الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العاصفة بقلم:نائله أبو طاحون

تاريخ النشر : 2015-04-24
"العاصفه"

سألت والدتي ذات يوم عن المدة التي أمضوها في الخيام بعد النكبة كم يوما وكم شهرا...صدمتني إجابتها عندما قالت لي أنها تجاوزت العشرة أعوام. ورحت أفكر وأتساءل - وأنا التي تنعم الآن ببيت وسرير وغطاء دافئ وأشياء كثيرة- كيف كانت حياتهم؟وما حجم معاناتهم؟وما الذي يدور في عقولهم من أحلام؟ ألهمتني إجابتها قصة "العاصفة " فسطرت من خلالها جزءا من معاناتهم .
" العاصفه"

اشتد وميض البرق، وارتفع صوت الرعد مهددا متوعدا،وانتحب صوت الريح.كان الجو ينذر بعاصفة قوية، فالغيوم تسرع الخطى، تلتحم مع رفيقات لها كجيوش يسمع صوت اقتتالها رعدا ووميض سيوفها برقا، وفي الجانب الغربي ثار البحر وغضب الموج وأزبد، وارتفعت أنفاسه نحو السماء كأنما تستحلف الغيم أن يعود إلى ما كان عليه، وكان الموج يصل الشاطئ منهكا فيهوي على الصخور ناقما يود تكسيرها فﻻ تكسر، ويعود للبحر ثانية ليعد عدته ويكر من جديد. كل ما في الطبيعة ارتعش كمن فقد السيطرة على نفسه ساعة غضب، فلقد رقصت الأشجار على وقع أنغام الرياح رقصة عنيفة، تمايلت حتى كادت تقبلُ الأرضَ أغصانُها ثم عادت منتصبة لتنحني مجددا احتراما للطبيعة، وأوت الطيور إلى أعشاشها كي تحتمي والحيوانات إلى أوكارها..بعض الطيور رأت أعشاشها تنقلها الريح إلى البعيد، وبعضها آثرت البقاء بالقرب من صغارها على أن تنجو بنفسها في ظل شجرة قد هوت.
وفوق المساحة التي امتدت إليها العاصفة انتصبت مئات الخيام، وثمة حركة غير عادية فقد عمل الرجال بجد.وأشعلت مجموعة من النسوة المشاعل بعدما أظلمت الدنيا واسود وجه السماء، أما الأطفال فنقلوا الحطب داخل الخيام، إحدى النساء ساعدت زوجها في رصف مجموعة من الحجارة حول الخيمة بينما راح يدق الأوتاد ليتأكد من متانتها، وأخرى احتضنت طفلة لها لتهبها من حرارة جسدها دفئا حينما رأتها خارج الخيمة ترتعد بردا. قالت الصغيرة لأمها :أشعر بالجوع. دخلت بها الخيمة... مدت يدها بكسرة خبز جافة، تلقفتها الطفلة بشوق وراحت تقضمها،كان لعابها هو الشيء الوحيد الذي يرطب جفاف قطعة الخبز .
تذكرت الأم وهي توقد النار أنها لأيام متتالية لم تذق وطفلتها من الطعام شيئا غير الخبز والماء. وطفقت تغزل مقارنة بين حالها قبل الهجرة وبعدها، تذكرت زوجها، وتذكرت أن الثوب الذي ترتديه يزيد الليل وحشة ويزيدها غربة، وأنه بلون الخيام المنتصبة بعدما طليت بالقار لتقاوم شدة الريح والمطر. مذ قدمت المخيم وهي ترتدي ثوب الحداد، ومنذ غادرت قريتها لم تستشعر الأمان لأنها فقدت البيت والأرض والوطن، حتى الخيمة قد تشهد لها هجرة تلو أخرى. قال لها زوجها والأمل يداعب ناظريه أثناء مغادرتهما القرية :"غدا تتبدل الأحوال." ومضى الغد تلو الغد وﻻ شيء تغير، أصبحت الخيمة واقعا، والغد المشرق أمنية ﻻ تقاس بالزمن.
وتذكرت ما قاله لها عندما التحق بمجموعة الثوار قال لها :"انتظريني مع كل فجر ،فستحمل الشمس إليك أخباري إن لم نلتق." وباتت تسهر الليل تنتظر الفجر لتلاقيه. وذات يوم رأته مسافرا للشمس، ورأت قطرات دمه المتساقطة تتوهج نورا فلقد جذبته الشمس إليها في الوقت الذي عانق فيه أشعتها واندمج فيها حتى الإحتراق.
ارتفعت ألسنة اللهب داخل الخيمة وراحت تظلل فوق وجنتي الصغيرة مساحات وردية بعدما أجلستها الأم في حجرها فبدت كملاك يغط في نوم عميق وقطعة الخبز تصافح يدها....في حين داعبت رائحة الدخان أنفاس الأم وهاجت الذكرى..."عبق المكان برائحة الخبز الساخن، واشتعلت النيران داخل الطابون، أدخلت الأم رغيفا وأخرجت آخر، تلقفته الأيدي الصغيرة بفرح طفوليّ واقتسموه، ثم عادوا لمطاردة سرب من الإوز في فناء الدار تارة ومراقبة دجاجة رقدت فوق بيضها تارة أخرى... "أي رؤى مخببة تطوف أمام ناظريها وأي ذكرى؟!
كانت تلك الرؤى تداعب ناظريها عندما تناهى إلى سمعها صوت بشري يلملم أطراف خيمته المسافرة مع الريح، ومن حوله صبية يرتجفون خوفا وبردا، فلقد بلغت العاصفة أوجها ،واهتزت الخيمة إثر هبة ريح عاتية وانشق جزء من القطعة المسدلة بباب الخيمة وتدفقت الريح حاملة معها حرارة النار المشتعلة، أصابتها قشعريرة بين الدفء والبرد فلا شيء يدثرها فوق الثوب الذي ترتديه غير الحزن والشقاء.
وارتسم فوق شفتيها طيف ابتسامة ساخرة من القدر والبشر معا وهي تشعل الذبالة التي أسلمت أمرها للريح لحظة تذكرت يوم اقتلع السيل خيمتها، وأغرق أشياءها وكيف بكت بيتها الذي أصبح مأوى للغربان.
وعلى الرغم من كل الذكريات المؤلمة والتي ما انفكت تحفر في أعماقها جرحا تلو آخر فلا زالت لهذا الفصل قدسيته، وﻻ زالت ترقب بشوق حبيبات المطر الأولى وهي تعانق الأرض بلذة، وتسكب ماء الحياة في أحشائها، فتتحرك الأجنة وتنمو، تلثم جراح الأرض وتعلو نحو الشمس لتمتص نور الحياة من أشعتها، وقصة العشق الأزلي بين الأرض والمطر والشمس معا، وارتباطها هي بالأرض جعلت فصل الشتاء أشد الفصول قدسية في نفسها.
انتصف الليل، والصغيرة بالقرب من أمها تحلم، ربما بقطعة من الحلوى أو بدمية، وربما وربما...لكن الواقع كشوكة في الحلق كلما حاول الحلم تجاوزها مزقته وألقت به بعيدا. لم تدرك الصغيرة بعد مشاعرها، وقاموسها اللغوي لم يستوعب بعد أحزانها الدفينة، تدرك إحساسها بالجوع مقرونا بكسرة خبز جافة، وتدرك العطش مقرونا بماء تحضره الأم من البعيد. أما حقيقة سفر والدها فلم تدركه بعد، ودائما يكون الجواب كلما استفسرت عنه: "سافر ليحضر الشمس إليك يا صغيرتي." وعندما تسأل متى يعود ؟يكون الجواب غدا. وببراءة ...تنظر الصغيرة حيث تتربع الشمس فوق عرشها، تمد ذراعيها محاولة إمساكها ولكن عبثا تحاول. فالشمس من عليائها تجعل منها ظلا يفترش الأرض.. وبفطنة رهيبة أدركت الصغيرة وربطت بعد الشمس عنها ببعد الغد الذي ستعانق فيه والدها، وتمنت في أعماقها لو أنه سافر ليحضر إليها دمية أو قطعة من الحلوى، وحلمت بالشمس بين يديها تلاعبها وتروي لها حكاية شوقها وانتظارها.
ما أطول ليل المعذبين وما أقساه! يستلهم فيه العقل البشري شتى المشاعر والأفكار .. تأتيه من حيث ﻻ يدري فيهولها، ويلقي عليها الليل سترا من الرهبة فيخشاها. من أين يأتيها النوم؟وهي التي ما إن يتملكها النوم حتى تستيقظ فزعة من حلم راودها أو من صوت سمعته فتستيقظ مخاوفها، وتبدأ دوامة يقظتها إلى أن تستسلم للنوم ثانية وهكذا....
يوم كانت آمنة مطمئنة في بيتها كانت تنام ملء جفنيها، وﻻ تستيقظ إلا على صوت الصغيرة باكية أو على صوت المؤذن داعيا إلى الصلاة فلقد دأبت على تأدية الصلاة في موعدها منذ الطفولة، كانت تستشعر بقوة خفية توقظها، وبدفء يعانق روحها كلما أدت صلاتها مبكرة. وكانت تستغرب من تلك العلاقة القائمة بين والدها وأرضه،وأحيانا تتملكها الرغبة في الخروج معه، وهناك كانت تستمتع بنسمات الصبح الندية وهي تلفح وجهها، وبسعادة تتلقى دموع الليل من على الأزهار بيديها. ومنذ ذلك اليوم تملك قلبها عشق أزلي إذ عشقت الأرض وعشقت معها عروس الفجر حين رأتها تقترب بالتدريج من تلك الغلالة التي تغطي الكون والتي كانت تتلاشى تدريجيا
****
ها هي صغيرتها بالقرب منها نائمة تصارع واقعها بحلم لذيذ، أما هي فلن تستطيع، كيف تحلم والأيام تمر قاسية حبلى بآلام البشر وتطلعاتهم نحو غد مشرق! تمطرهم ذلا وفقرا ..جوعا وقهرا ..ثم يكون السيل موتا..ثم كيف تحلم والكرامة المهدورة تتمثل لها بكل الوجوه، والأحلام تتحطم كلما أثقلتها الهموم؟
كيف تحلم- وفي لحظة يأس، لحظة خوف من المجهول ،من قهقهات الرعد الساخرة، وتأوهات الريح، من كل هذا الكون الغاضب الصاخب، من قسوة الإنسان وتراكم الأحزان يموت الأمل في أعماقها لأن من أحياه فيها قد غادر الحياة.
كان عظيما...عظمة مستمدة من تفاؤله الذي يخترق الألم، حتى في قمة اليأس وذروة التشريد، كان يقول لنفسه ساخرا من كل الظروف "اختزل ما شئت يا قلب من الأحزان، فغدا سيأتي الفرح وسيصبح الحزن طللا وأثرا في الذاكره." عن أي فرح تحدث وأي غد؟ جاء الغد وذهب به وبقي الفرح بعيدا بعيدا ....هل كانت كل تلك السعادة وهما ؟ أم أنها حقيقة ﻻ بد أن تعود. تتقاذفها الأفكار بين الشك واليقين كالخيمة في مهب الريح، مات الأمل في أعماقها فمن يحييه؟يبث فيه روحا تعشق الحياة..هل أنت أيتها الصغيرة البائسه؟ أيتها الريح...أيتها العاصفه؟
******
وقبيل الفجر بقليل ترنم الليل بأنشودة البدء والنهاية، واكتملت صلوات الكون في معبد الحياة، وانهمرت دموع السماء تقربا وخشوعا، ورويدا رويدا هدأت غضبة الريح، وامتدت السكينة إلى كل ما في الوجود والذي راح يطرح عنه ما حملته إليه الريح من غبار وأتربة ، ويغتسل تحت السماء بنشوة سكرى. في ذات الوقت ودَّ البحر لو يستريح ، أو تُخمد أنفاسه إلى الأبد، وفي تناغم رائع انتظمت حركة الموج مع صوت تحطمها على الشاطئ.
****
كأنما هي يقظة أهل الكهف ؛ ذلك الخواء الرهيب في الأحشاء، والارتباط العميق بالماضي، وتلك العظام التي حطمتها برودة الأرض وصلابتها....كانت قد اغتصبت من النوم غفوة..أيقظها ذلك الصوت المحبب إليها، ما أن أحست بهطوله غزيرا خارج الخيمة حتى استيقظت جميع حواسها وأرهفت السمع...لوقع المطر في أذنيها صدى عجيب ، ولحن غريب، كأنما هو رجع ألحان الحياة وفي قلبها شلال دماء يتدفق، فاستشعرت الدفء..وجرفها الحنين لماض بعيد حيث الطفولة ودفء البيت وأحلام الصبا. في ذلك الوقت ،كانت الشمس في طريقها إلى الكون تمشي الهوينى.. ترفل بثوبها النوراني، وتنشر مفاتن سحرها فوق الجبال والسهول والتلال.
كانت الصغيرة تغط في نوم عميق عندما ألصقت الأم شفتيها وطبعت قبلة حارة على جبينها، ساءها أن يكون الضياء قد ملأ الكون وخيمتها ما زالت تقبع في الظلام، شقت باب خيمتها ورفعت القطعة المسدلة وثبتتها على مسمار دق على عمود أسند الخيمة. ووقفت بالباب ترقب ما قد كان بالامس وما حلَّ بهذه البقعة البائسة بمن عليها ، ورفعت رأسها للسماء ، كان وجه السماء نديا نضرا....وكانت زرقته صافية في بعض المساحات غير أن بعض الغيوم ما زالت بطيئة كأنما ترفض التحرك، وعلى الأرض كانت الأمطار الهاطلة قد تجمعت في واحات صغيرة عكست زرقة السماء على صفحتها.
لقد هدأت العاصفة وتوقف المطر، وعادت الحياة كما كانت كل يمضي إلى غايته.
أما هي ...فقد رأت شجيرة بالقرب من خيمتها كان قد زرعها زوجها فيما مضى.. ها هي ما زالت_ رغم صخب الريح وعبثه بأغصانها _تقف في مكانها منتصبة شامخة، متشبثة بالأرض ترنو للشمس متعطشة للحياة...كـأنما استمدت بعضا من روح زوجها العنيدة ...أما هي ...فقد نظرت في أعماقها... أين هي من تلك الشجيرة؟ وأين هي من تلك الروح التي ما عرفت اليأس يوما؟ ..كيف سمحت لليأس بالتسلل إلى أعماقه؟ا كيف سمحت له أن يظلل جدران قلبها بالسواد؟ حسبها أن تتعلم من هذه الشجيرة قوة التحمل والصبر على تقلبات الحياة.

بالأمس اسود وجه الدنيا واشتدت العاصفه....واليوم بدأ النهار جميلا مشرقا رغم الحزن القابع في الأعماق، أحقا ستنقشع هذه الغمامة وستتغير الأحوال وسيعم الفرح؟ هل سيكون لحزنها نهاية مشرقة كإشراقة هذا اليوم؟.
رأت ابنتها تقف بباب الخيمة ...احتضنتها وجلست بها تحت أشعة الشمس تغتسل من هموم الحياة، وتفتح قلبها للنور ليضيء عتمة نفسها الكئيبة ...لاح في الأفق البعيد قوس بألوان الطيف ممتدا من جهة الغرب زاهيا بألوانه البهية ، فانتشت روحها فَرِحة به، وابتسمت لرؤيته واتسعت ابتسامتها عندما رأت صغيرتها تشير إليه بيدها.
احتضنت صغيرتها بحب، تفرست في وجهها ، رأت فيه ملامح زوجها ...حينها لاح لها طيفه مبتسما...عانقتها بقوة واستسلمت لذلك الفرح الخفي الذي راح يطرق جدران قلبها المجلل بالحزن والأسى.

نائله أبو طاحون
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف