ما زالت المرافعة التي قام بها الممثل العبقري أحمد زكي ، في فيلم ضد الحكومة ، الذي كتبه السيناريست العبقري وحيد حامد ، تشدني في كل مرة ، كما لو كنت أسمعها لأول مرة ، خاصة عندما صرخ : " كلنا فاسدون " . فعند سماعي لهذه الجملة تزداد قناعتي بأن للفساد وجوه أخري . وليس شرطاً أن يكون المرء فاسداً بذاته ، أو فاسداً بغيره ، وإنما يمتد الفساد إلي أبعد من ذلك حين يمتد إلي الفئة الصامتة الساكتة العاجزة قليلة الحيلة ، التي تري الفساد ، وتسمع عنه ، وتشم روائحه النتنة ، ثم تلوذ بالصمت . ومن هنا جاءت صرخة وحيد حامد علي لسان أحمد زكي " كلنا فاسدون ، حتي بالصمت العاجز قليل الحيلة " . فالفساد الذي نسمع عنه أو نقرأ عنه ، لا يولد في بيئة خاصة علي جزيرة منعزلة ، لم يرها أو يسمع عنها أحد . وإنما يولد في بيئة حاضنة نخلقها له خلقاً ، ونهيء له أسباب النمو والترعرع فيها ، حتي يؤتي ثماره الحنظلية ، التي نتجرع مرارتها حتي الثمالة . والفساد غالباً ما يجد بيئته في المصالح الحكومية لتعلق مصالح الناس بها ، من جهة ، أو لتعلق العاملين بهذه المصالح من جهة عملهم ، وسبل الترقي فيه ، والتقرب لجهة الإدارة ، والتزلف لها ، إما لجلب المزيد من المنافع ، أو لدفع الكثير من الضرر ، من جهة أخري . وفي سبيل التقرب من الإدارة لأي من السببين حدث ولا حرج . والفساد بلا ريب هو انحراف عن الجادة ، ولي أحكام القوانين واللوائح ، بل وأحيانا تجاهلها ، وضرب عرض الحائط بها ، ودوسها بالنعال ، من أجل إعمال الهوي والغرض الشخصي ، إما لصالح النفس بتحقيق منفعة عاجلة ، أو بدرء مفسدة مقبلة ، أو لصالح الغير ، بمنأي عن مصلحة العمل والصالح العام . والمفترض في العملية الإدارية بمكوناتها الخمسة : التخطيط ، والتنظيم ، والتنسيق ، والتوجيه ، والرقابة ، تنتهي بأعمال الرقابة ، علي أي مستوي تنظيمي ، داخل الهيكل الإداري ، أياً كان حجمه ، وأياً كان موقعه . فمن أين يأتي الفساد ؟ . هل يأتي الفساد من سوء اختيار القيادات علي كافة المستويات التنظيمية ؟ . وسوء الإختيار لو صح هل هو ناتج عن فساد المعايير أم غيابها البتة ؟ . أم أن الفساد يأتي من سوء التشريعات الفضفاضة التي تترك مجالاً للتلاعب والنفاذ من الثغرات واستغلالها ؟ . أم أنه يأتي من سوء التربية ؟ وسوء التعليم ؟ . والفاسد حين يفسد يبدأ متدرجاً ـ من حيث يدري أو من حيث لا يدري ـ من درجة إلباس الفساد ثوب الصالح العام وصالح العمل ، وصولاً إلي قمم الفساد بأنواعه المختلفة بما في ذلك تقنين الأوضاع الفاسدة . وقد فاتنا جميعاً أن الصالح العام وصالح العمل لا يكون إلا بما يتوافق مع القوانين واللوائح المنظمة ، وما تعدي ذلك فهو الفساد بعينه . ويبدأ الفساد بقبول الهدية والعطية ، ويجري إضافتها إلي مخازن الجهة إمعاناً في الصلاح والتقوي ، والعمل لصالح العمل والصالح العام