الأخبار
قطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيراني
2024/4/18
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

وانتهت أعيادي.. بقلم: فاطمة فحيل بوم

تاريخ النشر : 2016-07-24
وانتهت أعيادي.. بقلم: فاطمة فحيل بوم
وانتهت أعيادي..
بقلم: فاطمة فحيل بوم.. ليبيا

 
أذكر ذلك العيد، العيد الذي انتهت من بعده كل أعيادي، العيد الذي أخذه منّا للأبد، ومن غير سابق إنذار، أذكر تفاصيله تماماً وكأنه يوم الأمس.

لم يعد للعيد نكهة من بعده. كل ما يأتي ذلك العيد، تأتي معه الذكرى التي تحمل رقما جديدا، سنة تلو الأخرى ليُتم قلبي.

أتذكر في ذلك العيد البائس زُف نعشه، أتمنى أن تكون قد زفت روحه الطاهرة إلى الجنة أيضاً، أذكر تماما آخر لحظات التقط بها أنفاسه، ليأخذوه للمشفى.

أخذتني الذاكرة للخلف. الموقف ذاته تكراراً لحدثٍ آخر. قبل سنة وبعض الحاجة. يتكرر ولكن يومها لا أعلم، هل استجاب الله لإلحاحي في الدعاء؟! أم أن دعاء أصدقائه مشائخ المساجد له بطول العمر أرادها الله أن تتحقق؟!

نقلته يومها سيارة الإسعاف، التي ما يزال صوتها يضج في أذني، ليعلن الأطباء أن معجزة ستحدث إن عاد النبض لقلبه. زاد الأمر من توتري، ما هي إلا بضع دقائق ويعلن الطبيب انتهاء ساعات عمره، وأنه فارق الحياة.

لتمر تلوها دقيقة واحدة، ويخرج طبيب آخر، مبشراً بأن قلبه استجاب مرة أخرى، ولكن حالته عسيرة نوعا ما، وعلينا بالدعاء لله كي يشفيه.

اختصر أبي هذا في مكالمة هاتفية لجدتي.

تنحنحتُ من مكاني مسرعة إلى غرفتي، أتضرّع إلى الله شكراً وخوفاً. شكراً على أنه أمد في حياته، وخوفاً من أن لا يتمكن قلبه من الاستمرار في الحياة. تقاطع ابنة عمتي دعواتي:

- جدي في حالة جيدة، وسوف يخرج من المشفى بعد وقت قليل.

تفتح أختي باب الغرفة لتقطع ما شردت به، وأرجع إلى الواقع.

رفعت يداي إلى ربي، رجوته أن يعيد الموقف، رجوته أن يطيل في عمره، رجوته أنه حبيبي، أنه فلذة كبدي، أنه مدللي..

(مدللي)!.. ربما نطقت بتلك الكلمة بكل عفوية، ولكنها أرجعت لي أجمل الذكريات معه، واليوم إذا تذكرتها استطعمها مُرةً، مرةً الذكريات إن تذكرتها وحيدة من بعده، مُرّة هي كمرارة العلقم، كنت عندما أتذكرها بجانبه أقصها عليه ليكملها ضاحكا معي.

ذات يوم، وفي مساءٍ صيفي، تحت شجرة اللوز التي تلي المنزل:

- ‘‘جدي تِذّكر لما نمشو لصاحبك اللي عنده الدكان بش تهدرز عليه وتاخدلي حاجات هلبا نبيهم’’.. (قلت أنا).

- (ترد ضاحكاً) ‘‘خديتي الدكان كله’’..

- (أجبتك ضاحكة) ‘‘أي.. نتفكر، وإنتا كل ما تمشي شوية، نقعمزو أكثر من نمشو’’.

-‘‘لو تعرفي وجع رجلي يومها، وحسيتي بيه، كنتِ تقولي مستحيل نخليك تتحرك’’.

- ‘‘ولو تعرف إنت وجع قلبي اليوم، وأحسست به ماذا كنت ستفعل؟’’.

أذكر في إحدى الأيام، أخذت صحيفتي المدرسيّة في الثانوية، وأتيته لأريها له الأول كالعادة. وأذكر أنه في الآونة الأخيرة من حياته، لم يعد بإمكانه -كما كان في السابق- قراءة الورق، والحروف الصغيرة، نتيجة لمرض السكرّي الذي أضعف نظره. 

- ‘‘زي العادة بتفوق.. ما شاء الله على بنتي’’..

قالها باحتفاء وسعادة. وهو يمسك الصحيفة مقلوبة لعدم قدرته على القراءة.

شق خنجرٌ قلبي يومها، لأنه لم يعد يتمكن من قراءة علاماتي، ولكن بتأثير السعادة التي كانت تفيض من قلبه، ورسمها وجهه؛ جعلتني أنسي وجعي. وأجزم أن فرحته تلك اللحظة فاقت فرحتي، ما جعله يخرج من جيبه كل ما يملك من نقود، واَضِعاً إياها على صحيفتي. ليأخذني بعدها في حضنه، حيث الشعور بالآمان.

أذكر أيضاً عندما يعلّمني الأرقام الإيطالية، وبعض الكلمات أيضاً، لتعلو ضحكاته عاليا، وأنا أنطق بردائة تلك الكلمات التي استصعبها لساني.

أذكر أيضا القصص التي يرويها لي كل مساء، ليمر علي شريط حياته، كأنه دون أي استثناء.

إلا لحظات ورن الهاتف. خوف ما انتابني، من أمر أخشى حدوثه، نبضات قلبي تتصاعد حدة، تعلوا كلما على رنين الهاتف، فزعا من الصوت الذي يحمل لي خبرا فاجعاً. يؤكد مخاوفي، ويقطع الآمال التي طمئنت نفسي بها، وينهى كل الأعياد وأضحى بلا عيد.

- ‘‘البقاء لله وحده’’. صدمني الصوت، وانتهى العيد

تشنجت في تلك الزاوية، في عقر داره مقابلة لسريره الذي كان آخر مضجع له.

تشنجت كل المشاهد التي تمر أمامي، أرى كل البشر وكأنني لم يعد بإمكاني أن أسمع صوت أحد.

من سوف يحكي لي القصص؟! من سيشتري لي كل الذي يجول بخاطري؟! من يناديني لأشاهد معه برنامجه التلفزيوني المفضل؟! من يقول لي لا أحد يأتي في مكانك؟!

وهو؟! من يأتي ليعوض مكانه؟!

عزائي فيك كان كبير يا جدي، كبيرٌ جداً كطيب سمعتك من بعدك.

يحبني حبا جمّ، وكأنني الحفيد البكر، بينما يسبقني عدد لا بأس به من الأحفاد. محبته لي، محبة أبٍ عقم أبنائه عن إنجاب من يخلّد له اسمه.

وأحببته أنا كحب الــ......!

أعتذر من الأبجدية لم أجد وصفا أو مسمّىً.

لم أعد أذكر سوى أنّ أحدهم أخذني من يدي لمراسم العزاء في الخارج. كان أحدهم يندب، والآخر يصرخ، وغيره يستغيث بالله، كان الجميع يبكون دون استثناء.

انهمرتُ دموعي، بعد صدمة دامت لأكثر من ساعة. سألت من كان يسند رأسي على كتفه:

- ‘‘حقاً، حقاً جدي الذي مات، جدي الذي غادر المنزل دون عودة، جدي الذي غادرنا، جدي الذي أخذه الموت من هذه الحياة؟!’’.

ولكن أقسم بجلالته أن لن يأخذه الموت من قلبي أبدا.

في الليلة الأولى، لم أستطع البقاء في تلك المراسم، لم أكن أصدّق. رجعت إلى منزلنا مع البعض من حفيداته الأخريات، أحداهن تسبقني بشهور والبقية بسنوات.

تنهمر عيناي بالدموع دون النطق بأي حرف. لم أستطع النوم تلك الليلة، ليأتي صباح اليوم التالي. إنه يوم الجنازة:

- اليوم ستُدفن تحت التراب، من اليوم لم يعد بإمكاني أن أراك، ولكن أقسم لك أن روحك حيّةً تسكن روحي.

ما هي إلا ساعات، ليأتي الجثمان.

- كل أصدقائك المقربين لمحتهم يومها، أنظر للرجال كيف يبكون وتنسدل الدموع على لحاهم في غيابك، ليدخلو بجثمانك للغرفة المغلقة، أستند أنا إلى الحائط، يزيد انهياري وانهمار سيل دمعي، أتمتم لنفسي:

- غادركِ حبيبك، غادركِ مدللك، غادركِ الذي لن يعوّضه الغالي والنفيس من بعده.

أتأمل المشهد من بعيد. إحدى المشائخ يقف على باب الغرفة يصرخ:

- لا أحد يدخل عدا زوجته، دخلت جدتي، لا أعلم ما هو شعورها في تلك اللحظة.

من بعيد عمتي سيل دمعها جارف، يشق خديها، تناقشه ولا أعلم ماذا تقول!. رأيت عمتي الأخرى تدخل، وأختي البكر. لا زالت عمتي تناقش ذلك الرجل الذي يناهز الثمانون من عمره. إنه أحد مشائخ مدينتنا، وأحد أصدقاء جدي المقربون.

أسمع اسمي، ينادونني، أجيب بنعم.. ولكنها لا تتعدى مسمعي.

ابنة عمتي:

- ‘‘ينادونك’’.

أجيبها:

- ‘‘خديني إليهم’’.. تجرني قدماي إلى هناك، وأنا مستندة عليها.

أصل إلى عمتي، وذلك الرجل يفتح لي الباب:

- ‘‘تفضلي بالدخول’’.. يقول

يقابلني نعش جدي، وجدتي تضع يدها على جبينه وتُتمتم، قلت لهم:

- ‘‘ليس بإمكاني الدخول’’..

أصرّت عمتي أن أدخل، وألحّ الشيخ أن لا أذرف دمعة واحدة في الداخل. أجبته:

- ‘‘سوف أحاول’’..

أسمّي باسم الله الرحيم وأدخل. تقول لي عمتي التي بالداخل:

- ‘‘نكشفلك على وجهه، بوسيه وادعيله، بس بشرط ردي بالك تبكي’’.

يساومونني هم بالمستحيل، ولكن لأجل أن أرى نور وجهه للمرة الأخيرة. سأحاول، أقبل أنا بالشرط لأعلن موافِقة بهز رأسي، لأنه لم يكن بمقدوري التفوه بحرف واحد. 

تفكّ جدتي اللفة الأولى من الكفن، ليكشف عن جزء من وجهه، التفتُّ لأحضن عمتي وكأنني أعتصر دميتي المحشوة بالصوف، التي أحضرها لي في آخر عيد فطر، أؤشر لها على باب الغرفة، تخرجني عمتي ليستقبلني العشرات عند خروجي. كان بودّي أن أقبّل جبينه كما هي العادة، لا أعرف لماذا استصعب قلبي الموقف؟! لا أعرف لما لم تحضر قوة عقلي وركيزته؟!.

أقتربت مني إحداهما. أشرّت لها لتأخذني إلى مكان يبعد قليلا عن المراسم، فجأة الباب الخارجي للمنزل يُفتح على مصرعيه، نعم إنه الجثمان، إنه جثمان فلذة كبدي وهي ذاهبة لمأواها الأخير. يودعونه كل واحد منهم على حدى. أحدهم يلوح بيده ‘‘مع السلامة’’, والآخر يرمي بقدح من الماء خلفه، والآخر يرسل قبلاته مع الهواء.

ودّعته أنا بهمسات في قلبي، استودعت فيها روحه لله الذي لا تضيع ودائعه.

الدفينة كانت مع صلاة الظهر، رغم خروج روحه الطاهرة بعد صلاة العشاء. كان ذلك التزاما بوصيته بتعجيل دفنه (فإكرام الميت دفنه).

أشرد.. لأتمتم لنفسي، أربعة ساعات لم تكن كافية لاكتمال صفّ التعزية، رغم التعجيل بدفنك وعدم سماع الكثير بموعد الدفن، أيّ الأعمال كنت تفعل يا حبيبي لكي ينهال كل هذا العدد.

تقطع أفكاري فتاة غريبة، تأخذني من يدي، تعرّف بي أناساً أجهلهم على الصعيد الشخصي:

- ‘‘إنها حفيدته’’..

ليعزيني البقية، كانوا يقبلّون جثة، وقلبي وعقلي مشغولان به.

- هل سيجيب كل الأسئلة بصورة صحيحة؟! هل ستشفع له أعماله  الصالحة؟! هل ستنوّر له سورة الملك التي يقرؤها قبره؟! أتشفع له صدقاته للفقراء والمساكين؟! أتحجب دعوة يتيم تكفل بها يوما، ذاك الظلام عنه؟!

ويتيمته من سيتكفل بقلبها؟!

سألت الله له ليلتها أن يبعث ألف سلام على روحه، ألف سلام على قبره، ألف سلام عليه، وألفا سلام على قلب يتيمته من بعده.

عيدك في الفردوس الأعلى يا روحاً أنطفأت كل الأعياد من بعده.

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف