خرابيش 2
1- ربيع الحنين في الخريف .
بخطوات حذرة يسير في الدرب الزلق ، يرتقي تلة تطل على قريته ، ينظر إليها ساهما ، الشوق المحروق يتوهج ، رائحة قريته لا تخطئها حاسته المتلهفة ، فيستنشق حتى الثمالة ، سرب حمام يعلو منها مثل دفقة عبير ، بيوتها الدافئة تنشب جذورها في خاصرة الجبل ، يحتضنها بعيونه ، فتتخلله ويتخللها ، يسير في أزقتها ، يحبّ على أيدي أطفالها الذين يصوغون طقوسا جديدة للحرية ، يقبّل تجاعيد الجباه النبيلة برائحتها الحقلية ، يشاركهم عشاءهم زيتونا وزعترا وزيتا و خبز قمح .
تلوّح له بيدها الحنون أن يقبل ، هي ليست بعيدة ، يسير بضع خطوات ، لكنه يُصفع ، يتجمد ، الأسلاك الشائكة تمزق نظراته وخطواته وشوقه ، تضطرب الرؤية ، ويتصقع الجسد ، تصطك أسنانه ويرتد صداها في داخله أسلاكا شائكة وفولاذا ورصاصا ، يلتمع في عينيه ألم صلب ، فيسرح آهاته في المدى البعيد الساكن فتحدث ضجيجا ينفطر لها أقسى القلوب ، وروحه تنحب من هذا القهر ، يخبئ قريته في صدره ويعود جاهدا بثقل وصمت ، بخطوات ذات وقع جنائزي ، وهو يتذكر خطواته التي أبعدته عنها ، والتي لم يعرف معناها إلا فيما بعد ، فيزفر زفرة حارة .
2- كرات اللعب المثقوبة ...
حمل حقيبته الجديدة ، ومشى متعثّرا في خطاه بين الركام و العفر و الأوراق الممزقة ، وكرات اللعب المثقوبة والشظايا والدماء التي تسلقت الجدران ، في مسيرة رعب إلى مدرسته المقصوفة ، محاولا إتقان فن الحياة ، ومدارة جرح ما زال ينزف ، سيعود لدراسة أكاذيب التاريخ ومؤامراته القذرة و الغباءات الخالدة و بطولات مزيفة و انتصارات لم تكن يوما إلا على ورق الكتب الرثة !! عاد ليمارس حقه في الكبرياء و الغرور و النزق و بعض الفرح ، وقف بين جدران مدرسته المكتظة بأسماء وصور الشهداء الأطفال ، والتي سقط اسمه منها صدفة !! تملأ الذكريات قلبه ودماغه و حقيبته .
جلس لصق نافذة فصله القديمة المشرعة على المدى و السحب البعيدة ، سّرح آهاته ، وهو يرقب الخريف القادم كغابة مسكونة بالأسرار من خلف براري الحزن ، دمّع القلم على أوراقه ، فتحولت إلى لوحات عبثية مستفزة في معرض للرسم الدامي فوق جدار لم يسقط ، ظهرت طلاسم من : جماجم و أنقاض و طائرات وأشلاء وقناصة ،
يسدل الستائر و يغلق بالمفتاح باب الماضي المطعون ، فهل تجدي الأقفال مع غدر الزمان ؟ !!
3- دبوس
تكلم عن هموم المواطن بشراهه ، عن الحصار وعن الجدار وعن البطالة المفزعة وعن طوابير الفقراء ، وعن... أدهش الحاضرين وأبكاهم حزنا على الوطن وساكنيه ... شكا وبكى على الشهداء والثكالى والأيتام والأرامل ، بعد ذلك خرج ليعقد صفقة أغذية فاسدة !!!
4- أبوّة
عصافير الصباح تنقش الهواء ، الصباح فضي شتائي ، ما زلت في فراشي نصف نائم، حين دخل أطفالي ، فلم أستطع تحقيق خلوتي المنشودة ، بدؤوا يشاركونني دفء الفراش ، وقد أحاطت وجوههم بي من كل جانب ، حاولت ترتيب كلمات النص الأدبي ، لكنها كانت تتمزق على شفرة أصواتهم و عبثهم ، نهضت بخواطري المشحونة ، ودخلت الغرفة المغلقة ، أمسكت بأصابعي الباردة القلم وبدأت أفرغ خواطري من مخزونها كي تمتلئ من جديد . بدأت الأبوة تفيض أثر انحباس ، فأشعر بدوار ناعم ، صوت ابنتي الصغيرة يسكن أذني وهي تبحث عني ، ورائحة زكية تفوح من صوتها تملأحواسي ، صوتها بطيئ هامس كوزن إيقاعي يهز مشاعري ، صوتها صورة ، صورتها صوت .
هرعت من مكاني وفتحت الباب ، و جثوت على ركبتيّ ، فارتمت في أحضاني وهي تطلق ضحكة صافية كنقش العصافير ، وأظافرها الطرية تخمش رقبتي ، فرُحت أملس على شعرها ، وأمسح ماء دموعها الصافي فأشعر بسحر لا يرى ، سحر لا يمسك ، في الوقت الذي كانت فيه الأوراق تنزلق عن المكتب من نسمة نظيفة .
5- ليل وغيم .
دبّ المساء فينا ، وهبط ضوء القمر بنعومة على سلمه الحريري ، ونشرضوءه برقة ، ونثر ألوانه في المكان فامتلأ المكان بالماء والغمام والصمت والليل والعشب الأخضر والزهور البرية المتعدد الأشكال ، والعطور التي تبعث علي الهذيان ، فاتسعت أعيننا على نحو غريب ، وانتابتنا رغبة في الفرح إلى الأبد ، و الاعتقاد في الخلود .
بقلم : محمود حسونة ( أبو فيصل )
1- ربيع الحنين في الخريف .
بخطوات حذرة يسير في الدرب الزلق ، يرتقي تلة تطل على قريته ، ينظر إليها ساهما ، الشوق المحروق يتوهج ، رائحة قريته لا تخطئها حاسته المتلهفة ، فيستنشق حتى الثمالة ، سرب حمام يعلو منها مثل دفقة عبير ، بيوتها الدافئة تنشب جذورها في خاصرة الجبل ، يحتضنها بعيونه ، فتتخلله ويتخللها ، يسير في أزقتها ، يحبّ على أيدي أطفالها الذين يصوغون طقوسا جديدة للحرية ، يقبّل تجاعيد الجباه النبيلة برائحتها الحقلية ، يشاركهم عشاءهم زيتونا وزعترا وزيتا و خبز قمح .
تلوّح له بيدها الحنون أن يقبل ، هي ليست بعيدة ، يسير بضع خطوات ، لكنه يُصفع ، يتجمد ، الأسلاك الشائكة تمزق نظراته وخطواته وشوقه ، تضطرب الرؤية ، ويتصقع الجسد ، تصطك أسنانه ويرتد صداها في داخله أسلاكا شائكة وفولاذا ورصاصا ، يلتمع في عينيه ألم صلب ، فيسرح آهاته في المدى البعيد الساكن فتحدث ضجيجا ينفطر لها أقسى القلوب ، وروحه تنحب من هذا القهر ، يخبئ قريته في صدره ويعود جاهدا بثقل وصمت ، بخطوات ذات وقع جنائزي ، وهو يتذكر خطواته التي أبعدته عنها ، والتي لم يعرف معناها إلا فيما بعد ، فيزفر زفرة حارة .
2- كرات اللعب المثقوبة ...
حمل حقيبته الجديدة ، ومشى متعثّرا في خطاه بين الركام و العفر و الأوراق الممزقة ، وكرات اللعب المثقوبة والشظايا والدماء التي تسلقت الجدران ، في مسيرة رعب إلى مدرسته المقصوفة ، محاولا إتقان فن الحياة ، ومدارة جرح ما زال ينزف ، سيعود لدراسة أكاذيب التاريخ ومؤامراته القذرة و الغباءات الخالدة و بطولات مزيفة و انتصارات لم تكن يوما إلا على ورق الكتب الرثة !! عاد ليمارس حقه في الكبرياء و الغرور و النزق و بعض الفرح ، وقف بين جدران مدرسته المكتظة بأسماء وصور الشهداء الأطفال ، والتي سقط اسمه منها صدفة !! تملأ الذكريات قلبه ودماغه و حقيبته .
جلس لصق نافذة فصله القديمة المشرعة على المدى و السحب البعيدة ، سّرح آهاته ، وهو يرقب الخريف القادم كغابة مسكونة بالأسرار من خلف براري الحزن ، دمّع القلم على أوراقه ، فتحولت إلى لوحات عبثية مستفزة في معرض للرسم الدامي فوق جدار لم يسقط ، ظهرت طلاسم من : جماجم و أنقاض و طائرات وأشلاء وقناصة ،
يسدل الستائر و يغلق بالمفتاح باب الماضي المطعون ، فهل تجدي الأقفال مع غدر الزمان ؟ !!
3- دبوس
تكلم عن هموم المواطن بشراهه ، عن الحصار وعن الجدار وعن البطالة المفزعة وعن طوابير الفقراء ، وعن... أدهش الحاضرين وأبكاهم حزنا على الوطن وساكنيه ... شكا وبكى على الشهداء والثكالى والأيتام والأرامل ، بعد ذلك خرج ليعقد صفقة أغذية فاسدة !!!
4- أبوّة
عصافير الصباح تنقش الهواء ، الصباح فضي شتائي ، ما زلت في فراشي نصف نائم، حين دخل أطفالي ، فلم أستطع تحقيق خلوتي المنشودة ، بدؤوا يشاركونني دفء الفراش ، وقد أحاطت وجوههم بي من كل جانب ، حاولت ترتيب كلمات النص الأدبي ، لكنها كانت تتمزق على شفرة أصواتهم و عبثهم ، نهضت بخواطري المشحونة ، ودخلت الغرفة المغلقة ، أمسكت بأصابعي الباردة القلم وبدأت أفرغ خواطري من مخزونها كي تمتلئ من جديد . بدأت الأبوة تفيض أثر انحباس ، فأشعر بدوار ناعم ، صوت ابنتي الصغيرة يسكن أذني وهي تبحث عني ، ورائحة زكية تفوح من صوتها تملأحواسي ، صوتها بطيئ هامس كوزن إيقاعي يهز مشاعري ، صوتها صورة ، صورتها صوت .
هرعت من مكاني وفتحت الباب ، و جثوت على ركبتيّ ، فارتمت في أحضاني وهي تطلق ضحكة صافية كنقش العصافير ، وأظافرها الطرية تخمش رقبتي ، فرُحت أملس على شعرها ، وأمسح ماء دموعها الصافي فأشعر بسحر لا يرى ، سحر لا يمسك ، في الوقت الذي كانت فيه الأوراق تنزلق عن المكتب من نسمة نظيفة .
5- ليل وغيم .
دبّ المساء فينا ، وهبط ضوء القمر بنعومة على سلمه الحريري ، ونشرضوءه برقة ، ونثر ألوانه في المكان فامتلأ المكان بالماء والغمام والصمت والليل والعشب الأخضر والزهور البرية المتعدد الأشكال ، والعطور التي تبعث علي الهذيان ، فاتسعت أعيننا على نحو غريب ، وانتابتنا رغبة في الفرح إلى الأبد ، و الاعتقاد في الخلود .
بقلم : محمود حسونة ( أبو فيصل )