الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

جحا يحكم المدينة بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2015-12-21
جحا يحكم المدينة بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
جحا يحكم المدينة

(عادل بن مليح الأنصاري )

ما يعرف بالنكتة هي فلسفة من نوع خاص , فيمكن لأي كان أن يرى فيها ما يتناسب مع ثقافته ونظرته للحياة وللمحيطين به , فمنهم من يراها مجرد تندر وضحك يستخرجه من بين الكلمات فيضحك ملء شدقيه ويبحث عن غيرها , ولكن البعض يبحث بين طيات الحروف والكلمات إضافة لمتعة الابتسامة والتي قد تأخذ مأخذا مختلفا عند البعض , فمنها الابتسامة الساخرة , ومنها الابتسامة الحزينة , ومنها الابتسامة العميقة , وكذلك الابتسامة العابرة .
وليس مهما (هنا) أن نعرف كيف نشأت النكتة , وهل هي وليدة لكوميديا إغريقية أو مجهولة الولادة , ولكن المهم أن مختلف شعوب الأرض تناولوها ومارسوها بصور شتى , وبكل معانيها وما ترمي إليه من معان سامية أو حتى وضيعة , ومع مرور الزمن وتطور المجتمعات البشرية وتلاطم أحداثها , وما نتج عن الحروب والصراعات والطبقية الاجتماعية والاقتصادية من تفاعلات مختلفة اتخذت النكتة بعدا أخر فأصبحت فناً وربما ملاذا لبعض المفكرين والمهتمين بقضايا المجتمع من خوف التصريح بمعاناتهم ومعاناة مجتمعاتهم من بطش السياسيين والعسكر , فلجأوا لفن النكتة سواء أكانت مرسلة ككلمات قليلة ذات معاني معبرة وربما (مزلزلة) أحيانا أو على هيئة مسرحيات وقصص ومواقف تلبس جلباب الضحك وتخفي معانٍ قد تكون سوداوية المقاصد .
والعرب كغيرهم من شعوب الأرض , كانت للنكتة نصيب وافر من ثقافتهم اليومية , فسرت كملازمة يومية في حياتهم , سواء عبر الصحف أو الفنون المسرحية , أو مواقع التواصل والتي أثرت هذا الجانب خلالا سنوات قليلة بأمواج متلاطمة من فن النكتة , وحتى عبر الجلسات الخاصة .
وينبغي أن نشير أن الكثير من النكت العربية قد تتضمن إشارات بعيدة كل البعد عن مجرد الضحك والتندر والتسلية , حتى لو لم يفهم البعض تلك الإيحاءات بين تلك النكت , وخاصة النكات السياسية والتي لا يمكن أن تخلو من إشارة أو مقصد يتناول حدثا أو شخصية ما .
وفن النكات السياسية أصبح ملجأً أخيرا لمن أراد أن يعبر عما يدور في خلده ويخشى التصريح به , وكلما زاد بطش السياسيين والزعماء , وزادت قوة البطش في تكميم الأفواه ومحاربة التعبير حتى السلمي ولو بمجرد الكلمات كلما زادت مساحة النكتة السياسية اتساعا في ثقافة العربي المغلوب على أمره .
ومما يميز فن النكتة أنها تحتمل عدة معانٍ وإيحاءات , ويمكن لملقيها وحتى متلقيها أن ينظر إليها من وجهة نظر خاصة به , كما أنها آمنة نسبيا للتعبير المكبوت كونها لا تفهم بسهولة (ربما) من قبل الكثيرين مما يقلل من خطرها في نظر الطغاة .
وهناك نكات مضحكة ومبكية في آنٍ واحد خاصة في عالم السياسة العربية وليس هنا مقام ذكرها , فهي ربما تصف حالات من القهر والظلم والفساد بثوب مضحك يخفي كل تلك التشوهات العبثية التي يمارسها الكثير من أصحاب القرار .
وليس أدل على ذلك من تلك السخريات الهائلة التي قذف بها الملايين من الشبان العرب عبر مواقع التواصل والأنترنت عن بعض التصريحات والكلمات التي صدرت من بعض الزعماء في مواقف شتى و مثل ( زنقة) , (من أنتم) , ( فاتكم القطار) , (الآن فهمتكم ) , ( الرز الخليجي) , وغيرها الكثير مما تعج به مواقع الشبكة العنكبوتية .
والغريب في عالمنا العربي وحتى في عقلية الإنسان العربي , أن الزعيم وبمجرد اعتلائه كرسي الحكم تصبح كلماته حِكَما , ورؤيته نافذة , وقراراته حكيمة , وتصرفاته عبقرية , يسبح المثقفون بحمده ليل نهار , فهو القائد الملهم من رب العباد , وهو المنجي والمنقذ , والأب الرحيم , والسياسي المحنك , ومن الطبيعي أن ينبري لتسويق ونشر تلك الصفات الخالدة ثلة من المثقفين المكتسبين من عباءة القائد الملهم .
والقائد العربي وبمجرد أن يستحوذ على مقاليد الأمور تبدأ وسائل إعلامه بنقله من العالم المجهول الذي جاء منه قبل اعتلاء الكرسي لسموات العلياء والشموخ والعزة .
ومن أكبر النكات التي مارسها العرب مثقفين وجمهورا ومسؤولين أن كثير منهم وبمجرد سقوطه من كرسي الحكم , تتغير مفردات اللغة العبقرية لتنقلب عليه نقدا وتجريحا وتجريما , وربما تصبح العيون نفاذة والعقول واعية لتتم سرد الحكايات والتقارير عن غبائه وخيانته وسرقاته وجمعه للعصابات المنتفعة حوله , وهدر مقدرات البلاد وتضييع مدخولات المجتمع , وتهريب الأموال , وكل ذلك الكم من السخافات التي اكتشفت في ليلة واحدة .
وربما انفرد العرب عبر تاريخهم الحديث بمجموعة من الزعماء والذين مارسوا النكات السوداء قولا وعملا ليُضحكوا العالم عليهم وتضحك عليهم شعوبهم من خلال الطرق المختلفة للتعبير , ونجد النكات ترتسم على محياهم وملابسهم وتصرفاتهم ومقالهم وربما كتاباتهم أيضا .
وهناك صور لبعض الزعماء لو عدنا بها للوراء وحاولنا معرفة مصير صاحب تلك الصورة البائسة لقلنا لن يكون إلا كائنا عابرا سيمر على محيطه الاجتماعي ذات زمن وتذويه الأيام كورقة بائسة , ولكن هذا الكائن وربما بنوع من النذالة أو الخيانة أو التآمر , أو ربما الحظ العاثر لبلاده أن يقفز لكرسي الحكم ويصبح ذلك النذل الخائن رئيسا للبلاد .
وصورة أخرى لذلك الطفل المدلل خريج الجامعات وُلد ليجد أباه العسكري الفذ المنقلب على رفقاء دربه زعيما ورمزا من رموز المقاومة (المجعجعة) , فيرث منه (جعجعة) المقاومة ويجد نفسه بلا موعد أو تخطيط رئيسا لبلاده , فيواجه شعبا رافضا ثم يفني الشعب ليبقى هو ومجموعة المنتفعين والمطبلين يحكمون بلدا فارغا من السكان , ويفتحون أرضه وسماؤه لسواقط البشر حتى يأتوا على ما تبقى من بلده المنكوب .

ومنهم من كان وحتى وقت قريب يجلس كهر أليف يتابع قائده بنظرات حنونة شاردة يتأمل قوته وحنكته وهيبته من بعيد ولا يحلم حتى بمصافحته , وإذا الأحداث الساخرة تقذف نكاتها العربية الفريدة ليقفز هذا الهر على قائده ويقذف به في السجن , وتبدأ سلسلة من النكات التاريخية تصريحا وقرارات ومغامرات اقتصادية وتوجهات وحتى تعبيرات شكلية توحي بسخرية مستترة بكافة الشعب المغلوب على أمره .
الإنسان في العالم العربي إنسان وُلد مع النكتة , وأصبحت النكتة جزءا أصيلا في حياته اليومية , ولم يكتف بذلك بل أصبح يتندر بها حتى وإن غرست أنيابها الدموية في مفاصل حياته , ببساطة أصبح يضحك على دموعه , وربما يضحك من دموعه أيضا , ولم يعد يُفَرّق بين أن يحكمه جحا أو الكندي .
فأخذ كرسيا مهترئا في أقصى مسرح الإنسانية , ونسي مآسيه اليومية وحاجاته الضرورية , وكرامات الأمة المفقودة , وعبث شذاذ الأفاق ببلاده , وعبث سفلة بني قومه بقومه , وفقد قدرته على الرفض أو التغيير , أو الاحتجاج , أو التعبير , وصفق ضاحكا لجحا وهو يحكم المدينة .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف