الحلقة الثامنة
مشوار حياتي..
(سيرة قلم فلسطيني)
[الجزء الأول] 1948ـ 1970
ـــــــــــــــــ
ذكريات بعيدة... 3
ولعلّ تلك الظروف القاسية التي مرت بنا هذا العام 1951 وما قبله ـ رحلة الهجرة ـ هي ما عبّرت عنه فيما بعد شعراً من قصيدة بعنوان(عودة الربّان) قلت فيها: .. وإن تقلبْ على الصفحات تاريخي..
تجدْ أني أنا النكباتُ جدّك يا فلسطيني!
وأنّ أباك إعصارٌ وأُمّك نار!!
وأنهما أقاما الكوخ من شوكٍ ومن طينِ..
ويوم ولدتَ يا ولدي على كوخك
أتى اَلإعصار..
وراح لسانه في الحال
يزفّ بشائر الميلاد .. للبركان والزلزال
ليحتفلا بميلاد الرحيل وكانت الخيمة
وكانت تجمع الجدّة
مع العمّ مع العمة!
مع الأحفاد!
ومرّ الصيف بالبركان..
ظننّا أننا بأمان!
فجاء شتاء..
بريحٍ صرصرٍ طارت
بخيمتنا مع الأوتاد
وشدّتنا على الأشطان
وحطّت بالجميع على مسايل واد!
***
هذا كان التعبير الشعري المجازي عن ذلك الواقع، أما التعبير الحقيقي بالوقائع فيقول: إنها شدتنا إلى الدكان.. ثم حطت بنا في دار حمدان.. الدار التي مكثنا فيها ما يقرب من سبعة أسابيع.. ولا أزال أذكر مكان ذلك الحمار من باب الدار، وكيف داعبني يوماً بينما كنت أهمّ بالدخول حيث فتح فاه الكبير وحاول أن يدخل فيه وسطي الصغير.. لولا أنني رجعت للوراء سريعاً والخوف يكاد يقتلني.. ربما حسبني بعض الطعام الشهيّ له! وكان فناء الدار مرصوفا ببلاط من المقاس الكبير، فكنت أنا وأخي وأختي التي تكبرني نتخذ منه ملعباً لما يسمّى بلعبة (الحجلة) وكانت أختي غالباً ما تغلبني في هذه اللعبة التي هي للفتيات أصلاً.. وكنت أُصرّ على مواصلة اللعب معها كي أحقق نصراً بعد غَلب.. لكنها كانت ترفض المواصلة مكتفيةً بما حققت من مرات الغلب؛ فيشتعل منها غضبي ولا يتبدد إلا إذا جعلت أرمي بحجارة اللعب إلى فوق بأقصى ما عندي.. فتقع على بيوت الجيران حتى اشتكوا إلى والدنا؛ فصار يأخذني وأختي معه إلى الدكان منذ الصباح، ولا نعود إلا في المساء وحدنا، بينما يتابع هو البيع في الدكان إلى ما بعد العشاء.. وكان في الدار كلب حراسة يترك أحياناً في الفناء غير مربوط! فكان ينبح علينا ويخيفنا كلما عدنا! ولا نخلص منه إلا بشق الأنفس والخوف يملأ قلوبنا؛ حتى جاء يوم وكاد يعضني بالفعل؛ فتولّد في نفسي وعند أُختي خوف شديد منه؛ حتى أصررنا في اليوم التالي على عدم العودة وحدنا للدار! فأغلق والدنا الدكان منذ المساء واصطحبنا في العودة.. وهناك أحضر خبزاً وأعطى كلاً منا جزءاً وأمرنا أن نفتّه أمام الكلب؛ فيأكله من أيدينا ويصبح أليفاً لنا ولا يعود يتعرض لنا بأذى.. فما عاد!
مكثنا في هذه البيئة الجديدة حتى الثامن من شهر فبراير/شباط 52 حسب ما قرأت من مذكرات والدي.. حيث استلمنا خيمةً جديدة بدلاً من التالفة، وأقمنا فيها من جديد.. ولا أعلم كيف قضى أعمامي وجدتي تلك المدة. وكان أبي يحظر عليّ وأخي اللعب خارج فناء الخيمة السابق وصفه، إلا إذا كان ذلك أمام دكانه المواجهة للخيمة من جهة الشرق؛ وذلك لئلا نسبب له المشاكل مع الجيران أو نختلط بمن يفسد أخلاقنا من شياطين الأولاد.. لكنّ مثل هذا النشاط المراقب من سلطة الوالد كان لا يتيح لنا حريّة اللهو بما يلهو به الأطفال في سننا وأهمُّه صنع الطائرات الورقية.. لذلك كنت أنا وأخي نُعدّ الطائرة ونقف عند الباب الجنوبي للفناء، حتى إذا صادفنا غفلةً من أبينا بينما يبيع أحد الزبائن أو يقرأ في كتاب.. جريت مسرعاً بالطائرة بعيداً عن مرآه.. ومن ثمّ يتبعني أخي ونطلق الطائرة.. ونظل في لهونا ولعبنا بعيداً عن رقابة والدنا حتى نشبع! ثم نعود للخيمة بنفس الطريقة التي لا تجعله يرانا!
كانت الريح إذا ثارت كشفت عن خبايا سطح الأرض؛ فكنا ننطلق سائحين حول الخيمة وما وراءها لجمع الأشياء الصغيرة التي تهديها إلينا الريح، ونستغلها في اللعب وصنع البيوت والدكاكين الوهمية.. فما كان أسعدنا ونحن أطفال؛ لم نشعر بعد بقسوة النكبة وحياة اللجوء!!
ــــــــــــــــــــ يتبع
مشوار حياتي..
(سيرة قلم فلسطيني)
[الجزء الأول] 1948ـ 1970
ـــــــــــــــــ
ذكريات بعيدة... 3
ولعلّ تلك الظروف القاسية التي مرت بنا هذا العام 1951 وما قبله ـ رحلة الهجرة ـ هي ما عبّرت عنه فيما بعد شعراً من قصيدة بعنوان(عودة الربّان) قلت فيها: .. وإن تقلبْ على الصفحات تاريخي..
تجدْ أني أنا النكباتُ جدّك يا فلسطيني!
وأنّ أباك إعصارٌ وأُمّك نار!!
وأنهما أقاما الكوخ من شوكٍ ومن طينِ..
ويوم ولدتَ يا ولدي على كوخك
أتى اَلإعصار..
وراح لسانه في الحال
يزفّ بشائر الميلاد .. للبركان والزلزال
ليحتفلا بميلاد الرحيل وكانت الخيمة
وكانت تجمع الجدّة
مع العمّ مع العمة!
مع الأحفاد!
ومرّ الصيف بالبركان..
ظننّا أننا بأمان!
فجاء شتاء..
بريحٍ صرصرٍ طارت
بخيمتنا مع الأوتاد
وشدّتنا على الأشطان
وحطّت بالجميع على مسايل واد!
***
هذا كان التعبير الشعري المجازي عن ذلك الواقع، أما التعبير الحقيقي بالوقائع فيقول: إنها شدتنا إلى الدكان.. ثم حطت بنا في دار حمدان.. الدار التي مكثنا فيها ما يقرب من سبعة أسابيع.. ولا أزال أذكر مكان ذلك الحمار من باب الدار، وكيف داعبني يوماً بينما كنت أهمّ بالدخول حيث فتح فاه الكبير وحاول أن يدخل فيه وسطي الصغير.. لولا أنني رجعت للوراء سريعاً والخوف يكاد يقتلني.. ربما حسبني بعض الطعام الشهيّ له! وكان فناء الدار مرصوفا ببلاط من المقاس الكبير، فكنت أنا وأخي وأختي التي تكبرني نتخذ منه ملعباً لما يسمّى بلعبة (الحجلة) وكانت أختي غالباً ما تغلبني في هذه اللعبة التي هي للفتيات أصلاً.. وكنت أُصرّ على مواصلة اللعب معها كي أحقق نصراً بعد غَلب.. لكنها كانت ترفض المواصلة مكتفيةً بما حققت من مرات الغلب؛ فيشتعل منها غضبي ولا يتبدد إلا إذا جعلت أرمي بحجارة اللعب إلى فوق بأقصى ما عندي.. فتقع على بيوت الجيران حتى اشتكوا إلى والدنا؛ فصار يأخذني وأختي معه إلى الدكان منذ الصباح، ولا نعود إلا في المساء وحدنا، بينما يتابع هو البيع في الدكان إلى ما بعد العشاء.. وكان في الدار كلب حراسة يترك أحياناً في الفناء غير مربوط! فكان ينبح علينا ويخيفنا كلما عدنا! ولا نخلص منه إلا بشق الأنفس والخوف يملأ قلوبنا؛ حتى جاء يوم وكاد يعضني بالفعل؛ فتولّد في نفسي وعند أُختي خوف شديد منه؛ حتى أصررنا في اليوم التالي على عدم العودة وحدنا للدار! فأغلق والدنا الدكان منذ المساء واصطحبنا في العودة.. وهناك أحضر خبزاً وأعطى كلاً منا جزءاً وأمرنا أن نفتّه أمام الكلب؛ فيأكله من أيدينا ويصبح أليفاً لنا ولا يعود يتعرض لنا بأذى.. فما عاد!
مكثنا في هذه البيئة الجديدة حتى الثامن من شهر فبراير/شباط 52 حسب ما قرأت من مذكرات والدي.. حيث استلمنا خيمةً جديدة بدلاً من التالفة، وأقمنا فيها من جديد.. ولا أعلم كيف قضى أعمامي وجدتي تلك المدة. وكان أبي يحظر عليّ وأخي اللعب خارج فناء الخيمة السابق وصفه، إلا إذا كان ذلك أمام دكانه المواجهة للخيمة من جهة الشرق؛ وذلك لئلا نسبب له المشاكل مع الجيران أو نختلط بمن يفسد أخلاقنا من شياطين الأولاد.. لكنّ مثل هذا النشاط المراقب من سلطة الوالد كان لا يتيح لنا حريّة اللهو بما يلهو به الأطفال في سننا وأهمُّه صنع الطائرات الورقية.. لذلك كنت أنا وأخي نُعدّ الطائرة ونقف عند الباب الجنوبي للفناء، حتى إذا صادفنا غفلةً من أبينا بينما يبيع أحد الزبائن أو يقرأ في كتاب.. جريت مسرعاً بالطائرة بعيداً عن مرآه.. ومن ثمّ يتبعني أخي ونطلق الطائرة.. ونظل في لهونا ولعبنا بعيداً عن رقابة والدنا حتى نشبع! ثم نعود للخيمة بنفس الطريقة التي لا تجعله يرانا!
كانت الريح إذا ثارت كشفت عن خبايا سطح الأرض؛ فكنا ننطلق سائحين حول الخيمة وما وراءها لجمع الأشياء الصغيرة التي تهديها إلينا الريح، ونستغلها في اللعب وصنع البيوت والدكاكين الوهمية.. فما كان أسعدنا ونحن أطفال؛ لم نشعر بعد بقسوة النكبة وحياة اللجوء!!
ــــــــــــــــــــ يتبع