6 أكتوبر.. حكاية من الذاكرة
بقلم: محمد هجرس
لم يكن ذاك الطفل الصغير (اللي هو أنا) يكاد يفهم معنى الحرب، وقريته الصغيرة "معدية مهدي" في أقصى شمال الدلتا، تطفئ الأنوار ليلاً، ويمشي القرويون البسطاء متشحين بالسواد، على أنباء "الوكسة" عام 1967، بينما يودعون شهيداً قيل إنه استشهد في سيناء، ولم يعد حتى جثمانه إليهم.
لم يكن ذاك الطفل، الذي لم يتجاوز السابعة، يعي مشهد خاله الراحل، إبراهيم جودة، وهو يقتحم القرية في صبيحة يوم قائظ من شهر يونيو 67 بعربته المدرعة، ليركنها أمام منزله الصغير، متعباً، وعلى وجهه حبات عرق تختلط بطين الأرض، مجسّدة الانسحاب المرير والمذل، ليغلق الباب على نفسه، يبكي، ليس فرحاً بنجاته، ولكن حزنا على مصير زملاء استشهدوا غيلة، وليكن ذاك اليوم الأسود عنواناً لهزيمة مرّة ظلت عالقة في الأذهان.. تنتظر الثأر الكبير.
سنوات مرّت، ولا حديث يعلو فوق صوت المعركة، حتى ظهر السادس من أكتوبر 1973، ونفس الطفل، يجلس في "دكانة" أبيه، لا همَّ له سوى أن يقرأ كتاباً قديماً، ليقتحم العم "مسعد المعداوي" رحمه الله خلوته صارخاً :"فين أبوك؟" ولما كان الأب في قيلولة قصيرة، أكمل عم مسعد وهو يهلل:" قول له البتاعة قامت"!
وبينما أجري دون فهم لإيقاظ أبي ـ رحمه الله ـ كان عم مسعد يواصل حديثه :" الأولاد بتوعنا.. عدّوا البتاعة دي، ونزلوا ضرب في البتوع اليهود" ولأسمع الترجمة عبر حضن عميق بين الاثنين، ومفادها أن الحرب قامت، وجنودنا بدأوا عبور قناة السويس.. فأرقص فرحاً.
كان يوماً تاريخياً..لم أنسَ فيه، كيف كانت نسوة القرية البسيطة، يحملن "غطيان الحلل" فيما الرجال يتسلحون بـ"النبابيت" تأهباً لأي اعتداء إسرائيلي، خلال أيام النكسة، ويتعاهدون على الموت دفاعاً عن القرية التي كانت بحجم مصر، وتزداد الفرحة عند سماع نبأ إسقاط طائرة فانتوم إسرائيلية على بعد كيلومترات بسيطة، وهرع كثيرين لمكانها وروايات أسطورية عن كيفية الإمساك بالطيّار ـ الذي كان يتحدث العربية مستنجداً وهو يرتجف ويبكي كالنساء ـ ولكن مشاعر الانتقام للشهيد حسن حجازي، كان أكبر من كل استنجاد بحياة باتت بلا أي قيمة، أمام هذا الجمع من النبابيت والعصي والفؤوس.
طيلة أيام الحرب، كان اللون الأزرق على النوافذ الزجاجية، وكانت الإضاءة الخافتة تحسباً لأي هجوم إسرائيلي، بالتوازي مع بيانات عسكرية كانت تؤكد بشائر النصر الأول، الذي يشفى غليل نفوس متعطشة لأي انتصار، فيما كان ذاك الطفل ـ الذي هو أنا ـ كل همّه الاحتفاظ بقطعة صغيرة من ذات الطائرة، لا تزال في حوزته إلى اليوم.. أما القرويون فيتوسطهم "عم مسعد" متحدثاً عن "البتاع"/ الصاروخ الذي شاهده بأم عينيه، وهو يسقط "البتاعة" التي هي الطائرة.!
6 سنوات هي العمر الفاصل بين هزيمة عابرة وانتصارٍ أضاء الوجوه ولو لمرة وحيدة في التاريخ المعاصر.. لا نزال نحن العرب بحاجة لتكراره ولو على أنفسنا وحياتنا وكل مآسينا.
ربما ونحن نحتفل هذه الأيام، بمرور 42 عاماً على حرب أكتوبر، في أشد الحاجة للتعلم من انتصارنا "اليتيم"، ونحاول تنشيط الذاكرة بانتصار جديد، ولو داخلي هذه المرة، بدلاً من أن نكتفي بالرقص على الماضي الذي لا يعرفه بعضنا، وربما لا يعرفون قيمته أبداً.
ـــــ
كاتب وصحافي مصري
بقلم: محمد هجرس
لم يكن ذاك الطفل الصغير (اللي هو أنا) يكاد يفهم معنى الحرب، وقريته الصغيرة "معدية مهدي" في أقصى شمال الدلتا، تطفئ الأنوار ليلاً، ويمشي القرويون البسطاء متشحين بالسواد، على أنباء "الوكسة" عام 1967، بينما يودعون شهيداً قيل إنه استشهد في سيناء، ولم يعد حتى جثمانه إليهم.
لم يكن ذاك الطفل، الذي لم يتجاوز السابعة، يعي مشهد خاله الراحل، إبراهيم جودة، وهو يقتحم القرية في صبيحة يوم قائظ من شهر يونيو 67 بعربته المدرعة، ليركنها أمام منزله الصغير، متعباً، وعلى وجهه حبات عرق تختلط بطين الأرض، مجسّدة الانسحاب المرير والمذل، ليغلق الباب على نفسه، يبكي، ليس فرحاً بنجاته، ولكن حزنا على مصير زملاء استشهدوا غيلة، وليكن ذاك اليوم الأسود عنواناً لهزيمة مرّة ظلت عالقة في الأذهان.. تنتظر الثأر الكبير.
سنوات مرّت، ولا حديث يعلو فوق صوت المعركة، حتى ظهر السادس من أكتوبر 1973، ونفس الطفل، يجلس في "دكانة" أبيه، لا همَّ له سوى أن يقرأ كتاباً قديماً، ليقتحم العم "مسعد المعداوي" رحمه الله خلوته صارخاً :"فين أبوك؟" ولما كان الأب في قيلولة قصيرة، أكمل عم مسعد وهو يهلل:" قول له البتاعة قامت"!
وبينما أجري دون فهم لإيقاظ أبي ـ رحمه الله ـ كان عم مسعد يواصل حديثه :" الأولاد بتوعنا.. عدّوا البتاعة دي، ونزلوا ضرب في البتوع اليهود" ولأسمع الترجمة عبر حضن عميق بين الاثنين، ومفادها أن الحرب قامت، وجنودنا بدأوا عبور قناة السويس.. فأرقص فرحاً.
كان يوماً تاريخياً..لم أنسَ فيه، كيف كانت نسوة القرية البسيطة، يحملن "غطيان الحلل" فيما الرجال يتسلحون بـ"النبابيت" تأهباً لأي اعتداء إسرائيلي، خلال أيام النكسة، ويتعاهدون على الموت دفاعاً عن القرية التي كانت بحجم مصر، وتزداد الفرحة عند سماع نبأ إسقاط طائرة فانتوم إسرائيلية على بعد كيلومترات بسيطة، وهرع كثيرين لمكانها وروايات أسطورية عن كيفية الإمساك بالطيّار ـ الذي كان يتحدث العربية مستنجداً وهو يرتجف ويبكي كالنساء ـ ولكن مشاعر الانتقام للشهيد حسن حجازي، كان أكبر من كل استنجاد بحياة باتت بلا أي قيمة، أمام هذا الجمع من النبابيت والعصي والفؤوس.
طيلة أيام الحرب، كان اللون الأزرق على النوافذ الزجاجية، وكانت الإضاءة الخافتة تحسباً لأي هجوم إسرائيلي، بالتوازي مع بيانات عسكرية كانت تؤكد بشائر النصر الأول، الذي يشفى غليل نفوس متعطشة لأي انتصار، فيما كان ذاك الطفل ـ الذي هو أنا ـ كل همّه الاحتفاظ بقطعة صغيرة من ذات الطائرة، لا تزال في حوزته إلى اليوم.. أما القرويون فيتوسطهم "عم مسعد" متحدثاً عن "البتاع"/ الصاروخ الذي شاهده بأم عينيه، وهو يسقط "البتاعة" التي هي الطائرة.!
6 سنوات هي العمر الفاصل بين هزيمة عابرة وانتصارٍ أضاء الوجوه ولو لمرة وحيدة في التاريخ المعاصر.. لا نزال نحن العرب بحاجة لتكراره ولو على أنفسنا وحياتنا وكل مآسينا.
ربما ونحن نحتفل هذه الأيام، بمرور 42 عاماً على حرب أكتوبر، في أشد الحاجة للتعلم من انتصارنا "اليتيم"، ونحاول تنشيط الذاكرة بانتصار جديد، ولو داخلي هذه المرة، بدلاً من أن نكتفي بالرقص على الماضي الذي لا يعرفه بعضنا، وربما لا يعرفون قيمته أبداً.
ـــــ
كاتب وصحافي مصري