الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الـعزل بقلم:أبو سليم سلمان جاد الله

تاريخ النشر : 2015-04-20
الـعزل بقلم:أبو سليم سلمان جاد الله
  مركز أبو جهاد : العزل من أقسى أنواع الانتهاكات في سجون الاحتلال

بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني وبتوجيه من الدكتور فهد أبو الحاج رئيس مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة  بجامعة القدس، فإن المركز يقدم لكم سلسلة من المقالات البحثية  من كتاب "المواجهة والاحتراف" أحد إصدارات مركز أبو جهاد ، هذا الكتاب كتبه الأسير المحرر/ أبو سليم سلمان جاد الله داخل سجن نفحة الصحراوي أثناء الاعتقال، والكتاب يتحدث عن مفاصل مهمة  خاصة بقضية الأسرى ومعاناتهم ومواجهتهم مع السجان.

وفي هذه الحلقة نعرض مقالاً بعنوان العزل وهو من أقسى أنواع الانتهاكات في سجون الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين.

الـــعزل

   الحرمان الاجتماعي عقوبة ذات أبعاد خطيرة على الصحة النفسية لا يجري اتخاذ قرار في تطبيقها إلا إذا كان الهدف منها تحطيم التركيبة الفسيفسائية للتكوين النفسي لعضو الجماعة المتخذة ضده, ثم إعادة صياغتها على النحو المطلوب، بحيث تكون هذه الإعادة ما هي إلّا عملية ترويض ممنهجة، تهدف إلى إدخال تعديلات عميقة على المنابع الذاتية لوجدان ووعي العضو وخلق أرضيه لديه لدوافع ذاتية تتلاءم مع الهدف الذي من أجله اعتمدت هذه العقوبة.

وإذا كان المنطق قد أجاز تطبيق الحرمان الاجتماعي الذي يعني إجبار العضو الشاذ اجتماعياً على وأد مناحي سلوكية معينة لدية وتنمية سلوكيات أخرى يجيزها العرف الاجتماعي، وتتناسب مع المسلك الاجتماعي العام, فإنّ المنطق نفسه لا يُقرّ على الإطلاق تطبيق هذا الحرمان بصورة معكوسة, أي تطبيقه على الأعضاء الذين يشكل سلوكهم نموذجاً في البيئة الاجتماعية التي يُصار فيها إلى إجراء الحرمان الاجتماعي، ودرجات الحرمان الاجتماعي متفاوتة, أشدها قساوة العزل الانفرادي الذي تُنفذه مصلحة قمع السجون الصهيونية، سياسة قمع إرهابيه تمارس ضد الوطنيين الذين يُنفّذون عمليات استشهادية، بحيث يُزجون في بيئة عدائية خلف جدران، مغلقة لا يتسرب إليها أي بصيص من ضوء الشمس المباشر، ويحظر فيها الاتصال المباشر مع آخرين من بني البشر، ما عدا أمرين بشريين يصبان أيضاً في زيادة قساوة هذه البيئة: الأول: وقاحة في المعاملة وشدة غير مبررة في تنفيذ الأوامر اليومية، يُطبّقها حُراس ساديون, يتلذذون بتعذيب الآدميين، أما الثاني, فهو همهمات بشرية تتسرب إلي زنازين العزل من قسم يعتليها, يتميز منها أصناف من الشتائم والمقذع من التقريع يُطلقها السجناء الجنائيون (طالبي الحماية) وهم كزبانية مصلحة قمع السجون، ينفذون جزءاً من عملية خلق الجو العدائي في هذه البيئة العدائية.

لا مُجافاة للحقيقة إذا قلنا إنّ العزل وسيلة لمضاعفة الإحساس بالوحدة, وهي الحالة التي تتنامي فيها إحساسات الخوف، وربما العجز عن المقاومة, لكن هذا العجز قد يصل الي الشعور باليأس لا نتيجة للقمع الذي يُغطي كل مساحات بيئة العزل فقط, بل يتولد أيضاً نتيجة لمكونات هذه البيئة التي تحوّل كلّ عنصر من عناصرها إلى عامل عدائي له دوره النفسي أو الفسيولوجي أو كلاهما معاً, فوجود مكان العزل يُوحي بالعدائية منذ أن تقع عينا المعزول علي درجاته الهابطة تحت مستوي سطح الأرض, وتزداد وتيرتها حالما تزكم أنفه رائحة الرطوبة النتنة المتصاعدة منه, وتتوالي الصدمات الواحدة تلو الأخرى من اصطفاف أبواب الزنازين بأقفالها الضخمة المنفرة التي تذكّر بالقيود والسلاسل والضجيج الفج الذي يُحدثه خليط من صراخ الحراس مع اصطكاك مفاتيحهم وهراواتهم بفولاذ الأبواب وزرد مقابضها وقضبان مزاليجها، كل شيء جرى تصميمه بحيث يدفع إلى الشعور بالغثيان، وتصفع عدائيته كل الأحاسيس الإنسانية, حتى سقف دهليز الزنازين المرصوص والمرصع بأنابيب مجاري الأدوار العلوية يدفع إلى التقيؤ ما ينضح منها من العفونة والرائحة الكريهة التي تُحيل المكان إلى كابوس جهنمي، تقبع فيه الزنازين، ويُرغم على الانحشار فيه معزولوها, إنها بيئة تُثير عدائيتها الشعور، وتوحي بأنها كدر لا نهاية له ولا خلاص منه, وتفعل فعلها في توتير الإنسان إلى أقصي درجات التوتر، حتى بدون اللجوء إلى البطش الجسدي والنفسي، الذي يتعرض له المعزولون على مدار الساعة، بدءاً من كابوس القرع المتواصل على فولاذ الأبواب في جولة يومية استفزازية من الصلافة والعنجهيّة يُصاحبها العدّ الصباحي الذي يفرض فيه طقس الوقوف بالقوة رغماً عن متطلبات جسد المعزول، مهما كانت الحالة التي هو عليها, هذا الطقس يُرغم عليه الأسير المعزول قبل بُزوغ الشمس, يليه طقس آخر يشعر فيه المعزول بأنّه يُعامل بمستوى دوني، عندما يُجبر علي الانحناء والركوع لالتقاط غذائه الذي يُقذف إليه عبر كوّة، فُتحت خصيصاً في أسفل الباب لغرضين هذا أحدهما, أما ثانيهما فيتلاءم مع سادية رغبات زبانية صهيون حين يرغمون المناضل المعزول علي القعود علي هيئة القرفصاء يُلاصق ظهره الباب رافعاً يديه - وهو في هذا الوضع الإذلالي - عبر الكوة ليصفدهما السجان قبل أن يفتح باب الزنزانة لساعة الفورة اليومية خارج الزنزانة, ولهذا السجان الحقّ ــ حسب عرف العزل العنصري ــ إلغاء النزهة اليومية إذا ما تباطأ المعزول لحظة واحدة في إخراج يديه بعد فتح الكوة، فإخراج اليدين يجب أن يتزامن مع فتحها.

   هذا هو العزل الذي تُنفذه مصلحة قمع السجون الصهيونية بإشراف طاقم الهندسة البشرية فيها ضد الأسري الفلسطينيين المميزين بمواجهة الاستشهاد في عملياتهم النوعية, عزل الغاية منه تفكيك البنية النفسية للأسير الفلسطيني المعزول, تفكيكاً مدروساً ومبرمجاً على أساس تعريضه لصدمات متتالية من القمع والترهيب، تُزعزع مفاهيمه وتهزّ عزيمته بحيث تُؤدي الزعزعة والاهتزاز إلى عاملين من عوامل التحول في شخصية المعزول من حالتها المشتدة إلى حالة الشخصية الممتدة،  وحالة الامتداد هذه تعني التهيؤ الذاتي لاستجابة المعزول لعوامل الضغط عليه والرضوخ لها، بداية للتكيف مع سلوك يتواءم إيجابيا مع أهداف العزل.

   ولا غرابة في استجابة المعزول لعوامل الضغط العدائية في بداية ولوجه بيئة العزل, ويظهر هذا واضحاً في سلوكه لحظة تطأ قدماه معتقل الرملة حيث تصدم عينيه الهراوات وكمامات الغاز التي تخفي ملامح رجال مفتولي العضلات, مظهرهم القتالي يزيد من شعور الخوف المنبعث في الأصل من التعذيب الهمجي الجسدي والنفسي الذي يتعرض له المعزول في أقبية التحقيق الصهيونية المنقول منها للتوالي البيئة العدائية الجديدة, مما يحوّله إلى إنسان مذعور خاصة إذا كانت تجربة الاعتقال لديه محدودة ولم تعتد الاستقبالات المميزة باستعراض للقوة يجرجر خلاله حيث تنهال عليه الهراوات والرفسات واللكمات في جو من الصراخ الصاخب البذيء والألفاظ النابية ممّا يؤجج توتر الأسير ويضاعفه.

  ومن ملامح هذا الذعر ما يبدو عليه المعزول من تمترس في زنزانته وتحاشي الحديث مع المعزولين في الزنازين الأخرى الذين يحاولون جاهدين إخراجه من حالة الخوف التي تُسيطر عليه وإعتاقه من الانطواء على الذات الناتج عنه, هذا التحاشي والرغبة في الاستغراق في التوحد لا ينتجان عن الجو العدائي المحيط فقط, بل هناك سببان آخران يؤديان إليهما: الأول: التعامل مع المحيط بالشك والريبة, وهذا ناتج عما اكتسبه أو انفطر عليه من قواعد أمنية تُوجب الحذر في الحديث في أماكن لا يخالها إلا الامتداد الطبيعي لأقبية التحقيق ووسائلها الاستخبارية، والثاني: تراجع ميزة الصدامية لديه وكبتها, بهدف التفادي الآني للخطر المتوقع في البيئة العدائية التي لم يتكيف مع عواملها بعد.

  هذه الحالة التي يُميزها سيطرة أحاسيس الخوف على المعزول وميله إلى الانطواء في أيامه الأولى أثناء استطلاعه الأوليّ لحقل العزل والتعرف علية, بالإضافة إلى محاولات تسفيه الذات التي تُمارس ضده باستخدام القمع الجسدي والنفسي والاجتماعي بما تتضمنه من غارات تفتيش مستمرة، تهدف إلى بعثرة ما يجهد الأسير المعزول في تنظيمه بعد كلّ غارة، وتُولد لدية القلق والاستنفار والتوتر الدائم, هذه الحالة ومحاولات التسفيه تظل محدودة التأثير وتُسهل معالجة عواقبها ليس لأن الخلخلة النفسية الناتجة عنها لا تُحدث أثراً في الفلسطيني المعزول بل يعود ذلك لسببين: أولهما فطري, ينبع من غريزة حب البقاء التي تُولد في الإنسان الذي يتعرض للقهر والقمع استجابات عكسية للعنف الاحتلالي، تنعكس على شكل عنف ثوري مضاد يُمارس بدءا بالرفض ويتصاعد حسب واقع الظرف الثوري، وثانيها: مكتسب, تُشكله عوامل ثلاثة, تجعل الخلخلة النفسية قاصرة عن إحداث التأثير المطلوب من عملية العزل على الأسير المعزول، الأول منها: الرفض الذاتي الواعي لخطورة الانسياق لما يُمليه ضغط عوامل عدائية الحقل الاجتماعي ووعي ضرورة الصمود أمامها كمخرج لإفشال أهدافها، الثاني: ثبات مفاهيم ومعتقدات الأسير المعزول ورسوخ مواقفه الوطنية واستعداده لاستيعاب الفكر الإنساني والدفاع عنه، أما الثالث: فهو بلوغ الأسير عمراً يكون قد تجدرت خلاله مفاهيم محددة، وتأصّلت في تكوينه النفسي دوافع تحكم سلوكه الاجتماعي، يصعب عليه التخلي عنها إن لم تكن لديه النية في ذلك.

  هذان السببان: الفطري والمكتسب بعوامله الثلاثة يُشكلان سداً يحصن الأسير المعزول من تأثير الحرب النفسية التي تشنّ ضده، ويُفشلان هجوم عدائية برنامج العزل، ويؤديان إلي تنشيط وعي الأسير المعزول لاستيعاب المستجدات بانفعال يتقلّص باستمرارية، تتناسب مع سرعة إدراك عدائية البيئة وتمييز عناصرها، وكلا الإدراك والتميز يُنبّهان المشاعر الإنسانية التي تدفنها حدة التوتر تنبيهاً يهتم خلاله المعزول اهتماماً أكثر بما حوله, وينعكس ذلك علي شكل دوافع تُحركها الفطرة الاجتماعية, فيبدأ بالتكيف مع الإيجابي النادر من بين عناصر هذه البيئة، فيستجيب للنداءات من حوله بعد أن يطمئن في حُدود مفهومه الأمني وحذره الطبعي مدفوعاً بغريزته الاجتماعية أكثر فأكثر نحو إقامة علاقات إنسانية مع المعزولين الآخرين, وهذه العلاقات تمهّد للاندماج من جديد مع جماعة إنسانية يتعرّف على كلّ عضو فيها, لا بتقاطيع وجهه بل من خلال نغمة صوته, الشيء الوحيد الذي لا تتمكن أجهزة القمع الصهيونية بوسائلها المتوفرة في عزل نيتسان الرملة من فرض الحرمان عليه، وتتحول هذه العلاقات الإنسانية إلي اندماج تدريجي في مجالين: الأول: التعود علي حالة الصدام والمواجهة الدائمة مع العناصر العدائية في بيئة العزل، والثاني: الاندماج المصيري مع أعضاء الجماعة المعزولين، وترسيخ الروابط النضالية معهم، وتعزيز الجاهزية الاستشهادية لدى الواحد منهم دفاعاً عن الآخرين, أي أنّ حالة الصدام والمواجهة الدائمة التي تخلق محفزاتها أجهزة القمع الصهيونية لا تقود إلي الخلخلة النفسية المطلوبة، بل تؤدي إلي تصليد إرادة الأسير المعزول وإلي تعزيز روح المواجهة والجاهزية الصدامية لديه، يُعززها بالإضافة إلي السببين السالفين العوامل التالية :

أ) إشباع الروح وإزالة الوشائج الذاتية التي تعيق الانصهار المطلق في حركة الثورة من خلال عملية تربوية تثقيفية، يؤدي فيها ترديد آيات الذكر الحكيم دوراً تحريضيا هائلا وعاملاً أساسياً من عوامل التعبئة الروحانية ومفجراً عظيماً للطاقة النضالية في الفلسطيني المعزول الذي يتحول تحت تأثير تراتيلها إلي مناضل هُجومي مستصغر لشأن الذات الدنيوي, ذي استعداد للتضحية في سبيل وطن حُر وكلمة حق شاملة.

ب) ترديد أناشيد قادرة علي تثوير وجدان الأسير المعزول كلماتها وإيقاعها تملك القدرة علي تفجير ينابيع العطاء والتحدي، وتُنمي في الإنسان روح الفروسية والجرأة على إفناء الذات في سبيل المثل العليا: سأحمل روحي على راحتي  وألقي بها في مهاوي الردى                              

وتعزّز فيه روح الكبرياء واستصغار الموت

       إن عشت فعش حُراً   أو مت كالأشجار وقوفاً

                 وقوفاً ......... وقوفاً كالأشجار

هذا هو العزل الذي خُطّط له كي يكون مقبرة لفرسان الشعب الفلسطيني ومذبحة نفسية لأشجع رجالة, حوّلته إرادتهم إلى مدرسة تفولذ العزائم وتُعزّز فيهم التحدي.

                                           نفحة 4/5/1994.  
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف