الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الإسلام وضرورة التنوير بقلم:سامح عسكر

تاريخ النشر : 2015-05-03
الإسلام وضرورة التنوير بقلم:سامح عسكر
مقدمة

في القرآن الكريم يقول الله تعالى.."وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" [البقرة : 163]..ذلك أن أصل الوجود في الإسلام واحد، هو علة الوجود ومصدر كل القيم، وعليه كان الخير في الإسلام هو العودة لذلك الأصل والمصدر، أي توحيد الله دون شريك، والدعوة للوحدة ونبذ الافتراق، قال تعالى.."إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" [الأنبياء : 92]

فالإسلام يأمر بالوحدة وعدم التشيع لأحزاب، والتواضع والزهد في حظوظ النفس والتنازل للمصلحة العامة.

لكن بعد وفاة الرسول اجتمع المسلمون في دار السقيفة لاختيار خليفة النبي، هنا بدأ الافتراق، وبدلاً من انتظار الوحي عاد المسلمون إلى ما انتهى إليه النبي قبل مماته، وحين لم يجدوا من القرآن والسنة ما يجمعهم على الرأي..شرعوا في الاجتهاد كلُ حسب رؤيته ومصلحته، فتفرقوا حتى وصلت الفُرقة أوجها في عهد الخليفة عثمان الذي اغُتيل في داره كنتيجة -متأخرة- لأول خلاف في السقيفة.

فكر المسلمين في الميزان

سنبحث أولاً في العلل والأسباب التي أدت إلى هذا التفرّق والشذوذ عن منهج الإسلام الوحدوي بعد وفاة الرسول، وهي في تقديري كلها تنبع من سذاجة العرب السياسية، فهم قوم ليسوا أهل حكمة ولا تواصل، والسلطة لديهم كانت ولا زالت تحمل معنى التسلط والوصاية والعُزلة، ويبدو أن للطبيعة الصحراوية القاسية دور في تشكيل شخصية العربي في ذلك الزمن، فلم يختلط مثلاً بحضارات الشرق الفارسي والصيني والجنوب اليمني والشمال الرومي والغرب المصري، ولولا قيم الديمقراطية والتنوير التي غزت بلاد العرب في القرن العشرين لرأينا أن ما شبّوا عليه في الجاهلية من غزو وسلب ممتلكات الآخرين باقياً حتى الآن.

هنا المحور..أن العرب كتبوا تراثهم وتاريخهم ونسبوا لنبيّهم ودينهم ما كانوا يألفونه في مجتمعاتهم من شريعة الغاب، التي جاء الإسلام بعد ذلك ليلغيها ويستبدلها بشريعة لا تعتدوا ولا إكراه في الدين، وتقرير حق الملكية وتحريم كل عمل يصادر هذا الحق، حتى لو كانت هذه الألفة ضد مصالح الآخرين، حتى لو كانت ضد الإسلام نفسه كدين، الأهم هو تميّز العرب وارتقائهم عن سائر البشر، وهذه النزعة ملأت كُتب التراث ..سواء كانت تاريخ أو حديث أو تفسير ، تشعر معها بتفرّد الجنس العربي ولغته وثقافته وسيادته، ربما لأن وقت صياغة هذا التراث كانت في حقبة أموية اتسمت بالشعوبية وإعلاء النزعات القومية، مرتكزين فيها على دليلين اثنين، الأول هو أن نبيهم عربي خاتم الأنبياء، وهو لديهم تشريفُ للجنس، الثاني هو نزول القرآن بلغتهم وهو تشريفُ ثانٍ للغة، ثم تعمقت قناعاتهم بتفردهم بعد انتصاراتهم العسكرية وغزوهم للشرق والغرب.

في هذه الأجواء كَتَبَ العرب تراثهم، وتأثروا بخلافاتهم السياسية التي سبق وقلنا أنها غير ناضجة، فظهرت أحاديث وروايات وأخبار تدعم كل فصيل ضد فصيل آخر، وتبعاً للتطور تحولت هذه الفصائل السياسية إلى مذاهب كاملة لها آراء في مختلف الجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية..إلخ، فظهر لدينا السنة والشيعة والخوارج، وظهرت المعتزلة كجناح عقلاني متمرد على هذا الوضع، وظهرت فرق ثورية أخرى كالزنج والقرامطة والحشاشين كرد فعل على القمع الاجتماعي.."ثورة الزنج"..والقمع الديني.."ثورات الحشاشين والقرامطة والفاطميين"..ثم تكونت دول تمثل هذه المذاهب كالبويهية والعبيدية والحمدانية والقُرمطية، ومع ذلك ظلت الدولة المركزية في بغداد وخليفتها العباسي رمزاً مختلفاً عليه بين المسلمين إلى أن جاء التتار وقضوا على هذه الدولة.

هذا يعني أن كُتب التراث تمت صياغتها لتوافق رأي السلطان وذوي النفوذ، وليست لتوافق أهل الحكمة..نظراً لشيوع فكرة الغزو وسيطرتها على عقول الحكام والعوام ، ولأن التراث ينضح بالفكر الأحادي والتوجه الإقصائي والقدح في كل معارض انتقلت هذه الرؤية كوسيلة عند الحديث عن أي فرقة من فرق المسلمين، فالشيعة رافضة لا يُقبل منهم صرفاً ولا عدلا، والسنة ناصبة أعداءُ لآل البيت، والأشاعرة جهمية مرتدون، والسلفية مشبهة كفار، والمعتزلة قدرية ، والأحناف مرجئة على ضلالٍ وبدعة، رغم أن القرآن حذّر من هذا الوضع المذري، وحذّر دعاته ورموزه بقوله.."شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "..[الشورى : 13]

وهذا يعني ذماً وقدحا شديداً في التفرّق في الدين وما يُصاحبه من أحكام معلبة وكراهية وطائفية وكذب على الله وأنبيائه، كذلك هو تنكر لكل دعاوى المصلحين والحكماء الذين وضعوا كل الخلافات الدينية تحت سقف الدليل، فلك الحرية أن تعتقد ما تشاء ولكن أن تكون لك الحجة المنطقية التي تُبرر لك هذا الاعتقاد، وهذا يتنافى تماماً مع شيوع مذهب أهل الحديث وروايات الكذابين وما جاء فيها من تشويه للنبي ، وقد ذكرناً بعضاً من ذلك في حلقات منفصلة في كتابنا الأخير.."رسائل في التجديد والتنوير"..مصحوباً بردود عقلية وشرعية وتاريخية على مزاعم البخاري وطائفته في العدوان على النبي وعلى الآخر بالعموم.

كان ذلك رصداً لواقع المسلمين والعرب بصفتهم حاملي الرسالة، ولم يأتِ هذا من فراغ، فعندما يشتهر عند السنة أن الصحابي قد رضي الله عنه فهذا إسقاط لنص ديني على واقع سياسي، فيجري توظيف تلك النصوص في الدفاع عن شخوص باعتبارهم مقدسات وخطوط حمراء، ونفس الأمر عند الشيعة أن الله عصم الأئمة من نسل عليّ، وفي السطور القادمة سنعرض بعض هذه النصوص المعتمدة لدى المذهبين.

أولاً: النصوص المعتمدة عند السنة في منزلة الصحابي:

1-روى البخاري من حديث البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ » [متفق عليه].

2-روى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ »

3-روى مسلم من حديث علي بن أبي في قصة حاطب بن أبي بلتعة أن عمراً قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» [متفق عليه].

4-روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ ».

5-روى الطبراني بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» [رواه الطبراني، وصححه الألباني].

ثانياً: النصوص المعتمدة عند الشيعة في منزلة آل البيت:

1-روى مسلم في صحيحه من حديث يزيد بن حيان وزيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: " وأنا تارك فيكم ‏ ‏ثقلين ‏ ‏أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي"..[صحيح مسلم]

2-روى أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال.." من عرفني فأنا من قد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول : ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك".[مسند أحمد]

3-روى البخاري في صحيحه من حديث جابر ابن سمرة قال.." ‏سمعت النبي ‏ - صلى الله عليه وسلم – ‏ ‏يقول ‏ ‏يكون اثنا عشر أميرا ‏فقال كلمة لم أسمعها ‏ ‏فقال ‏ ‏أبي ‏ ‏إنه قال ‏‏ كلهم من ‏قريش " [صحيح البخاري]

4- روى أحمد في مسنده من حديث علي بن أبي طالب قال.." قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- النجوم أمان لأهل السماء ، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض "[مسند أحمد]

5-روى الحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث زيد بن أرقم قال.." إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله تعالى وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : إن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"[مستدرك الحاكم]

ليس هذا فقط..النصوص كثيرة ومعتمدة لدى السنة والشيعة،وكلها تدور في إطار خلط الدين بالسياسة، عن طريق أداة واحدة وهي مدح وتقريظ جماعات وأفراد معينين اشتُهِروا بصراعهم على السلطة بعد وفاة الرسول، ولم يأتِ مع تلك النصوص دفاعات عقلية وشرعية وسياسية يمكن اعتمادها كفكر سياسي، مما يعد دليلاً على أن تلك الروايات ظهرت في ظل هذا الصراع، وأن لا علم للنبي بها، وأن كل ما رُويَ كذباً كان بغرض التوظيف ، وأن شهوة الحياة والسلطة لديهم اقتضت السير في هذا التيار دون دراية بعواقبه على أنفسهم ونسلهم بعد ذلك، وما نراه الآن من حقد أعمى وطائفية مقيتة وعمى إدراكي لهو دليل على أن الأزمة لدى الفريقين مستفحلة، وقد ينجم عنها هلاك الملايين طيشاً دون رؤية عقلانية تضع الآخر في موقعه الصحيح.

هذا الموقع الصحيح يجب أولاً لتحصيله عقد عمليات مراجعة شاملة وجذرية للتراث الديني في الطائفتين، وإقرار تنازلات مبنية على واقع مغاير لما وُجدَ في هذا التراث، فقديماً لم يكن التواصل متوفراً كما عليه الآن، فمرض المسلمون بأمراض شبيهة لما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى ، أي قبل هذا الانقلاب التنويري الذي طرأ عليها بعد عصور التنوير والنهضة، وأن المطلوب هو العودة لعقلية الطفل وسجاياه من التفكر وحُسن النية والبُعد عن التعقيد وحُبّ الحياة وتعميم ثقافة العيش والإعمار، أي العودة إلى الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ثم بغيّهم وضلالهم شردوا عن الحق كل حزبٍ بما لديهم فرحون.

فالطفل لا يعي مثلاً تلك التأويلات المجحفة والأخبار الكاذبة في التراث، وإن كان يُعاني من صفة التقليد والترديد إلا أن لديه سلام روحي يكفي لشيوع الخير في البرية.

فالتراث ليس مجرد نصوص مجردة وميتة ،بل هو منهج بشري أدى بالمسلم إلى تحريف القرآن وليّ أعناق نصوصه إلى حيث يرى من كراهية وعدوان وتسلط، ونظرة سريعة إلى كُتب التفاسير سيرى الحض على الكراهية والعنف والإعلاء من النزعات السياسية والدينية والاجتماعية، بحيث إذا رأى نصاً قرآنياً يخالف هذا الاتجاه يُسارع بتأويله، أو يقرنه بصحة ودلالة نصوص أخرى، وكأن النص في ذاته لا يكفي لبناء فهم واحد، مما يشي بأن القرآن هو مجموعة من الألغاز نزلت على قوم من الأغبياء..!

وقد تناقل المسلمون هذا التراث وتلك النزعات حتى وصلت إلى ما نحن فيه من عصر يُشبّهه البعض بعصور الشك في أوروبا، بدلالة شيوع الإلحاد بين شباب العرب وتقارير وجوده كفكرة قادرة على التنظير والدفاع عن نفسها، بعدما اعتقد العرب لقرون أن الإلحاد هو مجرد هرطقة لا قرائن لها ولا حُجج..لا يقع فيه إلا المجانين والمرضى النفسيين، ويرى هؤلاء أن تطور ميادين العلم وشيوع التواصل بين الشعوب أدى لظهور منهج بحثي ذاتي في منتهى القوة، أي ليس موجهاً ضد دين بذاته بل إلى فكرة التدين بشكلٍ عام.

ومع السلبيات التي قد ترافق هذه الظاهرة الإلحادية إلا أن ما جاءت به من شك استطاعت أن تكسر الجمود الديني وتطعن في المسلمات كمقدمة لثورة فكرية شاملة على الموروث، وإيماناً أن كل فكر يخلق نقيضه ظهر تيار ديني يتبنى فكرة الثورة على الموروث ولكن يدافع عن التدين وقيمه، وهذا يعني حدوث صراع فكري تنويري بأشكال متعددة، في الغالب لا يبحث عن إجابات قطعية ونهائية ولكن يبحث في صحة وسلامة المنهج لذاته، وربما كان ذلك نتاجاً لما وصلت إليه الفلسفة بعد عصر الحداثة، فالحداثة تحدت وانتفضت للوصول إلى إجابات قطعية، أما بعدها عاد الإنسان للبحث في صحة وسلامة المنهج بتقرير أن لكل فكرة ظروف خاصة منتجة لا يشترط صحتها لذاتها بل هي صحيحة ولكن صحيحة نسبية.

وهذه إحدى نتائج ثورة إينشتاين في الفيزياء التي أعادت فلسفة العندية إلى الواجهة والإيمان بالديمقراطية وقيمها وآلياتها، والعندية تعني أن الفكرة قد تكون صحيحة ولكن ليست بشكل دائم أو مطلق، وهو ما يصفه العنديون بأن ما هو صحيح عندي هو خطأ عندك والعكس، وبالتالي بحث المفكرون عن الأسلوب الأمثل للتعايش تحت سقف العندية فلم يجدوا سوى الديمقراطية وسلطة الشعب.

ومن معالم ما بعد الحداثة هو الاهتمام بالاقتصاد ورأس المال وقيم السوق، فزاد الاهتمام بالمادة وتراجع الاهتمام بالفكر وبالأديان، وبعدما كان الفكر أكثره ميتافيزيقي يبحث في الماورائيات انتقل الفكر إلى الإنسان نفسه، وزاد الاهتمام بهذا الكائن فنشأت وشاعت علوم النفس والطب النفسي وتشريح العقل والذاكرة ، وأصبح الكلام في الميتافيزيقا هو ضياعاً للوقت وللمجهود، وكأن ثورة الفيلسوف الألماني.."إيمانويل كانط"..(ت1804م) على الميتافيزيقا أتت بثمارها، وأصبح الاهتمام بالأديان والتنظير لها هو فلسفة فارغة لا تهتم برأس الإنسان وحياته.

إن ما حدث قد شكّل ضربة قوية للمسلمين أدّت إلى ما يُعرف.."بصدمة الحداثة"، فهم في عُزلتهم العربية وجهلهم بما يدور في العالَم لا زالوا يعتقدون أن ما هم عليه من أفكار وقيم وأيدلوجيات هي حقائق مطلقة في ذاتها لا تقبل الشك، فخلطوا بين الدين لذاته وبين رؤى المتدينيين، فتم استدعاء التراث إلى الواجهة بفضل أموال النفط السعودية ونشر المذهب السلفي، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، وانتشرت كل العقائد والأمراض التي عانى منها السابقون، وجاءت الطائفية بأطلالها وكوارثها تُهدد شعوب ومجتمعات العرب، بعدما ظنّ البعض أن حكايتها في الماضي هي على سبيل العِظة، وأن فرصة تكرار ذلك لم تعد ممكنة.

هذا الخطأ في التعاطي العربي مع الحداثة ناتج عن الطوباوية وأحلام المُدن الفاضلة التي أشاعها رجال الدين، وأسست ما يُعرف بخطية التاريخ أو بلفظ آخر حتمية التاريخ، ومعناه أن البشر يسيرون إلى غاية محددة ، ولأن التراث -الذي جرى استدعائه تحت ضغط الحداثة والتمرد على الحضارة الغربية- يقول بالخلافة والدولة الإسلامية شاع بين المسلمين أن ما يحدث من صراعات وحروب هو مقدمة لعودة تلك الخلافة بخيرها وجِنانها التي وعد بها رجال الدين، فظهرت جماعات الإخوان والسلفيين وانتشر الفكر الوهّابي حتى غزا الأزهر المشهور بقلعة الصوفية الأشعرية، وجرت عمليات وهبنة وأخونة لكل مفردات وعناصر المجتمع ومؤسسات الدولة.

لكن على ما يبدو أن الحضارة لا زالت تفرض نفسها ، فحدث صراع عنيف بين تلك الحضارة والوهّابية السلفية جرت أحداثه في كل الدول المعروفة بدول.."الربيع العربي"..فالحضارة لا زالت في وعي وضمير الناس وتكره كل مفردات الوصاية الدينية والتطرف الفكري، فكانت النتيجة هي ما نراه الآن من صراع بين الدولة-كمؤسسة حضارية-وبين الجماعات الوهابية-كداعش والإخوان- وهذه الوهابية هي النسخة الدينية للأناركية والنزعات الفوضوية، كليهما يعاني من الفاشية المصحوبة بآمال ورغبات طوباوية تُنكر ما آلت إليه الحضارة من تفكير نسبي.

هذا التفكير النسبي لا يعترف بتراث المسلمين المبني على بيعات ونصوص لا مرجعية فكرية لها سوى هوى المذاهب والمتعصبين، كمثال ما حدث من بيعة الخلفاء الأربعة ونهاية حُقبتهم على أيدي الأمويين، هذه الحقبة التي تطارد حتى الآن خيالات المسلمين وأحلام المتدينيين وأنصاف المثقفين، لم يعوا مثلاً أن ظهور العباسيين والمماليك والعثمانيين وأي جماعة دينية كان بدافع واحد تكرر منذ سيطرة معاوية على السلطة ، ألا وهو الخلافة ووراثة الحُكم كممثل وحيد ومطلق عن الله، فلم يعد مقبولاً فكرة التعدد التي سبقهم إليها فلاسفة اليونان ونُظرائهم في مصر، وتحوّلت السياسة من أداة للتعايش والتفاهم إلى أداة للوصاية والقهر.

أخيراً: أتصور أن التحدي الرئيسي عند المسلمين ليس فقط النظر في النصوص والتراث، ولكن أيضاً في تصور منهج ذاتي واضح، وأعني به تصور.."العقلانية"..فممارسة الحقوق ستتعارض حتماً مع الأخلاق والسياسة، وهذا يعني أن النقد الذاتي ضرورة يلزمها منهج بديل يُبحث فيه على التوازي، فالدولة في أذهان العرب والمسلمين تسري بأحكام الحضارة والقانون الدولي وليس بقناعات المسلمين أنفسهم، وهذا يعني أنه لو توفرت فرصة واحدة للتخلص من هذه الحضارة والردة إلى .."اللادولة"..أو.."الدولة الدينية"..سيرتد المسلمون بتحريض وسيطرة رجال الدين الذي تحاول تيارات التنوير والنقد الفُكاك من سلطتهم هذه الأيام.

خاتمة

إن المسلمين في حاجة إلى تغير جذري يجعل من دينهم مواكباً للعلم والحضارة وإلا فالإسلام نفسه في خطر، حتى الآن فشل المسلمون في تحقيق هذا التغيير، وينزع بعضهم إلى الانتقائية بتفصيل الدين على مستجدات العلم، كمن يُحاول تفسير الدين في ضوء نظرية التطور مثلاً، أو في ضوء نظريات إينشتاين والانفجار الكبير وميكانيكا الكم، وكأنها مواجهة بين العلم والدين، وليس بين أفهام المسلمين القاصرة والرجعية وبين الحضارة، سيقودهم ذلك إلى تصوّر جديد للدين يُحقق معاني الوحدة التي أمروا بها، ويتخلصون فيه من رواسب التراث ونتائجه الوخيمة على حياتهم.

وستُصبح مسائل الصحابة وآل البيت قضايا تاريخية تأخذ صفة التاريخ بظروفه، وهذا يعني عدم جواز استدعاء هذه المسائل الآن، والاهتمام أكثر بالإنسان المعاصر الذي هو عماد الأديان في فهم المتدينيين، وعماد الحضارة في فهم البشرية.

فليس مقبولاً أن ينحصر فهم الإسلام داخل حقبة زمنية يفشل من الفُكاك منها، ويتصف بكل صفاتها من الفوضى والفتنة والكذب والصراعات والجرائم، فلو أراد المسلمون حينها الدفاع عن الإسلام لن يجدوا نموذجاً تجريبياً يصلح للقياس عليه، وسيلجأون-كعادة الطوباويين-إلى التنظير الفلسفي العقلي المتأثر بالميتافيزيقا، بينما البشرية لا تهتم بالميتافيزيقا الآن، وهذا يعني عُزلة فكرية للمسلمين عن الواقع ومزيد من الفشل، فالدين إن لم يكن تجريبياً وواقعياً فمصيره إلى زوال.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف