الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

تيسير قبعة غيمة فضية في فضاء الذاكرة بقلم د. عبد الحسن شعبان

تاريخ النشر : 2016-07-22
  "تيسير قبعة غيمة فضية في فضاء الذاكرة".

الكاتب والباحث العراقي د. عبد الحسن شعبان

وبعد خروجي إلى المنفى مرّة أخرى استعدتُ النصّ، وقمت بإعداده، وكتبت مقدّمة له، ووضعت له عنواناً جديداً وهو “مذكرات صهيوني” وقد صدر بكرّاس لاحقاً عن دار الصمود العربي 1985، ونشرته على خمس حلقات في مجلة الهدف، التي تربطني بها صداقة حميمة منذ أن تعرّفت على غسان كنفاني في بيروت في العام 1970، وفيما بعد بسّام أبو شريف في العام ذاته، وصابر محيي الدين رئيس التحرير في حينها.

بعد استكمال نشر المادة، هاتفني الأخ والصديق تيسير قـبّعة، وقال لي: “الحكيم بدّو يشوفك” والتقيت به، واستفسر عن إمكانية الحصول على نص المذكرات التي تعود الى إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية “مكابي هاكير” الذي كان معتقلاً في معسكر أوشفيتز (أشهر معسكرات النازية)، والذي تعاون مع جهاز الغاستابو (1940 – 1944).

وقد توقّف الدكتور جورج حبش عند المعلومات التي وردت في المذكرات والتي كتبها إيغون ردليخ في المعتقل، الذي أعدم في العام 1944، والتي هي عبارة عن صفقة لا أخلاقية بين النازية والصهيونية، فمقابل إرسال الآلاف من اليهود إلى أفران الموت النازية، يُرسل بضع عشرات أو مئات من القيادات والمتموّلين الصهاينة إلى فلسطين، وقد تمّ العثور على تلك المذكرات في سقف لأحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف بعد أكثر من عقدين من الزمان.

جدير بالذكر، أن المذكرات كُتبت بطريقة حذرة خوفاً من وقوعها بيد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من الخبايا والخفايا حول التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية، فيما يتعلق بمأساة اليهود، ناهيكم عن أنها تكشف عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك.

وبسؤال “الحكيم” عن إمكانية الحصول على نص المذكرات، توقعت أن العملية سهلة ويسيرة، ولكن بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه تأمين نسخة من نص المذكرات، فاجأني محدثي من براغ بعد أسبوع أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط مسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في “تشيكوسلوفاكيا” أقيل من منصبه العام 1968، ثم سُمح له الكتابة باسم مستعار، والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحات بعد وفاته بعامين، وحاول الحصول على نسخة من المذكرات حتى وإنْ دفع ثمنها، وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنها رفضت الاستجابة لطلبه ثم امتنعت عن الحديث في الموضوع.

واستفسرتُ من الصديق حسين العامل العراقي المخضرم في براغ فيما إذا كان لديه معلومات عن الرجل، وبعد تدقيق أبلغني أن ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتاباً عن النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية، واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في حينها، وقام بتصحيح المسوّدات، واطّلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعاً في المطبعة، لكن الكتاب اختفى قبل يومين (من صدوره)، ونقلت تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهول مثلي وربما أكثر منّي، لا سيّما أن ذلك جرى في ظل النظام الاشتراكي السابق.

{ { {

في بيروت، وفيما بعد في الشام، لم يبخل معنا تيسير قبّعة، وقدّم كل ما يستطيع بصفته مسؤولاً عن العلاقات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفيما بعد بصفته عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (نائب رئيس) أو في منظمة التضامن الإفرو – آسيوي (AAPSO) أو في عضويته بمجلس السلم العالمي، فقد دعم طلبنا حين تقدّمنا باسم اللجنة الوطنية للسلم والتضامن للانضمام إلى المجلس، وخصوصاً بعد إعادة تركيبها في مطلع الثمانينات، ومفاتحة شخصيات سياسية وثقافية مهمّة للانضمام إليها، مثل الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، وغيرهم.

وأذكر حين نشب الخلاف داخل الحزب الشيوعي، وتعرّض العديد من المناضلين إلى الفصل، واستخدمت بحقهم وسائل عديدة للإذلال، مثل قطع المخصّصات، وما يتفرّع عنها، من علاج ودراسة للأولاد، ووثائق سفر (جوازات) وتزكيات أمنية وغير ذلك، بادر تيسير قبّعة إلى مساعدة الكثيرين، وبطيبة خاطر.

وأتذكّر بعد فصل ماجد عبد الرضا من الحزب، تم قطع مخصص تفرّغه والامتناع عن تسديد علاج ابنته التي كانت في إحدى المصحّات اللبنانية، وتوفيت لاحقاً، وكان عليه تسديد إيجار ثلاثة أشهر، فقررنا فيها مفاتحة تيسير قبّعة بالأمر، وكان بحضور مهدي الحافظ، الذي جاء من فيينا بزيارة عمل إلى الشام، ولم نكد ننتهي من عرض المسألة على قبّعة، حتى قال عليه الذهاب إلى مجلة الهدف لاستلام راتبه الشهري، وسأبلّغ الحكيم بما حصل، (لأنه كان مسافراً).

خصَّصت الهدف أعلى راتب لماجد عبد الرضا، قياساً لما كانت تدفعه للمحرّرين الأساسيين، ولم تطلب منه الكتابة، وتعاملت معه باحترام شديد، وكان ذلك جزء من أخلاقيات صابر محيي الدين أيضاً، الذي تسنّى لي التعامل المباشر معه لفترة طويلة، وليس بمعزل عن توصية قيادات الجبهة وخصوصاً تيسير قبّعة وجورج حبش. فضّل ماجد عبد الرضا الكتابة، ولم يرغب باستلام راتب دون عمل، وكان قد كتب عدداً من المقالات في المجلة، لكن كتاباته كانت مطوّلة ومُسهبة، وبعضها ليست محلّ اهتمامهم، أو ليس لها طابع راهني، وهو ما كان يحرج رئاسة التحرير، التي لا تريد ردّ طلب لماجد عبد الرضا، ولكنها كانت تراعي الجانب المهني في الوقت نفسه. ومن رهافة حسّ رئيس تحرير وذوقه وتواضعه عمّم كتاباً، جاء فيه: إن المقالات الأسبوعية لا ينبغي أن تزيد عن 700 كلمة، أما الأبحاث والدراسات، فهي إما أن تتم بتكليف خاص للأعداد الخاصة أو للعدد السنوي، أو لبعض الملفّات، الأمر الذي ينبغي مراعاته من الجميع، وهو ما كنّا قد اتفقنا عليه معه.

أذكر حادثة ثانية لها دلالة مهمّة، كيف وقف تيسير قبّعة مع محمود البياتي في محنته في براغ، يوم تعرّض إلى مساءلات وضغوطات وتهديدات بخصوص علاقته مع “المنبر”، (المجموعة الشيوعية التي اتخذت مواقف مختلفة عن قيادة الحزب الشيوعي، ولا سيّما بخصوص الحرب العراقية – الإيرانية، وتطوّرت إلى اتجاه فكري ينحى نحو التجديد)، حيث تم تهديده بالطرد، وحرمت زوجته ياسمين من العمل في الإذاعة التشيكية (القسم العربي) بعد أن كانت قد أدّت اختباراً ونجحت فيه، لكنه لم يتم تعيينها بسبب رفض المسؤول عن التنظيم الحزبي إعطاء موافقة الحزب، وقد روى محمود البياتي تفاصيل ذلك بمرارة في أكثر من مناسبة، وكان يعدّ لرواية خاصة، لهذه الحادثة، وما تعرّض له من اتهامات وتحقيقات، وكذلك لحوادث أخرى مماثلة، استغلّ فيها المسؤولون نفوذهم مع الدول المضيفة، للتنكيل بخصومهم والنيل منهم.

قام تيسير قبّعة بالاتصال بمنظمة التضامن التشيكية، وقال لهم: يمكنكم اعتبار محمود البياتي على ملاك الجبهة الشعبية، أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى اعتباره فلسطينياً، فهو يقوم بمهمات استشارية لمندوبنا ولسفارتنا. وزكّى عامر عبد الله ونوري عبد الرزاق، ما قاله تيسير قبّعة إلى التشيك، بشرح جوانب من الخلافات الدائرة آنذاك، وبعض التصرفات اللاّإنسانية.

كانت الفيز للدول الاشتراكية، وبخاصة إلى تشيكوسلوفاكيا، تشترط بالمتقدّم أن يصرّف يومياً مبلغاً من المال بالعملة الصعبة، وهي مبالغ كبيرة ضمن حسابات تلك الأيام، ولأن الحصول على الفيز كان يتم عبر الحزب، فإن ممثليه امتنعوا، بل وجّهوا كتاباً إلى سفارات الدول الاشتراكية ببعض الأسماء، لكي لا يتم منحهم الفيز بزعم أنهم يقومون بمهمات تخريبية ضد الحزب. وقد اعتذر سمساروف السفير البلغاري في دمشق شخصياً لرفيقنا ماجد عبد الرضا عن منحه فيزا في وقتها، الأمر الذي طلبنا له جوازاً خاصاً (خدمة) من اليمن، لكي يعفى من مسألة التصريف والفيزا التي تمنح له في المطار، حسب اتفاق بين الدولتين، وقام نوري عبد الرزاق بكتابة رسالة إلى “محسن” (محمد سعيد عبد الله) لتسهيل الأمر وتسريعه.

وكنتُ دائماً ما ألتجىء إلى تيسير قبّعة، فأطلب منه ذلك لبعض الرفاق أو المرضى، ولم يردّ لي طلباً، فقد كان يتعامل بكل سخاء إنساني مع تلك الاحتياجات، وقد قدّر لي أن أحصل على الفيزا لعدد من الرفاق، كما طلبت منه عدداً من جوازات سفر يمنية، فلم يتردّد لحظة، إضافة إلى هويّات باسم الجبهة الشعبية وفرص عمل لعدد من الرفاق، وغير ذلك من التسهيلات، بما فيها لدى الحكومة السورية، وكان قد وضع توصية إلى صالح… عضو مكتب العلاقات لمساعدتنا وتلبية طلباتنا حين يكون مسافراً. وأعرف أنه كان يرسل مبلغاً شهرياً لأحد الرفاق في أوروبا وآخر في إحدى البلدان العربية. قال تيسير قبّعة: إن التجويع ليس سياسة، بل هو انتقام، وهو ليس شجاعة، بل جبن، وهو ليس مواجهة، بل كيدية وثأر، إنه باختصار طريقة لا أخلاقية في التعامل مع المناضلين وفي الاختلاف. قال ذلك أمام عامر عبد الله، وأمام مهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، ولذلك كان قد قرّر تخفيض الدعم المقدّم إلى الجهة الرسمية بالحزب، لكي يستطيع أن يعوّض بعضها للمناضلين كي لا ينتهوا.

أذكر ذلك الآن، لأن تيسير قبّعة الإنسان السخي والكريم، يتم التعامل معه انتقاماً بسبب الرأي، بل مع الجبهة ككل، فتقطع مخصصاته، وهو في آخر العمر ويعاني من أمراض شتى. أعرف أنّ حديثاً من هذا القبيل قد لا يرضي تيسير قبّعة، وربما يزعجه، فكم هو أبيٌ ومفعم بكبرياء عالية، ومع ذلك أكتبه لأنه يريح ضميري، وأستطيع أن أتكهّن أنه سيرضي الآلاف، بل عشرات الآلاف من المناضلين، الذين ينظرون إلى تيسير قبّعة كرمز شجاع اختلفوا أو اتفقوا معه. وكل كريم وسخي نقيض للجبن والشّح، فالشجاعة صفة لصيقة بكرم الأخلاق والقدرة على العطاء والاستعداد للتضحية، في حين أن البخل والشّح ملازمة للجبن والأنانية.

كان بعض الرفاق يعتقدون أن الفيز التي نحصل عليها هي بمساعدة دوشان أولجيك رئيس اتحاد الطلاب العالمي السابق، والسفير في دمشق لاحقاً، وفيما بعد الأمين العام لاتحاد الصحفيين العالمي، وكان أحد الرفاق القياديين قد سألني مباشرة، لكن الحقيقة وعلى الرغم من علاقتي به، لكنني لم أطلب منه ولا مرّة أية مساعدة، وكنت ألتجىء إلى تيسير قبّعة وأصدقاء آخرين، أذكرهم الآن باعتزاز: قيس السامرائي (أبو ليلى)، وخالد عبد المجيد (الأمين العام لجبهة النضال الشعبي)، وعاطف أبو بكر، وفي براغ كنا نستعين بسميح عبد الفتاح (فتح)، وطارق محمود (الجبهة الشعبية) وآخرين. ولا أريد أن أتحدث عن دور أبو عمّار وماجد أبو شرار وعبد الله حوراني، ممن قدّموا لنا مساعدات لا حدود لها.

وخلال عقد الثمانينات كنت ألتقي مع تيسير قبّعة في مؤتمرات في دمشق والقاهرة وطرابلس وعدن وأثينا وبراغ وغيرها، سواء في إطار مؤتمر الشعب العربي أو منظمات التضامن والسلم أو في عدد من الندوات الفكرية والمؤتمرات حول الإرهاب والصهيونية أو في ما يتعلق باشتراكي البحر المتوسط، وقد رويت مؤخراً لابتسام نويهض (زوجة تيسير قبّعة) ما حصل في إحدى المرّات في طرابلس مع تيسير قبّعة، فلم تكن تعرف ذلك وكذلك ابنته رانية.

كان الحوار في طرابلس حول الأزمة في حركة التحرر الوطني، (أعتقد أنه في النصف الثاني من الثمانينات)، وكانت الدعوة قد شملت القوميين بمختلف توجهاتهم، وكذلك الماركسيين بمختلف ألوانهم. وكان الحاضرون يمثّلون نخبة متميّزة، مثل كامل الزهيري ومحمد فايق وتيسير قبّعة وعوني صادق وأحمد سالم وإنعام رعد ونجاح واكيم وعبد الله الساعف، وعصمت سيف الدولة، ومبدر الويس وعبد الرحمن النعيمي وميلاد مهذبي وعمر الحامدي والحضيري وجورج حاوي وجورج البطل وعربي عوّاد وأديب ديمتري ومصطفى القباج وناجي علوش وعبد الله العياشي وعمر علي وإلياس مرقص وعبد الحسين شعبان، وقيادات من حركة المقاومة بمختلف فصائلها وممثليها في طرابلس.

وكنت أقدّم بحثي الموسوم: الأزمة في حركة التحرر الوطني: هل هي استعصاء دائم أم مجرد مصاعب مؤقتة؟ (وقد أدرجت هذا البحث الذي يعود إلى نحو ثلاثة عقود من الزمان في كتابي الموسوم: المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى، دار بيسان، بيروت، 2016). وكان رئيس الجلسة تيسير قبّعة، وإذا بها مفاجأة تحدث من العيار الثقيل، حين قام أحد الموجودين في القاعة، بالوقوف مخاطباً المنصّة: أنت.. إسمع: الماركسية سقطت.. نعم الماركسية سقطت.. فاعتقدت أن الأمر يخصّني، وإذا به يوجّه كلامه إلى تيسير قبّعة، قائلاً أنت يا تيسير الماركسية سقطت، خلّيكم قوميين.. لكن المفاجأة الأكبر حين لم يردّ عليه تيسير، وأنا أعرف أنه لا يتقبّل مثل هذا التحدّي أمام الجمع الكبير من المثقفين والمفكرين العرب.

كان تيسير يعرف أن موعد وصول العقيد القذافي أو الرائد عبد السلام جلّود قد أوشك، فانتظر، وبعد لحظات دخل جلّود، فقام تيسير ورحّب به وطلب منه القدوم إلى الصف الأول، بل ألحّ عليه، وحين استقرّ جلّود في مقعده، استأذن تيسير من الباحث، لكي يرحب بجلود، وإذا به يطلب من الشخص الذي تهجّم عليه الوقوف، قائلاً: “سباطّي عليه وعلى…”، نحن لا نقبل أن يزاود علينا أحد، نحن في الشعب العربي الفلسطيني لدينا شهداء يفوق عددهم سكان دول، نحن في الجبهة الشعبية نحسن الاختيار، ونعرف أين مصالحنا والأفكار التي تخدمنا والتي نتبنّاها بعد حوار ونقاش، انسجاماً مع أهداف شعبنا.

واحتدم الموقف وقام جلّود وجورج حاوي والآخرون لتهدئة الأجواء، ولاحظنا أن الذي كان قد تهجّم قبل مجيء جلّود اختفى تماماً، وذاب وكأنه فص من الملح، ولا أحد يعرف من أين أتى؟ ومن دعاه؟ ومن يقف خلفه؟ وبالطبع، فالأمر لم يكن بعيداً عن أجهزة أمنية وردود فعل للنقاشات بين الماركسيين والقوميين العرب بخصوص إشكالات حركة التحرّر الوطني، وهي إشكالات مطروحة بحدّة في تلك الأيام، لا سيّما من يقول إنها مجرد مصاعب وأخطاء ونواقص، في حين هناك من كانت تشخيصاته تقول إنها أزمة بنيوية تتعلّق بالفكر والممارسة والقيادة وأساليب العمل، تحتاج إلى مراجعة ونقد وتصويب وتعديل في الوجهة.

وحين دعاني لاستكمال إلقاء البحث الذي لم يتبق منه إلاّ القليل، قلت له لقد أكملت، إذْ لم يكن من المعقول عندي استمرار إلقاء البحث في تلك الأجواء، وفي ظلّ الوجوم الذي اعترى الجميع، وخيّم على القاعة.

أستعيد الآن ذلك المشهد الدرامي، وكأنّه مرّ يوم أمس: كان تيسير كلّما يصعّد في الموقف ويعلو صوته، كنت أضغط بأصبعي على ركبته من تحت الطاولة لكي يخفّف، لكن تعنيفاته وتحدّياته كانت في تصاعد، واضطررت أن أضغط على حذائه لإلفات نظره أكثر، لأنني شعرت أن المسألة قد تأخذ بُعداً آخر، بعد انتهاء هذه “الحفلة”، سألت تيسير، ألا كنت تشعر أنني أحاول تنبيهك إلى ضرورة التهدئة؟ فقال لي: نعم، كنت أحسّ بما تقوم به، ولكنني دون استخدام مثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يستمع إليك “هؤلاء”، ويقصد بعض المهووسين الذين يريدون الانتقاص من المناضلين أو المثقفين، وأظنّه كان على حق، فهو صاحب تجربة وخبرة طويلة في التعامل مع مثل هذه الأوساط، وهو ما اتّضح حين اعتذر له “الجميع” والمقصود هنا المسؤولون الرسميون.

{ { {

مؤخراً حين دعتني الإعلامية والشاعرة العربية السورية نوال الحوار، للحديث مع صديق قديم عبر الهاتف، لم أكن أعرف أنه سيكون تيسير قبّعة. وبحميميّته المعتادة باشرنا فوراً بالسؤال عن الأحوال وجرّنا الحديث إلى الأهوال، وكان للأصدقاء وبعض عتب مملّح حضور في ذلك. كنت قد التقيت قبل ذلك ابنته رانية وتبادلنا الحديث عنه وأرسلت عبرها سلامات إليه، وحاولت خلال تردّدي إلى عمان الاتصال به، فأحياناً يكون خارج الأردن، أو أن زيارتي قصيرة لم تسمح للقاء، والاكتفاء أحياناً بالهاتف.

كان اللقاء في بيروت مزيجاً من مراجعات واستعادات لصداقات وأسماء ومواقف وذكريات، فقد استعاد معي بعض علاقات وخصوصيات مع عامر عبد الله وفاروق رضاعة وماجد عبد الرضا وآرا خاجادور ومنيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي وآخرين. بعضهم رحل عن دنيانا وبعضهم الآخر حدثته عنهم.

وأعاد لي اللقاء الأخير بحضور مفكرين وفنانين ومثقفين، ستينات القرن الماضي، حين كنّا شباباً، وكان كل منّا يشعر أنه يستطيع أن ينزل القمر أو يلعب بالشمس كما يريد. لم نعان حينها من أمراض أو عقد، ولم يكن يَدُر بخلدنا أن الحياة هكذا مملوءة بالغدر والخديعة. كنّا نحلم ونشعر بقوّة الأجساد والعقول والإرادات، وكان الحق مصدر الإلهام الأساسي لدينا.

كان الدخان يملأ الشقة الصغيرة الأنيقة وغناء خفيف يأتي من غرفة داخلية إلى الصالون، وكؤوس النبيذ أحمرها وأبيضها ترتفع وتنزل، وغير ذلك من الدنان العتيقة، تصب في الأقداح الأنيقة، شربت من كل قلبي بصحة تيسير قبّعة، وتمنيت له عمراً مديداً، بكرمه وسخائه وشجاعته ومروءته.

أوَيوجد رأسمال أثمن من ذلك أو أقيم منه؟ إنه رأسمال الكبير الذي امتلكه ماركس حين خاطبته والدته: أفضل لك أن تجمع المال لا أن تكتب المؤلفات عن الرأسمال، لكن ماركس وغيره من الذين عملوا للمستقبل، بل إن نصف عقولهم كانت له: كانوا أصحاب رأسمال كبير: هو سعادتهم في النضال من أجل إلغاء استغلال الإنسان وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومع تيسير قبّعة كان أمل التحرير ودحر الصهيونية واستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً حقه في تقرير المصير وحق العودة، المدخل لأي تحرّر من الاستغلال ولتحقيق العدالة والمساواة.

كم كان تيسير قبّعة متابعاً لنشاطنا في اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، “اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية” والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وكنت أتشرف بتواضع كوني أميناً عاماً لها، وكان قبّعة داعماً للجنة ونشاطاتها سواء بدعوتنا للمؤتمرات والفعاليات العربية والدولية، أو حين يطلب مني أحياناً إعداد بعض الأبحاث والدراسات عن طبيعة الصهيونية والصراع العربي – الصهيوني، وخصوصاً من الزوايا القانونية الدولية.

ابن قلقيلية الحالم بموعد تحت ظلال شجرة الزيتون وعلى ضفة الشاطىء، حيث الدهشة الأولى، لرجال صادقوا أحزانهم، في أرض الأنبياء والقدّيسين، يستحضرون التاريخ لعهود سالفة، حيث شهدت تلك البقعة مقام النبي يامين والنبي شمعون والنبي إلياس، مثلما عرفت مسجد محمد الفاتح والجامع العمري (نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب) ومسجد حجة الذي يعود إلى العهد المملوكي… ما زال يتهجّى دروس المقاومة برومانسيتها الأولى ويستعيد أبجديات الثورة بإشراقاتها، لكي تبقى القضية طازجة وطريّة لا يلفّها النسيان، أو تحفظ في الأدراج، لأنها ليست قضية لاجئين، بل هي قضية شعب له الحق في تقرير المصير.

وتشير بطاقة ابن قلقيلية إلى أنه وُلِد في 20 آب (أغسطس) 1938 وتخرّج من مدرستها الثانوية، والتحق بجامعة دمشق، واعتقل بعد الانفصال، وأُبعد إلى القاهرة، حيث أكمل دراسته في التاريخ ونال درجة الماجستير. وبعد اعتقاله وسجنه في القدس العام 1967، أبعد إلى الأردن عبر صحراء النقب في مطلع العام 1971، وانتخب عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف)، وظلّ أبو فارس على صلة وثيقة باليسار العربي، وبشكل خاص باليسار اللبناني والعراقي، وبأوساط يسارية دولية في أميركا اللاتينية وأوروبا.

لتيسير قبّعة الحق كل الحق أن يفخر أنّه فلسطينيّ، فهذه الأرض حتى وإن “هطلت الحجارة” فيها على الصحراء، فإنها تستصلحها لتثمر تيناً وزيتوناً على حد تعبير إميل حبيبي، فما بالك إذا تآخى مع التمرّد وتحالف مع الحلم، وعقد معاهدة مع المستقبل، حتى وإن كان غامضاً أو بعيداً.

وتيسير قبّعة على الرّغم من كل الأحزان والمرارات والخيبات والانكسارات، في الوطن والشّتات، فإن فلسطينه الواقعية والمتخيلة، قلب بلاد الشّام وأمّة العرب، ظلّت حاضرة في عقله، يراها كلّما فتح عينيه أو أغمضهما، فصاحب العينين الواسعتين والصوت المميّز والرأي الشّجاع، ظلّت قبلته قلقيلية، وكل شيء يدلّه على قلقيلية، وأينما اتّجه تكون بوصلته قلقيلية، وحين يتذكّر قلقيلية تكبر ابتسامته وتزداد إشراقاً.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف