جليسةُ الكَرمل
- طارق عسراوي.
جلست سيدة على مقعد القصب الهزّاز، تشير بيدها صوب الشمال، نحو طريق مغلقة بجدار اسمنتي، تقول بصوت خفيض: طريق حيفا القديمة !
كانت إذا ما بدأت الحديث عن حيفا، تمهّلت في وصفها ، وعدّدت الأماكن وأسماء الشوارع بدقّة متناهية ، وحين تمرّ على ذكر سوق الهَدَار، تتذكّر فستانها الحرير ، سيّد الفساتين، أيام ميْعة الصبا .. وإذا ما شدّها الحنينُ لساحل قلبها، تناولت الثوب من دولابها وألبسَتْه جسدها، وعادت بعينين تفيضان بالموجِ ، لذاكرة الكرمل ووادي النسناس والحي الألماني وشارع الجبل وجامع الاستقلال ووادي الصليب وشارع أبو نواس ، موطن الفستان المرصّع بالأزهار الذهبية .
***
استوقفه جنديّ محطة حافلات الكرمل ، ودقّق في تصريح الزيارة، وهو يضعُ خطوته الأولى في مدينة يحفظُ معالمها وأسماءَ شوارعها، وقرى جبل الكرمل القريبة ، وقبل أن تلمِس أصابعه خدّ المحار على شاطئها!
وبعد تفتيش ملامحه العربيّة، سار خارج المحطة في أوّل عناق له مع جدّه الكرمل.
جاب المدينة ماشياً ، يرشده صوت عميق في ذاكرته، كأنه نظام الارشاد الصوتي للمواقع أو ما بات يعرف ب ( جي بي أس)، يلتقط المدينة صوراً للمفارق والموج، ولمّا وقف عند دوّار اليونسكو عند باب حديقة الكرمل ( البهائيين )، غمرته ألوان الورود الخلّابة، والجنائن المعلّقة صعوداً صوب الأزرق العالي، حتى بدت القبة الذهبية كأنها ثريا تدلّتْ من السماء.
هناك سمع صوتها تقول " يطير الدوري صعوداً إلى قبّة عباس، وبعدها يختفي ! كأن ما بعد القبّة عالم الغيب ! ".
***
وضع النادل فنجان قهوة وكوب ماء على الطاولة المحاذية للرصيف، وكانت زينة أشجار الميلاد تمنح شارع عباس طابعاً فريداً، حين استرسلت عيناه في وصف الدهشة التي تعتريه لفتاة آثرت الابتسامة ، وهي تراقبه يلتقط صوراً لكل زاوية وواجهة محل.
ومن سؤاله للنادل عرفتْ أنه يتتبّع ذاكرة خضراء، وأنه ليس غريباً عن المكان ، إلا أن سنوات غيابه .. كانت كفيلة بغربة الأماكن وتبدّل أسمائها!
سارا معاً يستعيدان ذاكرته، ويحدّثان مفردات حيفا بحكايته المتجددة.
***
لم يعد ما يشده للمدينة ذاكرة سَلفِه فحسب، بل ذابت حكايته الخصوصيّة في تماهٍ بديع مع لوحة الكرمل المنقوشة في ذاكرته، وصار له ما يخصّه في طرقات المدينة وأشجارها، وله فصل خاص في حكاية جليسة الكرمل، يَقُصّها استكمالاً لصوت المرأة في صدره، وأرتبط أمس المدينة بحاضرهِ ومستقبله.
ففي حيفا، بلّل البحر شفتيه وظللت صَنَوْبَرةٌ على طريق الميناء مذاق قبلته المرتبكة، وحين صعد الحافلة؛ جلست إمرأة لم تجد في المدينة ما يشبهها أو يدّل على هويتها، تسترق النظر لصبيين صغرت البلادُ على يديهما، وانردم الجدار على المسافة والزمن الفاصل بينهما، وهالها حين بدا الكرمل بينهما عالياً ..
- طارق عسراوي.
جلست سيدة على مقعد القصب الهزّاز، تشير بيدها صوب الشمال، نحو طريق مغلقة بجدار اسمنتي، تقول بصوت خفيض: طريق حيفا القديمة !
كانت إذا ما بدأت الحديث عن حيفا، تمهّلت في وصفها ، وعدّدت الأماكن وأسماء الشوارع بدقّة متناهية ، وحين تمرّ على ذكر سوق الهَدَار، تتذكّر فستانها الحرير ، سيّد الفساتين، أيام ميْعة الصبا .. وإذا ما شدّها الحنينُ لساحل قلبها، تناولت الثوب من دولابها وألبسَتْه جسدها، وعادت بعينين تفيضان بالموجِ ، لذاكرة الكرمل ووادي النسناس والحي الألماني وشارع الجبل وجامع الاستقلال ووادي الصليب وشارع أبو نواس ، موطن الفستان المرصّع بالأزهار الذهبية .
***
استوقفه جنديّ محطة حافلات الكرمل ، ودقّق في تصريح الزيارة، وهو يضعُ خطوته الأولى في مدينة يحفظُ معالمها وأسماءَ شوارعها، وقرى جبل الكرمل القريبة ، وقبل أن تلمِس أصابعه خدّ المحار على شاطئها!
وبعد تفتيش ملامحه العربيّة، سار خارج المحطة في أوّل عناق له مع جدّه الكرمل.
جاب المدينة ماشياً ، يرشده صوت عميق في ذاكرته، كأنه نظام الارشاد الصوتي للمواقع أو ما بات يعرف ب ( جي بي أس)، يلتقط المدينة صوراً للمفارق والموج، ولمّا وقف عند دوّار اليونسكو عند باب حديقة الكرمل ( البهائيين )، غمرته ألوان الورود الخلّابة، والجنائن المعلّقة صعوداً صوب الأزرق العالي، حتى بدت القبة الذهبية كأنها ثريا تدلّتْ من السماء.
هناك سمع صوتها تقول " يطير الدوري صعوداً إلى قبّة عباس، وبعدها يختفي ! كأن ما بعد القبّة عالم الغيب ! ".
***
وضع النادل فنجان قهوة وكوب ماء على الطاولة المحاذية للرصيف، وكانت زينة أشجار الميلاد تمنح شارع عباس طابعاً فريداً، حين استرسلت عيناه في وصف الدهشة التي تعتريه لفتاة آثرت الابتسامة ، وهي تراقبه يلتقط صوراً لكل زاوية وواجهة محل.
ومن سؤاله للنادل عرفتْ أنه يتتبّع ذاكرة خضراء، وأنه ليس غريباً عن المكان ، إلا أن سنوات غيابه .. كانت كفيلة بغربة الأماكن وتبدّل أسمائها!
سارا معاً يستعيدان ذاكرته، ويحدّثان مفردات حيفا بحكايته المتجددة.
***
لم يعد ما يشده للمدينة ذاكرة سَلفِه فحسب، بل ذابت حكايته الخصوصيّة في تماهٍ بديع مع لوحة الكرمل المنقوشة في ذاكرته، وصار له ما يخصّه في طرقات المدينة وأشجارها، وله فصل خاص في حكاية جليسة الكرمل، يَقُصّها استكمالاً لصوت المرأة في صدره، وأرتبط أمس المدينة بحاضرهِ ومستقبله.
ففي حيفا، بلّل البحر شفتيه وظللت صَنَوْبَرةٌ على طريق الميناء مذاق قبلته المرتبكة، وحين صعد الحافلة؛ جلست إمرأة لم تجد في المدينة ما يشبهها أو يدّل على هويتها، تسترق النظر لصبيين صغرت البلادُ على يديهما، وانردم الجدار على المسافة والزمن الفاصل بينهما، وهالها حين بدا الكرمل بينهما عالياً ..