نـجـيـب والـشـيـخ عــفــرة
بــقـــلـم : حــســــن زايـــــــــد
( 1 )
لم أكن أحلم بالإقتراب من تلك المنطقة الخطرة التي يتواجد فيها عمالقة مصر سوي بصفتي قارئاً متعلماً حالماً ، حتي أنه عندما هبطت من قريتي إلي القاهرة ، كنت أتحسس مواضع الخطو ، لأنه جال بخاطري أن تلك البقاع التي وطأتها أقدامي ، هي هي ذات البقاع التي وطأتها أقدام هؤلاء العمالقة العظام . وما زلت أذكر ذلك المشهد التلفزيوني الذي يظهر فيه نجيب محفوظ ماشياً ، وفي يده اليسري يحمل أوراقاً ، واليمني تتحرك للأمام والخلف ، كي تعينه علي المسير . ذلك الجسد النحيل الذي يحمل بين أكتافه رأساً مبدعاً . وهو يتخفي بين السطور والكلمات ، يصطحبك إلي عمله الإبداعي ، فتكاد تشعر بأنه لا يحمل قلماً ، وإنما فرشاة ترسم لك لوحة ، وتكتشف نمنماتها من خلال الكاميرا التي يحملها علي كتفه ، وهو ينقلك من نمنمة إلي أخري . وأثناء تجوالك تشعر أنك تتجول ليس بين صخور صماء ، وإنما تتجول بين كائنات حية ، تتحرك ، تتنفس ، تصدر أصواتاً ـ قد تكون منغمة ، وقد تكون غير ذلك ـ لكائنات مرئية وغير مرئية . وموجودات أخري غير الإنسان لها قوتها الخفية ، وسحرها المبهم ، وتأثيراتها الممتدة ، علي كافة الكائنات ، في حراك كوني مقصود ، متداخلاً ، متفاعلاً ، حياً . إنك تخرج ـ حين تنتهي من القراءة ـ من العمل الإبداعي لنجيب محفوظ بمجموعة من الأصدقاء والمعارف الذين تعاملت معهم ، وعايشتهم ، وتعايشوا معك ، من خلال مناظر ومشاهد حياتية حية جري خلقها خلقاً من خلال تلك المعايشة . فأنت حين تدخل لعوالم نجيب محفوظ لا تدخل قارئاً ، وإنما تدخل مشاهداً مشاركاً حياً فاعلاً منفعلاً . تعالي لتري معي كيف يدخل بك نجيب محفوظ إلي عالم الشيخ عفرة أحد شخوص ملحمة " الحرافيش " . يقول نجيب محفوظ : " مضي يتلمس طريقه بطرف عصاه الغليظة ، مرشدته في ظلامه الأبدي " مضي في الزمن الماضي البعيد ، وكأن ذلك ديدنه منذ الأزل ، يتلمس في الزمن الحاضر ، كأنه أراد الربط بين ما كان أزلاً ، وما هو كائن الآن . والتلمس هو التحسس برقة ، ويدل عليه قوله : " بطرف عصاه " ، رغم أن العصا غليظة بطبيعتها . هل يرجع ذلك إلي طول الصحبة مع هذه العلاقة الثلاثية بين الشيخ والعصا والأرض ؟ . ثم يكشف محفوظ عن سر تلك العلاقة الحميمية بقوله : " مرشدته في ظلامه الأبدي " . ويستطرد محفوظ في الكشف عن خبايا وخفايا الشيخ عفرة ، فيسلط بقعة الضوء علي ملمح آخر ، ولكن في ذات السياق : " مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني " . مولاي من ولي ، وتعني دنا واقترب ، لغةً . واصطلاحاً لفظ يطلق علي مشايخ الدين ــ وسواء جري استخدامه بالمعني اللغوي أو الإصطلاحي ــ فهو يهدف إلي الدنو من الشيخ والقرب منه ، بالإضافة إلي اعتباره من مشايخ الدين . ننتقل خطوة أخري لنتعرف علي طريقة تعرف الشيخ الضرير علي المواقع ، بعد أن كشف لنا كيفية تعرفه علي طريقة ، وحصرها محفوظ في أربعة وسائل هي : الرائحة ، وحساب الخطوات ، ودرجة وضوح الأناشيد ، والإلهام الباطني . فهو يحدد موقعه من خلال الرائحة المنبعثة منه ، فإن لم تكن فمن خلال حساب الخطوات التي مشاها من نقطة انطلاقه ، إلي جانب ذلك ، درجة وضوح الأناشيد المنبعثة من مسجد الإمام الحسين ، فكلما اقترب من المسجد كان الصوت أكثر وضوحاً ، فإن غاب كل ذلك التجأ إلي الإلهام الباطني . تلك هي وسائل الشيخ عفرة لتلمس طريقه ، والتعرف علي مواقعه علي طول هذا الطريق . وقد استخدم حاسة اللمس ، وحاسة الشم ، وحاسة السمع من الحواس الخمسة ، وقد استعاض عن الحاستين الأخريين الحساب ، والإستبطان الداخلي . وقد كانت الرحلة التي يقطعها الشيخ عفرة يومياً تبدأ من نقطة الإنطلاق من مسكنه إلي مسجد الإمام الحسين ، يقول محفوظ : " بين مسكنه علي مشارف القرافة وبين الحارة يخوض أشق مرحلة في طريقه إلي الحسين وأعذبها " . ويدلك موقع المسكن علي الحالة الإجتماعية والإقتصادية التي كان يحيا الشيخ عفرة في كنفها وتحت ظلالها ، وأجواء الحارات المصرية وأصدائها الإقتصادية والإجتماعية والنفسية . ومع مشقة الرحلة علي شيخ ضرير يعيش مثل تلك الظروف إلا أنه يشعر بعذوبتها ، لارتباط الرحلة بالإمام الحسين ، والجوانب الروحية والدينية التي تهيمن علي هذه الأجواء . مما يدلك علي تأصل التدين ، ودور الدين ، في حياة المصريين . الرحلة مع الشيخ عفرة لم تنته بعد ، وما زالت لرحلته بقية .
حــســـــن زايــــــــــد
بــقـــلـم : حــســــن زايـــــــــد
( 1 )
لم أكن أحلم بالإقتراب من تلك المنطقة الخطرة التي يتواجد فيها عمالقة مصر سوي بصفتي قارئاً متعلماً حالماً ، حتي أنه عندما هبطت من قريتي إلي القاهرة ، كنت أتحسس مواضع الخطو ، لأنه جال بخاطري أن تلك البقاع التي وطأتها أقدامي ، هي هي ذات البقاع التي وطأتها أقدام هؤلاء العمالقة العظام . وما زلت أذكر ذلك المشهد التلفزيوني الذي يظهر فيه نجيب محفوظ ماشياً ، وفي يده اليسري يحمل أوراقاً ، واليمني تتحرك للأمام والخلف ، كي تعينه علي المسير . ذلك الجسد النحيل الذي يحمل بين أكتافه رأساً مبدعاً . وهو يتخفي بين السطور والكلمات ، يصطحبك إلي عمله الإبداعي ، فتكاد تشعر بأنه لا يحمل قلماً ، وإنما فرشاة ترسم لك لوحة ، وتكتشف نمنماتها من خلال الكاميرا التي يحملها علي كتفه ، وهو ينقلك من نمنمة إلي أخري . وأثناء تجوالك تشعر أنك تتجول ليس بين صخور صماء ، وإنما تتجول بين كائنات حية ، تتحرك ، تتنفس ، تصدر أصواتاً ـ قد تكون منغمة ، وقد تكون غير ذلك ـ لكائنات مرئية وغير مرئية . وموجودات أخري غير الإنسان لها قوتها الخفية ، وسحرها المبهم ، وتأثيراتها الممتدة ، علي كافة الكائنات ، في حراك كوني مقصود ، متداخلاً ، متفاعلاً ، حياً . إنك تخرج ـ حين تنتهي من القراءة ـ من العمل الإبداعي لنجيب محفوظ بمجموعة من الأصدقاء والمعارف الذين تعاملت معهم ، وعايشتهم ، وتعايشوا معك ، من خلال مناظر ومشاهد حياتية حية جري خلقها خلقاً من خلال تلك المعايشة . فأنت حين تدخل لعوالم نجيب محفوظ لا تدخل قارئاً ، وإنما تدخل مشاهداً مشاركاً حياً فاعلاً منفعلاً . تعالي لتري معي كيف يدخل بك نجيب محفوظ إلي عالم الشيخ عفرة أحد شخوص ملحمة " الحرافيش " . يقول نجيب محفوظ : " مضي يتلمس طريقه بطرف عصاه الغليظة ، مرشدته في ظلامه الأبدي " مضي في الزمن الماضي البعيد ، وكأن ذلك ديدنه منذ الأزل ، يتلمس في الزمن الحاضر ، كأنه أراد الربط بين ما كان أزلاً ، وما هو كائن الآن . والتلمس هو التحسس برقة ، ويدل عليه قوله : " بطرف عصاه " ، رغم أن العصا غليظة بطبيعتها . هل يرجع ذلك إلي طول الصحبة مع هذه العلاقة الثلاثية بين الشيخ والعصا والأرض ؟ . ثم يكشف محفوظ عن سر تلك العلاقة الحميمية بقوله : " مرشدته في ظلامه الأبدي " . ويستطرد محفوظ في الكشف عن خبايا وخفايا الشيخ عفرة ، فيسلط بقعة الضوء علي ملمح آخر ، ولكن في ذات السياق : " مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني " . مولاي من ولي ، وتعني دنا واقترب ، لغةً . واصطلاحاً لفظ يطلق علي مشايخ الدين ــ وسواء جري استخدامه بالمعني اللغوي أو الإصطلاحي ــ فهو يهدف إلي الدنو من الشيخ والقرب منه ، بالإضافة إلي اعتباره من مشايخ الدين . ننتقل خطوة أخري لنتعرف علي طريقة تعرف الشيخ الضرير علي المواقع ، بعد أن كشف لنا كيفية تعرفه علي طريقة ، وحصرها محفوظ في أربعة وسائل هي : الرائحة ، وحساب الخطوات ، ودرجة وضوح الأناشيد ، والإلهام الباطني . فهو يحدد موقعه من خلال الرائحة المنبعثة منه ، فإن لم تكن فمن خلال حساب الخطوات التي مشاها من نقطة انطلاقه ، إلي جانب ذلك ، درجة وضوح الأناشيد المنبعثة من مسجد الإمام الحسين ، فكلما اقترب من المسجد كان الصوت أكثر وضوحاً ، فإن غاب كل ذلك التجأ إلي الإلهام الباطني . تلك هي وسائل الشيخ عفرة لتلمس طريقه ، والتعرف علي مواقعه علي طول هذا الطريق . وقد استخدم حاسة اللمس ، وحاسة الشم ، وحاسة السمع من الحواس الخمسة ، وقد استعاض عن الحاستين الأخريين الحساب ، والإستبطان الداخلي . وقد كانت الرحلة التي يقطعها الشيخ عفرة يومياً تبدأ من نقطة الإنطلاق من مسكنه إلي مسجد الإمام الحسين ، يقول محفوظ : " بين مسكنه علي مشارف القرافة وبين الحارة يخوض أشق مرحلة في طريقه إلي الحسين وأعذبها " . ويدلك موقع المسكن علي الحالة الإجتماعية والإقتصادية التي كان يحيا الشيخ عفرة في كنفها وتحت ظلالها ، وأجواء الحارات المصرية وأصدائها الإقتصادية والإجتماعية والنفسية . ومع مشقة الرحلة علي شيخ ضرير يعيش مثل تلك الظروف إلا أنه يشعر بعذوبتها ، لارتباط الرحلة بالإمام الحسين ، والجوانب الروحية والدينية التي تهيمن علي هذه الأجواء . مما يدلك علي تأصل التدين ، ودور الدين ، في حياة المصريين . الرحلة مع الشيخ عفرة لم تنته بعد ، وما زالت لرحلته بقية .
حــســـــن زايــــــــــد