الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

وَهـْـم إمـتلاك الـحَـقـيـقـة بقلم:د.عبـد القـادر حسين ياسين

تاريخ النشر : 2015-05-05
وَهـْـم إمـتلاك الـحَـقـيـقـة بقلم:د.عبـد القـادر حسين ياسين
  وَهـْـم إمـتلاك الـحَـقـيـقـة

 الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين

"إن المسلمين ضيـَّعوا دينهم، واشتغلوا بالألفاظ وخدمتها، وتركوا كل ما فيه من المحاسن والفضائل ولم يبق عـندهم شيء. هـذه الصلاة التي يصلونها لا ينظر الله اليها ولا يـقـبل منها ركعة واحدة،

حركات كحركات القرود، والفاظ لا يعـقـلون لها معنى، لا يخطر ببال أحدهم انه يخاطب الله تعالى ويناجيه بكلامه، ويسبح بحمده، ويعترف بربوبيته، ويطلب منه الهداية والمعونة دون غيره....

سألني المستر براون :من أكثر الناس جناية على القرآن؟ فقلت : ذووه وأصحابه!!"

الإمام محمد عـبده

الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، صـفـحـة  19

ثمـة شيء من الخسَّة في النقد العـربي الذي لا يعـلو كثيرا عن مستوى الاطفال والسُوقة في الرد على الخصم. لجأ لهذا الاسلوب الرخيص "قارئ مصري" (لم تكن لـديه الجرأة لـذكر إسـمه!) حاول أن يقمع حرية فكري بجمود فكره...  فقد بعث برسالة  الى رئيس تحرير مجلة عـربية (أكتب فيها  مقـالا شهريا منذ سنوات) تعـليقا على مقـال نشرته لي المجـلـة  في الشـهـر الماضي تـنـاولـت فـيـه الأسـباب الكـامـنـة وراء تـخـلـف المسـلمين  وتـقـدم غيرهـم. وانهى السـيد الفاضل رسالته بتحريض واضح لرئيس تحرير المجلة بطردي من "عملي" فـيها. راح يحثه بألا يضع المجلة ونزاهة رئيس تحريرها في دائرة "الحرج والتساؤل"... وهكذا أنهى رسالته الطويلة (التي مجـَّدت فضائل الاسلام) بالتحـريض على قـطع رزقي وقـمع حـريتي. ويريدون منا ان نطمئن على طيبة حكمهم ونزاهـتهم وديموقراطيتهم!

يا سيدي الفاضل ؛ إنني لست موظفاً في  المجلة... ولا أتقاضى فـلسـاً واحداً مقابل ما أنشـره من أبحاث ومقالات .... لقد اخـترت الكتابة في تلك المجلة لأنني أعـتبرها واحدة من المنابر القليلة التي تفـتح صدرها لقلمي ؛ فيما  تـُصر صحـف ومجلات عربية "محترمة" على أن تحـدد لي "سقف حرية التعبير" ، وأن تذكرني دائمـا بـ "المُحـرَّمات" التي لن يسمح لي بـ "الاقتراب" منهـا...

يا سيدي الفاضل ؛  رسالتك حاشدة بالأخطاء الموضوعية والاملائية والنحويـة... بالنسبة لاتهامك لي بالـمـاركـســية ؛ فهـذا شرف لا أدعـيه وتهمـة لا أنفـيهـا... وعلى الرغم من ايماني العميق بالماركسية (كنظرية علمية وفـلسفية واقـتصادية يمكن ـ اذا ما طبقت بأمانة ـ أن تكون أسـاسـا لمجتمع تسوده العدالة الاجتماعية ويشعر فيه الناس بكرامتهم كبشر) فانني أعـتز بأنني كنت واحدا من الكـتـَّاب العـرب القلائل الذين كانت لديهم الجرأة على انتقـاد السياسة السوفـييتية تجاه القضية الفلسطينية... في الوقت الذي كان فيه الكثيرين من "الرفاق" يُسبِّحون بحـمد الاتحاد السوفييتي ويعـيشون كالقياصرة في موسكوعلى حساب الكادحين السوفييت!!! 

سيدي الفاضل  ؛ من الواضح انك تـَهـرف بما لا تعـرف... وأنك دخلت ميداناً لا عـلم لك فيه. فأنت تتحدث في الاسلام وكأنك فضيلة الامـام الأكبر الدكتور محمود شلتوت (مع العلم بأنه ينقـصك الكثير من علمه الغـزير وثـقافته الموسوعية وتواضعه الجمّ) ...

أنا ، يا سيدي الفاضل ، لا أكتب في الاسـلاميات والشؤون الدينية لمحدودية معرفـتي المتواضعـة بالشريعة والـفـقه الاسـلامي ، ولأنني أحـترم عـقـل القارئ أولا ، وأحترم نفـسي ثانيا ،("رحم اللـه إمرأً عـرف قـدر نفسـه!!")  وأنت تتحاشى الكتابة في الشؤون السياسية لعدم معـرفتك بالعقـل والعـلم.

أنا ، يا سيدي الفاضل ،  لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعـت أصواتهم أو لمعـت سيوفهم، ولا أجـزع إن خـذلني من يؤمن بما أقـول ، وإنما يؤرقـني أشد الأرق أن لا تصل هذه الرسالة إلى من قـصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبادئ لا محترفي المزايدة، وقـُصـَّاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا طالبي الحـُكم...

الحديث عن الاسلام حديث دائم ومستمر بسبب تصاعد الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان العربي وأثرها السلبي في الاستقرار السياسي والاجتماعي والحضاري...

إنه حديث عن المبادئ والأطر التي تحفظ حياة الإنسان وتصون كرامته وتحترم آدميته وتفتح له الطريق للإبداع الخلاق وتدفعه للنضج والتقدم. إنه حديث عـن العـدالة الاجتماعـية التي هي الأساس والضامن لتلك الحقوق ... فبإهدار هذه الحقوق يـمسي الإنسان مهاناً ، وتتكبل كل طاقات الخلق والإبداع لديه.

والمشكلة تكمن في فرضية أولية أساسية تغييبها يبيح هذه الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، هذه الفرضية والنظرة الأساسية تنبع من مدى الاعتراف المبدئي بإنسانية المخلوق البشري . فهذا الاعتراف هو المدخل لاحترام حقوق الإنسان وبغيره تهون الحقوق الإنسانية لهذا المخلوق الراقي. وموقف الدول والأفراد من هذا الاعتراف هو الذي يحدد توجهاتها وممارساتها بشأن احترام حقوق مواطنيها ...

وخلافـا لكل ما تزعـم ، ليست هذه مشكلة فـلسفـية وإنما في عـمق أسباب انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر...  وقد أدركت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك إدراكاً جيداً عندما أصـدرت "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في العاشر من كانون الأول 1948 ، إذ اشترطت في ديباجة الإعلان أول شرط لكفالة حقوق الإنسان وهو: "الاعتراف للمخلوق البشري بصفة الإنسان بصرف النظر عن جنسه ، لونه ، دينه ومعـتقـده.." وبالرغم من ذلك فقد ضجر العالم من ممارسات الدول التي لازالت تحكمها أنظمة فردية وسلطوية وعسكرية تغالي في ممارسة القمع والعـنف ضد مواطنيها. هل هذه الدول تجهل أن للإنسان مجموعة من الحقوق الملزمة التي لا تقبل المصادرة أو التعطيل أو التأجيل بأي حجة من الحجج؟!

إن لكل إنسان ، وتحت كافة الظروف العادية والاستثنائية والطارئة ، الحق في حياة حرة كريمة وآمنة ، وله الحق في التعبير عن آرائه وأفكاره ، وله الحق في المشاركة في الحياة العامة، وله الحق في عدم التعرض للتعذيب أو معاملته معاملة حاطـَّة بالكرامة... هذه الحقوق أصيلة وإهدارها هو انتهاك ومصادرة لكرامة الإنسان وإنسانيته...

نحن بحاجة إلى نفض تلك الفكرة (التي تجعـلنا ننكر حقوقـنا ونتـنازل عنها) المتمثلة في أن حقوق الإنسان هي مبادئ "مستوردة" مفروضة من الثقافة الغربية الاستعمارية كآلية سيطرة وتدخل غير مباشر... إنه ليس بالضرورة أن نشيد بالغرب ولا أن نعاديه، فنحن دائما نبالغ في آرائنا وردود أفعالنا. فكما ارتكب الغرب أبشع المجازر ضد الإنسانية فـقـد قام أيضا بحركات سياسية واجتماعية ساهمت بشكل لا يـُنكر تأثيره في تحرير الإنسان.

واذا مـا كانت المصالح النفعـية المباشرة غالبة في توجيه السياسة الخارجية، فلا بد لنا أن نتوقف عن دور المشاهدة والاستجداء بانتظار الدعم بكل أشكاله...

ونحن  في غنى عن ذكر تفاصيل انتهاكات حقوق الإنسان في عالمنا العربي... فيكفي أن نذكر دكتاتورية الحزب الواحد في سوريا والعراق واليمن السعيد ، و"اللجـان الثوريـة" في جمـاهيريـة "الأخ العـقيـد" معمـَّر القـذافي ، وفتح المعتقلات الصحراوية في الأردن ،  و"مـدن السجون" التي أمر "أمير المؤمنين" باقـامتهـا في المغرب، وارسال الآلاف "وراء الشمس" في مصر المحروسة ، واضطهاد ليس فقط الرأي الآخر بل الرأي ذاته...

فمن يعتقد أنه يحتـكر الحقيقة يرفض الحوار مع الآخر "الجاهل الكافر"!! بل إنه لا يتحاور حتى مع ذويه من أصحاب نفس العقيدة أو نفس الحقيقة!! ومن نافلـة القـول أن التفرقة القائمة على نبذ الآخر سرعان ما تنقـلب إلى اضطهاد هذا الآخر. وهذا الاضطهاد للآخر أبعد ما يكون عن احترام حقوق الإنسان لأنه يولد الخوف ، والانسـان الخائف يهرب، يكذب، وينافق... وبالتالي هو فاقد لهويته مسلما كان أم مسيحيا...

إن حرية الرأي والتعبير ليست غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة ومقدمة أساسية لتشكيل شخصية الإنسان اجتماعيا وسياسيا. وهذه الحرية هي المدخل الأساسي لتكوين قناعة ذاتية باتجاه فكر أو آخر أو تصديق معلومات أو تكذيبها. وهي أمر يتشكل داخل الإنسان باجتهاده الشخصي للوصول للحقيقة وليس بعمليات "غسيل الـدماغ" لحقن يقينه الداخلي بقـناعة متعـسفة... فـمساحة الحرية في اعتناق الآراء مساحة تتمتع بخصوصية متميزة ، وتعتبر من مطلقات الأمور الشخصية التي يجب ألاً تخضع لأي تدخل مخل من جانب السلطات والأفراد...

والفرد إذا كان حرا في إبداء رأيه فإن ذلك من شأنه أن يوقظ في نفسه قدراته الإبداعية ويشعره بقيمته الذاتية وشخصيته المنفردة ، مما يجعـله قادر على العطاء وتحمل المسؤولية. فالإنسان الممتهن إنسان محبط عاجز عن العطاء ... وحرية الرأي تتطلب من المرء قبل أن يمارسها أن يفكر قبل أن ينطق، وأن يكون على اطلاع بالموضوع قبل أن يجزم فيه برأي، وأن يبحث ويتحرى الحقائق...فتكوين الرأي مسؤولية وليس عملا عشوائيا، فلا بد من إعمال الفكر للوصول إلى نتيجة تتسم بحد أدنى من المنطقية ، وأخيرا الإفصاح بتلك النتيجة.

وهكذا يستطيع المجتمع الاطلاع على كل الظروف التي تحيط به في صدق وأمانة وعرض كافة الآراء للوصول إلى الحقيقة ، وبالتالي التمكن من بحث القرارات بحثا مفصلا موضوعيا ومحاسبة الحاكم والمحكوم على أفعاله.... ولكي يعبر الإنسان عما بداخله يحتاج إلى تكوين هذا الداخل الفكري،ومن هنا فإن مصادرة منابع المعلومات يعتبر حجراً على تكوين الرأي بحرية ثم فتح الطريق للتعبير بحرية أيضا.

وبدون حرية الرأي والتعبير لن يكون هناك إنسان سياسي واجتماعي بالمعنى الإيجابي وإنما تسود السلبية واللامبالاة والانفصال الوجداني بين الإنسان والسلطة أو بينه وبين المجتمع عموما ، مما يؤدي إلى تراجع الإبداع الشخصي. إن حرية الرأي تبني الذات الإنسانية المتميزة فلا يقف الإنسان موقف المتفرج، فالمشاركة الإنسانية مظهر للنشاط الإنساني الذي يبدأ داخليا بتكوين رأي حر. كما أن السياسة المرتجلة لا يلام عليها الساسة وحدهم وإنما يلام عليها المواطنون الذين يتنازلون عن حقهم في التعبير عن آرائهم، فالتنازل يؤدي إلى فقدان الحريات وامتهان الكرامة الإنسانية لمجرد الاستخفاف والتقاعس عن ممارسة الحقوق ...

*******************

لقد قيلَ الكثير وكـتـبَ الـكـثـيـرفي الـصـور التي تناولت قطع الرؤوس واستباحة جسد الآخر ونزع الطابع الإنساني عنه، وآلية دور الصور في صنع الحدث وفضحه واستثماره (لا حدث بدون صورة!).

لن أزيد في الإدانة وإن كان هناك الكثير من الذي يمكن أن يضاف في هذا المجال. ما أود أن أتـنـاولـه  في هذا المقال هو الاستخدام المجحف للخطاب الديني في الدعـوة إلى القتل!

قـبـل أشـهـر بثَّ موقع "أنصار الإسلام" على الإنترنت شريطاً مُـصـوراً يظهر فيه رجال ملثمون في مواجهة الكاميرا وأمامهم يجلس القرفصاء شاب أمريكي مديرا ظهره لهم، ويداه موثقـتان إلى الخلف، وهو يرتدي ثوباً برتقالي اللون شبيهاً بملابس سجناء معسكر غـوانتانامو. في البداية يعرّف الشاب عن نفسه بصوت متهدج ويقول:"إسمي نيكولاس برغ، إسم والدي مايكل، إسم والدتي سوزان....لي أخ وأخت، ديفيد وسارة. أقيم في فيلادلفيا".

يتلو بعـدها أحد الملثمين بياناً  جاء في أحد مقاطعه الآتي:  "كيف ينام المسلم الحرّ ملأ عـينيه وهو يرى الإسلام يذبح ويرى نزيف الكرامة وصور العار وأخبار الإمتهان الشيطاني للـمـسـلـمـيـن ... فأين الغيرة وأين الحمية وأين الغضب لدين الله ؟ وأين الغيرة على حـُرمات المسلمين ؟ وأين الثأر لأعـراض المسلمين والمسلمات في سجون الصليبين؟ لقد أمر النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهو سيد الرحماء بضرب أعناق بعض أسرى بدر وقتلهم ... ولنا فيه أسوةٌ وقـدوة حسنة". فجأة ينتهي البيان ... وعلى إيقاع صيحات "الله أكبر" يخـرج الملثم خلسة من ثيابه خنجراً طويلا ويمسك بشعـر الشاب أمامه ويطرحه أرضاً ويبدأ بحزّ عـنقه في الوقت الذي يجهد رفاقه في تثبيت الرهينة المتلوية كما تثبت الشاة لحظة الذبح. وما هي إلا ثوان حتى يرتفع الرأس المقطوع في يـد الملثم ملوحاً به أمام الكاميرا.

لن أسأل هنا، كيف ينام المسلم الحرّ وهو يرى هذه الجريمة الفـظيعة ترتكب باسم الإسلام؟ فسرعان ما سترتفع الأصوات المحقة قائلة بأن الإسلام من هذه الجريمة براء. لا شك في أن الإسلام ـ كدين ـ غير مسؤول عن هذه الجرائم ، وأن هناك في الدرجة الأولى الكثير من الدوافع السياسية والاجتماعية والسلطوية التي تقف وراء هذه الأفعال والأقوال. لكن السؤال الذي يطرح نـفـسـه هو الآتي: ما هي مسؤولية الـفـقـه الإسلامي السائد اليوم في تمكين هؤلاء الناس من التـلطي وراء الإسلام واستخدامه لتبرير أفعالهم وأقوالهم الآنفة الذكر؟

لنتمعن أولاً في العلاقة اللاتاريخية التي تربط حاضر هؤلاء الناس بالماضي المتخـَيـَّل والمستعاد كلحظة تأسيسية يبدأ عـندها التاريخ وينتهي. سبائك ذهب وجـواري وأعناق مقطوعة في مواجهة طغيان المحتل! انزياح لغـوي كامل وقياس فـقـهي للأصل على الفـرع وللغائب على الشاهد. لغة مستعادة من القرون السحيقة لا كألفاظ فقط ولكن كدلالات ومعان أيضا.

كـان أسـامـة ابن لادن يتـحـدث عن "فسطاط الإيمان" و "فسطاط الكفـر" وعـن "غـزوة" 11 أيـلـول وعـن "إباحة دم النصارى واليهود" ، ويأتي قطع رأس الرهـينة تيمنا بالنبي، كما يدعي أصحاب البيان!

لنوسع ثانياً باب المقارنة وليسامحـني البعـض إذا بدا مني أي إجحاف. لكن ألا تـسـتـنـد هذه الرؤية اللاتاريخية إلى بنية في التفكير تتقاطع على المستوى المعـرفي مع الـفـقـه الإسلامي السائد اليوم؟ فإذا كان الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، وهذا في أساس أي دين، فـلماذا يدفعـنا هذا المبدأ إلى إسقاط 14 قرناً من التجربة المعاشة في إصرار عـنيد ، قائم بالدرجة الأولى على وهـم امتلاك حقيقة الفترة التأسيسية الأولى، نازعـين عـنها كل هذه القرون الحافـلة بالخيبات والآمال، والإنشقاقات ، والحافلة بكتب التفسير والأحاديث المتعارضة والمتـناقضة؟

يفتح المؤمن المصحف ويقرأ، متصوراً أن الله يخاطبه بلغة اليوم وبمصطلحات اليوم وبمنطق اليوم، متناسياً أن معاني الكلمات ودلالاتها تـتـبدل بتبدل الأزمنة والأمكنة، وأن الـعـرب كـانـوا يـتـحـدثـون اللغة العـربية قبل نـزول الوحي ، وإستمروا بالـتـحـدث بـهـا من بعده، وأن الله أكبر من أن تحـتويه دفـتيَ كتاب. فكيف إذا كان هذا الكتاب حمّال أوجه؟

يفتح المؤمن المصحف ويقرأ، متخيلا أن معاني ورهانات الـفـتـرة التأسيـسية الأولى هي ملك يديه من خلال الـعـشـرات من كتب التـفـسير التي كـتبها بشر مثله، دشـَّنوها في عـصر التدوين ولا يزالون مستمرين على المنهج والبنية المعرفية ذاتهما.

يفتح المؤمن المصحف ويقرأ، فـيـفـهم من الآيـة " وأمـرُهم شورى بـيـنـهم" أن الشورى هي الديموقـراطية بلغة اليوم، وأن كلمة "حـزب الله" التي وردت مرتين في القرآن تـشـيـر إلـى الأحزاب السياسية كما نـفهمها اليوم، وأن "الـحاكمية" تـعـنـي الحكومة الإسلامية، وأن كلمتي "الشعـب" و "الأمـَّة" كما وردتا في  القرآن تحملان ذات المعاني والدلالات المتعارف عليها اليوم. تعترض المؤمن في حياته الراهـنة كلمات مستحدثة مثل "دستور"، "إنتخابات"، "إقـتراع"، "مساواة"،  فـيـسـتـنـجـد بـالقرآن باحثاً عن معان ودلالات لهذه الكلمات.

يفتح المؤمن المصحف ويقرأ، فيخيل إلـيـه أن آية السيف ، الآيـة الـخـامـسـة من سورة التوبة التي تقول: "فَإِذَا إنسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "، تـحـرّض عـلـى قـتل المشركين أينما وجدوا و إحلال دمهم. وينسى المؤمن  (ولـعـلـه يـتـنـاسـى) أن هذه الآية أتت في ظروف تاريخـية خاصة، وكيف له أن لا يفعل؟ ما دام الـفـقـه الكلاسيكي قـد أجاز لـنـفـسه نسخ، وإلغاء، الـعـديـد من الآيات القرآنية التي تـنـص عـلى أنـه "لا إكراه في الدين" تحت حجة الناسخ والمنسوخ. فكل الآيات التي تدعـو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من مثل:

"وقـل الحـق من ربكم فـمن شاء فـليؤمن ومن شاء فـلـيـكـفـر"

" لا إكراه في الدين قد تـبـين الرشد من الغيّ"

"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"

"ولا تسبّوا الذين يدعـون من دون الله فـيـسبّوا الله عـدواً بغير علمٍ"

كل هذه الآيات هي في الـفـقه التـقـلـيـدي آيات منسوخة تقـرأ فـقـط ولا يؤخـذ بها. آيات قرآنية نسخها بشر مثلنا بآية السيف من سورة التوبة. فكيف لنا أن نستغرب بعد ذلك أن يأتي أسـامـة بن لادن ليستشهد بهذه الآية مبرراً جرائمه بقـتـل الأبرياء، ومحللا ما حـرَّم الله من قـتـل النفس البشرية بغير حق.

يفتح المؤمن المصحف ويقرأ، فـتـعـتـرضه كلمات ومعان من زمن الـوحي تخص الإماء وملك اليمين وقوامة الرجال على النساء وضرب النساء وهجرهـن في المضاجع إذا خاف الأزواج نشوزهنَّ، فـيخيل إليه أن المعاني والدلالات السائدة اليوم في تفسير هذه الآيات صالحة لكل زمان ومكان. ويغيب عن المؤمن أن الـفـقه الإسلامي لم يتجرأ مثلا على إلـغاء الرق على مدى 14 قرناً وإنما جاء إلغاءه في الـدول العربية والإسلامية بقرارات سياسية أتخذ بعضها في النصف الأول من القرن العشرين ... وقـد لا يـعـرف الكـثـيـرون أن الـرقّ في الـمـمـلـكـة الـعـربيـة السعـودية  ("مـهـبـط الـوحي" و "مـهـد الرسـالـة") لـم يـُـلـغ إلا في العام 1955؛ في حين لا يزال فقه الرقيق إلى اليوم جـزءا من الفقه الإسلامي يـُدرَّس في مـعـاهـد الشريعة ، ويعجـز رجال الدين عـن إلغائه لوجود نصوص قرآنية صريحة تخصه (ورد 15 مرة في القرآن)

وهناك كتب حديث تخـصص مكاناً واسعاً لأحكام الرق، وبالتالي يجـب إبقائه في نظر الفقهاء لأنه جزء من الدين، ولأن عـصر الرقيق قد يعود في يوم من الأيام. فالفقهاء  ـ كـمـا يـقـول الـدكـتـور محمد شحرور ـ يعـتبرون أن النبي تكلم عن الرق وأوضح أحكامه ، وبالتالي فهذا جزء من الدين، ولكنهم يتناسون أن ما حـدث في عهد النبي هو بداية لتحـرير الرق ، ولكنه ليس تحريراً للرق. إنهم يعتبرون أن ما حصل قـبـل 14 قـرنـاً هو البداية والنهاية.

ترى هل نأتي بجديد إذا ذكرنا ، مع الـدكـتـور نصر حامد ابو زيد ،  أن ألوهـية القرآن لا تمنع من القول أنه "نزل في التاريخ وهو يتفاعل مع التاريخ تفاعلا حراً وسيستمر عمله في التاريخ. القرآن يحمل ملامح القرن السابع الميلادي ليس فقط في الجزيرة العربية ولكن في الجزيرة وموقعها من العالم في ذلك الزمن (الروم والفرس). القرآن يدل على الحياة التجارية في مكة. ويدل على أديان ما قبل الإسلام، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول".

إن تاريخية النصَ القـرآني ، في رأيي الـمـتـواضـع ، لا تعـني إنكاراً لألوهـيته ولا تعـني زمنيته، لكنها تعـني بحسب أبو زيد "أن هناك أجزاء منه سقـطت بحكم التاريخ وأصبحت شاهـدا تاريخياً. أي أنها خرجت من مجال الدلالة الحـية المباشرة إلى مجال الشاهـد التاريخي. مثال ذلك تحول آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعـبرة بعـد زوال نظام الرق من حياتنا" (مقابلة مع نصر حامد أبو زيد في ملحق "النهار" ، 13 تشرين الأول 2002)

وبـعــد ؛

لـقـد آن الأوان لكي نتوقف عن استجداء احترامنا… وكرامتنا... وحقوقنا ... وشرعـتنا الإنسانية . علينا أن نفرض احترام تلك الشرعة بوعي ويقظة ، وليرفع كل إنسان منا صوته عاليا بأنه إنسان بكل ما يحمله ذلك من معان في مواجهة الجميع حكاما ومحكومين.

لـقـد آن الأوان ، بـعـد 14 قـرنـاً ،  أن نـُحرر عـقولنا من الإكراه  ونـحرر إيماننا من الشكليات. وإذا كـنا لا نغـضب بعـقـلـنا وبحـثـنـا وإجـتـهادنا، فلأن إيمانـنا ضـعـيف ، ولغـتـنـا مـتـخـشـبـة وكتب فـقـهـنا أكل الدهـر عـلـيـها وشرب.

 
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف