السرقات الفكرية ... البقاء للأصلح !
د.عمر عطية
أنفق أستاذ مادة تاريخ الفكر الاقتصادي ساعتين للحديث عن نظرية تقسيم العمل وأن " آدم سميث " هو مخترع هذه النظرية، وفي نهاية المحاضرة ولما فتح الباب للنقاش ، فاجأته بالقول : أن ابن خلدون وقبل 600 عام من ولادة آدم سميث ، تحدث عن نفس النظرية وكان له نفس الرأي ! .
يستشيط الرجل غضبا لسببين : الأول أن الأستاذ يهودي بالأصل ولم ترق له فكرة أن مسلما سبق آدم سميث للحديث عن هكذا نظرية ، والسبب الثاني هو تفنيد كلامه أمام جمع من طلبة الدراسات العليا .
كانت ردة فعله غريبة حيث قال : " أصلا ابن خلدون ليس عربيا " ، قلت : لا نناقش كونه عربيا أم لا ، أنا قلت ما اعتقدت أنه الصحيح ولك الحق في التفنيد ، وعلى كل حال إن كنت تصر على الحديث في القوميات والأديان ، فأقول : نعم ، ربما كان ابن خلدون ليس عربيا ، لكنه مسلم على الأقل ، وهل ستقول لي أن عبد الرحمن ليس مسلما " ! .
غاب الرجل أسبوعا وعاد في المحاضرة التي تلت تلك الحادثة وقال : "صحيح أن ابن خلدون كان قد تكلم عن هذه النظرية لكن آدم سميث هو الذي طورها وجعل منها عملا مفيدا " . وافقت الرجل على كلامه بعد أن وافقني على كلامي ، واتفقنا على أنها نظرية عظيمة .
كثيرا ما نسمع عن السرقات الأدبية وانتحال الأعمال الفكرية ، وهناك قضايا في المحاكم يرفعها أصحاب الحقوق على منتحلي أعمالهم ، لا بل أصبح هناك محامون متخصصون فيما يسمى ب " حقوق الملكية الفكرية "
مناسبة هذا الكلام ما أشيع حديثا من أن عبارة " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " للشاعر محمود درويش هي منقولة من الفيلسوف الألماني " نيتشة " ! .
تم التحقيق في الموضوع والتثبت من الترجمة عن اللغة الألمانية ليتبين أن ما قاله نيتشة هو التالي " هذه الحياة تستحق أن تُعاش على هذه الأرض " ، والفرق هنا واضح : محمود درويش يتحدث عن الأرض ونيتشة يتحدث عن الحياة ! .
من جهة أخرى يعتقد بعض " المبالغين " أن نيتشة هو من سرق محمود درويش ! .
نقول : كيف يكون ذلك علما بأن نيتشة مات قبل أن يولد محمود درويش بأربعين سنة ، والصحيح أن بعض المترجمين ترجموا عبارة نيتشة باللجوء لعبارة محمود درويش ووقعوا في فخ سوء الترجمة ... وهكذا .
يذكر أن محمود درويش كان قد تعرض لحملات مشابهة متهمة إياه " بالاقتباس " من القرآن والتوراة ، علما بأننا جميعا نستشهد بكلام الله ! .
هناك ولا شك فوضى في عالم التأليف والنشر ، وهناك الكثير من الأعمال التي تمت سرقتها وخصوصا الأعمال المترجمة ، لكن التشكيك في المبدعين جزافا هو أيضا جريمة تشيع الإحباط وقد تكون النتيجة التوقف عن الإبداع إذا وصل الأمر إلى الاعتقاد بأن الصالح قد اختلط مع الطالح ! .
طالما حدثنا والدي رحمه الله عن شخص مغمور في قرية أراد أن يصبح مشهورا ، فما كان منه إلا أن أتلف مصدر الماء الوحيد في القرية ، فإذا سأل أي شخص عن سبب انقطاع الماء ، قيل له : فلان ، وهكذا أصبح صاحبنا مشهورا ، ولذلك قالوا : " خالف تُعرف " ! .
بعض الناس امتهن التشهير بالمبدعين والمؤلفين الكبار محاولة لإشهار نفسه ، لا من خلال إبداع يحسب له بل من خلال التشكيك بالآخرين ! .
تظهر مذيعة اسمها نضال الأحمدية وهي التي اعترفت أكثر من مرة بأنها مريضة نفسيا وتتهم قامة مثل أحلام مستغانمي بالسرقة ! ، حيث تقول أن عنوان كتاب أحلام " الأسود يليق بك " هو مسروق من غادة السمان ، حيث كتبت غادة السمان مقالا بهذا العنوان عقب زيارة تعزية للسيدة فيروز بوفاة ابنتها !!! .
السؤال : كم مرة يستخدم الناس عبارة " اللون كذا يليق بك " ، وهل إذا استخدمت غادة السمان العبارة أصبحت ملكا لها وحكرا عليها ؟ ! .كان بإمكان أحلام مستغانمي وهي التي ألفت الكثير من الكتب قبل ذلك وبعد ذلك أن تأتي بمئات العناوين لكتابها ! .
بعض هؤلاء وصل بهم الشك والتشكيك إلى القول أن " شكسبير " هو شخصية وهمية وأن أعماله المنسوبة إليه هي من صنع شخص آخر أو أشخاص آخرين ! .
السؤال الذي يطرح نفسه : من هو ذلك الشخص الآخر الذي يمكن أن يؤلف عملا بحجم " هاملت " مثلا ثم يهديه أو حتى يبيعه لشكسبير؟! ليأخذ شكسبير كل هذا المجد على حسابه ، و حتى عندما " نعرف اسمه " سيأتي من يقول أنه ليس المؤلف الأصلي وهكذا سنبقى نعيش في دوامة الوصول للحقيقة .
قلت لصديق مصري أني أعشق أغنية الأطلال لأم كلثوم وهي التي اعتُبرت أغنية القرن العشرين ، فقال : بالمناسبة أم كلثوم والملحن السنباطي حرفا كلام الشاعر إبراهيم ناجي ، فقلت : كلهم ماتوا ولا يهمني سوى سماع أغنية جميلة بكلمات راقية .
العمل الجيد يفرض نفسه والمبدع لا يُنسى بينما ينقرض " السارق " عاجلا أم آجلا ، وقال أجدادنا : " ماء النقل لا يدير الطواحين " ، و بالتالي لا يصح إلا الصحيح .
أهلنا في نابلس قالوا " ليس كل من صف الصواني صار حلواني " ، وقبلهم قال الفيلسوف الفرنسي رامبي : " فليفن العالم إن ظنت خشبة أنها أصبحت كمانا " ! ، وأنا أقول : التأصيل موضوع خطير وفي غاية الأهمية ، ولكن المستهلك يهمه أكل كنافة نابلسية على أصولها وكل من " طب على المهنة " لابد وأن يختفي مع الزمان ، والمحب للموسيقى لا يهمه سوى الاستماع لموسيقى يصدرها كمان صنع من الخشب على أصوله ! ، أما الخشب الخام فيذهب للحرق فلربما صلح للتدفئة ، وهو تحصيل حاصل .
داروين قال :" البقاء للأصلح " ، أما نحن فشعارنا قول ربنا : " فأما الزبد فيذهب جفاءَ وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " .
بقي أن أقول : حتى جملة " البقاء للأصلح " مختلف عليها ! ، فلطالما عرفنا أنها لداروين ، ثم " اكتشف " البعض أنها أصلا للفيلسوف البريطاني " هربرت سبنسر " !!! ، والله أعلم ولا ... يهمنا ! .
د.عمر عطية
أنفق أستاذ مادة تاريخ الفكر الاقتصادي ساعتين للحديث عن نظرية تقسيم العمل وأن " آدم سميث " هو مخترع هذه النظرية، وفي نهاية المحاضرة ولما فتح الباب للنقاش ، فاجأته بالقول : أن ابن خلدون وقبل 600 عام من ولادة آدم سميث ، تحدث عن نفس النظرية وكان له نفس الرأي ! .
يستشيط الرجل غضبا لسببين : الأول أن الأستاذ يهودي بالأصل ولم ترق له فكرة أن مسلما سبق آدم سميث للحديث عن هكذا نظرية ، والسبب الثاني هو تفنيد كلامه أمام جمع من طلبة الدراسات العليا .
كانت ردة فعله غريبة حيث قال : " أصلا ابن خلدون ليس عربيا " ، قلت : لا نناقش كونه عربيا أم لا ، أنا قلت ما اعتقدت أنه الصحيح ولك الحق في التفنيد ، وعلى كل حال إن كنت تصر على الحديث في القوميات والأديان ، فأقول : نعم ، ربما كان ابن خلدون ليس عربيا ، لكنه مسلم على الأقل ، وهل ستقول لي أن عبد الرحمن ليس مسلما " ! .
غاب الرجل أسبوعا وعاد في المحاضرة التي تلت تلك الحادثة وقال : "صحيح أن ابن خلدون كان قد تكلم عن هذه النظرية لكن آدم سميث هو الذي طورها وجعل منها عملا مفيدا " . وافقت الرجل على كلامه بعد أن وافقني على كلامي ، واتفقنا على أنها نظرية عظيمة .
كثيرا ما نسمع عن السرقات الأدبية وانتحال الأعمال الفكرية ، وهناك قضايا في المحاكم يرفعها أصحاب الحقوق على منتحلي أعمالهم ، لا بل أصبح هناك محامون متخصصون فيما يسمى ب " حقوق الملكية الفكرية "
مناسبة هذا الكلام ما أشيع حديثا من أن عبارة " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " للشاعر محمود درويش هي منقولة من الفيلسوف الألماني " نيتشة " ! .
تم التحقيق في الموضوع والتثبت من الترجمة عن اللغة الألمانية ليتبين أن ما قاله نيتشة هو التالي " هذه الحياة تستحق أن تُعاش على هذه الأرض " ، والفرق هنا واضح : محمود درويش يتحدث عن الأرض ونيتشة يتحدث عن الحياة ! .
من جهة أخرى يعتقد بعض " المبالغين " أن نيتشة هو من سرق محمود درويش ! .
نقول : كيف يكون ذلك علما بأن نيتشة مات قبل أن يولد محمود درويش بأربعين سنة ، والصحيح أن بعض المترجمين ترجموا عبارة نيتشة باللجوء لعبارة محمود درويش ووقعوا في فخ سوء الترجمة ... وهكذا .
يذكر أن محمود درويش كان قد تعرض لحملات مشابهة متهمة إياه " بالاقتباس " من القرآن والتوراة ، علما بأننا جميعا نستشهد بكلام الله ! .
هناك ولا شك فوضى في عالم التأليف والنشر ، وهناك الكثير من الأعمال التي تمت سرقتها وخصوصا الأعمال المترجمة ، لكن التشكيك في المبدعين جزافا هو أيضا جريمة تشيع الإحباط وقد تكون النتيجة التوقف عن الإبداع إذا وصل الأمر إلى الاعتقاد بأن الصالح قد اختلط مع الطالح ! .
طالما حدثنا والدي رحمه الله عن شخص مغمور في قرية أراد أن يصبح مشهورا ، فما كان منه إلا أن أتلف مصدر الماء الوحيد في القرية ، فإذا سأل أي شخص عن سبب انقطاع الماء ، قيل له : فلان ، وهكذا أصبح صاحبنا مشهورا ، ولذلك قالوا : " خالف تُعرف " ! .
بعض الناس امتهن التشهير بالمبدعين والمؤلفين الكبار محاولة لإشهار نفسه ، لا من خلال إبداع يحسب له بل من خلال التشكيك بالآخرين ! .
تظهر مذيعة اسمها نضال الأحمدية وهي التي اعترفت أكثر من مرة بأنها مريضة نفسيا وتتهم قامة مثل أحلام مستغانمي بالسرقة ! ، حيث تقول أن عنوان كتاب أحلام " الأسود يليق بك " هو مسروق من غادة السمان ، حيث كتبت غادة السمان مقالا بهذا العنوان عقب زيارة تعزية للسيدة فيروز بوفاة ابنتها !!! .
السؤال : كم مرة يستخدم الناس عبارة " اللون كذا يليق بك " ، وهل إذا استخدمت غادة السمان العبارة أصبحت ملكا لها وحكرا عليها ؟ ! .كان بإمكان أحلام مستغانمي وهي التي ألفت الكثير من الكتب قبل ذلك وبعد ذلك أن تأتي بمئات العناوين لكتابها ! .
بعض هؤلاء وصل بهم الشك والتشكيك إلى القول أن " شكسبير " هو شخصية وهمية وأن أعماله المنسوبة إليه هي من صنع شخص آخر أو أشخاص آخرين ! .
السؤال الذي يطرح نفسه : من هو ذلك الشخص الآخر الذي يمكن أن يؤلف عملا بحجم " هاملت " مثلا ثم يهديه أو حتى يبيعه لشكسبير؟! ليأخذ شكسبير كل هذا المجد على حسابه ، و حتى عندما " نعرف اسمه " سيأتي من يقول أنه ليس المؤلف الأصلي وهكذا سنبقى نعيش في دوامة الوصول للحقيقة .
قلت لصديق مصري أني أعشق أغنية الأطلال لأم كلثوم وهي التي اعتُبرت أغنية القرن العشرين ، فقال : بالمناسبة أم كلثوم والملحن السنباطي حرفا كلام الشاعر إبراهيم ناجي ، فقلت : كلهم ماتوا ولا يهمني سوى سماع أغنية جميلة بكلمات راقية .
العمل الجيد يفرض نفسه والمبدع لا يُنسى بينما ينقرض " السارق " عاجلا أم آجلا ، وقال أجدادنا : " ماء النقل لا يدير الطواحين " ، و بالتالي لا يصح إلا الصحيح .
أهلنا في نابلس قالوا " ليس كل من صف الصواني صار حلواني " ، وقبلهم قال الفيلسوف الفرنسي رامبي : " فليفن العالم إن ظنت خشبة أنها أصبحت كمانا " ! ، وأنا أقول : التأصيل موضوع خطير وفي غاية الأهمية ، ولكن المستهلك يهمه أكل كنافة نابلسية على أصولها وكل من " طب على المهنة " لابد وأن يختفي مع الزمان ، والمحب للموسيقى لا يهمه سوى الاستماع لموسيقى يصدرها كمان صنع من الخشب على أصوله ! ، أما الخشب الخام فيذهب للحرق فلربما صلح للتدفئة ، وهو تحصيل حاصل .
داروين قال :" البقاء للأصلح " ، أما نحن فشعارنا قول ربنا : " فأما الزبد فيذهب جفاءَ وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " .
بقي أن أقول : حتى جملة " البقاء للأصلح " مختلف عليها ! ، فلطالما عرفنا أنها لداروين ، ثم " اكتشف " البعض أنها أصلا للفيلسوف البريطاني " هربرت سبنسر " !!! ، والله أعلم ولا ... يهمنا ! .