كالفيالق

لا بدّ أن تمضي لقطع رؤوس صنّاع المشانق



ولفحتني الحميّة فاسترسلت رافعا رأسي مهددا حتى انتهيت ودوّى التصفيق.. ولكنّ وكيل الوزارة لم يصفق!!

أحسست بتخاذل مريب يدبّ في أوصالي .. كانت عيناي قد انحرفتا عن الجمهور الغفير وتسمّرتا على منصّة وكيل الوزارة ومدير التعليم .. وفيما بعد عاتبني المدير عتابا رقيقا قلّل من إحساسي بالهزيمة.

مرّت أيام وأيام على ذلك الحفل.. كنت عائدا من الإدارة إلى بيتي ومررت برجل طيب كان يجلس أمام داره..

· السلام عليك يا أبا منصور .

· وعليك السلام . تعال يا أستاذ. شلون محمد عندك؟

· محمد زين .. لكنه ضعيف في الإنجليزي.

· أنت تدرّس إنجليزي؟

· نعم يا شيخ.

· أنت زين بس لو ما تدرّس إنجريزي.

رحم الله أبا منصور ، أصاب كبد الحقيقة.



الوجــه الثانـــي:

الوجـــه الثانـــي:

كانت نساؤنا يجتمعن عصر كل يوم في منزل احداهنّ، ثم يقررن القيام ببعض الزيارات في اليوم التالي. وذات يوم اجتمعت النسوة وقررن زيارة – حرمة - - من أهل شقراء ، وقدّمت لهنّ صاحبة البيت الفواكه والقهوة العربية والتمر .. تفضلوا .. كلوا .. هذا ( برقدان) ما تعرفونه؟

تغيّر لون أم أشرف.. احمرّ وجهها .. يبدو أنها تذكرت مصيبتنا في وطننا وضياعنا في غربتنا .. فقالت لصاحبة البيت في غير خشوع: هذا اسمه برتقال وهذا يأتيكم من بلادنا .. أنا من الخليل وأم أيمن من العباسية وهذه من يافا بلد البرتقال.. صاحبة البيت لم تفهم كثيرا ولكنها شعرت بقلة علمها في مواضيع التاريخ والجغرافيا كما أشعر أنـا بضياعي مشـرداً بين هوان الزمان وحقارة المكان.



سعود الشعلان .. حجّاج المدرسة وقائدها وخطيبها المفوّه.. يقف أمام المدرسة كلّ صباح حاملا عصاه ، يشفط كلّ من يتأخّر عصاً على قفاه فيجري الطالب وجلا .. وجاء أحدهم متاخراً .. هو عمدة طلبة المدرسة .. أصلبهم عوداً وأكثرهم شراسة .. بدويّ من بيت المنقور .. لا يفهم نظاما ولا يهاب مديراً ولا يحسب حساب مدرّس .. وصل الباب وتقدّم غير هيّاب ولا وجـل. رفع المدير عصاه إلى ما فوق رأسه .. كأعلى ما يمكن أن تكون .. وصكّ أسنانه وشدّ قامته القصيرة وتمطـّى وعقد ما بين حاجبيه .. تقدّم ناصر نحوه ثابت الخطى وفتح يديه وضمهما حول خاصرة المدير ورفعه إلى أعلى !! نظر المدير إليه وقال بلغة فصيحة L أنزلـني بـرفـق)

فعل ناصر ذلك بهدوء وسار نحو صفه وكأنّ شيئاً لم يكن . لكنّ المدير قرّر أن ينتقل من المدرسة الثانوية إلى المدرسة الابتدائية.. وكذلك كان.



هنا بدأت معاناتي مع المدير الجديد .. رجل في أواسط الثلاثينات من العمر، نحيف البنية عصبيّ المزاج، دقيق الوجه، كثير التدخين (في البيت فقط) لم يعمل في أيّة مؤسسة تعليمية قط.. كلّ خبرته في الجوازات .. مفتش جوازات.

من هنا كانت صرامته الواضحة تعويضا عن قلّة خبرته الإدارية وممارسةً لعمله السابق المبنيّ على الشكّ ومواصلة التدقيق. دخل غرفة الإدارة ثمّ أقبل علينا في غرفة المدرسين .. ألقى تحية الصباح وقال: أنا عبدالعزيز. ثمّ أدار ظهره وتوجّه نحو غرفته وجلس على الكرسيّ الدوّار يحركه في كلّ اتجاه. بعد هنيهة جاء الفرّاش ..

أنت يا استاذ.. المدير يبيك.

· أأنت الذي تقوم بعمل جدول الدروس؟

· نعم. أنا.

· اعمل لنا جدول جديد مراعيا كذا وكذا.

· إن شاء الله.

· أبيه بكره الصبح جاهز. شـِكرا.



حظّي مع المدراء طين أسوَد ونيلة مكررة .. يستغلّون طيبتي ورغبتي الصادقة في العمل. يأمرني وكأنني أعمل سائقا عن أمّه.. هذه هي ضريبة الغربة . وبعد أسبوع وصل مدرّس جديد.. فأرسل المدير في طلبي: وصل مدرس جديد .. نبي جدول جديد .. بكره .. هاه ؟ وتتكرر العملية أربع مرات في بداية العام الدراسي وأنا أكتب جدول الدروس طائعا راضيا بالمقسوم ظانّا أنّ الرجل يحفظ لي هذا الجميل.



ذات صباح .. دخلت غرفة الإدارة. نظرت إلى ساعة الحائط. الساعة متأخرة عشر دقائق.. ضبطتها وخرجت ، ثم عدت بعد قليل، وكان المدير جالسا هذه المرّة .. فإذا الساعة متأخرة عشر دقائق أخرى. مددت اليها يدي لأضبطها .. فإذا بزئير المدير من ورائي يجلجل:

· من أمرك بضبطها؟

· إنها متأخرة عشر دقائق وقد ضبطّها قبل قليل.

· أتركها هكذا .. أنا أريدها هكذا..

· يا رجل أنا لم أخطئ .. ثمّ قلت كلاما أكبر من ذلك.

· أخرج من هنا. لا تدخل غرفتي . كان هذا إعلانا بإفلاس المدير في الإقناع.

· سأخرج . ولكن إياك أن تطلب مني شيئاً.

وخرجت.

صالح مدرس الرسم، شاب وسيم ورقيق لكنه يحب نقل الأحاديث من طرف إلى آخر .. كا يأتيني كي يوم ينقل إليّ ما يريد المدير أن يقوله لي ، وأنا أردّ عليه من خلال صالح. جاءني يوما ليقول: المدير يقول إنه سيلغي عقدك. فأجبته- وكنت قد رتبت أموري مسبقا – أبلغ صاحبك أنني سأنتقل من التعليم إلى جهة أخرى.

وظلّ صالح ينقل الحوارات بيني وبين المدير حتى نهاية العام الدراسي. وكانت النتيجة أنني تركت التعليم سنوات طويلة . وذات يوم التقيت المدير في سوق بالرياض وسلّمنا في غير شوق .. وسألته: أين أنت اليوم؟

فقال: تركت التعليم وعدت مفتشا في الجوازات.

رحم الله أيام زمان.



كتبها/ نعيم عودة

الدوحـــة
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف