الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

شهادة رفيقة درب شيخ الثورة : أبو على شاهين بقلم:د. عبير عبد الرحمن ثابت

تاريخ النشر : 2016-05-25
شهادة رفيقة درب شيخ الثورة : أبو على شاهين بقلم:د. عبير عبد الرحمن ثابت
شهادة رفيقة درب شيخ الثورة : أبو على شاهين
د. عبير عبد الرحمن ثابت

ككل سيدات فلسطين تاج الوقار ينحنى خجلاً أمام صبرهن وعزمهن على مواصلة درب الثوار، كل فلسطينى يعرف أبو على شاهين ومن لم يعرفه سمع أو قرأ عن تاريخه ووطنيته وفكره وصلابته .. ولكن الكثير لم يعرف رفيقة دربه وسيده قلبه أم على شاهين .. لم أكن أعلم بأننى سأحاور إمرأة بحجم تاريخ الوطن .. في عينيها دموع  فراق أبو على لم تفارقها ولن تفارقها إلى الأبد .. تحدثنى وأبو على مرسوم في وجدانها محاولة أن تمسح همسات الحزن من كلماتها ولكن صدى صوتها كان يحمل صدى ألم فراق من غاب .. لم يغب أبو على ، لم تشعرنى بأنه غاب من حياتها فهى ترويه وكأنه معها .. مسافر سيطرق بالباب في أى لحظة .. ترسم في حديثها عنه لوحة من الشموخ والتحدى .. تلك السيدة أنشودة الخلود على جدران التاريخ تضيئ بكلماتها قلوب كل من يحاول التعرف على شريك الروح أبو على ..
بتنهيدة المشتاق قالت لى سأروى لكِ اليوم وكم يؤلمنى الحديث عن من سكن الروح ولم يغادر الا بالجسد ، ساحدثك منذ هجرتنا عام 1948 منذ البداية عبد العزيز شاهين هو ابن عمى وأخ لثلاث شباب وفتاة ، هاجرنا من فلسطين وقد ترك أبو على والده شهيداً في قريتنا قرية بشيت ، واحتضنهم والدى كأبنائه وكبرنا سوية ، كنا عائلة واحدة نفرح ونحزن معا نبكى ونضحك معا .. كبرنا وكبرت فلسطين في قلب أبو على ولم تغيب قرية بشيت عن ذاكرته رسم ملامحها في قلبه حتى لا يطويها النسيان ولا سنوات العمر ، أنهى دارسته مساعد صيدلى وتعاقد مع السعودية وسافر هناك وأخذ في أمتعته فلسطين الحاضرة في قلبه كحضور النجوم في السماء ، أبو على لم يعيش حياة الأسرة كما جميع الناس، ولم يشعر بفرحة الآباء باستقبال أبنائهم حين ميلادهم ؛ فقد أنجبت أولادى على وايمن وهو بعيد عنا في الشتات مع رفاقه الثوار يرسموا طريق العودة الى فلسطين، وفى عام 1967 عاد إلى رفح ليتدرب في معسكر تدريب للجيش الفلسطينى وتدرب لمدة 40 يوم، وحينها أخبرنى بأنه لن يغيب طويلاً ؛ سيعود قريباً ليأخذنا ولنجتمع كعائلة تحت سقف واحد ، لكن الاقدار كانت أقوى منا جميعاً، وبدأت حرب 1967 وقام الجيش الاسرائيلى بإخراج أبى وأخى وعمى وزوج أختى وأخ أبو على وزوج خالته من بيوتهم وقتلوهم ولم نستطع العودة لتلك البيوت التى فقدنا فيها أحبتنا ، وكان والدى قد أشترى منزلاً كنا ننوى السكن فيه ، وقررنا أن نسكن فيه جميعاً ، واجتمعت الثكلى في منزل واحد ، فقد فقدنا من كانوا سنداً لنا في غربة الوطن وأمضينا  شهرين من البكاء والحزن على شهدائنا ولم نسمع أى خبر عن ابو على حيث كانت الاتصالات صعبة والاحتلال الإسرائيلي قد احكم سيطرته على قطاع غزة  ، وفى يوم أتانى أحد الأصدقاء وأخبرنا بأنه رأى أبو على في الخليل ، وبعدها أخبرنا أن أبو على في غزة وسيأتى لزيارتكم ، كم اسعدتنا هذه الأخبار فقد شق الفرح جدار الحزن الذى التف حول قلوبنا .. هاهو عبد العزيز عائداً إلينا وما أحوجنا إليه بعد مصابنا الجلل .
وحل المساء وأسدلت الشمس خيوطها على أوتار قلوبنا المشتاقة لأبو على الذى  تحمل الكثير من الأحزان والأشواق ، ونحن جميعنا بانتظاره بصمت ورهبة ؛ وإذا بأصوات سيارة قادمة من بعيد تحمل لنا فارسنا وعلى خطواته تراقصت قلوبنا فرحا بعودته إلينا ، وكعادة أبو على شامخ قوى لا تهزه المصائب ، وتحدث مع الجميع كانت أمى وإخوتى وأختى أولادها وأمه وأنا وأولادنا .. جميع من فقدن أزواجهن شعرن بعودة الحياة بكلمات أبو على وقوته وصبره ، وأنهم شهداء عند الله وينظروا إلينا من السماء ، وعلى الجميع أن يسير على درب الشهداء ، وقضى تلك الليلة معنا ، ومع بزوغ الفجر استعد للرحيل ومع حلول الساعة السادسة حين رفع منع التجول الذى كان مفروض على قطاع غزة خرج سيراً على أقدامه الى موقف سيارات رفح وذهب إلى مدينة غزة .
حينما استشهد والدى قد ترك لى عشرة جنيهات ما تبقى من النقود التى كان يرسلها أبو على مصروف لنا ويتبرع بباقى راتبه للثورة ، وقتها أخذت قرار تحمل المسؤولية وأخبرت أمى أن حزننا لن يربى أطفالنا الستة فمنهم إخوتى الأربعة وأبنائى الاثنان ، ولن يصنع منهم رجالاً لنترك الحزن على شماعة النسيان ونعاهد أرواحهم المحلقة بالسماء أننا على دربهم سائرون ، وكنت لا أتجاوز الثالثة والعشرون وكنت أجيد مهنة الخياطة ، وأخرجت ماكنتى ونظفتها من غبار الزمن ، وأمى تولت شؤون البيت وبدأنا نسير في قطار الحياة المحمل بالمصاعب والهموم . ولم نسمع عن أبو علي أى شئ إلى أن علمنا بأن أبو على سجين في سجن الخليل ، وبدأت معه مشوار العذاب بين سجون الاحتلال ، فقد زار أبو على  أغلب السجون وبعد سنة ونصف من التعذيب قرروا محاكمته، وفى أول جلسه محاكمه له بالخليل كان أبو على مرفوع الهامة يملأ المحكمة  تحدى وكبرياء .. جبلاً شامخاً صامداً يتحدى سجانيه، لم يأبه الحاكم ولا جلاديه وقف متحدثاً عن معاناته داخل أروقة التعذيب وما تعرض له من تعذيب لا يتحمله البشر ، وكيف أمضى ليالى الشتاء عارياً يلتصق بجدران زنزانته في سجن سرفند لتمنحه الدفئ ؛ والجميع يسمع بذهول كيف هذا الانسان يروى كل هذه العذابات وما زال حياً، وكدت أصاب بإغماء وأنا استمع إليه ودارت بى كل ذكرياتى مع هذا البطل حينما كان يحدثنى بأن فلسطين تستحق منا كل التضحيات وأننا نخجل كل مساء من أنفسنا كيف نحيا وفلسطين ما زالت أسيرة الاحتلال الاسرائيلى .. وتلت تلك الجلسة جلسة ثانية وجلسة ثالثة وكانت الحاسمة فيها قررت أن لا أذهب قلبى المسافر مع أبو على قد أخبرنى بأن الفاجعة ستكون اليوم ولن استطع احتمال سماع حكمه ولا أنهار وفى نفس الوقت رغبت أن أبقى قوية حتى لا يشمت العدو الصهيونى فينا، وذهبت أمى وأمه وعمتى وأنا جلست بجوار الراديو أرجو أن لا يفجعنى بخبر حكم أبو على ولكن ذبذبات صوت الراديو كانت أسرع من دعائى، وحكم أبو على خمسة عشر عام وأمضاها كاملة، واستمرت الحياة وبماكنة الخياطة نسجت لعائلتى مستقبلاً وكان الله معى وساعدنى في تربية أولادى وإخوتى الصغار الذين تركهم أبى بعد استشهاده فأكبرهم كان بعمر ابنى علي، ولم يتركنا العدو الاسرائيلى نحيا حياة آمنة مستقرة ففى عام 1973 قرروا شق شارع من منزلنا وهدموا بيتنا وأصبحنا بلا مأوى ، وقتها شعرت كم هذه الحياة قاسية ومريرة وكم هى الآلام لا تعرف غيرنا ، ولكننى عاهدت رفيق دربى بألا أخذله مهما حصل وذهبت مسرعة إلى أصدقاء قدامى لنا، واستأجرت عندهم منزل صغير ولكننا بقينا فيه إلى أن استأجرنا منزل آخر بالقرب منه، ومكثنا فيه عشر سنوات إلى أن كبر الأولاد وصغر المنزل علينا وفى كل معاناتنا لم يهمس الأبناء بشكوى لم يتذمروا على شئ بل كانوا راضين بما نحن فيه مصممين على النجاح والتفوق مؤمنين بفكر والدهم.
كل من هدم الاحتلال منزله أخذ تعويض إلا أمى التى رفضت تعويض من الجنود القادمين على دباباتهم لهدم منزلنا، وحينما أخبرها الضابط بأنه على استعداد أن ينقلنا إلى الضفة الغربية أو العريش ردت والدتى عليه بصوتها الذى أفزع قلوبهم المرتجفة، أننى لن أترك مكانى في رفح حيث أهلى وجيرانى ومزقت الشيك المقدم لها ورفضت استلام اى منزل بديل في حى البرازيل كما فعل الكثيرون ممن هدموا منازلهم ..

وكنت مؤمنة بالجبار الذى لا يترك عباده المؤمنين وأصبح لدي أربع ماكنات خياطة وحالتنا المادية تحسنت بشكل كبير، وكنت أزور أبو على وأطمئنه على حالتنا ونحن بخير ولا ينقصنا سوى تواجده معنا . خمسة عشر عاماً من المعاناة في سجون الاحتلال مررنا بكل أطياف العذاب إلى أن أشرقت شمس الحرية وعاد الأمل من جديد يطرق باب دارنا باطلاق سراح من طال انتظاره في الغياب، وخرج كرسول للثورة يدعو الناس إليها وأتته الناس من كل حدب وصوب مهنئين فرحين بعودته إلى عرينه ، وحينما شعر المحتل بمكانته بين جماهيره قاموا بفرض الإقامة الجبرية عليه وفرض توقيعه كل يوم الساعة العاشرة صباحاً، ومع ذلك كان يذهب كل يوم بعد التوقيع إلى الضفة الغربية لمواصلة دربه فكان يخبرنى أن انتظره عند أبو أيمن موظف الصليب الاحمر لنذهب للضفة الغربية للتواصل مع الثوار في الخليل ، ونعود إلى غزة ولا نستطيع البيات ونعود في المساء فبانتظاره توقيع نهار أخر، وقد اكتشف الاحتلال سفره إلى الضفة الغربية ففرضوا عليه توقيع صباحاً ومساءاً حتى لا يستطيع مغادرة قطاع غزة، ولم يطل البقاء معنا كثيراً  فما هى إلا سبع شهور وسحابة الغياب حلت من جديد فقد تم اعتقاله ونفيه إلى منطقة الدهينية ومكث فيها لمدة سنتين ، قد سمحوا لى بزيارته كل خميس وأن أغادر مساء يوم الجمعة وذلك بعد رفع قضية في المحكمة الاسرائيلية، وكنت أخذ الرسائل منه وأبتلعها وأخرجها إلى شباب التنظيم في الضفة الغربية وقطاع غزة وأحضر له الرسائل المرسلة من شباب التنظيم، كنت حلقة الوصل بين أبو على والتنظيم على مدار السنتين ، وساعدنى في ذلك شباب تنظيم حركة فتح ، وفى زيارتى له لمنفاه في الدهينية كنت أتعرض لتفتيش دقيق وكانت دبابة تقف على بابه لمنع وصول أحد إليه، وبعدها قرروا له المحاكمة وكانت بالقدس في سجن المسكوبية وذهبنا إلى هناك وتمت محاكمته بالإبعاد ، ولم نتمكن من رؤيته وحينها أخبرتنى المحامية أن أعود إلى غزة وهى ستتولى أمر البحث عنه وتخبرنى حال معرفتها بمكانه ، وعدت أدراجى إلى غزة وحرقة القهر تفطر قلبى ألماً ، وما أنا أتامل من نافذة السيارة الطريق وإذا بإشارة المرور توقفنا  وتقف بجانب سيارتنا سيارات للجيش الإسرائيلي واذا أبو على يجلس بالسيارة الثالثة تتقدم سيارته جيب للجيش وسيارة مخابرات . قد رأيته ... نعم رأيت كوفيته التى كانت تزين كتفيه على مدار العمر ورأسه مرفوعاً شامخاً يأبى الذل أو المهانة ، وكان بجوارى اخوه  وصديقه أبو محمد أبو سمهدانه قد ذهب معنا ليحضر محاكمة أبو على ، وقد صرخت له ها هو أبو على وانتفض أين هو وإذا بإشارة المرور تعلن لحظة الوداع ، وتهرب منا لحظة اللقاء بمحركات سياراتهم المسرعة باتجاه المجدل ، والسيارة التى تقلنا تسير فينا الهوينة الى غزة .

ما أصعبها من ليلة مرت بى لم تستطع جفونى النوم وكل الأفكار السوداوية هاجمتنى لماذا  يأخذوه  إلى المجدل وقد حكموا عليه بالإبعاد ، وانتظرت بزوغ الفجر بكل تباشير الصبر وذهبت مسرعة إلى مكتب الصليب الأحمر وقدمت طلب الاستفسار عن مصير زوجى ، وفى هذه الأثناء كان أبو محمد أبو سمهدانه قد ذهب إلى الإدارة المدنية لإجراء معاملة هناك واذا بضابط المخابرات الاسرائيلية يطلب منه أن يبلغنى بضرورة الذهاب الى مكتب الادارة المدنية لأمر هام ، وذهبت حينها ووجدت الضابط ينتظرنى ليخبرنى أن أذهب لأخذ عفش أبو على من بيت الدهينية  فأخبرته أننى لا حاجة لى به ولا اريده وقلت له افعلوا به ما شئتم قد ابعدتم الخليل وترغبون منى العويل  ، ولكنه أصر وأحضروا سيارة وذهبت معى مجندة اسرائيلية وحينما فتحوا الباب وإذا بالمفاجأة قطة أبو على التى كانت معه بالبيت صديقته ورفيقة ليالى المنفى والوحدة ، وإذا بها تعول بأعلى صوتها تسألنى عن أبو على بنبرات حزينة ؛ وما كان بى إلا أجهشت بالبكاء على غائبها ورفيقى وأمام هذا المشهد بكت المجندة الاسرائيلية وكل من كانوا شعروا بالحزن من شدة حزن تلك القطة ، وأخذنا عفش أبو على ولم أستطع الاحتفاظ به ، فكيف لى الاحتفاظ بحاجيات من روحه تمتلكنى ، وطلبت من السائق أن يأخد ما تبقى وهو بدوره رفض أن يأخد الأجرة وقال له جملة لن أنساها " عيب عليي زوجك يناضل وأنا أخذ فلوس " .
لم نكن نعلم إلى أين أبعدوه ، ولم نترك أحد إلا وسألنا عنه ، إلى أن أرسل لى بعد ثلاث شهور من إبعاده أنه بالأردن وبانتظارى ، حينها ذهبت الى مكتب الادارة المدنية لاستخراج تصريح للخروج من غزة ، وكان هناك ضابط حاقد على أبو على وكل الفلسطينيين ،  قال لي سأمنحك تصريح ولكن بشرط أن تبقى خارج قطاع غزة لمدة ثلاث سنوات وبعدها ان فكرتى بالعودة ممنوع أن تخرجى من منزلك وإلا ستعاقبى ، وافقت وسافرت إلى أبو على  للأردن والذى أخبرنى برحلة إبعاده إلى لبنان وكيف تم إلقاءه في منطقة معادية للمنظمة الفلسطينية وشبابها ، وكيف نام بالشارع متكئأ على حقيبته التى بها بعض أشيائه البسيطة إلى أن أتى اليه احد شباب تنظيم فتح  في اليوم التالى وأخذه إلى مستشفى غزة بلبنان ومكث فيها لمدة 13 يوم ، وبعدها تم استخراج جواز سفر أردنى لمرة واحدة دخل به الأراضى الأردنية .

قد وصلت الأردن ودخلت ببيت أبو على وإذا هو ثكنة عسكرية فقد حول ابو على بيته إلى مكان لتدريب الشباب القادمين من الأراضى المحتلة  ، ولم يتركه الاحتلال الإسرائيلي فقد أرسلوا له شباب وبنات للتجسس ولكن أبو على بحنكته كان يكتشفهم ويعترفوا على أنفسهم ، وفى تلك الفترة جاءنى خبر اعتقال ابنى أيمن الذى كان طالب بجامعة النجاح وقد أمضى عام في سجون الاحتلال وبعدها خرج إلى قطاع غزة عند والدتى  ، ومكثنا في الأردن على هذا الحال نستقبل الشباب ويتم تدريبهم لمدة وسبعة شهور وبعدها اعتقلت المخابرات الأردنية أبو على لمدة ستة شهور ، ومن ثم أبعدوه إلى العراق وأنا بقيت في الأردن لوحدى لمدة ثلاث سنوات .
عائلتى ممزقة كل واحد منا في بلد لم اجتمع بهم كأى إمرأة تجتمع بأولادها وزوجها تراهم يكبروا ويحققوا النجاحات أمام عينيها ، وبعد الثلاث سنوات جاء أبو جهاد إلى الأردن وطلب منى السفر إلى أبو على للعراق وأنه سيستقر مع أبو على هناك بالعراق في مكتب المنظمة ببغداد ، وأخبرنى بأنه سيخرج في نفس اليوم إلى تونس وبعدها الى العراق  ، الشهيد ابو جهاد رحمه الله عليه كان لطيف جداً ومرح وفي لأصدقاءه وكان قريب من ابو على وبمثابه أخيه ، حجزوا لى للسفر واستعديت لمغادرة الأردن وإذا بالهاتف يدق وصوت البكاء يعلو الكلمات ليخبرنى بأن أبو جهاد استشهد ، أصابتنى فاجعة الموت وداهمتنى الذاكرة بخبر استشهاد أبى وعمى وأخى وأقاربى ، ووقتها قررت عدم السفر والبقاء بالأردن ولكن الأصدقاء قالوا لى كيف ستتركى أبو على في هذه المحنة ، هو بحاجتك لتشدى من أزره فى غياب رفيق دربه أبو جهاد ، وسافرت للعراق ليستقبلونى باللباس الأسود ، الجميع كان في حداد على ابو جهاد ووجوههم  شاحبة وعيونهم  مدوية بالدموع ، وكان بيتنا بالعراق كما بالأردن كما بأى دولة نستقر بها كان ثكنة عسكرية ومأوى لكل شباب تنظيم حركة فتح وكانت المجموعات تتدرب في العراق وتسافر إلى مصر ومنها تذهب للأرض المحتلة لتنفيذ عملياتها .
كل هذه السنوات ونحن لم نرى أولادنا إلا أيام قليلة ، أيمن يدرس بالباكستان وعلى أنهى دراسته وعاد إلى غزة ، وكان يعمل في مكتب للهندسة ولم يتم السماح له بالعمل في وظيفة حكومية لأنه ابن فدائى حيث كانت الادارة المدنية الاسرائيلية تشرف على التعيينات

كانت العراق حاضنة للثورة الفلسطينية ومساعدة لأبناء الجالية هناك ، وفي عام 1990 في حرب العراق الأولى حينما فرض الحصار على العراق وتم منع الطيران كان أبو على ورفاقه مضطرين للسفر لتدريب الشباب في معسكر ليبيا ، فكانوا يسافروا بالطريق البرى إلى الأردن ومنها لتونس أو ليبيا ، وقتها أبو على كان ممنوع من السفر الى الأردن ، ولكنه  كان يحمل جواز عراقى من الحكومة العراقية لتسهيل أموره فسافر الى الأردن ودخل الأراضى الأردنية على انه مواطن عراقى ، وهناك اكتشفت المخابرات الاردنية ذلك وهو عائد الى العراق على الحدود الاردنية العراقية تم القاء القبض عليه وإعادته الى السجون الأردنية ، وقد أعلم السائق العراقى بعنواننا ورقم هاتفنا وضرورة إخبارنا ، ، بعدها اتصل بى الأخ أبو إياد ليخبرنى بأنه سيحضر أبو على معه للعراق ، ولأن الجيش الأمريكى قصف العراق لم يتمكن أبو إياد من السفر ، لكن المخابرات الأردينة أطلقت سراح أبو على على الحدود ، وحضرنا حرب العراق وعشنا أربعون يوم من أصعب أيام العمر ، قصف لا يتوقف ، لم يتركوا جسرا ولا مؤسسة حكومية ولا بئر بترول الا وقصفوه ، سماء بغداد في الظهيرة تحولت إلى ليل دامس ، وبعدها خرج أبو على من العراق بشق الأنفس إلى تونس وكما بالأردن والعراق كان أبو على مصمم على النضال والكفاح والمسلح ، وكان يدرب شباب التنظيم ويرسل المجموعات للأراضي المحتلة للقيام بواجبها ، وأنا مكثت بالعراق عامين لوحدى وعدت وحدى مرة أخرى .
فى عام 1992 سافرت الى تونس ، وبعد اتفاق أوسلو غادر الجميع تونس إلا نحن لأن أبو على مرفوض من الدخول إلى قطاع غزة ، وسافرنا إلى مصر ، وكنا قد تعبنا من الغربة وأولادى كبروا بعيداً عنى ، واشتقت لكل أحبتى وأهلى وأقاربى ، وكان الله مجيباً لدعائى له بان نعود وقد جاء خبر الموافقة على دخولنا الى غزة ..
لم أفرح ككل الأمهات بأبنائى تزوجوا ولم أشارك أحدهم في خطبته أو الإعداد والترتيب إلى أفراحهم ، فحينما تزوج أيمن بغزة عام 1995 وقرر أن يزورنا فى مصر لم أستطيع انا ووالده الانتظار بالقاهرة سافرنا إلى معبر رفح وانتظرناه هناك من شدة شوقنا ولهفتنا لمشاركته فرحته .
أبو على لم يقبل بالدخول في مفاوضات أوسلو على الرغم من أبو عمار طلب منه المشاركة ولكنه أصر على المعارضة ، وأبو عمار كان يحترم وجهة نظره وبرغم انتقادات أبو على اللاذعة لأبو عمار إلا أن الرئيس أبو عمار رحمه الله عليه كان يقول في غيابه إن أبو على صادق وأنا أحبه .
حينما أخبرونا أنه بإمكاننا دخول الوطن الفرحة لم تسعنا وكانت فرحتى بالدخول لا توصف لن أبالغ إن قلت لكِ أنها بحجم فرحتى بزواج أبنائى التى لم أشاركهم فيها، وحين وصولنا إلى المعبر جماهير غفيرة كانت بانتظارنا القيادة والتنظيم والشعب وأولاد المدارس وجماهير رفح كلها بانتظارنا .. وأول شئ طلبه أبو على أن يأخذوه إلى المقبرة ليزور الشهداء هناك زار قبر صديقه أبو ظافر أبو مذكور حيث كان صديقه الحميم وزار قبر عطايا ابو سمهدانة وشهداء آخرين، وكان الجميع في استعجال إلا أنه أصر على زيارة أصدقاءه الشهداء وقراءة الفاتحة على أرواحهم ثم غادرنا متجهين إلى المنتدى بغزة حيث كان أبو عمار بانتظار أبو على، وحينما رأه أخذ يقبل فيه ورحب فينا كأب غائبين عنه أبنائه .

جماهير قطاع غزة والضفة الغربية توافدت على البيت لأشهر ونحن في حالة استقبال المهنئين ، وبعدها تم تعيينه وزير للتموين ومارس عمله وخدم الوطن ولم تتغير على حياتنا شئ وعشنا كأى أسرة فلسطينية مستورة ، ولكن هنا دعينى أخبرك بمواقف رجولية لأبوعلى كان يصر على تطبيق بنود الاتفاقية الخاصة بالطرقات فكانت طريق البحر خانيونس مغلقة ففى يوم أوقف سيارته وأصر على فتحها حسب الاتفاقية وتوقفت خلفه عشرات السيارات وبقى نهار بأكمله إلى أن حضرت اللجنة الأمنية المشتركة وفتحت له الطريق وبعدها تم فتح الطريق بشكل طبيعى لكافة المواطنين ، وهناك طريق أخرى على طريق تل السلطان حسب الاتفاقيات وجب فتحها للجانب الفلسطينى وكان الجيش الإسرائيلي قد أغلقهوا وكان وقتها منتصف الليل وأصر أبو على على فتحها وحدثت مشادة كلامية مع الجنود المتواجدين وحضرت اللجنة الامنية المشتركة وسمحت لنا بالدخول وبعدها تم السماح للجميع الدخول من تلك الطريق .. كان لا يخاف مواجهة الجيش الإسرائيلي في مقابل أى حق للشعب الفلسطينى ، وكان يخاطبهم ببنود الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، وحينما حدثت انتفاضة الاقصى كانت وزارة التموين تستلم كافة المساعدات المقدمة للشعب الفلسطينى وهو رفض توزيع أى مساعدات بل قام بتسلميها لمؤسسات رسمية وبوصولات استلام .
وفى حصار أبو عمار رحمه الله عليه لم يتركه فكان دائم الاتصال به والاطمئنان على صحته وهو كان ممنوع من السفر إلى رام الله فكان لا يترك أحد ممن حول الرئيس إلا ويسأله عن أبو عمار وضرورة الالتفاف حول والبقاء بجانبه ودعمه لمواجهة الاحتلال ، وحين وفاته بذل كل جهده ليسافر للضفة لوداعه إلا أن الاحتلال الإسرائيلي رفض منحه تصريح وقد أمضى ثلاث أيام في خيمة عزاء الشهيد أبو عمار يتقبل العزاء وهو مفتور الفؤاد على وادع صديق عمره ، وبعد وفاة الرئيس أبو عمار تفرغ للكتابة ورفض أى منصب وزارى عرض عليه
كان صانع للمواجهة ولا يهاب أحد ولا يخاف لومة لائم .. لم يثنيه شئ عن قول رأيه بكل شجاعة وظل يكتب ويعبر عن رأيه وينتقد الجميع ويستشيريه كل من حوله ويستمعوا إلى رأيه .
وفى فصل حياته الأخير واجه مرضه بكل قوة وصلابة، وحينما أكدت كافة الفحوصات بان مشكلته الصحية تكمن في الكبد رفض طلب مساعدة أحد للعلاج ، وحتى ديونه كان يرفض ان يطلبها لاستكمال علاجه ، وسافر إلى ألمانيا ومنها لمصر والجميع أكدوا على أن حالته الصحية في تدهور وحينها عرض عليه الأصدقاء أن يعود إلى غزة ويشارك في انطلاقة حركة فتح عام 2013، وعدنا الى غزة وهناك استقبلنا الآلاف من جماهير حركة فتح وكنا متعبين ، وشارك فى ذكرى انطلاقة حركة فتح في ساحة السرايا الخضراء التى سجلها التاريخ الفلسطينى وراقبها العالم كله بذهول  .

عاد أبو على إلى البيت وكان متعباً ومرت أيام قليلة وكانت الآراء تجمع على أن يسافر للعلاج في مصر وهناك أخبرونا أنه لا فائدة ، طوال فترة مرضه لم يتوقف عن الكتابة أو التحليل السياسى وكان يعرف كل زائريه وكان يرفض أن يساعده أحد في أكله أو لباسه ،  كان المرض يصارعه وانتصر بإرادته عليه .. لم يهزمه المرض بل فاجئه القدر، وقررنا العودة إلى غزة ووصل إلى مستشفى الشفاء ومعه أبنائه وأحبته وأصدقائه ملتفين حوله كنوارس البحر تبعد عنه شبح الموت ، كنت متعبة لم أتمكن من الذهاب معهم قررت العودة إلى البيت لأرتاح قليلاً وكانت لحظة الفراق ترنو على قلبى رويداً رويدا ، وإذا بأخى وابنى أيمن ومجموعة يدخلون البيت وقتها ذرفت دمعة الوداع لتخبرنى أن أبو على فارقنا إلى الأبد .
بتنهيدة مجروحة ملأت البيت أنين قالت أم على خاتمة حديثها " أبو على ماهو خسارة للبيت أبو على خسارة لكل الشعب الفلسطينى وسلامه الى سدوا "
لتلك السيدة العظيمة أقول : سيموت المحتل  والشهداء لن  يموتوا بل يبقوا أحياء .. شيخ الثورة أبو على حي بروحه بفكره بإرثه حامياً لأحبته وأهله .. سأسجل شهادتى بحروف من نور لتضيئ كل صباحات الثائرين السائرين على درب ابو على شاهين .. إرفعى رأسك عالياً فلم يكن أبو على إلا شعاعاً أنار ظلمة النفق وهو فى العلياء محلقا ينشر بأجنحته كرامة وعزة وكبرياء لشعبه الفلسطينى .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف