الأخبار
نتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيرانيالجيش الإسرائيلي: صفارات الانذار دوت 720 مرة جراء الهجوم الإيرانيالحرس الثوري الإيراني يحذر الولايات المتحدة
2024/4/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأم في رواية "سجن السجن" عصمت منصور بقلم:رائد الحواري

تاريخ النشر : 2015-11-30
الأم في رواية "سجن السجن" عصمت منصور  بقلم:رائد الحواري
لأم في رواية
"سجن السجن"
عصمت منصور
تمتاز هذه الرواية بوجود وصف دقيق للمشاعر المعتقل، فهي تتدفق بكل صدق ووضوح، حتى أننا نجد أنفسنا نشارك "سعيد عبد الله" عذاباته والآمه في المعتقل، فالكاتب استطاع أن يوظف لغته الأدبية وأن يقدم رواية متميزة في أدب السجون، فهي تمثل حالة إنسانية، تعاني الكثير داخل جداران الزنزانة، وتعيش حالة من الألم تجعلنا نتألم معها.
فالمعتقل/السجن مكان قاسي ولا يمكن أن يكون مكانا لحياة الإنسان، ومهما كانت الظروف ـ استثنائية ـ يبقى السجن مكان غير لائق للإنسان، وهذا الطرح من أهم الأفكار التي يطرحها الكاتب، السجن مكان لا يتناسب وطبيعة الإنسان، من هنا يدعو إلى عدم وجود هذا السجن الذي يفقد الإنسان الكثير من كرامته.
الرواية تتحدث عن معتقل فلسطيني يوضع في زنزانة انفرادية، حيث يكون السجين داخل الجداران الأربعة منفردا، ولا يتلقى الطعام المناسب، كما نجد المكان غير مهيأ من ناحية صحية، حيث يوضع له زجاجتان إحداهما للتبول والأخرى للشرب، وعليه أن يختار إحداهما للشرب دون أن يكون عليها أي علامة/إشارة تدل على أنها للشرب، وهذا بحد ذاته عذاب إضافي للمعتقل، ونجد تحديد وقت الذهاب للحمام، مرة واحدة فقط ولمدة ربع ساعة يوميا، وإذا تعرض لأي طارئ فعليه التبول في الزجاجة، وفي حالة البراز عليه أن يمتنع عنه حتى يأتي الموعد المحدد له.
كيفية إدخال الطعام تكون من خلال فتحة في باب حديدي صم، لا يفتح إلا من الخارج، وهذا يعطي دلالة للمعتقل بحجم الضغط الذي يتعرض له، ونجد هذا الطعام بسيط جدا، يتكون في العادة من الخبز والشاي البارد، وفي حالة أخرى يضاف إليه بيضة أو قطعة من الجبن الأصفر.
عملية الانتقال من الزنزانة إلى الحمام كانت تتم والمعتقل مقيد اليدين، وبعد أن ينهي حمامه تعود القيود إلى أن يصل باب الزنزانة، الكلام ممنوع، البرد القارص، والوحدة الخانقة، عدم الإحساس بالوقت، أو بموت الزمن، أو تضخيم الوقت، بحيث يمكن أن تكون الدقيقة تأخذ أحساسا بأنها ساعة أو عدة ساعات، الأفكار السوداء التي تأتي للمعتقل، عدم وجود شخص/رفيق يشاركه همومه، فقدان الإحساس بوجود عالم خلف جدران الزنزانة، كل هذا عذابات إضافية تلقى بظلالها على المعتقل، فأي إنسان هذا الذي يستطيع تحمل هذه الظروف؟، هذه الأوضاع؟، وكم يستطيع الإنسان أن يصمد في هكذا أحوال؟ كيف يجد إنسانيته؟، كيف يجد فكرة الجنون؟ وكيف يفكر بالتمرد؟ ، وما هي العقوبة التي ستضاف عليه؟ وما هي الأشياء التي يفكر بها المعتقل؟، هل يفقد مبادئه في هذه الظروف؟ هل التفكير بالمقاومة يتغير عنده؟ هل يبقى محافظا على إنسانيته أم ينحدر إلى مرحلة الحيوان؟، كل هذه التساؤلات يجيبنا عليها "عصمت منصور" في رواية "سجن السجن"
قسوة المكان
لا شك أن مكان الزنزانة قاسي جدا على الإنسان، فهو مكان غير المناسب للحياة، فما هي تفاصيله؟ وكيف يحس/يشعر المعتقل داخله؟ يجيبنا "سعيد عبد الله":
"هذه المرة الأولى التي أجد نفسي وحيدا إلى هذه الدرجة، محاصرا بالفراغ، ومقصيا إلى حد جعلني أتخيل أني لا افقد كل اتصال بالعالم الخارجي فقط، بل أكاد أفقد الإحساس بوجوده، وهذا الشعور بالذات جعل فضاء الزنزانة المضغوط بين جدرانها المهترئة البالية تفترسني وتبتلعني دفعة واحدة ولا أعود أشعر بشيء سواها، وهي تلتف حولي تنغرز بين ثناياها روحي وتنفذ بقوة إلى أعماقي، كل شيء أصبح مختلفا دفعة واحدة، جديدا، معاديا وباردا، كانت الأـشياء تتوالد من ذاتها في سكونها لتصيبني بالدوار والدهشة" ص4، المكان يلقي بظلاله على الإنسان، فيمسي متماثلا معه وكأن المعتقل مرآة تعكس الصور التي أمامه، الضيق، الفضاء المحدود، قذارة وقسوة المكان، الجدران وما تمثل من حاجز بين الإنسان والعالم الخارجي، كل هذا جعل المعتقل يعاني مما هو فيه.
ضيق الزنزانة واقتراب الجداران من الجسد يصفها لنا "سعيد عبد الله" بهذا الوصف: "فالجدران أمينة مشتهاة في مثل هكذا موقف تتمنى معها أن تغيب عن الوعي وأن تفقد ملكة التفكير" ص15، الصراع بين ما كانت تراه العين وما تراه الآن يمثل فجوة كبيرة، في السابق كان الفضاء أوسع، لكن الآن اقتراب الجداران بهذا الشكل جعل الفضاء يتقلص كثيرا، بحيث يؤثر على العين ومن ثم على التفكير.
ينقلنا الكاتب إلى تفاصيل هذا المكان فيحدثنا عن بابه بهذا الشكل: "إن الباب المغلق الذي لا يفتح من الداخل، الأملس المصقول دون فتحات مشرعة عقيم وعاقر ويصب الوحدة في قوالب جامدة ويسرب يأسا قاهرا يقتل الآفاق ويغتال فسحة الأمل من مهدها.
إن العين التي تصطدم به مباشرة ترتد بقسوة وكأنها صدت بخشونة" ص33، أهم ما في هذا الوصف، انعكاس المكان وتفاصيله على الإنسان، حيث نجد التأثير المباشر والسريع، وكأنه لا يوجد فاصل زمني بين وقع أقدام المعتقل وهذا المكان، فبمجرد أن يدخله نجده يبدأ في سلب كل ما في الإنسان من مشاعر، ويضع بدلا منها أشياء جديدة، لكنها أصعب عليه وأشد هولا.
من التأثيرات التي تتركها هذه الزنزانة على المعتقل هذا الوصف: "الوجود في الزنزانة تعذيب بحد ذاته، وشكل القيد تعذيب" ص 56، وهنا يختصر علينا الكاتب كل ما يمكن أن يقول عن هذا المكان، فهو مكان لا يتلاءم والإنسان.
أشكال التعذيب في هذه الزنزانة تأخذ أوجه جديدة، تعمق الجراح والألم للإنسان، منها هذا الشكل، "... كان الصوت صاخبا ومزعجا ولا يمكن تلافيه والهرب منه، ... المفاجأة كانت أنه كلما تأخر الوقت، ارتفعت وتيرة الصوت، لتبقى الأضواء مشتعلة ومرافقة للصوت المزعج حتى الصباح" ص74، إذن الجلاد لا يكتفي بما يسببه المكان من ألم وتعذيب للإنسان، بل يضيف عليه تعذيب جديد، لا يقل قسوة عن طبيعة المكان وما فيه وما يتركه من أثر عليه، وهذا التعذيب يأخذ مستوى تصاعديا، بمعنى زيادة الألم كلما مر الوقت، وهنا يكون المعتقل تحت تأثيرات ثلاث، المكان، الصوت المزعج وتصاعد هذا الصوت، والضوء الساطع الذي يمنع المعتقل من النوم، وعليه أن يتحمل، فهل يستطيع ذلك؟، وهل لمثل هذه الحياة أن تجعله يتمسك بها، أم يتركها؟ كل هذه الأسئلة سيجيبنا عليها "سعيد عبد الله" من خلال الحكم وخلاصة تجربته عن الاعتقال.

الوقت
الوقت من عوامل الألم والعذاب الذي يتعرض له المعتقل، فأثناء التحقيق والسجن الانفرادي يتم عزل السجين عن العالم الخارجي، فيكون بذلك وحيد، وما أصعب الوحدة في مواجهة عالم من القمع والبطش، يصف لنا "عصمت منصور" هذا العذاب قائلا: "أما الزمن فطوى جناحيه مثل طائر جريح ورفض التحليق، فقدت أي قدرة على التصرف أو التفكير يداي كانتا تؤلماني جراء الطرق، جسدي كان منهك والبرد يقرض روحي ويفترس ما تبقى منها" ص58، عدم معرفة الوقت، والألم الذي يتركه البرد القارص يجتمعان معا لزيادة التعذيب الواقع على "سعيد عبد الله" وكأن هناك أتفاق بين الوقت والبرد والألم الجسدي على زيادة التعذيب الذي يتعرض له.


الأم

الأم دائما تأخذ الشكل الإيجابي عند العديد من الكتاب، على النقيض من الأب، الذي يتم تغيبه أم تقديمه بصورة سلبية، وهنا كانت الأم عامل من عوامل الصمود وبث الأمل في نفس المعتقل، فهي تمثل عنصر قوة له، فبعد أن وطأت قدماه هذه الزنزانة يفتقد النور الذي من المفترض أن لا يغيب من أي مكان، فنجده يستحضر كلامات أمه عن الظلام والنور: "أمي كانت تقول لي للظلمة ألف عين!!" ويمثل هذا الحضور للأم تأكيدا على تأثيرها في الابن، وكأنها المنجد له وقت الشدة، هي التي تزوره، هي من تحضر إليه لتواسيه، هي من ترك فيه ذكريات حلوة وجميلة يمكنها أن تكون ندا/تواجه الصعاب التي يمر بها.
فالأم ليست جسدا وحسب، بل روح، ومعلمة، ومثقفة، لها كلمات لا يمكن محوها من الذاكرة، ومن هذه الكلمات قولها: "ذات يوم قالت بعد أن هيأت طقسها البسيط ووضعت رأسي على صدرها: الدمع يغسل العين ويجلي القلب، ومع هذا أحذره فإنه قد يتحول إلى نار حارقة تكوي الفؤاد إذا ما ذرفناها وحدنا" ص7، بهذا الكلمات يكون الابن محصنا من البكاء، وعليه أن يتعامل مع الظرف الجديد معتمدا على حكمتها، فهي لم تأتي من أي أحد، بل من الحبيب، الذي يحتل مكانة خاصة، فعليه أن يحافظ على هذه الحكمة.
كل ما يأتي من الأم هو جميل، ويعطي الابن دافعا جديدا للصمود ويبث الأمل فيه، ففي وحشة الزنزانة واشتداد البرد تكون الأم أيضا حاضرة بهذا الشكل، "...طويت نفسي داخل الحرام وانكمشت دون أن أعرف حقا هل أحتمي به من البرد أو أضمه إلي بحب لما يختزنه من أثر يذكرني بأمي ويحمل رائحتها وصلواتها.
... إن حرام أمي فجر دفعة واحدة كل ما يكتنز في داخلي من دفء" ص69، الأم ليست كائنا عاديا بالنسبة للإبناء، هي كائن خارق، يتجاوز المألوف والعادي، من هنا وجدنا "اسعد عبد الله" يقدم لنا تأثيرين لهذه الهدية التي قدمتها الأم، الأولى أنه جاء منها، وله وقعا خاصا عليه، فهو يحمل رائحتها ويذكره بها، والثاني التأثير المادي لهذا الحرام، فهو يمنح الدفء كما كانت الأم تمنحه له.
وأعتقد تعمد الكاتب تقديم التأثير الروحي على المادي، وكأنه في معكرته مع الزنزانة لا يعتمد صموده على المسائل المادية وحسب، بل على الروحية، خاصة تلك التي جاءت عن طريق الأم.
عندما يختلط/يتشابك/ينعدم الإحساس بالوقت، ولا يعرف الإنسان كم نام ومتى استيقظ، يأتي حل هذه المعضلة عن طريق الأم، فهي مصدر حيوي ووحيد لحل كافة المعاناة التي يمر بها الابن، "... أذهب ونم لكي يطلع الصباح، ومنذ ذلك الحين، ارتبط النوم عندي بشروق الشمس التي كنت أتخيل أنها تشرق من بين رذاذ أحلامي البريئة، البهية ورطبة تداعب الروح وتجلب الحياة وتفردها مع الخيوط الذهبية على البشر والأشياء" ص75، كل هذا الجمال والبهاء جاء معتمدا على ما قالته الأم، وإذا ما تمعنى في هذا الوصف الناعم والجميل، نعلم حجم التأثير الذي تتركه الأم فينا، فرغم قسوة المكان وما يتركه من آثارا قاسية وصعبة على المعتقل، كانت في المقابل الأم التي تتغلب على تلك القسوة، إن كان من خلال كلماتها، أو من خلال تصرفها، أو من خلال هداياها، فكل ما يصدر عنها يمثل عامل قوة وباعثة أمل للابن.
كل من يعرف الإجراءات التي يسلكها الزائر للسجون الاحتلال يعلم حجم المعاناة وصعوبة الإجراءات التي تواكب هذه الزيارة، فالاحتلال لا يتوانى عن استخدام أي اجراء ينغص على الزائر إلا واتخذه، ويمكن أن تأخذ الزيارة وقتا خياليا، تبدأ من الساعة الثالثة صباحا وتنتهي بعد السادسة مساءا.
لكن الأهل يجدون في هذه المشقة شكلا من أشكال المقاومة، وتأكيدا على الروابط الأسرية التي لا يمكن لأي إجراءات أن تحد منها، زيارة الأم لابنها لها آثارها، تؤثر به ويؤثر بها، فهي الكائن المانح للحب والذي يفيض منه الحنان، وعاطفتها لا يمكنها أن تضبطها أمام من تحب، والبعيد عنها قسرا، عندها نجد الابن بهذه المشاعر، "تمنيت أن ينتهي وقت الزيارة، أن تنشق هذه الأرض وتبتلعني ولا يعود لي أي أثر على هذه الأرض، أن أطير وأتلاشى مع ذرات الرياح، أن أتحول لأي شيء بعيد عن هذه العيون التي أعشقها وهذا الجسد الذي أود لو ينصهر مع جسدها للأبد.
قالت من بين دموعها، أبق لي الحلم على الأقل.
...قلت لها: هذا السجن أكبر من أن نتجاهله، لكن الحب يلغي فكرته "تهزمه" بدأت تتحمس، كانت تحارب لأجل حبها ببسالة دون أن تنزلق إلى التوسل" ص102 و103، ما قاله "سعيد عبد الله" عن أمه يعطي مؤشرا عن حجم هذا الحب والمشاعر التي يحملها، فهي بالنسبة له ليست كأي شيء آخر، كأي إنسان، ومن هنا وجدناه يسترسل في وصف مشاعره عندما وجد من يحبها بحالة ليست طبيعية، وبعد أن تجاوز انفعاله الحاد اتجاهها، وتخلص من مشاعره تكلم بمنطق المحب.
زيارة الأم ستضيف رافد جديدا من روافد الصمود وبعث الأمل لدى الابن، فها هي تحدثه بخلاصة فكرتها عن السجن فتقول: "السجن ما بسكر على سجين!!" ص117، بهذه الكلمات وما تحمل من أفكارا/معاني عن ضرورة تجاوز/تجاهل واقع السجن يجد الابن دربا جديدا عليه أن يسلكه، وبعد هذا الاكتشاف الذي قدمه الأم تكون مشاعر الابن بهذا الوصف، "تمنيت لو أني أملك فقط أن أعانقها وأن ألوذ بحضنها عن هذه القاعدة الباردة" ص ص117، ما يحسب لهذه الأم أنها ليست بكائية، وليست تحمل حنان وعاطفة وحسب، بل وأيضا تحمل فكرا مشعا باعثا للأمل ومحفزا على الصمود والبقاء.
بعد موتها يكتشف "سعيد عبد الله" أشياء عنها لم تخطر على باله، فموتها كان يمثل مرحلة صعبة، ولم يكن يقدر على الإقرار بهذا التغير الذي حصل له، وكأنه من خلال عدم الاعتراف بما حصل من تغيرات، يريد أن يستمر تدفق الأمل والحنان الذي منحته إياه الأم فيقول عن موتها: "وأنا الذي كنت أعرف أن أمي ماتت قبل الإعلان عن وفاتها، بقيت أرفض تصديق هذا، وأن الموت تمكن منها، وأنها سترافق وستذهب معه ولن تعود لتراني وتزورني في السجن" ص128، كائن خارق مثل الأم لا يمكن التسليم بفقدانه، وحتى بعد وجود كافة الدلائل المادية على ذلك، فهي أوجدت أشياء خارقة في ابنها، ولا يمكنها أن تزول في المنظور القريب، فالعطاء ـ حب، عاطفة، حنان، فكر، إحساس ـ لا يمكنها أن تزول أو أن تفتقد بين ليلة وضحاها، من هنا نجد الإصرار على عدم الاعتراف بفقدانها، فأفعالها وتأثيرها وكلماتها وعاطفتها ما زالت حاضرة وفاعلة، فكيف يمكن أن يسلم بفقدانها؟.
"عبلة" المرأة التي أحبها "سعيد عبد الله" تحدثه عن أمه يعد أن كانت ترجع من زيارته، حامله معها زادا جديدا من الأمل والحب له، فتحدثه عن أمه وكيف كانت تترك زيارته عندها مزيدا من الحب والأمل، فتقول عنها: "كانت تعود من زيارتك سعيدة ومشرقة ومجرد رؤيتك وسماع صوتك كان ينسيها عناء السفر ومشقة الزيارة والانتظار، والإجراءات المذلة، ما إن تعود حتى تبدأ بالحديث الذي لا ينتهي عنك، وعن جمالك، وشجاعتك وكيف أصبحت نسخة طبق الأصل عن والدك.
... تحولت إلى محور حياتها وعالمها ولا يوجد امرأة أو رجل لا يعرف كل تفاصيل عنك" ص132، "سعيد عبد الله" لم يكن يعرف هذه الأشياء عن أمه، لم يكن يعرف مكانته عندها، فقط كان يعرف مكانتها فيه، من هنا نجده يكتشف هذه المعادلة التي كان يجهلها، اعتقد بأنه يعرف كل شيء عنها، لكنها كانت تعطي أكثر مما تخيل، أكثر مما يحس به، فهي لم تكن تندبه عند الناس، بل تمجده وترفع من شأنه، جاعله منه مثلا للرجولة والعطاء وللشجاعة.

الحكم
يقدم لنا الكاتب عبارات تمثل خلاصة تجربته في المعتقل ونظرته للحياة، ومن خلال هذا العبارات يمكننا أن نأخذ الحكم والعبر والطريقة التي يجب أن يتعامل بها المعتقل مع هذه التجربة المريرة، فهي مرحلة من أصعب المراحل التي يمر بها الإنسان، وليس باستطاعة الجميع أن يخرج سالما منها، من هنا يمكننا أن نعتبر هذا العبارات حكم يستفاد منها في أي تجربة اعتقال لأي إنسان وفي أي مكان كان.
"الوحدة ليس أن تكون وحدك دون شريك، هي أن تبدأ كل شيء من جديد دون أن تجد أمامك أي أثر أو رمز يلهمك ويصوب دربك، هي أن تعيد رسم حدود وتخوم عالمك دون دليل" ص10، الزنزانة عالم ضيق، وعلى الإنسان أن يبدأ بالتعامل مع هذا الواقع بشكل منفرد، وحيد، وعليه أن يتكيف مع التغيرات في لطعام والنوم وقضاء الحاجة، عدم وجود من يتحدث معه. هذا معنى الوحدة بالنسبة للمعتقل.
"نحن لا نتحرر من شيء إلا عندما نقع في عبودية شيء آخر" ص32، تأكيد على ضرورة البحث في كل ما نقوم به، وعدم التسليم بالمسلمات، مهما بدت منطقية، وضرورة البحث والنبش في كل شيء.
"ففي السجن تتشابة الأشياء ظاهريا الكل سواء، المهم أن تخرج منتصرا وبطلا، أما البطولة في أروع حالاتها فهي لا تتعدى قدرتك على الحفاظ على صورتك وطبيعتك الأولى، وعدم الانزلاق إلى مهاوي اليأس والتوحش" ص48، تأكيد على الضغوط التي يتعرض لها السجين، وعلى ضرورة التمسك بالأخلاق والأفكار والمعتقدات التي اعتقل من أجلها.
"... سألته ذات مرة إن كان فكر بدل كسر ساعده بالانتحار، قال: عندها لم أكن لأفكر بهذا، أنا لا أرغب بمغادرة الحياة بل معانقتها بقوة وعيشها بملئها" ص56، رغم قسوة الحياة في المعقل، يبقى الأمل بالحياة وما فيها من هناء حلم يجب أن لا نتخلى عنه في كافة الظروف والأحوال.
"كثرة الخيبات لا تعلم شيئا ولا تردع، ونحن أثناء حاجاتنا للآخرين لن نجرؤ على تعلم الدرس الأكثر إلحاحا والذي علينا أن نتعلمه لأننا نرجو ألا يكون ما نخشاه حقيقة، ونبقى نرفض التصديق" ص58، يبقى التشبث بالأمل مهم، رغم حجم ونوعية الانتكاسات التي نتعرض لها، فهو من يساعدنا عن تجاهل الواقع البائس والقاسي، فالأمل يجب أن يبقى حيا فينا.
"هنا والآن يتضح لي أن البرد عدو أكثر شراسة من الجوع، فالجوع قد يحولك إلى حيوان مفترس، بينما البرد فيضعك على حافة الجنون، يفقدك القدرة على التفكير والحركة، ويصف كل الأشياء ضدك وتشعر أنها تعاديك" ص70، معلومة مهمة لكن من يكون في زنزانة منفردة تفتقد لأبسط المتطلبات الإنسانية، توفير المكان المناسب للحياة، فالجوع يمكن أن يجعل الإنسان يبدي تفاعلا معه، أما البرد فإنه يقضي على أي فعل يمكن أن يبديه الإنسان.
ويقول احد المعتقلين "أبو شمس" حكمته عن سجون الاحتلال: " أن السجن هو الذي حرم هؤلاء الشباب من تحقيق أحلامهم وأنهم جديرون بهذه الألقاب وأن السجن لا يجب أن يكون سببا لموت الأحلام واندثار المشاريع" ص81، حقيقة يجب أن نتبعها لكي لا نقتل الأحلام التي بناءها السجناء، وعلينا إبقاء تلك الأحلام حية ونابضة فهم.
" بدت حياة السجن مترفة وباذخة مقارنة بحياة الزنزانة، رفضت أن أفكر بهذا الشكل خشية على آدميتي ولكي لا أقزم أحلامي... لم أشأ أن أحقر حياة الإنسان بحيث يصبح السجن مكانا يمكن اشتهاءه، إنه مكان شيء ولا شيء يمكن أن يجعله أفضل" ص85، بعد التحقيق وما يتعرض له المعتقل من أشكل وأنواع التعذيب يكون/يمثل السجن حالة من الرفاهية مقارنة بما كان في فترة التعذيب، وهذا الأمر ينطبق أيضا على الانتقال من الزنزانة الانفرادية إلى السجن، وهنا ينبهنا الكاتب إلى ضرورة عدم الأخذ بهذه الظاهرة، فالسجن لا يمكن أن يكون مكان ملائم للإنسان، مهما بدت فيه الحياة مقبولة إذا ما قارناها بواقع أسوء.
وعن طبيعة الأحكام العالية التي يصدرها الاحتلال على الفلسطينيين يقول عنها "عصمت منصور": .. أقصد أن هذه الأحكام تداس لمجرد الوصول لاتفاق أو إذا ما حدثت عملية تبادل أسرى... إنها أحكام سياسية رادعة لا علاقة بينها وبين العادلة" ص87، توضيح لطبيعة محاكم الاحتلال التي لا يتم التعامل الفلسطيني داخلها مع بعدالة، بل ضمن سياسية هي أقرب إلى فكرة (الرهائن) الذين يمكن أن يتم استبدالهم بأي جندي يتم أسره في المستقبل، وهذا توضيح وتفسير لطبيعة عمليات تبادل الأسرى التي يقوم بها الاحتلال، فهي ظاهريا تبدو لصالح الفلسطيني، لكنها في حقيقية الأمر لصالح الاحتلال الذي أتخذ سلفا رهائن بشرية لكي يقوم بعملية التبادل.
"أن الموت ليس أصعب من الخيانة، إننا نهرب إليه ونلوذ به من الذل والهجران" ص105، تحليل لمفهوم الموت، الذي يكون ملاذا من حياة غير سوية يعيشها الإنسان، بينما الخيانة تحمل معنى (الحياة بقسوة) بسبب الفعل المرتبط بها، وكأن الكاتب يحذرنا حتى من التفكير بها، فهي فعل غير قابل للمحو أو النسيان، وهذا الأمر يتفق مع ما جاءت به رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، الذي أكد قسوة وبشاعة أن يخون/يتخلى الإنسان عن أخلاقه.
"عندما نرى الألم وهو يفتك بالآخرين نتساءل كيف لا يموتون، فقط شدة الألم والمعاناة تكشف لنا كم هي جميلة هذه الحياة وكم نريدها، وإلى أي درجة قادر هذا الجسد على التكيف والاحتمال في سبيل البقاء على ظهرها مثل دودة تافهة، لو قال لي إنسان أني سأمر بهذا العذاب وأني سأنجح في البقاء حيا لما صدقته" ص142، حقيقة واقعية تعتمد على التجربة وليس التنظير، فالحياة وما فيها تجعل الجسد قادرا على تحمل كل أشكال وأنواع التعذيب، حتى أننا نجد هذا الإنسان ـ بعد أن يتجاوز حالة التعذيب التي مرة بها ـ يستغرب كيف استطاع الصمود فيها وتجاوزها، وهذا تأكيد على أن هناك قدرات كامنة في كل إنسان، يستطاع من خلالها أن يتجاوز أي مرحلة يمكن أن يمر بها.
المرأة
تضاف الحبيبة/ الأنثى إلى الأم كعامل باعث/محفز على الأمل، فهي من تمنح الرجل عناصر السعادة والفرح، من هنا تم استحضارها في الرواية، الكاتب يتعمد تقديم كامل رؤيته للمتلقي، بحيث لا يجعل شيئا في الخفاء، فالمرأة تأتي بعد الأم بعناصر الأمل، وأحيانا يمكنها التفوق على مكانة الأم.
الكاتب يستحضر المرأة مقاربا/مقارنا إياها مع الزنزانة، هكذا يبدو للوهلة الأولى، لكنه في حقيقة الأمر أرد غير ذلك، أرد أن يكشف لنا حقيقة رؤيته عن المرأة وما كانت المقاربة/المقارنة إلا تبريرا/تعليلا تلك العلاقة، وإلا ما الداعي لذكرها في هكذا موضع، ويتأكد لنا هذا الأمر من خلال حديثه عن "عبلة" وأيضا من خلال تقمصه لوضع/حالة المرأة وكأنه يتحدث في العقل الباطن عن هذا التأثير الذي تركته فيه، فهي تمتلك الكثير من الغموض رغم ما تبديه من اقتراب، "... النساء اللاتي يدركن أسرار أجسادهن ويحتقرن ستر جمالهن ومكامن الرغبة تحت ستار من الحشد والتحفظ، وفي لحظة يهبن جسدهن بكل سخاء لشريكهن الذي اخترنه ويدعن له أن يكتشفهن، للتضاعف اللذة كلما ضغط باطراف أصابعه أو شفتيه أو تسقط نظراته على نقطة حساسة من جسدها" ص29، بهذا الكلام يؤكد "سعيد عبد الله" رؤيته عن المرأة ففها من الغموض ما يجعلها أشبه بقارة كبيرة، بحاجة إلى مزيد من البحث الاكتشاف ما فيهن، كما يبين لنا ما يمنحنه من لذة وفرح للرجل.
ويقول كخبير في العلاقات الجنسية عن المرأة: "أثارتني هذه الأفكار كنت كمن يضطر لمعاشرة امرأة بشعة بينما الكون يغص بالجميلات" ص49، الراوي يؤكد معرفته بالعديد من النساء من خلال هذا الكلام، فعلاقته لم تقتصر على واحدة فقط، بل هناك العديد منهن، من هنا وجدناه يتكلم بهذا الكلام الذي ينم عن الخبرة والمعرفة بجنس النساء.
ويحدثنا عن تفاصيل جسد المرأة بهذه المعرفة التي تقتصر على المختصين بعلم المرأة: "عندما تخلع راقصة محترفة، ثيابها قطة قطة، لا تكشف عن جمالها وتبرز مفاتنها وتشد أنظار معجبيها فقط، بل تجعل كل جزء من جسدها منفصلا ويعاش لذاته" ص91، أفكار تبين حجم القدرة على تحليل مفاتن المرأة، فهي تمتلك في كل جزء من جسدها عناصر الإثارة والإغواء، والراوي يدعو إلى التوغل بهذا العالم لكشف ما فيه من عوالم مجهولة، فهي عالم يستحق الاكتشاف.
وعندما يقابل "عبلة" من خلف الزجاج السميك، المانع لملامسة الجسد، نجده يتجاوز هذا الجدار الزجاجي بهذا الشكل، " حتى الزجاج الشفاف الذي يفصل بيننا لم يتمكن من حجب رائحة عبقها التي استيقظت بداخلي دفعة واحدة" ص128، تأكيد على ما تثيره المرأة من غريزة لا يمكن لأي حواجز أن تحجبها، فهي كالهواء/كالشمس لا يمكن لأحد أن يحجبها.
مسألة تقمص الرجل لحالة المرأة يشير إلى ذلك التأثير الذي تركته فيه، ويؤكد على حالة التوحد/الجمع التي حدثت وستحدث بينهما، فحالة التقمص تؤكد حضور المرأة في العقل الباطن، أي أنها تحتل أهمية خاصة واستثنائية لا يمكنه التخلي/التخلص منها، فهي شيء حيوي وضروري وأساسي بالنسبة له، "لقد كنت مثل امرأة تضطر لأن تجهض جنينها الميت في رحمها، لتبقى حتى بعد أن تقذفه من أحشائها تشعر بنبضه وتحس بوجوده بداخلها" ص162، ليس من السهل استخدام هذا التعبير على رجل، فهو لم يمر بمثل هذا الوضع، ولم يسبق لأي رجل أن مر به، لكن علاقة الراوي بالمرأة وتوحده معها حتى أصبحا حسدا واحدا ورواحا واحدة، جعله قادرا على هذا التشبيه.
"كنت كأي فتاه اغتصبت بوحشية وبعد أن انتهكوا جسدها ألقوا بها دون رحمة على قارعة الطريق المظلم الأصم، كنت مستباحا ومهانا وحزينا" ص165، هنا أيضا يتم تقمص حالة الأنثى في وضع مزري وصعب، وهذا يمثل تعاطف الراوي مع المرأة وكأنه من خلال هذين التقمصين يريدنا أن نتعاطف معها، فهي بوضعها السابق، إن كانت في حالة الإجهاض أو في حالة الاغتصاب تمثل حالة إنسانية توجب علينا التعاطف معها.
الرمز
رغم أن الرواية واقعية وتتحدث عن تجربة حقيقية، عاشها الكاتب، إلا أنه استطاع أن يستخدم الرمز بشكل جيد، مما أطفى على الرواية لمسة جمالية تتجاوز الطرح المباشر، فعندما يمر من جانب "أبو شمس" نجده يقوم، "أحنيت رأسي باحترام وحزن" ص167، رغم أن الراوي حدثنا عن هذا الرجل بواقعة إلا أنه هنا أخذ بعدا رمزيا، حتى أن استخدم أسم "أبو شمس" فيه من الرمزية ما يكسر واقعية الرواية.
وبعد أن ينهي فترة السجن الانفرادي نجده يعبر عن هذه الحالة بوصف غارق في الرمزية، "كنت أرفع رأسي صوب السماء وأحدق في الأفق البعيد، أبحث عن الشمس بين الغيوم السوداء المنثورة كريش عائم على سطح الماء، وأبتسم وأنا واثق أنها هناك وإن لم أرها" ص168، بهذا الشكل كانت الرواية قد تخطت الواقعية المطلقة واطفت عليها لمسة جمالية، بحيث لم تعد أسيرة لتجربة اعتقال، بل باعثة أمل وحاملة دعوة للحياة.
السارد
الراوي في الرواية كان "سعيد عبد الله" لكن الكاتب استطاع أيضا أن يتحرر من هذا الثقل الذي يمثله الأسير من خلال إعطاء "عبلة" حيز من رواية الأحداث كما هو الحال في الصفحات 132 -134، ورغم أنها قليلة إذا ما قارناها بما رواه "سعيد عبد الله" إلا أنها تمثل أيضا تكسيرا وتجاوزا للواقعية الرواية، وكان يمكن للكاتب أن يجعل "عبلة" أكثر فاعلية وحيوية في الرواية لو منحها مزيدا من الحديث، وأراح بطله "سعيد عبد الله" قليلا.
الإسرائيلي
العديد من الكتاب الفلسطينيين عندما يتحدثون عن الإسرائيلي يتكلمون بواقعية، بمعنى عدم اعتمادهم على أفكار مسبقة، أو ايدولوجيا خاصة، بل من خلال العلاقة المباشرة به، من هنا نجد أحيانا يكون هذا التناول يعطي الوجه السلبي للإسرائيلي، وأحيانا الجانب الإيجابي، وهذا التوجه عند الكتاب الفلسطينيين يؤكد موضوعيتهم وواقعيتهم وابتعادهم عند الأفكار والصور الجاهزة عن الآخر.
"عصمت منصور" كان من الموضوعيين في تناوله للإسرائيلي، حيث قدمه لنا بصورة إيجابية، فقال على لسانه: "أنه يقدر من يحارب لأجل هدف كبير وفكرة" ص62، فالكاتب تعمد أن يكون صادقا في تناوله للإسرائيلي بصرف النظر إن كان هذا ينسجم مع الطرح العام الفلسطيني أم لا، فهو نقل لنا الصورة التي تعامل معها بكل تجرد وبعيدا عن أي تحامل أو عداء للإسرائيلي.
فنجد فيما قاله هذا الإسرائيلي المحكوم أحكاما عالية، بقناعته بعدالة النضال والوطني الفلسطيني، وهو يثمن هذا النضال الذي يحمل أفكارا كبيرة وطموحا وطنيا، على النقيض منه الذين يسجن لقضايا أخلاقية أو جنائية.

نذكر بأن الرواية من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، سلسلة أدب السجون، الطبعة الأولى 2011.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف