الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قصص "الآخرون ".. وتنويعات المتن والهامش للأديب محمد عبد الظاهر المطارقى بقلم: أحمد إبراهيم عيد

تاريخ النشر : 2015-05-04
قصص "الآخرون ".. وتنويعات المتن والهامش
للأديب محمد عبد الظاهر المطارقى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ أحمد إبراهيم عيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مزايا الاشتباك الحى المبكر والمستمر مع الشخصيات الشعبية الحاملة لصراعات الحياة وهمومها وآلامها ، أن تحتشد كل الطاقات الذهنية والوجدانية للمبدع ، وأن تتسع رؤيته لتتضمن العديد من القضايا والإشكاليات التى تموج بها حياة هؤلاء البسطاء والمهمشين .
وهناك العديد من أدبائنا الذين سخـَّروا أقلامهم للتعبير الصادق عن معاناة هذه الشريحة الهامة من مجتمعنا ، ومن هؤلاء الأدباء القاص المبدع / محمد عبد الظاهر المطارقى صاحب المجموعة القصصية " الآخرون ".. التى تحمل رقم 213 [ سلسلة إبداعات بثوبها القديم ] .. وللوهلة الأولى ، يستشعر المتلقى لهذه المجموعة ذلك التعاطف الشديد من الكاتب مع شخصيات ٍ لا يجسدها قصصيا ً فحسب ، ولكنه يستحضرها بواقعها الحى كشخصيات من لحم ودم ، يعايشها ، يتأثر بها ، ثم يترجمها فنيا ً من الهامشية الواقعية ، إلى فضاءات متنه القصصى ، لتتجلى فى خطابه السردى كنماذج لها خصوصيتها التفاعلية المُوجـِعة .
والمهمَّـشـون فى مجتمعنا ــ وما أكثرهم ــ يمثلون إدانة صارخة للضمير الإنسانى عامة ً ، وللمتسـببين فى قهرهم وظلمهم خاصة ً ، ولا يملك الكاتب الجاد إلا أن يستحضر بعضا ً منهم فى إبداعاته ، ولكن.. ليس بذلك الاحتشاد الملحوظ لهذه النماذج من المهمشين كما حدث فى هذه المجموعة ، فأغلب القصص تزدحم بنماذج من أؤلئك البسطاء المطحونين ، ومنهم على سبيل المثال : " أم توحه " بائعة الخضروات ــ " أم على " بائعة الجاز ــ " زغلول " بائع الطعمية ــ " مسعد حجر " صاحب ورشة الزجاج ــ " رجب زين " ميكانيكى السيارات ــ " أم رسمى " الخـبـازة ــ " الريس عطيه " الخفير ــ " عم كامل " المزين ــ " صباح " بائعة اللبن ..... وغيرهم . وهذه النماذج تمثل شخصيات ٍ أثيرة لدى " المطارقى " يذخر بهم عالمه ولا يُخلِص إلا لهم فى صياغتة لأحداث البنية الدرامية لأعماله القصصية . وإذا كان هذا عن رسمه للشخصيات الفاعلة دراميا ً، فماذا عن الأماكن المُحتوية لهذه الدراما الاجتماعية الشعبية ؟.. المكان لا يبتعد بحال عن طبيعة هذه الشخصيات ، ولأسباب ٍ تتعلق بصدق المعايشة من الكاتب ، لا تتجاوز حدود المكان ــ فى معظم القصص ــ ذلك الحى الشعبى المتاخم لإحدى البوابات العملاقة لذلك الكيان الصناعى العملاق ( شركة الغزل ) الكائنة بالطبع فى بلدة الكاتب العبقرية ( المحلة الكبرى ) ، وبطبيعة الحال.. فإن هذه البيئة الصناعية تفرض ــ بزحامها الطبيعى وثقافتها الخاصة ــ ومشكلات وهموم أبنائها ؛ هيمنتها على روح الخطاب السردى فى القصص ، فإذا بمعظم أحداثها تدور فى نطاقات ثلاث : 1 ــ داخل كواليس العنابر الخاصة بـ ( شركة الغزل ) . 2 ــ أمام إحدى البوابات للشـركة . 3 ــ فى منازل أهل الحى المجاور للشركة ، أو فى شوارع هذا الحى ومقاهيه . وبالطبع.. فإن الصياغة السردية هنا تشتبك فى دراميتها مع ملابسات الحياة العامة والخاصة لعمال شركة الغزل وعائلاتهم .
وروح الخطاب السردى السائدة ــ عبر النصوص ــ تشى بذلك التنوُّع المقصود فى طرح المشكلات والهموم والقضايا الخاصة بذلك المجتمع الشعبى العمالى ، فعلى مستوى الموضوعية ، نجد هذه التنويعات مابين : المشكلات الأسرية الخاصة الناشئة تحت ضغوطات الفقر والعوز ، والمشكلات والقضايا العامة المتفجِّرة من ملابسات المعاناة العمالية بالشركة ، والمشـكلات الخاصة بتطـلعات العـاملين المُحـبَـطة فى إطار تحـقـيق مسـتوى أفـضـل لأبنائهم .
وعلى مستوى فنيات الخطاب السردى ، يدخلنا السارد العليم ــ فى معظم القصص ــ إلى عالم هؤلاء البسطاء والمهمشين ، وقد أجاد السارد العليم ــ بوعيه البلاغى ــ فى انقالاته الرؤيوية ما بين الرصد المخلص لأحوالهم المعيشية ، وتغلغله أحيانا ً فى أعماق نفوسهم التى أربكتها تداعيات ظروفهم القاسية ، ولذا.. كان لابد للسارد هنا من اشتباكه الضرورى مع مستويات السرد المختلفة ، فجاء السرد الحكائىّ عن أبطاله ، مختلطا ً مع السرد المشهدى الواصف لأحوالهم وما يحيط بهم ، مختلطا ً مع السرد التفصيلىّ لبيئاتهم وأماكنهم المُميـَّزة ، مشتبكا ً مع السرد الحوارى عنهم ؛ والذى اشتمل على إشكالية ٍ صُغرى : وهى أن الكاتب آثر أن يكتب كل حوارياته بالفصحى مبتعدا ً تماما ً عن " العامية " ، مع أن الأخيرة هى الابنة الشرعية للأولى ، وأن الفصحى هى المتن الأول للثقافة والأدب و" العامية " هى الهامش الضرورى لهذا المتن ، ونحن نرى ضرورة التزاوج ما بين المتن والهامش فى الأعمال الأدبية ، فهـذا أنـفع وأجـدى .
ومع هذا المفهوم ( للمتن والهامش ) ننطلق للحديث عن بعض قصص هذه المجموعة . ولنبدأ مع قصة " عم كامل.. المُزيِّن".. و ( المِـزيِّن ) مفردة أبت ــ كغيرها من المفردات ــ إلا أن تشترك بنفس بنيتها فى المتن والهامش معا ً؛ فهى بكسر الميم فقط ( عامية دارجة ) ؛ وهى بضم الميم فصحوية بمعنى ( حلاَّق الشعر ومُصفـِّفه ) ، وعم " كامل " العامل سابقا ً بغـزل المحلة [ ذلك المتن الصناعى الهام ] أبت ظروفه المعيشية الطاحنة مع ظرفه العمالى الصعب ، إلا أن يتحول ــ رغما ً عنه ــ إلى الهامش المهنى [ الحـلاقة ] ؛ مع أن الجميع يسعون جاهدين للالتحاق بذلك المتن الصناعى ، وهو نفسه ــ رغم مرضه بالروماتيزم ودوار الرأس والغضروف ــ يحرص تماما ً على استكمال ولده لتعليمه ، حتى ولو باع نصف دوائه الذى يحصل عليه من التأمين الصحىّ حتى يصبح " عبد العزيز " مثل المهندس "مصطفى".
وقصة كامل المزيِّـن من القـصص المتـواترة فى مجـتمعـنا القائم عـلى الـظـلم الاجـتـماعـى ــ والمنجرف تحت وطأة الممارسات اللاأخلاقية على مستويات عـديدة ــ ولكن كـيـف عالجها " المطارقى " فنيا ً ؟؟ .. إن الواقع المأساوى لـ" كامل " وما يلاقيه من ظلم اجتماعى يفسد عليه حتى لحظات الصفاء والنقاء فى لقائه مع ربه .. فاستهلال القصة.. " ما إن دخل عم كامل المزين فى الصـلاة ، حتى تذكـَّر... " ونهاية القصة .." انتصب العم كامل بين الصفوف عاقدا ً يديه فوق صدره ، عيناه تنظران إلى موضع السجود . تذكَّر أم على بائعة الجاز ، هل أعطت مفتاح الدكان لأم عزيزة ؟ هل عاد ابنه من درس العلوم ؟ .. مصاريف الأسـتاذ.. التأمين الصحى ....." صـ 41 ، صـ 43.. والقصة بكاملها تقوم على ذلك التداعى الحر لتلك الهموم المسيطرة على " كامل " ومن هذه التداعيات نكتشف سر تركه للمتن الصناعىّ المُتمنـَّى ورضاه ــ مرغـما ً ــ بالهامش المهنى " دكان الحلاقة " ، وذلك.. حين يسجد فيتذكر بحرقة كيف دخل مرارا ً وتكرارا ً لمكتب المهندس " مصطفى العيسوى " تحت وطأة مرضه..
" يطلب نقله إلى أى مكان آخر بعيدا ً عن الغبار وماكينات الغزل العملاقة التى تطلق وابلها المُحرق عليه ، فيخلع ملابسه الثقيلة ويتحرك بجسده العارى أمامها ، رغم قسوة الرياح والأمطار بالخارج .. استخدم كل الأساليب .. قبَّل يد المهندس ، تساقطت دموعه ، لكن المهندس كان يبتسم قائلا ً له : إن شاء الله عندما يأتى عمال جُدد " صـ 42.. يتذكر أيضا ً كيف كان يشتكى للجميع من توالى قدوم العمال الجُدد وهو ينتظر ، ويتابع فى دهشة وتحسُّر انتقال زملائه الأحدث إلى قسم التصدير أو صيانة الزوى العمومى ، ويتذكر بلوعة أخرى حين قال له " خالد السيسى " الذى ترقى إلى درجة الموظف بعد أن ذاكر وحصل على الدبلوم وكأنه ينصحه .. " الواسـطة ياعـم كامل.. أنـت رجـل طـيـب " صـ 43..
بهذا النصح الخاطئ اجتماعيا ً ووظيفيا ً، وبهذه اللوعة التى تمنع كامل من إتمامه لخشوعه مع ربه الذى يشكو له حاله ، يبعث " المطارقى " برسالة إدانة أدبية لكل المتسببين والساكتين على مثل هذه الممارسات التى تنفى أصحاب الضمائر الحية ــ المُفتقدون للواسطة ــ من المتون المهنية الهامة إلى الهوامش الاجتماعية التى تصبح بذلك تربة خصبة للأحقاد المتبادلة بين طوائف المجتمع ، والتى بالطبع ستؤدى إلى فساد أكبر.. تحذر منه هذه القصة .
ومع استمرارية جدلية الهامش والمتن ننتقل إلى قصة ٍ أخرى بها وجه آخر من تداعيات هذا التشابك الاجتماعى القائم على ظلم الإنسان لنفسه ولمن يعول وخيانته لمسؤلياته المباشرة ، وذلك فى قصة " الـخـبـازة " التى تشغل بطلتها " أم رسمى " حَيِّزا ً ما من الهامش الاجتماعى حيث تجلس ــ تحت وطأة احتياجها ــ أمام البوابة العملاقة لشركة الغزل لتبيع لعمالها الكعك الطازج ، ومن ثمَّ فهى تتعرض لمضايقات ٍ كثيرة ومنها تحرُّش " عطية " شيخ الخفراء بها ، والذى يساومها أيضا ً على شرفها لترتقى من الهامش المرهق ( بيع الكعك ) إلى ذلك المتن المُغرى لتصبح من عاملات الشركة المتميزات ، وعندما تصده مُهينة ً إيَّاه ، يهددها بألا يتركها لحالها ، وهكذا يدين الكاتب بهذه الواقعة رجال الأمن الخونة لطبيعة مهتهم الوظيفية ومهامهم الإنسانية .
و" أم رسمى " الخبَّازة التى تعمل كمساعدة لربات البيوت فى خبيزهم البيتى.. وهذه مهنة وحالة انتهت أو تكاد من الطقوس الشعبية.. تدين مرة ً أخرى ــ بمعاناتها ــ أؤلئك الرجال الخائنين لرجولتهم، فى صورة زوجها (الدرويش) الذى جعلها كالمُعَـلـَّقة ، فلا هى أرملة ، ولا هى مطلقة ، وإنما هى زوجة مع إيقاف التنفيذ ، حيث تركها لتعول ولده ، وهام على وجهه مع أولئك البلهاء الخارجين من متن حياتهم ومسئولياتهم ، إلى هامش ٍ مدمِّر لهم ولإسرهم .
والقاص هنا لا يعرض لهذه القضية عرضا ً وجدانيا ً وفكريا ً محضا ً، ولكنه ــ بسرده الوصفى ــ يجعل المتلقى وجها ً لوجه مع شخصية حية ، حينما يستدعى الملامح الخارجية والداخلية لـ" أم رسمى " مستعينا ً بعين الكاميرا السينمائية الراصدة ، وبنبضه البلاغى الحساس ، مثيرا ً لأقصى مدىً من التعاطف مع هذه السيدة المُمتَهنة اجتماعيا ً وإنسانيا ً...
" نزعت الإيشارب الأخضر المُرصَّع بحبات الترتر الصغيرة ، فانسكب شعرها على وجهها الحزين ليختلط بملامحها ودمعاتها المتساقطة ، وهى ترفع صوتها بالدعاء.. كانت الكلمات تخرج من فمها ساخنة ملتهبة ، لتصعد إلى عنان السماء : حسبى الله ونعم الوكيل " صـ 99
ومع هذه اللوحة المشهدية البليغة ، تستنفر هذه الوظائف الفنية الجمالية ، تلك الطاقات الوجدانية التأملية للمُطالِع لها ، ليتحوَّل من التلقى السلبىّ إلى حالات التأويل المُصاحِب ، ليكتشف أن ضياع الترابط القيَمىّ المجتمعى يقوم بالأساس على حالات ٍ من الانزياح الإنسانى وسط متاهات الزحام اللاإنسانى المُتهافِت على الشهوات الحسيَّة أو الروحية دونما تعَـقـُّل .
و " أم رسمى " ليست حالة نادرة الحدوث فى مجتمعنا الذى يشتمل على الكثيرات من النساء المُعِـيلات لأولادهن ، ومن الطبيعى ــ مع الضعف الإنسانى ــ أن يتحرش بهن أصحاب الضمائر المريضة ، ولا نعتقد أن الكاتب قد ركز ــ فى نصه ــ على قضية النساء من أمثالها ، قدر تركيزه على شخصيته المحورية " رسمى " الذى يعانى من مرارة اليتم رغم وجود والده على قيد الحياة ، وعلى الرغم من أن شخصية الطفل / رسمى لم تتصدر المشهد القصصى ولم تتبدى للمتلقى إلا مع نهايات القصة ، إلا إنه كشخصية محورية ــ دارت حولها معاناة أمه بعد هجران والده لها ــ تمور بداخله تلك العذابات النفسية الرهيبة ، التى لايشعر بها إلا من ذاق تلك المرارة الخاصة ، ولذا فإن المشهد الأخير فى هذه القصة ، بما يحمله من وخزات أليمة للضمير الإنسانى ، وبما تفجـَّر فيه من مشاعر كامنة فى أعماق الطفل / رسمى ، يُعدّ من المفارقات القصصية الضاغطة بحق على مشاعر المتلقى الضمنى ، الذى أصبح جزءً لا يتجزأ من التجربة القصصية المأساوية ، التى تبلورت مع ظهور الأب / الدرويش الشارد ، الذى يحاول أن يستدرك بعضا ً من أبوته التى أهدرها ، ولكنه يفشل فى ذلك تماما ً..
" يضمه الدرويش إلى صدره ، يحاول تقبيله ، ينفلت الصغير من بين يديه ، يجرى ، يدخل الدار ، يصفق الباب بغضب ، يحمل الدرويش بقجته.. ويـذهـب " صـ 105
وفى وقفة تأملية مع هذا الانفصال الوجدانى لـ" رسمى " تجاه والده ، سنجد أن الضغط النفسى الحادث للطفل بسبب إهمال والده له ، أنتج بداخله نوعا ً ما من ذلك العنف المُتفجـِّر فى وجه أبيه ، والمُتمثـِّل فى غلقه للباب بغضب ٍ فى وجهه ، ذلك العنف التلقائى الذى ربما سيتنامى فى علاقات ٍ أسرية مرضيـَّة ، مُهلكة . وهذه الأزمة الأسريَّة المُتفاقمة.. التى أوجدها الأب / الدرويش / المهمل لأسرته ، والغارق حتى أذنيه فى ذلك الزحام المُضلـِّل لأصحاب الطرق الصوفية وغيرها ( والصوفية الحقـَّة براءٌ منهم ).. هى ومثيلاتها من الأزمات ، لابد وأن تـُصدِّر مع توابعها قضايا ومشكلات خطيرة بين الشرائح المجتمعية غير السوية نفسيا ً واقتصاديا ً. ولكن.. هل اقتصرت قصص المجموعة فى سردها الرؤيوى على الدخول إلى ذلك النفق المظلم اجتماعيا ً بمشكلاته المُماثـِلة لمآسى " كامل " و " أم رسمى " ؟؟.. لا.. فهناك رؤية معاكسة تماما ً لذلك فى قصة " الدرس ".. الذى جاء عنوانها صادما ً ــ فنيا ًــ بدرجة ما ، فهو يشى للوهلة الأولى بالنصح المباشر الذى يتنافى مع الأسلوبية الإبداعية للطرح الأدبى ، خاصة ً مع هذه المعالجات النفسية الهادئة ــ من الابن ــ لتلك المشكلات الأسرية الناجمة عن العصبية الزائدة للأب الطيب ، ومع طرحها للحلول الطريفة لمثل هذه المشكلات دونما تدخـُّل من الآخرين ، الذين يفسدون أحيانا ً أكثر مما يُصلحون ، والطـريف هـنا.. هـو تبادلية المواقع بين الابن والوالد ، فالولد يعطى الوالد ــ المعلم الأول له ــ درسا ً قيِّما ً فى أهمية المودة والرحمة التى جعلها الله آية ً من آياته للاستقرار الاجتماعى الأسرى ، والطريف أيضا ً أن الكاتب قد جعل ذلك ــ دونما مباشرة ــ درسا ً لنا جميعا ً لحل المشكلات المُماثلة . وقصة " الدرس " تقوم ــ فى بنيتها القصصية ــ على شكل ٍ من أشكال المناجزة الحوارية على حساب السرد الحكائى والمشهدى .. بمعنى .. الانسحاب الجزئى للأحداث والمَشاهـِد ، لتصبح خلفية هامة لذلك الحوار العائلى الذى يناجز فيه الابن الواعى المُنصِف ــ بمساعدة أخته وأمه ــ والده المُسِـن الذى أتلفت معاناته العملية والعائلية جهازه العصبى ، فأطلق إهاناته المستمرة فى وجه الزوجة / الأم ، الهادئة الصبور ، فيلقنه الابن ــ بهذه المناجزة الهادئة ــ درسا ً بليغا ً فى محافظة الرجال على مشاعر نسائهن اللاتى يقمن بالدور الأكبر فى رعاية أسرهم ، وهنا تأتى أهـمـية هذا الحدث المُفـتعـَل من الأبناء ، حيث يتفق الأخ وأخته مع الأم ــ بذكاء ٍ فطرى ــ على مغاضبة الأم لزوجها ، وترك المنزل للإقامة بمنزل الأخت مع إيهام الأب أنها قد سافرت عند أهلها لبعض الوقت ، والحدث هنا ، لم يقم على سرد ٍ مشهدى أو حكائى بقدر كاف ٍ ، وإنما ساقه لنا الكاتب من خلال تلك المناجزة الطريفة ما بين الولد ووالده ــ بعد افتقاد الأخير لزوجته المخلصة الوفية ــ ومنها هذا المقطع الحوارى...
" ــ قم أحضرها.. ــ لا أستطيع ، كيف ؟.. ــ قم ياولدى.. ــ "..............".. ــ سأعتذر لها ، سوف أقبل رأسها ، قم ياولدى الله يهدى قلبك.. ( مال نحو رأسى يقبلها ) ــ إعمل معروفا ً يابنى.. ــ لا مستحيل.. ــ يا ابن الكلب يا عديم المروءة.. ــ قل ما يعنُّ لك.. تريد أن تزرع فتنة بينى وبينها ، لن تهدأ حتى تشعل البيت نارا ً يا نسل الشياطين ..... إلخ " صـ 50 ، صـ 51
و" الآخرون " كمجموعة قصصية تهتم فى المقام الأول بعالم المهمشين ومشكلاتهم ، لم تغفل المشكلات والقضايا المجتمعية الكبرى ، مثل ذلك التحول الخطير إلى النمط الشعبى الاستهلاكى منذ ظاهرة الانفتاح الاقتصادى ، حيث عالج الكاتب هذه القضية بشقيها الاجتماعى والعلمى فى قصتى " طعم الكولا " و " انعكاس ".. ومثل هذه الظاهرة الأخطر المتمثلة فى سيطرة المادة على مُقدرات البشر وعلى علاقاتهم الخاصة والعامة ؛ والتى عُـولجت بتقنيةٍ حُلميَّة فى قصة " الكابوس " التى تصوِّر بشرا ً متحولين إلى كلاب ٍ تنبح فى شراسة ، عندما تسيطر عليهم شهوة الاستحواذ على المال دونما وازع من الأخلاق أوالقيم المجتمعية .
والظواهر والتحولات المجتمعية ، التى ترصدها القصص ، على مستوى البسطاء والمهمشين ، أو على مستوى القطاعات العريضة من المجتمع ، لم تكن لتتحقق على أرض الواقع ، إلا فى ظل ذلك الازدحام الرهيب المُسيطر ، المُنتج لحالات من الصراعات النفسية والمادية ، المُستنزفة للطاقات الإنسانية على المستويين الوجدانى والفكرى ، وهذه الظواهر والتحولات التى أدَّت إلى الكثير من التأثيرات السلبية على مجتمعنا ، يرصدها " المطارقى " فى نصوصه مرتكزا ً على رؤيته المعرفية ومعايشته المباشرة للشرائح المجتمعية المتعددة ، وعلى تحليلاته الأدبية الدرامية لما يصيب أمتنا من جرَّاء هذه التحولات ، وفى النهاية لا يملك إلا أن يردد ــ فى أسىً ومرارة ــ على لسان شيخه المستنير فى قصته " طعم الكولا " :
ــ أمة ٌ هـانـت عـلـيـهـا نـفـسـهـا ، فـهـانـت عـلى عـدوهـا !!!
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف