الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

آلـيــونــا بقلم: أحمد الخميسي

تاريخ النشر : 2016-02-09
آلـيــونــا بقلم: أحمد الخميسي
آلـيـونـــا

قصة قصيرة

أحمد الخميسي

    ظهرت "آليونا" للمرة الأولى عصر يوم شتوي. لم يكن ليظن أو يخمن أن ثمت آليونا صغيرة كهذه، قد تظهر، وتختفي، وتبقى للأبد في مكان ما حية غير مرئية.  كانت نحو السادسة مساء حين دق جرس الباب. سمع الرنين وهو مرتكز بمرفقيه إلى سطح منضدة في الصالة يراقب من نافذة عن يمينه قطعة سماء تغيم بلون الحليب. شتاء روسي يشبه حقيقة صارمة تسوق الإنسان برصانة إلى الدفء والشرود والذكريات. يتابع ببصره ندف الثلج البيضاء تهمي بخفة وتتطاير في مسار الريح، تلمع في ضوء أعمدة الإنارة، كأنما يتهاوى النور ويتفتت أمام عينيه. أشجار البتولا عالية من وراء البيوت المقابلة، مكللة بالبياض والصمت مثل راهبات مستوحشات. فرك سيجارته في المطفأة. خلال أيام تسافر "صفية". ستكون بحاجة إلى مبلغ من المال للسفر وثمت هدايا ينبغي شراؤها للأهل. هبط بصره إلى إشعارات بنكية على سطح المنضدة. غدًا في الصباح الباكر يتجه إلى البنك ثم إلى مصلحة الجنسية لتجديد مستندات إقامته. في هذه اللحظة دق جرس الباب. أعقب الرنين وقع خطوات "صفية" في الردهة، وصوتها من هناك بعد قليل عاليًا ليصل إليه وهي تقول بدهشة "الجيران". نهض. اتجه إلى الفسحة الضيقة عند الباب حيث يخلع الضيوف معاطفهم الشتوية. كانت صفية واقفة ظهرها إليه. أمامها سيدة ممتلئة عريضة الكتفين وبجوارها وقفت آليونا. ألقى نظرة خاطفة عليها. قصيرة نحيفة تناهز الخامسة عشرة، ببنطلون قطيفة كاكاو وبلوزة بنية. شعرها أصفر ملموم في ذيل حصان، وجهها كعسل أبيض منقط بنمش خفيف. وقفت وعيناها تومضان بخجل وتوتر خفيف. تذكر أنه لمحها من قبل في مدخل العمارة وعند المصعد. قالت أمها وعلى ملامحها تعب حلو من تربية الأولاد: "جيرانكم". ابتسم مرحبًا. حاول أن يحزر سبب الزيارة المفاجئة. تقدمت الأم إلى الداخل وهي تدفع "آليونا" بقبضتها أمامها. جلستا في الصالة. هرولت صفية إلى المطبخ. جلبت أقداح الشاي وصينية عليها صحن من كنافة وبسبوسة. تبادلوا عبارات عامة عن الطقس والمدينة التي يسكن الناس فيها جنبًا إلي جنب ولا يلتقون إلا بالمصادفة. ظل يترقب الإفصاح عن سبب الزيارة حتى قالت الأم أخيرًا وهي تشير بحاجبها إلى ابنتها: "آليونا" قد تلتحق العام القادم بمعهد اللغات الشرقية. خطر لي يعني أنكم، صراحة، قد تستطيعون تعليمها اللغة العربية؟ ما لم يكن في ذلك إرهاق؟". جالت بعينيها بينه وبين صفية تستكشف رد الفعل. لم يكن قد استوعب المطلوب لكنه قال بنبرة مهذبة: "ما من إرهاق أبدًا". أمـﹼنت "صفية" على كلامه: "هي مثل ابنتنا". ألقى نظرة على "آليونا". كانت جالسة وقد شدت ظهرها وضمت ساقيها إلى ركبتيها تتطلع أمامها كمن يترقب صدور حكم. انزلق بصره من دون قصد إلى نهديها الصغيرين البازغين تحت قماش البلوزة المحبوكة. أحست نظرته فطوت كتفيها على صدرها. رفع بصره عنها، وقال لها على الفور: "لا تخافي آليونا. اللغة العربية ليست صعبة كما يقولون". صوبت بصرها إليه. رأى في عينيها قوة الصبا على السعادة. أجابت بنبرة بين الطفلة والأنثى: "كل شيء في أوله عسير، لكني لا أخاف". مدت أمها يدها إلى قطعة كنافة. قضمت جزءًا منها ونصحت آليونا: "حلويات شرقية. تذوقيها. تحفة". وازدردت القطعة كاملة فسال عسلها على جانبي فمها. بعد قليل نهضت الأم وآليونا في إثرها راضيتين باتفاق أن تتردد آليونا عليه مرتين في الأسبوع مساء كل سبت وثلاثاء. تمهلتا في الفسحة الصغيرة لارتداء المعاطف. ضمت "آليونا" جانبي معطفها الأزرق الطويل. ربتت على طرفيه تساويهما بكفيها ثم أطلت عليه برأسها من ياقة المعطف العالية مثل شمس صغيرة تخرج من زرقة سماء. 

    هكذا تجلت أمامه "آليونا" أمامه. ولم يكن ليحزر أن ثمة "آليونا" له، وآليونا لكل إنسان، تلوح وتختفي، وتبقى غير مرئية.

  

***

 

في اليوم السادس على زيارة آليونا ودع صفية في المطار. وقف يلوح لها بكفه عبر الحواجز الزجاجية وهي تجرر حقيبتها إلى صالة الركوب. هف عليه شعور بأنه حر. خرج من مبنى المطار إلى ساحة السيارات. كانت حوالي السابعة مساء. ريح وبرد وكتل من الثلج الأبيض في تلال صغيرة. ركب السيارة وشغل المدفأة. انطلق عائدًا إلى البيت. وضع في الكاسيت شريطًا لكارم محمود. انهمرت من أغنية "سمرا ياسمرا" الكمنجات ملتاعة على إيقاع الرق: "إنتِ الكأس وشفايفك خمرة..". يهزه اللحن من جذوره وهو يقطع الشوارع المكسوة بالثلوج. كل شيء أبيض. مداخل المحلات. محطات البنزين. قمم الأشجار. سقوف السيارات المركونة. معاطف العابرين المهرولين، كأن ملائكة خفقت بأجنحتها لتجلو وجه كون طاهر لا يعرف الكذب والطمع. كانت مَسّاحات السيارة تروح وتجيء تزيح خيوط الماء التي تسيل على الزجاج أمامه. غمره خشوع هاديء رصين لقوة مجهولة. أحس أنه وحيد، معزول، مؤقت، كالثلوج التي تتراكم ليلاً وتذوب بالنهار. 

    وصل إلى البيت. دفع باب العمارة الدوار. حيا المرأة العجوز حارسة البيت بهزة رأس. اتجه إلى المصعد. دخل الشقة. سمع الصمت في أرجاء المكان. لم يكن قد خلع معطفه بعد حين دق جرس الباب. استدار وفتح. شاهد "آليونا" أمامه. مدت إليه يدها بصحن. قالت: "فطائر بالمربي. من ماما. روسية وستعجبكم". رفعت حاجبيها: "موعدنا غدًا.. أليس كذلك؟". صمتَ لحظة فحدجت فيه بتوجس: "ماذا؟ هل نسيت؟". ابتسم: "لا. لا. كيف أنسى". ابتسمت. أولته ظهرها وسارت إلى شقتهم في نهاية الممر. تابعها بعينيه "كيف يمكن لفتاة في هذه السن الصغيرة أن تتمتع بهذه الرشاقة؟". التفتت إليه من عند باب شقتها ولوحت له بكفها. تريثت ورجعت إليه: "نسيت أسألك.. المدام سافرت؟". قالت "مدام"، لم تقل العمة أو الخالة فأزاحت "صفية" عن أية مكانة خاصة وجعلتها موضع الند. انتبه إلى أنها تفعل الشيء ذاته حين تخاطبه. تتجنب استخدام أية كلمة تشير إلى توقيره. أجابها: "سافرتْ. ستبقى مع الأولاد وتعود زيارة في الصيف". لاحظ أنه هو أيضًا قد تفادى ذكر اسم صفية. سألها مترددًا: "أتحبين أن نبدأ الدرس الآن؟". بدت على وجهها فرحة قوية وسارعت بالانزلاق من تحت إبطه ويده الممسكة بمقبض الباب. هرولت إلى الداخل مثل أرنب يتحرر. جلست في الصالة. اتجه إلى المطبخ. أخرج من الثلاجة تفاحًا وشطيرة بيتزا بالسجق. عاد إليها فرآها تتابع فيلم كرتون باستغراق. لم تنتبه إلى مقدمه إلا مع انحنائه ليضع الصحن أمامها. التفتت إليه ضاحكة: "شقتنا زحمة. لا أتمكن من مشاهدة أي شيء بهدوء". أدارت وجهها بسرعة إلى شاشة التلفزيون تحدق مبهورة بالصور المتلاحقة. مضى إلى حجرة المكتب وهو يقول لنفسه "طفلة". أخذ يقلب أوراق شحنة الخشب الأخيرة. غدًا تخرج الشحنة من ميناء أوديسا وتصل الإسكندرية بعد غد. سيكون عصام في انتظارها. بعد قليل وافاه صوتها من بعيد: "خلاص أنا شفت الفيلم" بنبرة تستفسر لائمة "أين أنت؟". نهض متجهًا إلى الصالة. أحس بقدميه وهما تغوصان في مشاية الردهة. شعر بليونة تحت ثقل بدنه. تراءت له آليونا تتفتت مثل قطعة بسكوت هشة تتطاير بين صدره وذراعيه. تدفق الدم إلى عينيه ورأسه ساخنًا. "ما هذا الهراء؟. أنت تخرف، فاحترس". وجدها واقفة تتطلع في انتظاره إلى الباب المفتوح بين الصالة والردهة. قالت وعيناها تلمعان بأطياف سرور: "فيلم لذيذ قوي. نبدأ الدرس؟". لم تكن له خبرة بالتعليم أو خطة للدرس. لكن ألا يبدأ التعليم كله بالحروف؟. وضع دفترًا وقلمًا أمامه. 

 - ألف

 - ألف

-  باء

 - باء

تاء، ثاء، جيم. نطقت كل الحروف المشتركة بين الروسية والعربية بسهولة إلى أن حل الدور على الحاء، فظلت تجتهد معها حتى تركتها "مؤقتًا" على حد قولها. عندما وصلا إلى العين كرر عليها اللفظ مرة واثنتين، فحدقت به كأنما لا تصدق ما تسمعه، أو كأن اللفظ كارثة لا تحتمل. نهضت بحزم كأنما تتأهب لمعركة. استجمعت قواها. فنجلت عينيها. دفقت اللفظ كأنه أوزة تتخبط هاربة من حلقها. لم يتمالك نفسه من القهقهة طويلاً. نظرت إليه بغيظ. جلست ساهمة تراجع خيبتها. انتبهت: "طيب. انطق ыи  بالروسية. هيا. دعني أرى". تردد ثم نطقه بلفظ  I الانجليزي. أخذت تميل بصدرها للأمام وترجع به وهي تقهقه سعيدة بأنها ثأرت لنفسها. احمر وجهها ودمعت عيناها من غمرة الضحك والسعادة. خبطت كفه بيدها كالأصدقاء: "واحد الكل يا بطل"! مسحت بيدها نداوة عرق على جبينها. أغمضت عينيها ريثما ينتظم تنفسها. تبادل الاثنان النظر في صمت، يستوعب كل منهما شيئًا ما استجد في الآخر أو في نفسه أو حولهما، شيئًا لم يكن في الحسبان. بدا لهما في تلك اللحظة أن كل ما يفصل بينهما قد زال فجأة، وتلاشى. فارق السن. اختلاف التاريخ. الوضع. اللغة. الذكريات، كأنهما يبدءان الحياة من جديد الآن، من نور لهما، يشملهما هما الاثنين فقط، ولا شيء خارجه، سوى ظلال بعيدة رمادية لأناس وأحداث من الصعب التعرف إليها. امتلأ قلبه بالفرح. تاقت روحه بضرواة إلى أن يضع يده على ذلك النور، أن يتيقن من أنه حقيقة. من تلافيف عتمة بداخله انتفض مخلوق غريب يهدم ما حوله بتوحش. حدق كل منهما بداخله واسترق النظر إلى داخل الآخر. توهج الجو من القلق والاضطراب. سعل وغطى فمه بيده. مدت يدها بأصابع مرتعشة إلى قدح عصير. الحواجز التي زالت فجأة خلقت حاجزًا آخر من حرج خفيف كذلك الذي يحسه شخصان يتعريان للمرة الأولى أمام بعضهما. نهضت وقالت بحزم: "لازم أمشي". مالت لتصافحه. هز رأسه في صمت. نهض ومد إليها كفه بأمل غير مفهوم. عند باب الشقة رفعت إليه رأسها بوجه لونه الانفعال من الخجل. اندفعت مهرولة إلى الخارج. مكث واقفًا مكانه. دار رأسه "ما هذا الذي يجري؟".

 

***

 

انتظرها يوم الثلاثاء. قبل الموعد بساعة اعتذرت بالتليفون عن عدم حضورها، واستدركت "لكني سآتي السبت القادم". أرهف السمع إلي ذبذبات صوتها يتلمس أثر فورة اللقاء السابق، فلم يجد، كانت تتكلم بحيادية تامة. خاطبها برصانة العلاقة بين العم والفتاة الصغيرة. أنهى المكالمة. اتصل بصفية في القاهرة. طمأنته على الأولاد. قالت إنها بحاجة إلي عشرين ألف جنيه بشكل عاجل لاستكمال أثاث شاليه الإسكندرية. وعدها بتحويل المبلغ إلى حسابها. سلام. سلام. أحس أنه مشتت. مبعثر. كان مازال بكامل ملابس الخروج. وضع البالطو على كتفيه وهبط متجهًا بسيارته صوب محطة مترو "جوركي"، حيث يقع "ألف ليلة"، كافيه أقامه عراقيون جمعتهم صداقة الغربة. جاءوا في البداية طلبًا للعلم ثم التحقوا بأعمال مختلفة وتزوجوا روسيات وأنجبوا وألفوا الصقيع. كانوا يلتقون أسبوعيًا في مطعم معروف يشربون البيرة ويمزون بالجمبري، يلتمسون في الصحبة ذكريات الوطن ونخيله وخرير نهره البعيد. يتأسفون على ما جرى لبلدهم ويقرون في الوقت ذاته بأنه لا رجوع للعراق. إمعانًا في السخرية من فكرة العودة أطلقوا على لقائهم الأسبوعي "رابطة ملعون أبوك يا وطن". انهار الاتحاد السوفيتي وانفتحت أبواب البيزنس فأقاموا كافيه "ألف ليلة" برأس مال مشترك وأصبح مركزًا لرجال الأعمال العرب والشباب من الروس عشاق النرجيلة والكباب وغرائب الحضارات الأخرى. دخل الكافيه. طوقه إيقاع الطبول العميق وصليل الصاجات الرنانة في موشح "يا غزالي كيف عني أبعدوك". حيا بعض معارفه من العرب بإشارة من يده. جلس إلى منضدة شاغرة. طلب نرجيلة وسرح مع دخانها إلى مسئوليات رجوعه المرتقب إلى مصر. لم يكن قراره بالرجوع مرتبطًا بما يردده البعض عن الانتماء والعمل لرفعة الوطن، فقد كان يعتقد جازمًا بأن خلف الأهداف والشعارات البراقة ثمة مصالح وأهداف فردية في زعامة أو مال. كان حافزه إلي العودة أنه ببساطة غير قادر على الحياة خارج القاهرة وأنسها وأزقتها الملتوية ولهجتها ونكاتها ودفئها. فجأة رأى صديقه اللبناني سهيل يدخل الكافيه وذراعه مشبوكة بذراع شابة طويلة مشرقة الوجه. أقبل عليه وانحنى فاردًا ذراعه حتى نهايتها يقدمها إليه بصوت ممطوط وإجلال ملوكي "ناتاشا". اعتدل وضيق عينيه على بسمة ماكرة ينتزع الاعتراف بشطارته. كان سهيل مقربًا إليه لأنه مرح كريم يعطي الآخرين بامتنان، كأنهم هم الذين يمنحونه، قادر على رشوة أي مسئول بلباقة ولطف. فتح سهيل له الكثير من الأبواب التي ساعدته في تجارة الخشب خاصة في الفترة الأولى. جلس سهيل. طلب كبابًا له ولصديقته ونردًا وراح يعلمها اللعبة وهو ممسك بأصابعها يحرك بها الحجارة. قال: "اسمعوا هذه النكتة. سألوا امرأة فرنسية هل يسرها أن تتكلم مع زوجها أثناء العملية الجنسية؟ أجابت: بلى. يسرني أن أتكلم معه إذا وجدت تليفون بالقرب مني"! غمز سهيل بعينه اليمنى يخاطبه بالعربية: "البنت عندها صديقة مثل البدر. ما رأيك أطلب منها تكلمها ونطلع على البيت عندي؟". تأمل بشرة الفتاة العاجية وعينيها الزرقاوين اللامعتين بأوائل النشوة. تخيل السهرة التي طالما قضى مثلها في بيت سهيل الريفي بضواحي موسكو. كان سهيل يعيش وحده، يبدل الصديقات بمعدل مرة في الشهر، يقيم الحفلات الصاخبة للأصدقاء وكبار الموظفين الروس. تجري بين أشجار الحديقة رائحة شواء اللحم. يتطاير فوح الفودكا اللاذع. تشتعل الأغنيات من إيقاعها الصاخب. تدور النكات اللطيفة والبذيئة. تلمع العيون من الرقص والضحك. أخيرًا يتفرقون كل إلي حجرة بصحبة شابة جميلة تنصهر في عنفوان العناق والقبل كأنما هي لحظة وجود لا قبله ولا بعده. تهدأ النار، وتنداح سخونة اللحم الحار من صدره وعنقه وأطرافه، تتسرب، ويحط عليه خمود ثقيل، بينما تنزوى روحه وحيدة في ركن بعيد. استعاد كل ذلك وتراءت له عينا آليونا أمامه مباشرة تنظران إليه بثبات وصراحة، ومن بين نهديها ينبعث نور يشق روحه حتى يكاد أن يسمع صوت تمزق الروح. اعتذر لسهيل "لا. الليلة لن أستطيع". انصرف.     

      

                                     ***    

 

استيقظ مبكرًا. تناول لقمة وهبط متجهًا إلى العمل. راجع مع السكرتيرة اللبنانية أخبار شحنة الخشب. اتصل بعصام في القاهرة. طمأنه عصام: "كل شيء تمام يا ريس". في طريق العودة إلى البيت عرج على محل أدوات مكتبية. اشترى طباشير وأقلامًا ودفاتر وسبورة مع حامل لرفعها. وضع كل ذلك على منضدة قرب التلفزيون في الصالة. 

في المساء جاءت "آليونا". كانت ترتدي سروال جينز وبلوزة سماوية وجوربًا أبيض في حذاء رياضي. تطلعت إلى السبورة بدهشة وفرح: "معقول؟! كل هذا للدرس؟!". هز رأسه أن نعم ناظرًا إليها بتعقل. خاطبها بنبرة العم: "اليوم ننتقل من الحروف إلى بعض الكلمات". بيت. مدرسة. قلم. تلميذة. والآن إلى بعض العبارات. لقنها: "أنا اسمي آليونا. أنا فتاة روسية صغيرة". ضحكت: "لست صغيرة إلى هذا الحد". قال بتحفظ "أعيدي العبارة على سمعي". أعادت العبارة وحذفت منها كلمة صغيرة وأضافت من عندها كلمة جميلة بالعربية. قالت كأنما تفسر ذلك: "أعرف كلمة جميلة لأن لدينا رواية شهيرة لجنكيز أيتماتوف بهذا الاسم". أحسﹼ بأن مقاومته تنهار وهو يتطلع إليها. سألته عن الأهرامات والتماسيح والنيل وما إن كان بوسع الرجل الشرقي حقًا أن يتزوج بأربع نساء؟!". ضحك: "بلى. أقصد أن القانون يسمح له بذلك". فتحت عينيها مدهوشة: "ويستطيع أن يرضي أربع نساء مرة واحدة؟!". سكتَ. حدجتْ فيه تسأله مباشرة: "أنت مثلاً.. تستطيع؟". سكتَ متألمًا مضطربًا. نظرتْ إليه بتحد أسقط السدود التي اصطنعها. من جديد زال كل ما يفصل بينهما. من جديد عاد النور يشملهما معًا. وحدهما، ولا شيء خارج النور. أحس برغبة عنيفة في ضمها واعتصارها بقوة ليغرز بداخله النور المنبعث.

واظبت "آليونا" على الدرس بعد ذلك خمس مرات. ألفتْ الشقة. صارتْ تدخل المطبخ تفتح الثلاجة بنفسها وتأكل ما تجده. تمشي في الصالة بشبشب وشعرها مفرود. ذات مرة تركت عنده رواية كانت تقرأها. قالت: "ربما تنشغل بشيء وأنا هنا فأجد ما أقرأه". جاءتْ في المساء. اعتذرت عن أنها لم تقم بالواجب المدرسي. قالت: "سهرتُ بالأمس حتى وقت متأخر في عيد ميلاد إحدى صديقاتي". جلس ليس أمامها كما اعتاد بل على فوتيه بجوارها، لا يفصل بين كتفه العالية وكتفها المنخفضة سوى ذراع الفوتيه. سألها: "أتشربين قهوة؟". أجابت: "مازال رأسي يدور من شمبانيا الأمس". عرض عليها: "لدّيَ شمبانيا إذا أردت؟". صاحت: "حقا؟! أين هي؟". نهضت. اتجها وذراعه على كتفها إلى المطبخ. انتقتْ كأسين من الصوان. أخرج الزجاجة. تذكر: "عندي بيتزا بالجبن والخضروات؟". رفضت: "لأ. أنا تعشيت منذ قليل". صبَ لها ولنفسه شمبانيا. أمسكتْ الكأس. نظرتْ إليه بتمعن وهو يدخن. أحس الاثنان بالتوتر. قالتْ: "أريد أن أجرب السجائر". استدركت محذرة: "لكن لا تقل لماما؟!". وعدها أن يكون ذلك سرًا بينهما. أشعل لها سيجارة ورشقها بين شفتيها الرقيقتين اللتين تشبهان ورق الورد. سحبتْ أول نفس. احتقن وجهها. راحت تسعل. نصحها ألا تسحب الدخان إلى صدرها وأن تكتفي بتدويره في فمها ونفخه. جربتْ ما قاله واستراحت إليه. فردتْ ساقيها أمامها وأخذتْ تثرثر: "نصف البنات عندنا في المدرسة يدخٍن سرًا في دورات المياه أو خلف الأشجار في الفناء. بعضهن  يرتدين أحذية بكعب عال من دون علم أمهاتهن. أنا أيضا أتمنى أن أرتدي حذاء بكعب عال لكن ماما تمنعني. تقول لي مازال الوقت مبكرا". ضحكتْ: "هي لا تريد أن تشتري لي حذاءً بكعب لأنه أغلى". رفعتْ الكأس وتجرعتْ ما فيه حتى الثمالة. أردفت: "عدد كبير من البنات له علاقة بتلاميذ من أعمارنا، لكن بعضهن يفضلن الرجال كبار السن. يقلن إن كبار السن يمنحون الفتاة الصغيرة خبرة الحب فتستطيع فيما بعد أن تسعد حبيبها". تريثت قليلاً وبصوت ذائب: "هل هذا صحيح؟". تفكر لحظة. أجابها: "لا أدري. ربما يكون صحيحا". تقدمتْ بصدرها ناحيته وسألتْ بحيوية: "متى وقعت أنت في الحب لأول مرة؟". قال: "أول مرة كانت وأنا في التاسعة. عشقتُ فتاة تناهز العشرين. لم أتحدث معها، بل ولم أقف حتى بالقرب منها. لم تتجاوز علاقتي بها المرور تحت شرفتها كل مساء والتطلع إليها من عتمة الشارع وهي جالسة تحت ضوء مصباح لايظهر منها سوى نصفها العلوي بالطابق الأول. كنتُ أخترع الأسباب لأمي لكي أغادر البيت وأراها. تحت تأثير غرامي بها كتبت: "شعرها أصفر ذهب.. وقلبي معها ذهب"! ابتسم وأضاف: " إلي أن حل يوم شاهدتها فيه واقفة عند البقال. وجدت أن شعرها ليس أصفر وأنها ليست كما بدت لي في هالة النور بالليل".

صبتْ لنفسها المزيد من الشمبانيا. قالتْ ضاحكة: "أنتم الشرقيين رومانسيون جدا". ابتسم: "كنت في التاسعة، ولم أكن قادرًا في كل الأحوال على شيء أبعد من الرومانسية". استفسرتْ بنبرة تأكيد: "لكنك كنتَ صغيرًا حين وقعتَ في  الحب؟". حدثَ نفسه: "نعم. كنتُ صغيرًا". نظرتْ إليه بتحد: "كنتَ صغيرًا.. أليس كذلك؟". انزلق بصره إلى نهديها وأحس بروحه تندى بدمع مشتعل. لمحتْ الوجد الذي بان في عينيه. فردتْ أصبعها السبابة. مرت به على ذراعه تحك جلده ببطء. قالت بصوت يتداعى: "أنا أهوى الرجال ذوي الشعر الكثيف". دبت السخونة في رأسه. أحس كأن نارًا أُضرمت في بدنه. تحركت تفاحة آدم في رقبتها وهي تبتلع ريقها. " فيم قلقه وتردده؟. باب الشقة مغلق عليهما. بوسعه أن يتقدم ويدخل المعبد. النور على الأعمدة، إذا كان يريد فعلا أن يلمس النور. فيم القلق والتردد؟ للأسف الأمر ليس بهذه البساطة". اعتصر كتفها بقبضته. بدت على وجهها وخزة تألم لكنها لم تقل شيئا. ظلت تتطلع إليه بصراحة وبراءة. بزغ في أعماقه شعور لاهب. قال بحزم يداري انفعاله: "يكفي ما تعلمناه اليوم. يجب أن أستريح". حدقتْ به. وقفتْ: "بعد إذنك سأدخل الحمام دقيقة". اختفت في الداخل ثم عادت وفي عينيها دمع حبيس: "سأنصرف". دنتْ منه وهو جالس لتصافحه. جذبها إليه. طوقها بذراعيه وهي واقفة أمامه. التصقتْ بطنها بجبهته تقريبًا. سرتْ إلى جبينه ارتجافات بطنها النابضة بانفعال. دفعها إلى الخلف. أطلقها من بين ذراعيه. بدا على وجهها احتقان لوم واستياء مكظوم. لم يجد ما يقوله لها. تأملته. سلمت عليه من دون كلام. عند باب الشقة لاحظ أنها تمسك في يدها الرواية التي كانت قد تركتها ذات يوم. خلع ملابسه ورقد لينام.

في الصباح الباكر تذكر وهو يتناول إفطاره أخلاط حلم شاهده في منامه. كان كأنما يهبط وحده في عتمة على درجات سلم عريضة. وصل إلى بوابة العمارة الحديدية فلاحظ أنها ملساء تماما من ناحيته. فجأة سمع طرقًا على البوابة من جهة الشارع. انحنى ينظر من ثقب القفل. شاهد جسم شخص ضخم بيده بندقية طويلة. أحس بالخوف. أراد أن يستوثق من أن البوابة مغلقة بإحكام. سحب المفتاح من جيبه وأولجه في فتحة القفل. فوجيء بارتطام المفتاح بآخر وسمع صوت ارتطام المفتاحين داخل القفل، ثم خبط المجهول البوابة خبطة قوية بكتفه. ناشده بخوف: "دقيقة واحدة". لكن الآخر دفع البوابة بعزيمة أشد. جرى صاعدًا على السلالم إلى أعلى. دبتْ من خلفه خطوات. تلفت في فضاء حوله ولم يجد مهربًا سوى أن يتنكر في هيئة تراب على الأرض لكي لا يتعرف المجهول إليه.    

