رجــال مـن بـلــدي
بــقــلــم / حــســـن زايــــــــد
ربما لم أكن أتوقع في حياتي ، أن أجد من بين أبناء هذا الوطن ، من يستخف بقدر جيشه ، ويستهين برجاله ، ويسخر من هزيمته ، ويستهزيء بنصره . إلا أنني قد عشت حتي رأيت وسمعت . والناظر في أعمار هؤلاء يجدهم لم يجاوزوا بأعمارهم ذلك التاريخ . أي أن هذه الأحداث بالنسبة لهم تاريخاً لم يعاصروه ، وإنما يتعلمونه من الكتب إن كانوا يقرأون، أوعلي أغلفة الكراسات المدرسية ، التي يشترونها لأبناءهم ، بعد أن تجاوزوا مراحل التعليم ، ولم يتعلموا ، لعل أبناءهم يقرأونها لهم ، ويعلمونهم إياها . وأنا هنا لم أكن من المشاركين الفعليين في الحربين ، ففي الحرب الأولي كنت في الصف الأول الإبتدائي ، وفي الحرب الثانية كنت في الصف الأول الإعدادي . ولست مؤرخاً ، ولا خبيراً عسكرياً . وإنما فقط طفل مصري عاش هذه الأحداث علي مدار ست سنوات حتي النخاع . ففي الحرب الأولي وهي حرب 1967 م ، تفاجأت قريتي الصغيرة الرابضة في أحضان محافظة الشرقية بأسراب من الطائرات تتقاطر ابتداءً من الثامنة صباحاً من الشرق إلي الغرب ، تقترب من الرؤوس صارخة وهي تشق السماء شقاً ، وتكاد تلامس الرؤوس لمساً . كنا ننكفيء علي الأرض رعباً وهلعاً كلما مر منها سرباً ، أو نجري مهرولين كي نتكوم في حجور أمهاتنا ملتمسين الأمان ، وأمهاتنا يطبطبن علي ظهورنا بعثاً لطمأنينة مفتقدة عند الجميع . لم تكن قد وصلتنا الجرائد في ذلك الوقت ، حيث لم تكن تصل الجرائد إلي الأرياف في ذلك التاريخ . وقد كانت قريتنا محظوظة ، إذ كانت مرتبطة بمدينة الزقازيق بخط أتوبيس عام قد يأتينا سائقه بالجرائد ، وقد لا يأتي ، أو تأتينا عن طريق أحد أبناء القرية القادمين من المدن . ولم تكن متاحة في مصر كلها سوي أربعة جرائد مملوكة للدولة هي : الأهرام ، والأخبار ، والجمهورية ، والمساء . وكان في قريتنا تلفاز واحد مملوك للقرية ، ومكانه عند عمدة القرية ، ولا يبث سوي قناتين هما : الأولي ، والثانية ، ولساعات بث محدودة . ولم يكن متاح سوي المذياع لدي بعض البيوتات نتلمس منه الأخبار . وقد كانت المعلومات القليلة المتاحة تترك المرء متخبطاً بين الواقع والخيال ، بين الحلم والحقيقة . كانت أذهاننا الصغيرة ، وأفهامنا الضيقة المحدودة تقتصر في استيعابها للموقف علي تصور سُريالي سيفضي في نهايته إلي عودة الإستعمار ، وإغتيال الحلم المصري في التحرر ، وإغتيال البطل القومي الذي تعلقت بوجوده الأفئدة . لم نكن ندرك أن هناك علي الجانب الشرقي للقناة أجساد مزقت أشلاءًا ، وتفتت ، وتفحمت ، وسالت دماؤها غزيرة علي رمال الصحراء الحارقة . ست سنوات فاصلة بين حربين ، كانت أصعب اللحظات حين ينادي المنادي بإطفاء الأنوار إنذاراً بوجود غارة ، وحين كنا نسمع أصوات المدفعية وهي قادمة إلي أسماعنا من بعيد . وقد كان من ضحايا الغارات الإسرائيلية علي العمق المصري ـ حين ضربت مصنع أبو زعبل ـ شقيق مدرسي في الإبتدائية ، وقد وصل الجثمان إلي القرية ليلاً ، وقد اجتمعت القرية عن بكرة أبيها ، كي تشاطر أهله الأحزان ، وقد بكته القرية ، وبكيناه أطفالاً . وفي هذه السن الباكرة ـ عشر سنوات ـ مات أبي في أول العام 1970 م ، ومات عبد الناصر في آخره ، وجاء السادات ، وكان هناك شكوك في ملء الفراغ . وقد تابعت ما عرف بـ :" ثورة التصحيح " . فقد كان من قريتنا أحد المتهمين في هذه القضية ، ويدعي : " عبد الحميد الشيخ " . وبعد عام الضباب ، جاءت السنة الحاسمة ، وتابعنا مظاهرات طلاب الجامعة . ثم جاء عام النصر . وكان هناك ثلاثة من شباب القرية قد جري تجنيدهم ، وكانت لي بهم سابق معرفة ، وكنا نلعب معهم ، ويلعبون معنا بحكم تواصل الأجيال ، أولهم ـ البطل الشهيد / عبد المجيد اليماني ، وقد كان قريباً لجدتي من أمي . والثاني ـ الشهيد البطل ـ ابراهيم زاهر ، وقد كان عريساً حديثاً ، وكنت أرافقه وهو يصطاد السمك بسنارته من الترعة التي كانت تمر أمام القرية . أما الثالث ـ فهو البطل سمري شعلة ، وهو الذي عاد حياً من المعركة رحمه الله . عشنا الهزيمة وتجرعنا مرارتها صغاراً ، وعشنا نشوة النصر وزهوته ونحن علي أعتاب سن المراهقة . نحن جيل لم نعش طفولتنا قط ، بل عركتنا الأيام والظروف والأوضاع ، حتي خلنا أنفسنا قد ولدنا رجالاً . وقد رأينا بأم أعيننا رجال هذه المرحلة ، وعشنا معهم ، وإقتسمنا معهم طفولتنا لعباً ومرحاً وتسلية وحكايات وحواديت لا تنتهي ، وما زالت صورهم حتي الآن تخايل ذاكرتي وتهز جذوعها هزاً ، فتساقط علي من الذكريات ما تدمع له العين ، تلك الدموع الملحية الصامتة التي لا تسمع لها نحيب . ما زالت صرخة الفرحة بحلاوتها التي وجدتها في حلقي ترن في أذني وأنا أسمع بيانات الجيش المتتالية أيام الإنتصار ، ولا زال صوت أحمد سمير ، وصبري سلامة يشنف آذاني مع كل بيان . وما زلت أذكر ـ وكلما شاهدته بكيت ـ خطاب السادات في مجلس الأمة يوم 24 اكتوبر ، وهو يعلن ثقة الأمة المطلقة في قواتها المسلحة . وتلك التحية العسكرية التي أداها المشير أحمد اسماعيل علي للشعب . وما قصدت من مقالتي تلك سوي إعلان أن هناك رجال من بلدي ، ورأيت أنه من حقهم علي أن أسجل أسماؤهم هنا في الذكري الـ 42 لنصر أكتوبر ، لعل ذلك يكون فيه جزء من الوفاء الواجب . ولعل الأجيال القادمة تدرك من هم الرجال حقاً وصدقاً .
حــســـــن زايـــــــــد
بــقــلــم / حــســـن زايــــــــد
ربما لم أكن أتوقع في حياتي ، أن أجد من بين أبناء هذا الوطن ، من يستخف بقدر جيشه ، ويستهين برجاله ، ويسخر من هزيمته ، ويستهزيء بنصره . إلا أنني قد عشت حتي رأيت وسمعت . والناظر في أعمار هؤلاء يجدهم لم يجاوزوا بأعمارهم ذلك التاريخ . أي أن هذه الأحداث بالنسبة لهم تاريخاً لم يعاصروه ، وإنما يتعلمونه من الكتب إن كانوا يقرأون، أوعلي أغلفة الكراسات المدرسية ، التي يشترونها لأبناءهم ، بعد أن تجاوزوا مراحل التعليم ، ولم يتعلموا ، لعل أبناءهم يقرأونها لهم ، ويعلمونهم إياها . وأنا هنا لم أكن من المشاركين الفعليين في الحربين ، ففي الحرب الأولي كنت في الصف الأول الإبتدائي ، وفي الحرب الثانية كنت في الصف الأول الإعدادي . ولست مؤرخاً ، ولا خبيراً عسكرياً . وإنما فقط طفل مصري عاش هذه الأحداث علي مدار ست سنوات حتي النخاع . ففي الحرب الأولي وهي حرب 1967 م ، تفاجأت قريتي الصغيرة الرابضة في أحضان محافظة الشرقية بأسراب من الطائرات تتقاطر ابتداءً من الثامنة صباحاً من الشرق إلي الغرب ، تقترب من الرؤوس صارخة وهي تشق السماء شقاً ، وتكاد تلامس الرؤوس لمساً . كنا ننكفيء علي الأرض رعباً وهلعاً كلما مر منها سرباً ، أو نجري مهرولين كي نتكوم في حجور أمهاتنا ملتمسين الأمان ، وأمهاتنا يطبطبن علي ظهورنا بعثاً لطمأنينة مفتقدة عند الجميع . لم تكن قد وصلتنا الجرائد في ذلك الوقت ، حيث لم تكن تصل الجرائد إلي الأرياف في ذلك التاريخ . وقد كانت قريتنا محظوظة ، إذ كانت مرتبطة بمدينة الزقازيق بخط أتوبيس عام قد يأتينا سائقه بالجرائد ، وقد لا يأتي ، أو تأتينا عن طريق أحد أبناء القرية القادمين من المدن . ولم تكن متاحة في مصر كلها سوي أربعة جرائد مملوكة للدولة هي : الأهرام ، والأخبار ، والجمهورية ، والمساء . وكان في قريتنا تلفاز واحد مملوك للقرية ، ومكانه عند عمدة القرية ، ولا يبث سوي قناتين هما : الأولي ، والثانية ، ولساعات بث محدودة . ولم يكن متاح سوي المذياع لدي بعض البيوتات نتلمس منه الأخبار . وقد كانت المعلومات القليلة المتاحة تترك المرء متخبطاً بين الواقع والخيال ، بين الحلم والحقيقة . كانت أذهاننا الصغيرة ، وأفهامنا الضيقة المحدودة تقتصر في استيعابها للموقف علي تصور سُريالي سيفضي في نهايته إلي عودة الإستعمار ، وإغتيال الحلم المصري في التحرر ، وإغتيال البطل القومي الذي تعلقت بوجوده الأفئدة . لم نكن ندرك أن هناك علي الجانب الشرقي للقناة أجساد مزقت أشلاءًا ، وتفتت ، وتفحمت ، وسالت دماؤها غزيرة علي رمال الصحراء الحارقة . ست سنوات فاصلة بين حربين ، كانت أصعب اللحظات حين ينادي المنادي بإطفاء الأنوار إنذاراً بوجود غارة ، وحين كنا نسمع أصوات المدفعية وهي قادمة إلي أسماعنا من بعيد . وقد كان من ضحايا الغارات الإسرائيلية علي العمق المصري ـ حين ضربت مصنع أبو زعبل ـ شقيق مدرسي في الإبتدائية ، وقد وصل الجثمان إلي القرية ليلاً ، وقد اجتمعت القرية عن بكرة أبيها ، كي تشاطر أهله الأحزان ، وقد بكته القرية ، وبكيناه أطفالاً . وفي هذه السن الباكرة ـ عشر سنوات ـ مات أبي في أول العام 1970 م ، ومات عبد الناصر في آخره ، وجاء السادات ، وكان هناك شكوك في ملء الفراغ . وقد تابعت ما عرف بـ :" ثورة التصحيح " . فقد كان من قريتنا أحد المتهمين في هذه القضية ، ويدعي : " عبد الحميد الشيخ " . وبعد عام الضباب ، جاءت السنة الحاسمة ، وتابعنا مظاهرات طلاب الجامعة . ثم جاء عام النصر . وكان هناك ثلاثة من شباب القرية قد جري تجنيدهم ، وكانت لي بهم سابق معرفة ، وكنا نلعب معهم ، ويلعبون معنا بحكم تواصل الأجيال ، أولهم ـ البطل الشهيد / عبد المجيد اليماني ، وقد كان قريباً لجدتي من أمي . والثاني ـ الشهيد البطل ـ ابراهيم زاهر ، وقد كان عريساً حديثاً ، وكنت أرافقه وهو يصطاد السمك بسنارته من الترعة التي كانت تمر أمام القرية . أما الثالث ـ فهو البطل سمري شعلة ، وهو الذي عاد حياً من المعركة رحمه الله . عشنا الهزيمة وتجرعنا مرارتها صغاراً ، وعشنا نشوة النصر وزهوته ونحن علي أعتاب سن المراهقة . نحن جيل لم نعش طفولتنا قط ، بل عركتنا الأيام والظروف والأوضاع ، حتي خلنا أنفسنا قد ولدنا رجالاً . وقد رأينا بأم أعيننا رجال هذه المرحلة ، وعشنا معهم ، وإقتسمنا معهم طفولتنا لعباً ومرحاً وتسلية وحكايات وحواديت لا تنتهي ، وما زالت صورهم حتي الآن تخايل ذاكرتي وتهز جذوعها هزاً ، فتساقط علي من الذكريات ما تدمع له العين ، تلك الدموع الملحية الصامتة التي لا تسمع لها نحيب . ما زالت صرخة الفرحة بحلاوتها التي وجدتها في حلقي ترن في أذني وأنا أسمع بيانات الجيش المتتالية أيام الإنتصار ، ولا زال صوت أحمد سمير ، وصبري سلامة يشنف آذاني مع كل بيان . وما زلت أذكر ـ وكلما شاهدته بكيت ـ خطاب السادات في مجلس الأمة يوم 24 اكتوبر ، وهو يعلن ثقة الأمة المطلقة في قواتها المسلحة . وتلك التحية العسكرية التي أداها المشير أحمد اسماعيل علي للشعب . وما قصدت من مقالتي تلك سوي إعلان أن هناك رجال من بلدي ، ورأيت أنه من حقهم علي أن أسجل أسماؤهم هنا في الذكري الـ 42 لنصر أكتوبر ، لعل ذلك يكون فيه جزء من الوفاء الواجب . ولعل الأجيال القادمة تدرك من هم الرجال حقاً وصدقاً .
حــســـــن زايـــــــــد