أحجية الجنون
هدير الجميلي
بلباس رث غريب يحاكي العصور الوسطى أو ما قبلها، وشعر طويل، يجوب شوارع المدينة جامعاً قصاصات الصحف والأوراق المتناثرة هنا وهناك، يقرأها بشغف حميم، ما تأتي به الرياح تذهب به العواصف يردد بلا ملل، قد يكون فيها سطرً يعيد له حياته، أو يعيده لها، نظرات الشفقة والإشفاق تتكاثر يوماً بعد يوم، لا يعبأ بكل هذا، لكنه لا يمل من شريط قماش أحمر باهت حول معصمه، يحافظ عليه ويهتم به كروحه وأكثر، كلما وقعت عينه عليه اغرورقت وتبعثر، يمسحه ويقبله ويغيب في ذكريات مختلطة، يخبيء في الجهة اليسرى من معطفه المهتريء قصاصة فيها صورة محى الزمن الكثير من ملامحها، هي أنيسه في وحدته، يطيل الجلوس تحت شرفة ضخمة لأطلال قصر مملوكي محترق، فارغ من كل شيء، إلا من ذكرياته ورياح تصفر فيهما متى عن لها، الأسى على حاله لن تغير من ماضيه العريق.
نظر ناحية الشرفة، غمره صوتها البهيج، تطل عليه بكامل دلالها وجمالها، عيناها تحكي له قصة الحياة، حياة الزهر والعطر، علاقة الطيور بالتحليق، تمايل الأغصان طرباً على نغمات حديثها، يحدق برغبة، ابتسامه خفيفة تعلو وجهه الشاحب، تفتح له الباب وتمسك بيده ، يدخلان إلى الحدائق يتسامران والقمر، يتضاحكان على وشوشات النجوم واختلاسها النظرات، يمران على النهر الحالم، يعود نظيفاً نقياً بحلة الملوك بعد الاغتسال فيه، ينصب لها أرجوحة بين تغاريد البلابل، ويبدأ بدفعها برقة وحنان، ضحكاتها تعزف سيمفونية الخلود.
وبينما هو يقهقه بصوته الجهوري ويحاكي حركة التأرجح هبت ريح، بأصابعه المتسخة حك لحيته، وركض خلف قصاصة صحيفة تتأرجح على أكُفِها، تضاحك الأطفال بدهشة وبراءة وهم يراقبونه: مجنون مجنون.
ركض خلفها غير عابئ بصراخهم حتى قبض عليها، قرأها فتزحلق ووقع في بئر الصمت، انطوى على نفسه واقتحمه الخوف، بدأ يرتجف رغم حرارة الجو، هرول مسرعاً تضرب يداه رأسه ويلطم بأكفه وجهه، يزبد ويرعد ويهذي بكلام لا يفهمه أحد، جلس في الكوخ المهتريء الذي اتخذه منزلاً بين أكوام كتب الفلاسفة والعباقرة حيث يجد راحته، كانت ومضة سريعة طاشت من عميق ذكرياته، قفص الاتهام وحضور فضولي ينتظر التشفي، ترنحت المشاهد وهو بمواجه القاضي استعداداً لإصدار الحكم، ثبت قتل حبيبته- ابنة الغني المتغطرس- بسلاح ناري وتشويه جثتها في مكان بعيد عن البلدة لم يكن هو فيه، كان الذكي الفقير يتوج يومها بشهادة أفضل طالب في حفل التخرج في الجامعة، فر أبوها، أما هو فعندما عاد ووجد جثتها على تلك الحالة في بيتهم جن جنونه وأحرقه...
حافظ يومها على رباطة جأشه أمام القاضي، ابتلع خوفه وحكى ما حصل، كانا يخططان للهرب معاً والزواج في مكان بعيد عن العواصف، لكن كل تلك الأحلام احترقت وصارت رماداً عندما رآها.
أعلن القاضي تقييد قضية القتل ضد مجهول، وقضية الحرق ضد مجنون!
هدير الجميلي
بلباس رث غريب يحاكي العصور الوسطى أو ما قبلها، وشعر طويل، يجوب شوارع المدينة جامعاً قصاصات الصحف والأوراق المتناثرة هنا وهناك، يقرأها بشغف حميم، ما تأتي به الرياح تذهب به العواصف يردد بلا ملل، قد يكون فيها سطرً يعيد له حياته، أو يعيده لها، نظرات الشفقة والإشفاق تتكاثر يوماً بعد يوم، لا يعبأ بكل هذا، لكنه لا يمل من شريط قماش أحمر باهت حول معصمه، يحافظ عليه ويهتم به كروحه وأكثر، كلما وقعت عينه عليه اغرورقت وتبعثر، يمسحه ويقبله ويغيب في ذكريات مختلطة، يخبيء في الجهة اليسرى من معطفه المهتريء قصاصة فيها صورة محى الزمن الكثير من ملامحها، هي أنيسه في وحدته، يطيل الجلوس تحت شرفة ضخمة لأطلال قصر مملوكي محترق، فارغ من كل شيء، إلا من ذكرياته ورياح تصفر فيهما متى عن لها، الأسى على حاله لن تغير من ماضيه العريق.
نظر ناحية الشرفة، غمره صوتها البهيج، تطل عليه بكامل دلالها وجمالها، عيناها تحكي له قصة الحياة، حياة الزهر والعطر، علاقة الطيور بالتحليق، تمايل الأغصان طرباً على نغمات حديثها، يحدق برغبة، ابتسامه خفيفة تعلو وجهه الشاحب، تفتح له الباب وتمسك بيده ، يدخلان إلى الحدائق يتسامران والقمر، يتضاحكان على وشوشات النجوم واختلاسها النظرات، يمران على النهر الحالم، يعود نظيفاً نقياً بحلة الملوك بعد الاغتسال فيه، ينصب لها أرجوحة بين تغاريد البلابل، ويبدأ بدفعها برقة وحنان، ضحكاتها تعزف سيمفونية الخلود.
وبينما هو يقهقه بصوته الجهوري ويحاكي حركة التأرجح هبت ريح، بأصابعه المتسخة حك لحيته، وركض خلف قصاصة صحيفة تتأرجح على أكُفِها، تضاحك الأطفال بدهشة وبراءة وهم يراقبونه: مجنون مجنون.
ركض خلفها غير عابئ بصراخهم حتى قبض عليها، قرأها فتزحلق ووقع في بئر الصمت، انطوى على نفسه واقتحمه الخوف، بدأ يرتجف رغم حرارة الجو، هرول مسرعاً تضرب يداه رأسه ويلطم بأكفه وجهه، يزبد ويرعد ويهذي بكلام لا يفهمه أحد، جلس في الكوخ المهتريء الذي اتخذه منزلاً بين أكوام كتب الفلاسفة والعباقرة حيث يجد راحته، كانت ومضة سريعة طاشت من عميق ذكرياته، قفص الاتهام وحضور فضولي ينتظر التشفي، ترنحت المشاهد وهو بمواجه القاضي استعداداً لإصدار الحكم، ثبت قتل حبيبته- ابنة الغني المتغطرس- بسلاح ناري وتشويه جثتها في مكان بعيد عن البلدة لم يكن هو فيه، كان الذكي الفقير يتوج يومها بشهادة أفضل طالب في حفل التخرج في الجامعة، فر أبوها، أما هو فعندما عاد ووجد جثتها على تلك الحالة في بيتهم جن جنونه وأحرقه...
حافظ يومها على رباطة جأشه أمام القاضي، ابتلع خوفه وحكى ما حصل، كانا يخططان للهرب معاً والزواج في مكان بعيد عن العواصف، لكن كل تلك الأحلام احترقت وصارت رماداً عندما رآها.
أعلن القاضي تقييد قضية القتل ضد مجهول، وقضية الحرق ضد مجنون!