***

جاءت "آليونا" بصحبة أخيها الأصغر الذي جلس صامتًا يتفرج بالتلفزيون ويداه على ركبتيه. باشر الدرس من حيث توقفا من قبل. بدتْ شاردة وهو يراجع الكلمات معها، تنظر من وقت لآخر إلي ساعة يدها، تجيب عن الأسئلة بفتور. بعد نصف ساعة نهضت. قالت لأخيها: "هيا بنا يا سيرجي". وجهت حديثها إليه: "اعذرني. ماما عندها حرارة لا بد أن أكون معها". جررت أخاها من يده فمشى يتعثر خلفها ورقبته معوجة نحو التلفزيون. بعد ذلك صارت "آليونا" إما أن تتأخر عن موعد الدرس أو تتصل معتذرة عن عدم الحضور، ثم تباعدت اللقاءات مع اقتراب مواعيد امتحانات المدارس، ثم أمست  نادرة إلى أن توقفت. كان يعلم أن شيئًا ما قد اختنق أو انكسر ولم يكن يدري كيف يمكن إصلاحه. لم يكن واثقًا إن كان قد قام بما ينبغي عليه أم أنه أجهض بيديه كل شيء. عند عودته من العمل كان يتلكأ أحيانًا قبالة المصعد لعله يراها. اتصل بهاتف أسرتها عدة مرات لكن صوت أخيها أو أمها كان المجيب. في المرة الأخيرة التي اتصل بها، ردت هي بكلمة واحدة "آلو؟" وأنهت الاتصال كأنما لا تسمعه.

 

***

 

خلال نصف عام لم ير" آليونا" إلا مصادفة مرات قلائل. مرة عند مدخل محطة المترو المجاورة للبيت. شاهدها تخرج من المحطة على كتفها حقيبة رياضية بصحبة زميلتين من المدرسة. تطلعت إليه خطفًا بنظرة غريبة حادة وغضت بصرها. لمحها مرة أخرى في الردهة الممتدة بين الشقتين، ومرة في محل بقالة مع والدتها فلم يتقدم منها. 

استغرقته إجراءات عودته لمصر من أوراق ومعاملات مالية وتصفية مقر شركة وسكن. خلال ذلك كان أحيانًا يستيقظ من نومه في الليل. يشعل نور الصالة. يجلس وحده. تمر أمام عينيه أخبار مصر على شريط شاشة التلفزيون، تنزلق من دون أن يستوعبها، وفجأة يستولي عليه ذلك الشعور بشعاع النور الباهر يشق روحه التي لم تلتئم. يسمع أغنيات مصرية قديمة. في قلبي غرام. الورد كله كسا الجناين. بلاش تبوسني في عنيه. تهزه الألحان من أعماقه، ويسوقه موج الشجن إلى شاطئ بعيد. يخطر له "ثمت شيء غير صحيح في حياتي. شيء لا أدري ما هو. أين؟ لماذا؟ لكنه غير صحيح".

في نهاية السنة صفى أعماله. في يوم سفره إلى القاهرة انتظره تاكسي أمام مدخل العمارة ليقله إلى المطار. ظل واقفًا بجوار باب التاكسي فترة لعلها تهبط فيودعها. لكنها لم تظهر. في القاهرة أغرقته مشاغل العمل على مدى عشرة أعوام. زواج ابنته "نهى" ومن بعدها ابنه "طارق". فحوصات طبية إثر وعكة قلبية. وفاة أخته بالسرطان. فرحة قدوم أول حفيد. خلال تلك السنوات لم تكف آليونا عن مخايلته بعينيها وبالنمش الخفيف فوق عظمتي وجنتيها وبانفراجة شفتيها الرقيقتين. تلوح وتختفي مثل سكين تغوص لتشق الروح وتظهر لتغوص. عامًا بعد عام يعطش إلى اللحظة المترجرجة بين الطفولة والنضوج ولا يدري: إلى صباها أم إلي اكتمال نضجها يزداد عطشه؟ وما الذي كان عليه أن يفعله وقتها؟ مسايرة شعوره بها مهما كلفه الأمر؟ أم حسبان كل شيء بتعقل؟ هل كان جبانًا لم يتجرأ أم أنه غلًب المسئولية على كل شيء؟ يتساءل ولا يصل إلي جواب.

 

***

 

  اليوم هاتفه مسئول من وزارة التجارة المصرية يسأله إن كان مستعدًا للانضمام إلى وفد  رجال أعمال يسافر إلى روسيا. مجددًا برزت أمامه الضحكة التواقة إلى الحب، البريئة من الشعور بأي إثم براءة صخرة تحت مطر. طوقه شعور بأن فجرًا أبيض رقيقًا ينتشر على مهل. لم يودعه أحد في مطار القاهرة يوم سفره سوى زوج ابنته الذي يسكن بالقرب من المطار. لم يكن بحاجة لمن يودعه. فقد كان بحاجة ماسة إلي الانفراد بنفسه.

فقد تهيأ للسفر شاعرًا بحاجته الماسة إلى الانفراد بنفسه. إلى لملمة سنواته بين كفيه، ليتأملها مثل حفنة زمن: ما هذا الذي كان؟

هبط بعد أربع ساعات إلى مطار شيريميتوفا بموسكو. كانت معه حقيبة واحدة خفيفة فلم يتعطل طويلاً. خرج من المطار. استقل سيارة أجرة إلى فندق أوكرانيا. في الطريق مد أنفه من نافذة السيارة يستنشق شذا الخريف وأشجاره في الوحشة الشاردة، مرسلاً بصره إلي الشوارع الفسيحة تقاوم الضباب بوهن. قباب الكنائس المذهبة. المطر الذي يهمي بحزن غامض. البنات سحر الوجود يهرولن على الأرصفة. بلغ الفندق. وضع حقيبته في الحجرة وهبط إلى المطعم. تناول العشاء. مجددًا السلاطة الروسية و"البلميني" و"حساء البورش". أخرج زجاجة من جيبه وابتلع حبتين من دواء القلب. تجول في صالة الفندق الأرضية. بدل مائتي دولار بروبلات. توقف أمام محل صغير يبيع هدايا روسية. السَّماور. لوحات المنمنمات الدقيقة. صناديق خشبية معشقة برسم الكرملين بالصدف. أوشحة قطنية مشغولة. كان ثمة فتاتان واقفتان تقلبان حقائب وأساور نسائية. بعد قليل انصرفت واحدة منهما وبقيت الأخرى. تفحص وشاحًا سماويا مشغولاً بزهور زرقاء. سأل البائعة عن سعره. التفت إليه الفتاة الواقفة بجواره. كانت ترتدي معطفًا بنيًا ينفتح جانباه عن فستان أصفر بحزام عند خصرها. انشغل مع البائعة حتى اشترى الوشاح. التفت إلى الفتاة. وجدها تمعن النظر إليه. شيء ما في وجهها بدا معروفًا له. استدار نحوها. رنت إليه ثم هتفت بنفاد صبر:

- معقول؟! أنت؟!

- أنا؟! هل تعرفينني؟

- أنت أليس كذلك؟!

اتسعت عيناها من الدهشة:

- أنسيتني؟

أضاءت صورتها عقله وقلبه مثل شمس أطلت على حقل بارد. صاح :

ـ يا إلهي؟!

ـ حدق بها غير مصدق:

ـ آليونا! نعم. آليونا!

خلعت القفاز من يدها اليمنى. مدت كفها إليه:

ـ من كان يصدق؟! العالم صغير حقًا! كم مضى من الوقت؟

ـ عشرة أعوام ربما أكثر. 

تلمس بعينيه التغيرات التي طرأت عليها. أمامه آنسة كبيرة ممتلئة القوام بنظرة رصينة حلت محل الفتاة النزقة النحيفة التي عرفها ذات يوم.

قالت:

ـ فجأة أراك؟ الدنيا عجيبة فعلاً! 

ـ ما أخبارك؟ وأخبار ماما؟ وأخواتك؟ كلكم بخير؟

ـ تمام. كل شيء تمام. ماما أصيبت بذبحة صدرية منذ عام لكنها تتعافى منها.

ـ وأنت؟ تزوجت؟ تعملين؟ عندك أطفال؟

ضحكت:

ـ كل هذه الأسئلة مرة واحدة؟ لا لم أتزوج. ونعم أعمل في مكتبة الجامعة. عمل غير مرهق لكن ممل.

ـ أمازلتم في شقتكم القديمة؟

ضحكت بسخرية لا تخلو من مرارة:  

ـ نعم. مازلنا في السكن نفسه. أختى الكبرى تزوجت وانتقلت من عندنا. وأنت؟

ـ أنا؟ أنا ماذا؟

ـ جئت إلي موسكو للإقامة والعمل؟ أم مجرد زيارة عابرة؟

ـ زيارة عمل سريعة. نزلت في الفندق هنا.

ران صمت. استعاد كل منهما شريطاً من الذكريات يراه بطريقته.

ابتسمت تجامله:

ـ على فكرة شكلك لم يتغير كثيرًا. عرفتك من أول نظرة تقريبًا. عرفتك لكني لم أصدق عيني. 

ـ أما أنت فزدت جمالاً. 

تردد برهة: 

ـ أنتِ الآن كبيرة، لم لا تصعدين معي إلى حجرتي لنحتفل بلقائنا بزجاجة شمبانيا؟

فكرت قليلاً: 

ـ هنا في الفندق؟

ـ نعم. سنجلس ونتكلم براحتنا، ويطمئن كل منا على أحوال الآخر؟

ـ كيف حال مدام صفية؟

ـ بخير. لابأس. هل ستصعدين؟ أم أنني صرت عجوزًا تمامًا؟

ضحكت وهي تهز رأسها بالنفى:

ـ لا لا.. أنت تبدو كما كنت شابًا. 

رجعت برأسها للخلف مقهقهة:

ـ تقريبا شابًا! سأصعد. لم لا؟

أضافت:

ـ لدينا ذكريات عزيزة. أليس كذلك؟ 

شملته رجفة: 

ـ بالتأكيد. بالتأكيد.

ركبا المصعد. خرجا في الطابق السادس. سارا في ممر طويل وهي صامتة. فتح باب الحجرة وفرد ذراعه أمامها لتتقدمه. دخلت. ضغط على مفتاح الضوء. جالت عيناها تتأملان المكان. جلست على أريكة في مواجهة سرير. فتح ثلاجة قصيرة. أخرج زجاجة شمبانيا وسلاطة وتفاحًا. أحضر كأسين وفتاحة. جلس بجوارها على الأريكة. فتح الزجاجة ففرقعت في الهواء وفاضت الشمبانيا كالزبد الأبيض على جانبي الزجاجة.

ـ في صحتك.

ـ بل في صحة اللقاء. 

ـ أما زلت تذكرين أي شيء من اللغة العربية؟

وضعت الكأس على المنضدة:

ـ سلام عليكم!

ضحك من أعماق قلبه قائلاً:

ـ عليكم السلام!

أضاف:

ـ كنتِ دائمًا ومازلت نبيهة وحساسة.

ضغط كتفها نحوه وأضاف:

ـ كنت ومازلت جميلة.. جدًا.

ألقت رأسها على مسند الأريكة. أغمضت عينيها. طبع على عنقها قبلة خفيفة كالابتهال الرقيق. ما زالت تفوح برائحة التفاح الذي ينمو في هواء الغابات. لكن ثمة شيئًا ما تبدل بعمق فلم تعد رغبته فيها متأججة.

ـ لماذا لم تتزوجي إلى الآن؟

زمت شفتيها. بان في عينيها أسف:   

ـ من الصعب العثور على شاب جاد بين شباب أيامنا. معظمهم يبحثون عن أوقات سعيدة عابرة.

سألها:

ـ أولم يطرق الحب قلبك؟

التفتت بكتفيها الاثنتين إليه. قالت بنبرة حادة: 

ـ الحب؟ ما هو الحب؟ الإنسان لا يعرفه أبدًا. إنه يأتي مختلفًا كل مرة. مرة يكون حنانًا. مرة يكون رغبة. مرة كالنور. مرة مودة وتفاهمًا. مرة قويًا بعشرات الأجنحة. وأحيانًا يجثم على الأرض متطلعًا إلي السماء بعجز. ما من قانون للحب سوى أن يحدث. متى؟ كيف؟ لماذا؟ لا تدري.    

لاحظ اختفاء وثبات الصبا الرنانة من صوتها. أهذه هي آليونا التي شقت روحه ذات يوم؟ انتبهت لصمته. قالت كأنما تهون عليه:

ـ هكذا هي الحياة.

أطلقت تنهيدة:   

ـ على أية حال لقد احتفلنا. أليس كذلك؟

هز رأسه أن نعم. 

نهضت واقفة. ضربت طرف فستانها تساويه بيدها. نظرت إليه باستفسار:  

ـ سأنصرف إذن. تأخر الوقت؟   

أمعن النظر إليها. لا يستطيع أن يصدق أن "آليونا" الصغيرة قد اختفت، وأنها ستظل تترقرق فقط داخل لحظة بعيدة، غادرها الاثنان، ولم يبق سوى صورة يراها ولا يصل إليها أبدًا. 

قال:

ـ كأس أخرى؟ 

ـ يكفي. أنا سعيدة أننا التقينا. 

ـ أوصلك؟

ـ لا. لا. أنت ضيف. أنا في بلدي. 

أخرج المحمول من جيبه:

ـ نتبادل أرقام التلفونات؟ 

أرجحت رأسها يمينًا ويسارًا:

ـ لا داعي. الأرقام تتبدل. اتركها للمصادفة. هذا أجمل.

أعاد المحمول إلى جيبه. تناول الكيس الذي به الوشاح. قدمه إليها.

ـ هدية صغيرة. لعلك تتذكرينني.

ـ أنا أتذكرك من دون وشاح.

ـ عوضًا عن الهدايا التي لم أشترها لكِ حينذاك. 

ـ أكنت حقًا تود أن تشتري لي هدايا؟   

ـ من صميم روحي. 

ـ لكنك لم تفعل.

رفعت حاجبيها لأعلى:

ـ أتعلم كم تكون الأشياء عزيزة في مقتبل العمر؟

شدﹼت على يده مبتسمة. قطعت عدة خطوات نحو باب الحجرة. وضعت يدها على مقبضه. فتحته ببطء. استدارت. لوحت بكفها مودعة. وقف يتابع سيرها في الممر. فقدت مشيتها شيئًا غاليًا كما تفقد القيثارة نغمة خاصة عرفت بها.   

أغلق الباب. اتجه إلى الحمام. غسل وجهه بحفنة ماء. اتجه إلى النافذة العريضة لإسدال الستائر لعلها تمنع البرد. خلف الزجاج كان المطر ينهمر بقوة يلطم النافذة مستوحشًا في الريح. شحنه هدير المطر المكتوم بحنين جياش. نظر إلى السرير المغطى بملاءة وردية مزركشة. لماذا لم يحظ بها وكانت بين يديه؟ ألم يهزه الشوق إليها طويلاً؟ ما الذي صده عنها؟ أم أنها لم تكن "آليونا" التي تاق إليها والتي لا تشبه أحدًا، بل أخرى تشبه عشرات الفتيات. جلس. أرسل بصره إلى زجاجة الشمبانيا الممتلئة إلى منتصفها. قبض على عنقها. ملأ فمه من حلقها مباشرة. سرت حرارة الخمر في بدنه وتهدلت كتفاه. أحس بخواء وإحباط. لو أنه هصرها واعتصرها أكان يصبح سعيدًا؟ لا لم يكن ليغدو سعيدًا. شعر بالسخط والاستياء من نفسه. أين كان خطؤه؟ قضى معظم سنواته في شغل وكدح حتى أصبح لديه عمل ناجح وزوجة ومال وبنون. غرس شجرة وأقام بيتًا وربى ولدا. أليس هذا ما يتعين على كل إنسان أن يقوم به؟ أليس لأجل ذلك توهب لنا الحياة؟ فلماذا إذن لا يشعر بالرضاء العميق؟ قام. أخذ يذرع أرض الحجرة ذهابًا وإيابًا. يكاد الآن في صمت الحجرة أن يسمع حفيف احتكاك النهدين الصغيرين بقماش البلوزة يقرض قلبه بالندم والألم. لماذا لم يحظ بها منذ قليل؟ أمعن النظر إلى الشعور الأول الذي غمره منذ عشر سنوات ساعة الدرس. الشعور باتقاد روحه واشتعالها. أدرك فجأة أنه لم يكن يشتهي آليونا طوال تلك السنوات. إنما كان يتوق إلى روحه حين اتقدت وظلت تومض فوق بحر السنوات المعتمة دليلاً إلي مسار آخر وحياة أخرى، ومض شع منه الأمل أن تغدو حياته وهجًا لا ينقطع من الحماس والشعور. لكن بأي هدف؟ لمن؟ إلى أين؟

ابتلع جرعة شمبانيا. غدًا يعود إلى القاهرة في المساء. إلي الشغل. الجلسات العائلية. حسابات المصنع. الثرثرة مع الأصدقاء. إلي الرتابة التي لا تعرف الفرح العارم العميق. الآن لا يسع أي شيء أن يرد إليه السنوات التي انقضت، والتي توهب مرة واحدة، لا شيء، حتى لو ركع على ركبتيه وتوسل وتعلل بأنه لم يفهم في حينه.

وقف أمام النافذة. المطر يلطم الزجاج بقوة، وصورتها ترتج في خطوط الماء، وهي تضحك بقوة الصبا على الحب. تخبط يده بكفها، وتدمع عيناها من فرح نادر غريب. 

***

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف