من غير الإنصاف على حسب إعتقادي في الحد الأدنى بأن يصنف أيّ عمل من أعمال نيتشه، هذا الألماني الكبير، في خانة أي تصنيف، حتى ولو كان ذلك ضمن الفلولوجيا، الجينالوجيا، علم النفس، علم الإجتماع، السياسة أو الثقافة، وخاصة ضمن الفلسفة، كونه كبير جدا، وعملاق للغاية من أن يحصر في أي تصنيف من أيّ كان. وهذا بالذات ما جعلني أقول سابقا بأن نيتشه ليس مُلكا لأحد، وعلى الكل إحترامه، كما هو، بجنونه وعقله، بفكره وصمته، بظلمه وعدله، بموته وحياته، لأنّه وببساطة: فكّر. وبعد ذلك كتب ما فكّر فيه بشجاعة كبيرة، وأعلن ذلك صراحة ودون نفاق في العلن، فلم يخف من أحد، ولم يخشى على أحد، فكان بذلك صوتا يعبّر عن الفكر، في حين هناك الكثير ممن يستعملون الفكر للتعبير عن الصوت والصفير لا أكثر. نيتشه ليس وحيدا، ففي كل زمن هناك نيتشه جديد، ونيتشه ليس ألمانيا، ففي كل جنسية نيتشه آخر، ونيتشه ليس بشريا، ففي كل ضمير هناك بقايا من روحه التي علمت الإنسان بأنّ الجميع ضد الإنسان، فضحت الجبان، وقدّست الوجدان، فكانت مسيرة هذا الكفاح كثيرة الضحايا، من فاغنر إلى شوبنهاور، من المسيح إلى سقراط، الكلّ عانى من قلم نيتشه، والجميع خاض مخاض الفيلولوجي المتمرّد حتى على النظام والإنتظام معا، ليصوغ عناوينه بشكل فريد، لتكون عناوين للإنسانية، ولكن بشكل جديد، أكثر مرحا، وأكثر تدقيقا في مسالك الدمع وحوار الأشجان، قسى على المرأة بطفولته المبتسمة، وجمع بين أبولون الصارم، وديونيزوس المستهتر، دون أن يعود إلى ما قبل الآلة العقلية، ليجد نتاجا جامعا بين الندية والغرام بعموم الإلزام بالعبث، هناك تسيطر الأخطار على الحياة، وتبنى بين كل تراكيب أعمار الإنسان علاقات إمتدت بجذورها إلى الوهم، الذي صار حلما يراود الإنسان، ليسميه بـ: الإنسان الأعلى الراقص على أنغام الغثيان، هناك بين معدبة تراوح أقران البهاء يوجد ذاك الرجل، الذي بعث الكثير من رسائل الألم المستبشر إلى عناوين كثيرة، تحمل توقيعات المصلوب، فبعدما سقط من على ظهر ذاك الجواد، بكى الضمير الإنساني وهو في غيبوبة الجنون، في مصحة العذاب، ربما هي جنته، وهي في الآن ذاته حياتنا نحن، حياتي أنا، في مكان ما، عندما كلم آدم الأرض، في تلك الفترة العريقة التي تجاوزت سراديب الحياة، وهي تغرف من ترانيم أخرى، جعلتها تعيد بين الفترة والأخرى تسابيح ألمانيا الإمبراطورية، تسابيحا تعالت في الأنفس كلها، لكنها لم تعرف الطريق إلى نفسية نيتشه، لترتمي من جديد بين أحضان حبره المسكوب في بحار الأعذار الفكرية بامتياز، ومنه كانت معاناة العقل، معاناة أليمة مع نيتشه، إلى أن تمخض جبله العظيم ليلد لنا فأرا سماه في يومه السابع بـ: زارا، نعم هو زارا، الذي تكلّم بصورة تشبه السفيه الذي خرج عن سلطان حكم البشر كثيرا، وعمّ ر حضوره بين شوارع المدن طويلا، لأنه قاد بين الفينة والأخرى ثورات، على نفسه فقط، واسترجع أيضا بين المرة والثانية هيبة ضاعت منه أيضا، لا لأمر سوى أنه بكى عمرا، لم يكن لأحد الحق في سؤاله عنه، فقط أن يندب حظا ساند غيره، سوى أن يجلس متحسرا أمام المرآة، ويردد تعاليما بدأت مع الملهاة، وانتهت بالمناجاة، فسميّت آخر بناتها بالتراجيديا، وهي بذلك تعيد نفس الأفكار عن الصين التي بدأت تنهار وبابل التي كان لها حضورها، حيث يشرب الجميع شرابا غنيا بحبات الأصيل، ويرفض نيتشه جميع العروض، في إنتظار ذاك العرض الألماني الذي لن يأتيه، والعرض الجزائري الذي سرقه مرتزقة بلاك ووتر حين تم غزو أرض جرمانيا.