من بيدر الحياة
من مكتبتي : ديوان مدائن الحضور والغياب
عبد السلام عابد
الانطباع الأول الذي يرتسم في ذهنك ، حين لقائك، بالشاعر المعروف عبد الناصر صالح، هو أنه ذو شخصية إنسانية دافئة، وودودة ومحببة وقريبة من النفس. فما أن تلقاه في مكان ما، حتى يهش بوجهك، وترتسم علاماتُ البِشْر على محياه، ويأخذك بالأحضان معانقا، وسائلا إياك عن حالك، وصحتك، وآخر أعمالك وأخبارك. ولعل هذا الانطباعَ المشرق هو ذاته الذي رسمته في ذهني، حينما التقيتُ به، لأول مرة، قبل أكثر من ثلاثين عاما، في حرم جامعة النجاح الوطنية، حيث كنا طلابا آنذاك.
وكنت قبل ذلك اللقاء أتابع ما ينشره عبد الناصر من قصائد شعرية، في مجلة البيادر، والفجر الأدبي، والشعب، والشراع، وغيرها من المجلات والصحف التي كانت تصدر في القدس. وما زلت أذكر له بعضا من مقاطع شعرية حفظتها، منذ تلك الفترة المبكرة .
نشط صالح منذ بدايات الحراك الثقافي، في السبعينات من القرن الماضي، وأسهم فيه بشكل فاعل، عبر اتحاد الكتاب، والقصائد الشعرية التي كان ينشرها،والأمسيات الثقافية التي كان يشارك فيها، في الجامعات والمؤسسات والنوادي، في مدن فلسطين وقراها ومخيماتها.
عكف على إنماء موهبته الشعرية، وتطويرها، من خلال دراسة تجربة والده الحياتية العميقة الذي كان يكتب الشعر أيضا، وعبر قراءاته المتأنية، لإبداعات الشعراء القدامى والمحدثين، ودراسته، وتجاربه في سجون الاحتلال، وملامسته المباشرة لمعاناة شعبنا، وآلامه ، وأحلامه في الحرية.
أثناء دراسته الجامعية، أصدر ديوانيْه الشعريين: الفارس الذي قتل قبل المبارزة، عام 1980م، وداخل اللحظة الحاسمة عام 1981م. ورغم استمراره في الإبداع الشعري، إلا أنه انتظر خمس سنواتٍ؛ لينشر ديوانه الثالث: خارطة للفرح عام 1986م. وفي ديوان: المجد ينحني لكم عام 1989م، ظهرت تجليات الانتفاضة في قصائده الشعرية المعبرة التي ضمها. ثم أصدر مطولته الشعرية: نشيد البحر عام 1990م، وديوان: فاكهة الندم عام 1999م.
أما ديوانه الأخير: (مدائن الحضور والغياب)، فقد صدرت طبعته الأولى عام 2009م، عن وزارة الثقافة/ بيت الشعر، بالتعاون مع اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، والمنظمة العربية... (ألكسو). يقع في ثلاثٍ وتسعين صفحة، ويضم إحدى عشرة قصيدة شعرية، تجسد جميعُها هموم إنساننا الفلسطيني، وأحاسيسَه الإنسانية، وتطلعاته نحو التحرر والانعتاق من القيود التي تكبله، والتحليق في فضاءات الحرية والإبداع،والإشادة بالمناضلين والشهداء، والأسرى، والتمسك بالأرض والوطن والهوية، ورثاء الشعراء الذين رحلوا بأجسادهم، وبقيت إبداعاتهم حية وحاضرة وخالدة على مدى الزمن،عبر استخدامِه لغة شعرية مكثفة ذات أسلوب سلس، وصور شعرية ثرية مليئة بالرموز والدلالات والموسيقى العذبة،مع اهتمامٍ واضحٍ بسلامة المفردات، وتشكيلِها ، وعلامات الترقيم.
في قصيدة البدوي، يلبي الشاعر نداءات المدائن التي عانى أهلها من الغزاة، واستجاروا، وبُحت أصواتهم؛ علّ الأخوة ينقذونهم، ولكن هذه النداءات لم تلامس أسماعهم، وهِممهم. ويجهر الشاعر بانتمائه للشهداء الصاعدين إلى العلا، ويعلن براءته من المتخاذلين الخائفين الذين يبيعون جلودهم، ويجلسون ( القرفصاء أمام أعتاب الخليفة). ويظل حارسا لنشيد الأخيار الأطهار المحافظين على مبادئهم ونقائهم.
وتحيّي قصيدة ( سلمت يمناك) المناضلين... أصحاب الوثبات الطاهرة التي تحفظ وصايا الشهداء و تسدد الرمي، وتطارد الغزاة.
ويتذكر صالح الغائبين من الشعراء الذين كانت تربطهم به علاقاتٌ وثيقة، كالشاعرة فدوى طوقان الغائبة جسدا، والحاضرة في شعرها، فقد ( انشطر القلب إلى نصفين: نصف تلقفه الموت، والآخر ازدان بالشعر). ويعبر عن شوقه وحنينه لها بسؤاله: ( من سيهدهد وجنة جرزيم، وينفض غربته، حين تنأى الأغاني؟! ). وفي قصيدة: ( يزهو بقامته ) يتذكر صديقه الأديبَ الراحل عزت الغزاوي.. المعلمَ المثابر والحاني على تلاميذه، والمبدع الملتزم الذي ( ينتفض الشعر بين أصابعه، ويتدفق كالماء تحت حجارة نبع قديم، ويسرح في ملكوت القصيدة ). وفي نهاية القصيدة يؤكد الشاعر خلود صديقه المبدع الراحل، ويذكره بأيام المعاناة والاعتقال، وأنه أكمل فصل الرواية، أما الفتى الشاعر فإنه ( لم يزل تحت وطء التجارب / يسقي رحيق القصائد للشاربين ).
وثمة حزنٌ وغضبٌ يتجليان في شعر صالح، ولا سيما في قصيدة ( طيور الفينيق ) التي أهداها إلى قرية كفر قاسم التي تعرضت لهجمة احتلالية غاشمة، في زمن قاس، وصفه الشاعر بأنه ( زمن الخوف، والرق والجبناء وسلاطين القهر، وغطرسة الأعداء، في زمن أفول الحق، وزحف الباطل). ورغم هذه الأجواء الغاضبة، إلا أن الأمل بتجاوز المرحلة السوداء يظل قائما، فها هو يعبر عن صوت شعبه المقاوم بتأكيده: ( أنا الفارس فوق حصان الوطن الجامح/ لم أسقط / قد أنزف، لكن لن أسقط/ قد يكبو في الليل جوادي/ لكن لن يسقط.. لن نسقطَ يا حاضنة الشهداء ).
من مكتبتي : ديوان مدائن الحضور والغياب
عبد السلام عابد
الانطباع الأول الذي يرتسم في ذهنك ، حين لقائك، بالشاعر المعروف عبد الناصر صالح، هو أنه ذو شخصية إنسانية دافئة، وودودة ومحببة وقريبة من النفس. فما أن تلقاه في مكان ما، حتى يهش بوجهك، وترتسم علاماتُ البِشْر على محياه، ويأخذك بالأحضان معانقا، وسائلا إياك عن حالك، وصحتك، وآخر أعمالك وأخبارك. ولعل هذا الانطباعَ المشرق هو ذاته الذي رسمته في ذهني، حينما التقيتُ به، لأول مرة، قبل أكثر من ثلاثين عاما، في حرم جامعة النجاح الوطنية، حيث كنا طلابا آنذاك.
وكنت قبل ذلك اللقاء أتابع ما ينشره عبد الناصر من قصائد شعرية، في مجلة البيادر، والفجر الأدبي، والشعب، والشراع، وغيرها من المجلات والصحف التي كانت تصدر في القدس. وما زلت أذكر له بعضا من مقاطع شعرية حفظتها، منذ تلك الفترة المبكرة .
نشط صالح منذ بدايات الحراك الثقافي، في السبعينات من القرن الماضي، وأسهم فيه بشكل فاعل، عبر اتحاد الكتاب، والقصائد الشعرية التي كان ينشرها،والأمسيات الثقافية التي كان يشارك فيها، في الجامعات والمؤسسات والنوادي، في مدن فلسطين وقراها ومخيماتها.
عكف على إنماء موهبته الشعرية، وتطويرها، من خلال دراسة تجربة والده الحياتية العميقة الذي كان يكتب الشعر أيضا، وعبر قراءاته المتأنية، لإبداعات الشعراء القدامى والمحدثين، ودراسته، وتجاربه في سجون الاحتلال، وملامسته المباشرة لمعاناة شعبنا، وآلامه ، وأحلامه في الحرية.
أثناء دراسته الجامعية، أصدر ديوانيْه الشعريين: الفارس الذي قتل قبل المبارزة، عام 1980م، وداخل اللحظة الحاسمة عام 1981م. ورغم استمراره في الإبداع الشعري، إلا أنه انتظر خمس سنواتٍ؛ لينشر ديوانه الثالث: خارطة للفرح عام 1986م. وفي ديوان: المجد ينحني لكم عام 1989م، ظهرت تجليات الانتفاضة في قصائده الشعرية المعبرة التي ضمها. ثم أصدر مطولته الشعرية: نشيد البحر عام 1990م، وديوان: فاكهة الندم عام 1999م.
أما ديوانه الأخير: (مدائن الحضور والغياب)، فقد صدرت طبعته الأولى عام 2009م، عن وزارة الثقافة/ بيت الشعر، بالتعاون مع اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، والمنظمة العربية... (ألكسو). يقع في ثلاثٍ وتسعين صفحة، ويضم إحدى عشرة قصيدة شعرية، تجسد جميعُها هموم إنساننا الفلسطيني، وأحاسيسَه الإنسانية، وتطلعاته نحو التحرر والانعتاق من القيود التي تكبله، والتحليق في فضاءات الحرية والإبداع،والإشادة بالمناضلين والشهداء، والأسرى، والتمسك بالأرض والوطن والهوية، ورثاء الشعراء الذين رحلوا بأجسادهم، وبقيت إبداعاتهم حية وحاضرة وخالدة على مدى الزمن،عبر استخدامِه لغة شعرية مكثفة ذات أسلوب سلس، وصور شعرية ثرية مليئة بالرموز والدلالات والموسيقى العذبة،مع اهتمامٍ واضحٍ بسلامة المفردات، وتشكيلِها ، وعلامات الترقيم.
في قصيدة البدوي، يلبي الشاعر نداءات المدائن التي عانى أهلها من الغزاة، واستجاروا، وبُحت أصواتهم؛ علّ الأخوة ينقذونهم، ولكن هذه النداءات لم تلامس أسماعهم، وهِممهم. ويجهر الشاعر بانتمائه للشهداء الصاعدين إلى العلا، ويعلن براءته من المتخاذلين الخائفين الذين يبيعون جلودهم، ويجلسون ( القرفصاء أمام أعتاب الخليفة). ويظل حارسا لنشيد الأخيار الأطهار المحافظين على مبادئهم ونقائهم.
وتحيّي قصيدة ( سلمت يمناك) المناضلين... أصحاب الوثبات الطاهرة التي تحفظ وصايا الشهداء و تسدد الرمي، وتطارد الغزاة.
ويتذكر صالح الغائبين من الشعراء الذين كانت تربطهم به علاقاتٌ وثيقة، كالشاعرة فدوى طوقان الغائبة جسدا، والحاضرة في شعرها، فقد ( انشطر القلب إلى نصفين: نصف تلقفه الموت، والآخر ازدان بالشعر). ويعبر عن شوقه وحنينه لها بسؤاله: ( من سيهدهد وجنة جرزيم، وينفض غربته، حين تنأى الأغاني؟! ). وفي قصيدة: ( يزهو بقامته ) يتذكر صديقه الأديبَ الراحل عزت الغزاوي.. المعلمَ المثابر والحاني على تلاميذه، والمبدع الملتزم الذي ( ينتفض الشعر بين أصابعه، ويتدفق كالماء تحت حجارة نبع قديم، ويسرح في ملكوت القصيدة ). وفي نهاية القصيدة يؤكد الشاعر خلود صديقه المبدع الراحل، ويذكره بأيام المعاناة والاعتقال، وأنه أكمل فصل الرواية، أما الفتى الشاعر فإنه ( لم يزل تحت وطء التجارب / يسقي رحيق القصائد للشاربين ).
وثمة حزنٌ وغضبٌ يتجليان في شعر صالح، ولا سيما في قصيدة ( طيور الفينيق ) التي أهداها إلى قرية كفر قاسم التي تعرضت لهجمة احتلالية غاشمة، في زمن قاس، وصفه الشاعر بأنه ( زمن الخوف، والرق والجبناء وسلاطين القهر، وغطرسة الأعداء، في زمن أفول الحق، وزحف الباطل). ورغم هذه الأجواء الغاضبة، إلا أن الأمل بتجاوز المرحلة السوداء يظل قائما، فها هو يعبر عن صوت شعبه المقاوم بتأكيده: ( أنا الفارس فوق حصان الوطن الجامح/ لم أسقط / قد أنزف، لكن لن أسقط/ قد يكبو في الليل جوادي/ لكن لن يسقط.. لن نسقطَ يا حاضنة الشهداء ).