الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حسين البرغوثي في ذكراه ال13 تمنّى ما لم يَقُل بقلم:المتوكل طه

تاريخ النشر : 2015-05-21
حسين البرغوثي في ذكراه ال13 تمنّى ما لم يَقُل بقلم:المتوكل طه
حسين البرغوثي   حاضراً
المتوكل طه

نَستذكرُ الصَّديقَ حسين مثقّفاً خاصَّاً أرادَ لمعرفتهِ أنْ تصلَ بهِ إلى الحِكمة ؛ الحكمةِ التي تستوعبُ الكونَ، باللُّغةِ واللَّونِ والحَركةِ وقانونِ الفيزياء، الحكمةِ التي لا تَتوقَّفُ عندَ ذاتِها، حتَّى لا تتحوَّلَ إلى قَالبٍ جاهز. كان حسين يرغبُ بحكمةٍ مُتحوِّلةٍ لا تتوقف، حكمةٍ نقيضَ نَفْسِها وذاتِها، وكأنَّها معنى الخَلْق. كان يريدُ أن يقبضَ بأصابعهِ على تلك القوانينِ التي تحكمُ الزَّمنَ والحركةَ والمكان، ليسَ من خلالِ أدواتٍ معرفيّةٍ صارمةٍ فحسب، وإنَّما بوساطةِ الكشفِ والإلهام، وربَّما كان هذا يختصرُ سيرةَ هذا المبدعِ الفلسطينيِّ الذي أضاءَ ومضى. فمن ماركسيّةٍ شموليَّةٍ تدَّعي تفسيرَ العالم وتدَّعي تغييرَه، إلى هيجلَّيةٍ تبحثُ عن "الكلِّي" و"الشَّامل"، ومنها إلى نيتشويَّةٍ تطمحُ إلى ذاتٍ عُليا قويَّةٍ لا تعترفُ بالضَّعفِ أو الجموع، إلى إلهاميَّةٍ صوفيَّةٍ كشفيَّةٍ تعتمدُ اللُّغة وسيلةً وهدفاً في آن.
كم كان حسين مشغولاً بالكُليِّ والشُّموليِّ والعرفانيّ!
وكأنَّي بهِ في أيامهِ الأخيرةِ قد أدارَ ظهرَهُ للعِلمِ الموضوعي، واستقبلَ عِلماً آخرَ يُقْذَفُ إلى الصَّدرِ قذفاً. هذا المبدعُ الذي صاغَ هذه المقولاتِ الكُبرى، في بحثِها عن المعاني، وفي ادِّعائها بامتلاكها، دفعتهُ إلى دراساتٍ وابتكاراتٍ جديدةٍ ومغامِرة، فيها أصالةٌ حقيقيةٌ، لأنَّها انبثقتْ عن معاناةٍ حقيقيَّة.
ففي كُتبهِ النقديَّةِ الأُولى كـ"سُقوطِ الجدارِ السَّابع" و"أزمةِ الشِّعرِ المحلِّي"، اكتشفَ وكشفَ خواءَ النصّ الشِّعري المحلِّي لغيابِ المكان فيه، ولغيابِ التَّفاصيل، ولغيابِ اللَّونِ والحركةِ والصَّوت. لهذا لم يَرَ غير الأسدِ روحاً في أبي المحسَّد، لأنَّ صاحبَ السوبرمان كان حاضراً بإعجابهِ الطَّاغي بالقَويِّ الذي رآهُ في السَّيفِ الأمير، وادَّعى أنَّ الشَّاعرَ لم يَرَ النَّاسَ والضُّعفاءَ والمُرتمينَ على رصيفِ التَّاريخ. ولم يَخلِطْ المرايا لتسيلَ بهدفِ بَحْثٍ عن شكل جديدٍ بقدرِ محاولتهِ هندسةَ رؤيةٍ عقليَّةٍ أو كشفيَّةٍ إلهاميَّةٍ تمنَّاها وآمنَ بها، مثل الجَبْرِ المُفَكَّكِ الصَّادرِ عن واحدٍ فقط. ولعلَّ التَّجريبَ الشَّكلانيَّ تجربةٌ خاصَّةٌ بحسين، ولم تكنْ تجربةً مجتمعيَّة. وفي روايتهِ "الضفةِ الثَّالثةِ لنهرِ الأردن" يمكنني أن أقولَ: إنَّه كان من أوائلِ الرُّوائييِّنَ الفلسطينيِّينَ الذين كتبوا بأُسلوبٍ سرديٍّ حداثيٍّ، تداخلتْ فيهِ الأصواتُ والأزمنةُ والأمكنة، وغامرَ بتقديمِ شخصيَّةٍ لا تدَّعي البطولةَ ولا الأخلاق، وإنَّما شخصاً عاديّاً يواجهُ الكونَ منفرداً.. كان ذلك أمراً غيرَ معهودٍ في الثَّمانينيات.. ولكن هذا هو حسين البرغوثي جديداً مفاجئاً ومُبتكراً.
وحسين كان يرغبُ أن يكون شاعراً، كانت تُغريهِ هذه الصِّفةُ ويُحبُّ أن يتزيّا بها، لهذا كتبَ ديوانَهُ الرَّائعَ: "ليلي وتوبة"، وفيه أرادَ من اللُّغةِ ما تخبّئ ؛ أراد أن يُحاول إمكاناتِ اللُّغة، وأنْ يستخرجَ آخِرَ ما في النصّ. كانت القصيدةُ في هذا الدِّيوانِ جزءاً من معاناةٍ روحيّةٍ طويلة، أرادَ منها أن تكونَ إحدى الاحتمالاتِ المُمكنة، ولكن الاحتمالَ الأجمل. هذه المعادلةُ الصَّعبةُ حاولَ أن يطبِّقَها في دواوينهِ كلِّها، حيثُ القصيدةُ تَحملُ معها موجوداتِ العالمِ البصريَّةِ والسَّمعيةِ والهندسيَّة، تحاولُ أنْ تثبتَ أنَّها القصيدة الأكثرَ قُرباً من الحقيقة، ولكن حسين، ذلكَ الموسوعيَّ، الذي قرأَ وتمثَّلَ لم يتوقَّفْ عندَ هذا المقدَّسِ البَهي؛ الشِّعر، فقد كتبَ الدِّراساتِ المُبْتَكَرةَ التي لم يَسبِقْهُ إليها أحد! ففي كتابهِ "السَّادن" أشارَ بطريقةٍ فَذّةٍ إلى الرُّموز والدَّلالاتِ الكُبرى الروحيّةِ والدِّينيةِ والأَنثروبولوجيَّةِ التي حَكمتْ الإنسانَ العربيَّ قبلَ الإسلام، وأثبتَ كيف كانت على وشكِ الانهيار، وأنَّها وصلتْ إلى المرحلةِ ما قبل التَّفكك. وفي دراستهِ عن "النَّاقة" في الشِّعرِ العربيِّ الجاهليِّ أثبتَ بطريقةٍ مُعجزةٍ كيفَ أنَّ فَراغَي البحرِ والصَّحراءِ كانا أساسَ الإيقاعِ والوزنِ في بيتِ الشِّعر العربي، وربَّما كان حسين من أكثرِ الباحثينَ أصالةً في إشارتهِ إلى النَّقصِ الإيقاعيِّ في أوزان الخليل بن أحمد، من خلالِ ما أشارَ إليهِ حسين من النَّقص في التَّفعيلاتِ الطَّويلة، وتتجلَّى عبقريةُ حسين في أنَّه لم يعتمدْ على ما اجترَحهُ كمال أبو ديب أو كمال خير بك وآخرون، والذين اقترحوا نظاماً إيقاعياً بديلاً يقومُ على العلاقةِ ما بين الحُروفِ الصَّامتةِ والصَّائتهِ وعلى الحركةِ الثَّقيلةِ والخَفيفة، كما في "الفونتكس" الغربي، على اعتبارِ أنَّهم تَرجموا ومن ثم طَبَّقوا المنهاجَ الغَربيَّ على الشعرِ العربي، أما حسين البرغوثي فإنَّه ابتدعَ منهجاً معرفياً يقومُ على دراسةِ الظَّاهرةِ بشروطِها وخصوصِيَّتها من خلالِ مُتابعةِ حركةِ النُّجومِ والطَّوافِ حولَ الكعبةِ المُشرّفةِ لتأسيسِ نظامٍ إيقاعيَّ يُقارِبُ الموسيقى في الشِّعر العربي.
وفي دراساته تلك نُفاجَأُ بأنَّ حسين– رحمه الله– لم يكن يكتفي بأدواتِ المعرفةِ العلميَّة، وإنَّما كان يعتمدُ على كشفهِ وإلهامه.
في مسرحيته "لا لم يمت" كان يرغب في أنْ يملأَ العالمَ، وأنْ يملأَهُ العالم. وفي "الضوء الأزرق" رأينا تلك الرُّوحِ القلقةِ التي تبحث لها عن موقعٍ جديد، ليست بالمُرَاقِبَةِ فقط، أو المشاركةِ فحسب، بل في الخَلْقِ، أيضاً. "الضوء الأزرق" سيرةٌ جوّانيةٌ مفاجئةٌ للذَّائقةِ السَّائدة، حيث رأينا فيها الينابيعَ الأُولى للقلقِ والفنِ والمعرفة، وقدّمتْ إنساناً مفتوحَ القلبِ والعينِ على الحياةِ التي رآها مُربكةً وتستحقُّ التَّبؤرَ والانشغال، وكلّ ذلك تمّ بعُري وصراحة، وربَّما فظاظة.
أما في "حجر الورد" التي أرادَ فيها أن يصفَ إنسانَهُ الأعلى، يقول عنه، أو عن نفسه: وكأن التَّوترَ وطنهُ الأُم.
لكَ الله يا حسين هذا التَّوترَ العاليَّ الذي جعلَ منكَ هذا المبدعَ الذي نتفيّأه اليومَ أُنموذجاً للمثقفِ الأصيلِ والباحثِ على ضَوءٍ من شعاعٍ أزرقَ ؛ أكثر الأشعّةِ وأقصرِها وأنسبِها للرؤية. إننا نراكَ، فأنتَ كما هجستَ: لا لم تمت!

 
 
***


لم يكن غير غزال ذهبي بين مشهد اللوز واحتضان البيوت. جاء، على حين غرّة، من لحظة الجسدين، لكنه نَفَر كالنبضِ الحرّ، وراح يفكّك الأبنية الجاهزة حتى بات بلا مأوى.. وظلّت الجوارح المُلّحةُ داره الأبقى. وسيبقى حسين هناك في البعيد؛ في الحرف والسؤال وملح المنصّة الحلو.
قطع المسافة بين "كوبر" و"المجر" في آلاف الأسئلة والصفحات، وحافظَ على شهوة الاثنتين، ليخلق، فيما بعد، في بيرزيت الجامعة، أخوة وطلبة يحفظون له عسل أمواجه، وبساطة قلبه العميق.
وبقي كالغيمة التي تختزن بَرْقَها، يسّاقط عواصف أو ندى على كلّ الناس، دون أن يحسب مقادير التجارة، أو لمعة الثعالب المغرورة.. وظلّ الرجل يدفّ بمائِهِ دون حساب حتى انقضى شتاء الشباب، ودهمه الخريف المخاتل.
لماذا تُبَكِّرُ أيّها الوسواس المفضوح، وتقضم، على شبعٍ، رئتي الغزال المسالم؟ هل تاهت خطواتك السوداء في بستاننا المُمرع النبيل؟ أم طَلعتَ من حسرات المذبوحين الذين يرقدون تحت التلّة القريبة، في قبر جماعي صعب.
لم يكن ضوؤه أزرق تماماً، كان آدمياً مثل كل المفقودات والأساطير الطازجة، وربما كان يشبه الخبز البلدي والنشيد المدرسيّ الصباحي، ودمعة والد الشهيد.
لا يسعك إلاّ أن تُكبره وتحترمه وتحبّه كثيراً؛ لأنه يدخل عليك وقد خلع عادات الموهومين أو الباحثين عن آليات التوازن والتعويض. كان صريحاً مثل الولادة والموت، وممكناً مثل الصلوات، لا يردّ يداً بل يصافحها؛ مودةً أو إنقاذاً أو دعوة بهيّة لأيامٍ قادمة أكثر معقولية ودفئاً وحداثة.
والبطولة لا تتجلّى في احتمال نتاج فعل المرء لإحدى اختياراته فحسب، بل وفي احتمال ما تفرضه الظروف من خيارات دون شروط أو استئذان، ولعلّ حسين كان يحتمل خياراته الحرّة القليلة، لكن خيارات الدنيا كانت ثقيلة، مبهظة وممضّة على كواهل هذا الرجل الذي أعانته ثقافتة الموسوعية، وجسارة صدره، على احتمالها، دون تبرّم أو انكسار.
ولم تكن ثقافة حسين صحراوية أو موسمية، بل كانت شاملة، منفتحة، لم يبهره منبع دون آخر، بقدر ما كان يأخذها بين يديه ثم يشرب أكثرها صفاء وعافية وجدّة.
وكان حسين من المثقفين القلائل الذين لم يستلبهم بُعد واحد، لهذا لم يكن من المثقفين الآليين أو المكرورين النمطيين، المعبّأين بمعلبات جاهزة ومقولات باهرة قادمة من البعيد. كان مثقفاً يعجم ويسبر غور الكلام، ويدرك بوعي شديد أن ثمّة ثقافة محمولة على القوّة تدهم ثقافتنا وتحطّمها، وتحلّ مكانها.. لهذا كان يأخذها بحذر، وينتقي القمح من أكوام زوانها، وينبّه لما تسعى إليه من اقتلاع وعدمية.
ولعلّ أهم ما يميّز حسين، فيما كتب، أنّه أكثرنا جرأة في حقول التجريب، واجتراح مضمون يأخذ من كل مكوِّن ثقافي أكثر عروقه قوّة وبريقاً، كأنه كان يسعى لتقعيد رؤية نقدية تفتتح عهداً جديداً من تصالح كل الأشكال الإبداعية ومنجزات المعرفة البشرية.
كان، على حبّه للجدل والمساجلة، متأمّلاً، يلتقط الإبرة من بين أكوام الحطب، ولا يمانع في إشعال الحريق في تلك الأكوام الباردة، ليطرّز بالإبرة ثوباً جمالياً ناصعاً مكتملاً، منسجم الهيئة طاهر الأذيال.
التقيناه أوّل مرّة قبل ربع قرن، ولم تكن قد فارقتنا سذاجة القرى، التي يصفونها بالطيبة أو الحياء، ولأول لحظة يُحدِثُ بين أُذنيك زلزالاً إثر زلزال، ويطيح بكلّ جدران عقلك وطرق تفكيرك، ويتركك على مشارف آفاق جديدة، كانت غشاوات قد حالت دونها.. ثم تلتقيه ليشقّ حجاباً آخر.. حتى تنكمش على نفسك وتبتعد قليلاً أو تصمّ قلبك، حتى لا يأخذك إلى براريه المفتوحة الشائكة المخيفة.. وبعد شهور وأسابيع يبدأ خيط ماسيّ يمتدّ بيننا ويشتدّ، ثم خيط ثان وثالث.. حتى أصبحت بيننا شبكة متينة ومساحة مشتركة خاصة.
كان يقضي الكثير من الليالي معنا، في البيت الذي كان يضمّ خمسة من الطلبة في بيرزيت، لم نكن ننام، كان يقدّ لحم الليل بلسانه حتى ساعات الفجر، كأنني به يريد لنا أن نقطع عتمة السذاجة وضحالة المعرفة في يوم أو اثنين، أو كأنّه يريد أن يلقي من صدره كل ذلك الزجاج المطحون الذي طالما جرّحه وأدمى صدره.
كنّا مبهورين بما يقول، وكثيراً ما لجأنا إليه في شرح كثير من المساقات والمراجع.. كان كريماً متواضعاً، لا يشعرنا بتفوّقه، بقدر ما يربت بإيماءة رأسه، على تقدمنا وانفتاح الأبواب أمامنا.
كانت جامعة بيرزيت في السنوات الأخيرة من السبعينيات، بقعة مشتعلة بالفكر والوطنية والجدل الساخن المضيء، وكان الملتحق بهذه القلعة، آنذاك، يخرج وقد أُعيدت صياغته بعد صهره، وتقلّبه كالسفّود على نار التناقضات المتوازية والخلافات، وحمأة الفعل النضالي المتواصل. وهنا لا بدّ من الاعتراف بأن حسين البرغوثي قد لعب دوراً غير مباشر في تأصيل الكثير من المفاهيم، وإعادة النقاشات إلى مساربها ومربعاتها الأولى ومنطلقاتها الحقيقية، وقلّما كنت تراه دون حلقة يتكوّم حولها الطلبة والمحاضرون من مختلف المشارب والاتجاهات. غير أن الذين لا يطيقون نقاء الخلاف والحوار، ومشروعية الذهاب في عدة طرائق، وعافية أن يصل النقاش إلى ذروة السخونة والغليان المسؤول.. كانوا يبحثون عن الأخطاء التشريحية في لوحة ملابس حسين، أو كيفية تسريحه لشَعر رأسه، ليشيعوا ما يعني أن هذا المتحدّث - اللبق الناضج - هو شخص ممسوس وشاذ.. ولا ينبغي الاستماع له والإنصات لقوله. ولعلّ غرائبية هندام حسين ساعدت، أيضاً، في كسر نمط العقلاء والمبدعين.. ولم تكن هذه الغرائبية، على كل حال، تدوم أكثر من لحظات، لتنتهي بالتصالح الواعي مع جوهر هذا الرجل الإنسان.
وفي منتصف التسعينيات التقيناه من جديد، وكان قد عاد من دراسته في أمريكا.. وتواصلنا دون قصد أو تحديد، واتخذت الجلسات علوّاً أكثر نضجاً وخصوصية، نقرأ ما يكتب ويقرأ ما نكتبه.. وننصت لملاحظاته وانطباعاته.. ويأخذنا إلى كل اتجاه لينتهي كل لقاء وحسين كما هو، مثقفاً معلماً شاملاً، ومتحدثاً واسع الاطلاع، قادراً على ربط المعارف، يكثف بمقولاته ومنطوقه الجليّ معرفة تشهد له بالتميّز والفرادة.. والاحتفاء.
وقبل خمس سنوات، تنادينا لتأسيس بيت للشِعر في فلسطين، وطرحنا الفكرة على بساط النقاش مع حسين، وبحثنا كل الأمور المتعلّقة بهذا الاقتراح.. فكان حسين، كعادته، رائياً ضافياً، يمدّ ذراعيه ويفتح بوابات صدره ليكون بيت الشِعر حقيقة واقعة، وليكن واحداً من بضعة مؤسسين لهذه المؤسسة، وما صدر عنها، لاحقاً، من مطبوعات ونشاطات ومجلتي "الشعراء" و"أقواس".
في الأيام الأخيرة من مرضه، كنّا نعوده عصر كل يوم، ونلتقي هناك في المشفى، العديد من الأصدقاء والمريدين، كان قد انتفخت أطرافه، بفعل ذلك الدواء الذي يتقافز إلى ذراعه عبر أنبوب رفيع، وقد تساقط شعره، ولا تراه إلاّ وهو مربوط بثلاثة حبال لأجهزة قياس الأوكسجين ونبضات القلب وعملية التنفّس. كان قليل الكلام، شديد التركيز، حاد النظرات، لم يفقد وعيه لحظة، لكنه كان شاحباً كأنه يختنق بدمع خفيّ! لم ندرك وقتها فداحة الخسارة ووجع رحيله تلك الساعات، كانت نظرات زوجته إيمان، زائغة مضطربة، تنظر إلينا كأنها تصرخ بنا لاجتراح معجزة لإنقاذه.. كان يطيب لحسين البرغوثي أن ينادي زوجته "بترا" التي لم يبق في رأسها دمع وهي تحتضن ابنهما الوحيد "آثر" الذي كان يلثغ بأسئلته الجارحة عن معاني الموت والمرض، ويعبث، ببراءة، بتلك الحبال التي لم تسعف حسين من الاختناق بأنفاس السرطان الخبيث.
وإذا كان بعض الناس يشبهون دورة الشمس منذ ولادتها بعد الهزيع حتى وفاتها، عند سقوط قرصها الأرجواني في البحر الغربي.. فإن حسين واحداً من هؤلاء الشمسيين، غير أن غروبه أكثر عناداً من الدائرة الفيّاضة بالنهار، وإن بقاء ما تركه من كلام وألفة ومودّة لا ينطفئ في الليل، ليعود في الصباح.. لأنه باقٍ ما بقينا.
 
***




النموذج الذي قدمه لنا المرحوم الدكتور حسين البرغوثي، مثقفاً ومبدعاً وإنساناً، كان نموذجاً مختلفاً حقاً، ذلك أن هذا المثقف والمبدع كان شجاعاً بما فيه الكفاية ليذهب إلى مناطق العتمة والجدل في ثقافتنا العربية ليمزجها مع مناطق الجدل والضجيج في الثقافة الغربية ليخرج من كل ذلك برؤية اعتمدت المنهج أكثر مما اعتمدت النتائج. كان مثقف الأسئلة أكثر من مثقف الإجابات، كان مثقف الاحتمال وليس مثقف الاكتمال، كان مثقف القلق وليس مثقف السكون والركون، وكان مثقف التوتر وليس الاستكانة. لم يبهره الغرب عند رؤية كنوز ثقافته وأسئلتها وحمولاتها ولم يتعصب لمقولاتها أيضاً، فرأى الصورة بإحداثياتها الزمانية والمكانية، ومال إلى الاستبصار والاستبطان بما يشبه العرفانية الكشفية.
النموذج الذي قدمه هذا الرجل، يظل في مشهدنا الثقافي الفلسطيني نموذجاً لا ينسى ولا يمحى، فهو النموذج الجريء الذي لم ينصع لشروط اللحظة السياسية أو الموضة العقائدية ولم ينصع ولم يخضع للموروث ولا لقداسته، ولم ينقل دون تمحيص ولم يقرأ بإنبهار بل كان حراً كما ينبغي لمبدع، وسيداً كما ينبغي لمثقف.
أراد للشعر أن يعبّر عن العالم ببراءة وحكمة النص المقدس، وأراد للنثر أن ينثر بدائع الكون ثم يضمها من جديد، وأراد للتنظير النقدي أن يجمع شتات العلوم كلها لفهم الجمال العصي على الفهم.
النموذج الذي نتحدث عنه، هو نموذج المبدع الذي أضاف إلى السرد ما أضاف، وأضاف إلى النثر ما أضاف، وأضاف إلى الشعر كذلك، إذ على يدي هذا المبدع تحول السرد في روايته "السادن" إلى دفيئة تزهر بكل شيء، المتعدد والغائب والحاضر والمتواري والواضح والغامض، وعلى يديه صار النثر سبيكة ذهب وفضة، وحمل عنه ومنه المعادلة الرياضية والمعادلة الروحية، أما الشعر فقد صار معماراً من الاسمنت والزجاج والضوء والغيم والماء.
النموذج الذي نتحدث عنه، بدأ معرفياً ثم انتهى عرفانياً، قاطعاً المسافة الطويلة والمُنْهِكة ما بين البصر والبصيرة، وما بين الحس وبين الإحساس، وما بين الكشف وبين الانكشاف.
ما الذي أراده هذا المبدع، وما الذي بحث عنه؟! وكيف لنا أن نقيّم عمله في هذه اللحظة؟! أقول بإحساس شديد بالتواضع أن المبدع الكبير حسين البرغوثي من قلائل المبدعين الفلسطينيين الذي أراد من مشروعه الإبداعي أن يتحول إلى نصٍ حضاري بكل معنى الكلمة، وأعني بذلك أن يتحول النص بإحالاته ودلالاته ورموزه إلى ممثل أو إلى رامز للحظة الحضارية التي انتهى إليها ويكتب فيها، أي أراد أن يجعل من نصّه خلاصة ما وصل إليه من أفكار ورؤى ومقولات، أراد بحق أن يرد وأن يبحث عن إجابة، أراد بحق أن يحدد مواقعه ومواقفه ما وسعه إلى ذلك من سبيل، والمشكلة هنا أو الممتع أيضاً أن ما كان يصل إليه مبدعنا كان يتركه سريعاً معتقداً أن الوقوف مقتل وأن الاستكانة مجرد قبر، إذن، نحن أمام مبدع حقيقي، راحل أبداً، متطلع أبداً، يسعى إلى معبد الجمال وهيكل الفن أنّى وجد، ولأن الفكرة في حد ذاتها غامضة وعصية على الإمساك، فإن بحث المرحوم لم يتوقف، كان يعتقد أن كل ما يُفَسَّر غير جدير بالتوقف عنده، وكل ما يُحَاطُ به دليل على نقصانه، وفي ديوانه "ليلة وتوبة" يعبّر شاعرنا عن خيبة أمله من الكلمات التي يستطيع قولها ويتمنى تلك التي لم يقلها، وفي الديوان ذاته، يسأل الحجر عن عدد التماثيل اللانهائي الذي يستطيع هذا الحجر أن يشكّلها.
هذا النموذج من المبدعين يذكرنا بأولئك المتصوفة الذين جعلوا لمراتب الوجد والكشف درجات ومقامات لا تُبلغ ولا تُرتقى إلا بالجهد، وهو ما كان يعبّر عنه مبدعنا الأصيل "بقوة الروح". والجهد لا يعتمد على المعرفة فقط، الجهد هو التأمل، وهو الإشراق، وقد يكون من الغريب أن هذه الكلمة بالذات التي انحدرت إلينا من لغة المتصوف السهروردي كانت إحدى مفردات مبدعنا الكبير أيضاً.
الدكتور حسين البرغوثي، كان يعرف تماماً واقعة الثقافي والفكري، كان يعرف أنه نتاج ثقافة بشرية كونية، ثقافتنا فيها جزء من كلّ، وإذا كان لنا شرف الانتماء إليها، إلا إنها ككل ثقافة عريقة تعاني من نواقص وعيوب، وكان مبدعنا الكبير أحد الذين حفروا تحت جذر هذه الثقافة في أخص خصوصيتها وأكثرها حساسية، وقدم أفكاراً جديدة بالاهتمام والتحقق.
حسين البرغوثي، الذي نحتفل اليوم بذكراه الثالثة، لم يكن صديقاً فقط، ولم يكن معلماً فحسب، وإنما كان روحاً كبيرة، أرادت أن تستوعب العالم وأن تعلمنا كيف نستوعبه أو نفهمه أو نكتشفه بحجر من الورد المقدود من الروح والقلب وأن نرى الجمال فيه كالسائل في الأواني المستطرقة.
قدم لنا المرحوم قلقه لنتعلم منه، وعلمنا أن لا نمر على ظواهر الأشياء فنتوقف عندها، طلب منا ببساطة وحكمة أن نحدق وأن نتبصر، ليس لنعرف فقط، وإنما لنكتشف ذواتنا وأن نغير أماكننا لأن الأماكن التي لم نرها هي الأكثر جمالاً واستحقاقاً وجدارة بالمغامرة والجهد والتبؤر.
ذكرى هذا المبدع المختلف في قلوبنا دائماً، وسنظل نقول إن في هذا الوطن رجل كان بيننا أسمه حسين جميل البرغوثي، مرّ سريعاً في مساء مدينتنا، أضاء قليلاً، ثم انطفأ، لكن المساحة التي فهقت بنجومه ظلت مضاءة بعد أن غاب البرق ذاته، له الرحمة ولإبداعه البقاء.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف