ـ كذلك الإبداع : بحر الدراويش ..!!!
ـ كنت أعمل مدرسا بإحدى بلدات الشمال وكانت قرية صغيرة جميلة هادئة تطل على البحر وفي أحد الأيام أقبل نحوي أحد زملاء العمل وفي خطوه بعض من تردد وارتياب وكأنه في حيرة وتوجس من أمر ما يشغله ؛ وخلت أن المسألة بالغة الجدية وأنها تستلزم مني أن أمنحه كل اهتمامي وتهيأت لسماع ما سيحمله إلي من أخبار ثم إنه أخذ بيدي إلى زاوية وانتظر طويلا وعلت نبرة صوته مسحة من شجن وخامرته حمرة خجل واضحة وقال لي :
ـ إعلم يا صديقي أنني لم أعرف البحر إلا في مرحلتي هاته بعد أن عينت مثلك مدرسا بهذه المنطقة الشاطئية ..ولدت وترعرعت بإحدى قرى جبال الأطلس ولم أكن أعلم عن البحر إلا ما كان يردده فقيه بلدتناعلى مسامعنا من آيات مباركة تتحدث عن البحر الأجاج والآخر العذب الفرات وما يستخرج منهما من نعمة كريمة أوطعام طيب نأكله وحلية وضعت للزينة٠ وحين التحقت مع زمرة أقراني بالصفوف الدراسية كان الحديث يتجدد مرة أخرى عن هذا الكائن العجيب إما من خلال تعابير الصور الحائطية أو حكايات السندباد ومغامرات القراصنة وإما عن طريق الحديث عن حيتان هائلة قلما تفلح مخيلاتنا الصغيرة عن إيجاد تصور متقارب أو تصور مناسب لها ٠ أيضا كانت أجهزة التلفاز نادرة جدا وكانت باللونين القديمين الأبيض والأسود وكنا نقطع مسافات كبيرة من أجل الوصول إلى مقهى المركز الذي كان يتيح للنسوة فقط فرصة لتتبع سهرة أعلن عنها منذ زمن ؛ أما أعين الرقباء الأشداء فكانت تحرص ألا يتسلل بين الأرجل واحد من الذكور المتحمسين مهما اجتهد في التخفي وتصنع في مشيته أو في طريقة كلامه ٠ كنا نتطلع في تزاحم إلي ضوء الشاشة العجيبة من بعيد وهناك أيضا كانت تصل إلينا على استحياء في بعض الفترات القليلة صور عن البحر وعن الشواطئ والأمواج وكانت التعليقات لا تبلغ مسامعنا لكثرة ما نحدثه من جلبة وضجيج٠ وعندما كان يقبل موسم الصيف وتأخذ درجة الحرارة في الإرتفاع كان أحد أقاربنا يأخذنا في سيارته الكبيرة إلى وجهة بعيدة بإحدى البلدات المجاورة وفيها ضريح مشهور لأحد أولياء الله الصالحين٠ ويتكفل الكبار باكتراء محلات للمبيت وأما نحن معشر الصغار فكنا نقضي أغلب أوقاتنا متقلبين في مياه الصهاريج الباردة أو بين الحجارات الكبيرة التي تمر عبرها تدفقات الوادي القريب هناك٠ وفي إحدى السنوات تردد الحديث عن تنظيم مخيم للأطفال والذي سيمكن أبناء الأهالي من قضاء فترة مهمة من عطلتهم على شواطئ البحر لكن ذلك لم يكن ليتم إلا بعد فحوصات بأجهزة الأشعة تتكفل بها لجنة معينة من قيادة الدائرة ٠ ووقع التخاذل ولم تبد تلك اللجنة اهتماما كافيا للمسألة وأحزننا كثيرا أن حافلة كبيرة جدا قدمت إلى بلدتنا خلال ثلاثة أيام متوالية لتأخذنا إلى المخيم المذكور ؛ وأمام غياب تقارير تلك الفحوصات المعلومة ألغيت تلك الرحلة الغالية وتعذر علينا مرة أخرى نحن معشر الأطفال أن نرى البحر مباشرة ولربما حرم من معانقته الكثير من أبناء بلدتنا النائية إلى حدود هذه الساعة !! آه لو كان في مقدوري أن أجر أطراف قريتنا هي وبمن عليها من أهالي لتقف ولو لومضة جد وجيرة لتعانق هذا السر العظيم..!!!
ـ إنتهى ـ
ـ مع تحيات ؛ عصفور من الغرب : محسن حكيم٠
ـ كنت أعمل مدرسا بإحدى بلدات الشمال وكانت قرية صغيرة جميلة هادئة تطل على البحر وفي أحد الأيام أقبل نحوي أحد زملاء العمل وفي خطوه بعض من تردد وارتياب وكأنه في حيرة وتوجس من أمر ما يشغله ؛ وخلت أن المسألة بالغة الجدية وأنها تستلزم مني أن أمنحه كل اهتمامي وتهيأت لسماع ما سيحمله إلي من أخبار ثم إنه أخذ بيدي إلى زاوية وانتظر طويلا وعلت نبرة صوته مسحة من شجن وخامرته حمرة خجل واضحة وقال لي :
ـ إعلم يا صديقي أنني لم أعرف البحر إلا في مرحلتي هاته بعد أن عينت مثلك مدرسا بهذه المنطقة الشاطئية ..ولدت وترعرعت بإحدى قرى جبال الأطلس ولم أكن أعلم عن البحر إلا ما كان يردده فقيه بلدتناعلى مسامعنا من آيات مباركة تتحدث عن البحر الأجاج والآخر العذب الفرات وما يستخرج منهما من نعمة كريمة أوطعام طيب نأكله وحلية وضعت للزينة٠ وحين التحقت مع زمرة أقراني بالصفوف الدراسية كان الحديث يتجدد مرة أخرى عن هذا الكائن العجيب إما من خلال تعابير الصور الحائطية أو حكايات السندباد ومغامرات القراصنة وإما عن طريق الحديث عن حيتان هائلة قلما تفلح مخيلاتنا الصغيرة عن إيجاد تصور متقارب أو تصور مناسب لها ٠ أيضا كانت أجهزة التلفاز نادرة جدا وكانت باللونين القديمين الأبيض والأسود وكنا نقطع مسافات كبيرة من أجل الوصول إلى مقهى المركز الذي كان يتيح للنسوة فقط فرصة لتتبع سهرة أعلن عنها منذ زمن ؛ أما أعين الرقباء الأشداء فكانت تحرص ألا يتسلل بين الأرجل واحد من الذكور المتحمسين مهما اجتهد في التخفي وتصنع في مشيته أو في طريقة كلامه ٠ كنا نتطلع في تزاحم إلي ضوء الشاشة العجيبة من بعيد وهناك أيضا كانت تصل إلينا على استحياء في بعض الفترات القليلة صور عن البحر وعن الشواطئ والأمواج وكانت التعليقات لا تبلغ مسامعنا لكثرة ما نحدثه من جلبة وضجيج٠ وعندما كان يقبل موسم الصيف وتأخذ درجة الحرارة في الإرتفاع كان أحد أقاربنا يأخذنا في سيارته الكبيرة إلى وجهة بعيدة بإحدى البلدات المجاورة وفيها ضريح مشهور لأحد أولياء الله الصالحين٠ ويتكفل الكبار باكتراء محلات للمبيت وأما نحن معشر الصغار فكنا نقضي أغلب أوقاتنا متقلبين في مياه الصهاريج الباردة أو بين الحجارات الكبيرة التي تمر عبرها تدفقات الوادي القريب هناك٠ وفي إحدى السنوات تردد الحديث عن تنظيم مخيم للأطفال والذي سيمكن أبناء الأهالي من قضاء فترة مهمة من عطلتهم على شواطئ البحر لكن ذلك لم يكن ليتم إلا بعد فحوصات بأجهزة الأشعة تتكفل بها لجنة معينة من قيادة الدائرة ٠ ووقع التخاذل ولم تبد تلك اللجنة اهتماما كافيا للمسألة وأحزننا كثيرا أن حافلة كبيرة جدا قدمت إلى بلدتنا خلال ثلاثة أيام متوالية لتأخذنا إلى المخيم المذكور ؛ وأمام غياب تقارير تلك الفحوصات المعلومة ألغيت تلك الرحلة الغالية وتعذر علينا مرة أخرى نحن معشر الأطفال أن نرى البحر مباشرة ولربما حرم من معانقته الكثير من أبناء بلدتنا النائية إلى حدود هذه الساعة !! آه لو كان في مقدوري أن أجر أطراف قريتنا هي وبمن عليها من أهالي لتقف ولو لومضة جد وجيرة لتعانق هذا السر العظيم..!!!
ـ إنتهى ـ
ـ مع تحيات ؛ عصفور من الغرب : محسن حكيم٠