مهنة البحث عن المتاعب
بعد أن قمت بخطّ عدة مقالات ، لم أكن أعي أن تلك المهنة تحتاج إلي مثل هذا الجهد الجهيد فالتمست العذر لكتابنا الكرام علي إختلاف مشاربهم وألوانهم وأطيافهم السياسية والحزبية ؛ وانأ أري ملامحهم عابسة ويعلوها حزن وسكون وقد أيقنت ألان أن اشتعال رأسهم شيبا ما هو إلا نتيجة تلك المهنة وأسقامها .
ومهنة الكتابة سلاحها القلم بيد الكاتب - كما الجندي وهو ممتشقا سلاحه بساحات الوغى -وذخيرته البرهان والإقناع ، يحاول الكاتب دائماً أن يجعل قلمه مذخراًّ بقول سديد يلج فيها أبواب عالم مغلقة فيخوض فيها شارحا وجهة نظره وهو حذر من غضب السلطان فكم من كاتب اُلقي في غياهب السجون والاعتقال ؛ نتيجة موقف أو رأي أظهره لم يرق لصاحبه .
وبالأمس القريب كان هناك مقص الرقيب من الأمن يُعمل رقابته قصا وتعديلًا وحذفاً فيستحيل المقال إلي مسخ مشوه... وقد أستعيض عن الرقيب لاحقاً برئيس التحرير ليخفف من وطأة المقال إذا حام حول السلطات والصلاحيات... وما شابه فالنفوس تطرب بكيل المديح ويتعكر مزاجها بالنقد والتوجيه ، وبعد ذلك أصبح كل كاتب رقيب علي قلمه وكفي بنفسك عليك رقيباً ؛ فالقلم يميل إلي الاسترسال بدون توقف أو وضع حد وفاصل بين المباح والمحظور وفي هذا محاذير وسجون في بلادنا العتيدة ، فلسنا في حديقة الهايد بارك (هي المكان الذي يجتمعُ فيهِ المُتحدثون لإلقاء كلمةٍ أو مُحاورة حول موضوعٍ مُعيَّن بِكُلِّ حُريَّة دون رقيب أو حسيب ) ، ويُذكر المرء قلمه دائما إذا مال للجنوح بأنه ما عاد يحتمل إستدعاء ومثول، لمناقشة ما خطت يمينه وما أظهرته البينة وما ضمر بالنية فلم يعد المرء بعد أن اقترب من الخمسين ، يحتمل الوقوف في الصيف بقيظ الحر الشديد ولا الوقوف مشبوحاً في شتاء برد سيبيري ،وسماع صراخ وعويل .
وقديما قالت الصوفية من نوقش بالحساب فقد عُذب فما بالك عندما يكون مع المناقشة ضيافة وإحتفال بالقدوم بعد عزوف وهروب فلزم الواجب المعلوم المتعارف عليه عند القدوم .... .
وهنا يقف الكاتب بحيرة وتردد بين قلمه الذي مداده ضميره ، ومعاناة مرئية متوقعة أمامه جراء ذلك إن استرسل وسرد ، فالنفس أمارة بالسوء تضع لقلمه ضابط لا يتخطاه و حاجز لا يتعداه لزوم السلامة وخاصة انه إن حدث له طارئ استوجب من أهله وصحبه الملامة لذاته أولاً لأنه القي بنفسه إلي الضياع والندامة ، فلن يلوم احد الجاني وإنما سيلومون قلمه الذي أورده المهالك وتعنيف نفسه التي سوّلت له الكتابة وهو يحسب نفسه هيكل في عنفوان شبابه .
وقد تداهم الفكرة والخاطرة الكاتب في ليل أو نهار فيحاول أن يقيدها كتابة حتي لا تنفلت من عقاله فيمسكها ببنان الأصبع قبل أن تعصف به رياح النسيان ويطويه الزمان ، ويتردد الكاتب باختيار عنوان مقاله فإذا ما حسم أمره إنسابت الأفكار والعبارات سهلة سلسة حتى يستغرق الموضوع كله ولا يهدأ له جفن حتي ينهي ما قد بدأ من كتابة .
و بعد تثبيت الكاتب لفكرته ووضوح مخيلة مقاله ،أن يُنقب في أمهات الكتب وصحائف التاريخ وخرائط الجغرافيا وأراء المفكرين والمنظرين حتي يحط بكل شئ خبرا ويبعث في فكرته ومقاله شخصية ، روحها جذابة ، مغلفة بعبارات وجمل بها سجع وإطناب تسر الناظرين وتشنف الأذان إذا ما قيلت وأصبحت حكاية ، والكتابة كالخوض في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج مطلوب فيها التأني للسلامة وفي العجلة الندامة .
ويحاول جاهدً الكاتب أن يوظف عبارات بسيطة من بحر اللغة الزاخر باللؤلؤ والمرجان ويبتعد عن التنطع والتكلف فلا يتحدثن كسبيويه او مدرسه الفراهيدي فيحسبه الناس أنه قد أعجم او ألحن ، بل يستعين بعبارات تنساب رقة وجمال وسلاسة، ويحاول بذات الوقت عدم الإطالة فلم تعد طبيعة الحياة وإيقاعاتها السريعة تحتمل الإسهاب والزيادة ، وحذاري من الاختصار الذي يفقد المقال أسمه وعنوانه وإلا كان الهجر لمقالك واقع لا محالة ،وتردد أصحاب الإعلام في نشر ما خطته يمينك وكان بذلك الفراق .
وكلما أعاد الكاتب قراءة المقال وجد خللًا ونقصاً عند الإعادة ، فيعُمل قلمه إصلاحا وتشذيبا حتى يعتقد أنه تمت الإجادة ؛ و تذكرت قول الأصفهاني إنّي رأيتُ أنّه ما كَتَبَ أحَدُهُم في يَومِهِ كِتاباً إلا قالَ في غَدِهِ،لو غُيّرَ هذا لَكانَ أَحسن ولَو زُيِّدَ ذاكَ لَكانَ يُستَحسن، ولَو قُدِّمَ هذا لكانَ أفضل، ولو تُرِكَ ذاكَ لَكانَ أجمل،
وهذا مِن أعظَمِ العِبر، وهو دَليلٌ على استيلاءِ النّقْصِ على جُملَةِ البَشر والسلام .
[email protected]
حسام حسن الكحلوت _ غزة
بعد أن قمت بخطّ عدة مقالات ، لم أكن أعي أن تلك المهنة تحتاج إلي مثل هذا الجهد الجهيد فالتمست العذر لكتابنا الكرام علي إختلاف مشاربهم وألوانهم وأطيافهم السياسية والحزبية ؛ وانأ أري ملامحهم عابسة ويعلوها حزن وسكون وقد أيقنت ألان أن اشتعال رأسهم شيبا ما هو إلا نتيجة تلك المهنة وأسقامها .
ومهنة الكتابة سلاحها القلم بيد الكاتب - كما الجندي وهو ممتشقا سلاحه بساحات الوغى -وذخيرته البرهان والإقناع ، يحاول الكاتب دائماً أن يجعل قلمه مذخراًّ بقول سديد يلج فيها أبواب عالم مغلقة فيخوض فيها شارحا وجهة نظره وهو حذر من غضب السلطان فكم من كاتب اُلقي في غياهب السجون والاعتقال ؛ نتيجة موقف أو رأي أظهره لم يرق لصاحبه .
وبالأمس القريب كان هناك مقص الرقيب من الأمن يُعمل رقابته قصا وتعديلًا وحذفاً فيستحيل المقال إلي مسخ مشوه... وقد أستعيض عن الرقيب لاحقاً برئيس التحرير ليخفف من وطأة المقال إذا حام حول السلطات والصلاحيات... وما شابه فالنفوس تطرب بكيل المديح ويتعكر مزاجها بالنقد والتوجيه ، وبعد ذلك أصبح كل كاتب رقيب علي قلمه وكفي بنفسك عليك رقيباً ؛ فالقلم يميل إلي الاسترسال بدون توقف أو وضع حد وفاصل بين المباح والمحظور وفي هذا محاذير وسجون في بلادنا العتيدة ، فلسنا في حديقة الهايد بارك (هي المكان الذي يجتمعُ فيهِ المُتحدثون لإلقاء كلمةٍ أو مُحاورة حول موضوعٍ مُعيَّن بِكُلِّ حُريَّة دون رقيب أو حسيب ) ، ويُذكر المرء قلمه دائما إذا مال للجنوح بأنه ما عاد يحتمل إستدعاء ومثول، لمناقشة ما خطت يمينه وما أظهرته البينة وما ضمر بالنية فلم يعد المرء بعد أن اقترب من الخمسين ، يحتمل الوقوف في الصيف بقيظ الحر الشديد ولا الوقوف مشبوحاً في شتاء برد سيبيري ،وسماع صراخ وعويل .
وقديما قالت الصوفية من نوقش بالحساب فقد عُذب فما بالك عندما يكون مع المناقشة ضيافة وإحتفال بالقدوم بعد عزوف وهروب فلزم الواجب المعلوم المتعارف عليه عند القدوم .... .
وهنا يقف الكاتب بحيرة وتردد بين قلمه الذي مداده ضميره ، ومعاناة مرئية متوقعة أمامه جراء ذلك إن استرسل وسرد ، فالنفس أمارة بالسوء تضع لقلمه ضابط لا يتخطاه و حاجز لا يتعداه لزوم السلامة وخاصة انه إن حدث له طارئ استوجب من أهله وصحبه الملامة لذاته أولاً لأنه القي بنفسه إلي الضياع والندامة ، فلن يلوم احد الجاني وإنما سيلومون قلمه الذي أورده المهالك وتعنيف نفسه التي سوّلت له الكتابة وهو يحسب نفسه هيكل في عنفوان شبابه .
وقد تداهم الفكرة والخاطرة الكاتب في ليل أو نهار فيحاول أن يقيدها كتابة حتي لا تنفلت من عقاله فيمسكها ببنان الأصبع قبل أن تعصف به رياح النسيان ويطويه الزمان ، ويتردد الكاتب باختيار عنوان مقاله فإذا ما حسم أمره إنسابت الأفكار والعبارات سهلة سلسة حتى يستغرق الموضوع كله ولا يهدأ له جفن حتي ينهي ما قد بدأ من كتابة .
و بعد تثبيت الكاتب لفكرته ووضوح مخيلة مقاله ،أن يُنقب في أمهات الكتب وصحائف التاريخ وخرائط الجغرافيا وأراء المفكرين والمنظرين حتي يحط بكل شئ خبرا ويبعث في فكرته ومقاله شخصية ، روحها جذابة ، مغلفة بعبارات وجمل بها سجع وإطناب تسر الناظرين وتشنف الأذان إذا ما قيلت وأصبحت حكاية ، والكتابة كالخوض في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج مطلوب فيها التأني للسلامة وفي العجلة الندامة .
ويحاول جاهدً الكاتب أن يوظف عبارات بسيطة من بحر اللغة الزاخر باللؤلؤ والمرجان ويبتعد عن التنطع والتكلف فلا يتحدثن كسبيويه او مدرسه الفراهيدي فيحسبه الناس أنه قد أعجم او ألحن ، بل يستعين بعبارات تنساب رقة وجمال وسلاسة، ويحاول بذات الوقت عدم الإطالة فلم تعد طبيعة الحياة وإيقاعاتها السريعة تحتمل الإسهاب والزيادة ، وحذاري من الاختصار الذي يفقد المقال أسمه وعنوانه وإلا كان الهجر لمقالك واقع لا محالة ،وتردد أصحاب الإعلام في نشر ما خطته يمينك وكان بذلك الفراق .
وكلما أعاد الكاتب قراءة المقال وجد خللًا ونقصاً عند الإعادة ، فيعُمل قلمه إصلاحا وتشذيبا حتى يعتقد أنه تمت الإجادة ؛ و تذكرت قول الأصفهاني إنّي رأيتُ أنّه ما كَتَبَ أحَدُهُم في يَومِهِ كِتاباً إلا قالَ في غَدِهِ،لو غُيّرَ هذا لَكانَ أَحسن ولَو زُيِّدَ ذاكَ لَكانَ يُستَحسن، ولَو قُدِّمَ هذا لكانَ أفضل، ولو تُرِكَ ذاكَ لَكانَ أجمل،
وهذا مِن أعظَمِ العِبر، وهو دَليلٌ على استيلاءِ النّقْصِ على جُملَةِ البَشر والسلام .
[email protected]
حسام حسن الكحلوت _ غزة