كسر ارادة السجّان
____________
بهي الطلعة , جميل المبسم , تحلق في صدى ضحكته الفراشات , واثق الخطى , هذا هو فداء .
تكبر معه أحلامي انه صورة مني بلا قيد , لم يقيد فداء الا الحب , الحب يغزل اثوابه من سنا الضياء , انه الهندام الذي يجملنا , فنكون به أبهى , وما أجمله من كساء , ولأجل حب أم تفانت لأجلي ولأجله رضيَ فداء بقيد ياسمين , الأم التي تريد سند تتكيء عليه كلما أوحش دربها , وتعبت خطاها , لم تطلب منه ياسمين الأبتعاد عن طريق الجهاد , فالمحبة لا تكون بالطلب , والأم الفلسطينية تدفع ابنها للجهاد بكل الاحوال , لكن القلق المتربص بنظرات عيونها طلب الحذر , فكان كثير الحرص على سلامته لأجلها , ولأجل أب ينتظره خلف القضبان , حين بدأت الأنتفاضة الثانية كان فداء طفل لا يتعدى السبعة اعوام , لأحق الدبابات مع الصبية في أزقة المخيم , وبعد فترة ومع تطور اساليب المقاومة ونضوج فداء , تعلم كيف يعد (الكوع ) وهو (كوع ماسورة المياه الحديدية تعبأ بالمواد المتفجرة ) , اختلفت الأنتفاضة الثانية عن الأولى بسبل المقاومة والوسائل المتاحة , وكذلك اختلفت اساليب العدو في قمعها .
شيء واحد باقي على هذه الأرض , اننا نكبر معها .. نكبر لها .. وقد لا نكون يوماً صغار .
جئنا الأرض لنرفعها لتقبل جبهة الشمس , لا نريد من هذا الحب عتقاً , فأي صمت يمكنه أن يتوارى امام دماء الشهداء ! , نودعهم لثرى هذه الأرض لحب بجوفها يملأ المروج , سينبت زهر الحنون , سيأتي يوم وتصدأ السلاسل , وتعلن الزغاريد والميجنا بداية الفرح , سيبرأ الحزن مني يوماً .
كان دائما لجوار ( فداء ) عمه ( حمزة ) , مع ان حمزة اصبح طبيباً لكن دائما كان المبادر لأسعاف الجرحى , فكان عند كل عملية إقتحام للمدينة يخرج بسيارة الأسعاف ليخلي الجرحى , لا يأبه لعرقلة جنود الأحتلال لعمله , بل يصر على إنجاز مهمته وإسعاف الجرحى , سألته مرة : ما أكثر حالة اسعفتها وأثرت فيك ؟
أجاب : حالة شاب استشهد خلال المواجهات في أحد شوارع المخيم , وفي نفس الوقت استشهدت أمه حين وقعت قذيفة داخل بيتها , وكأن أرواحهم أبت أن ترتقي الا سوياً , كما عاشت سوياً , فلتحسن استقبالهما ملائكة السماء , كانت الام تعد الخبز وتضع عليه الزيت والزعتر ثم ترسله مع أحد الصبيه للمجاهدين , ايضاً الام كانت تجاهد وتساند الجهاد بالقوت , صعدت روحها للسماء ولم يزل عجين المجاهدين على يديها , فكما المحارب المقبل الذي يرفع سلاحه ويترصد للعدو يستشهد هي استشهدت وهي مقبلة .
إنه خبز الأم , ترنيمة الصباح , رائحة الخبز حين تلامس الأيدي تشبه شيء من رائحة الجنة , شقاء كامن في تجاعيد يديها لا تظهره الا محبة وحنان , فمنذ أن انطفأت نار مواقدنا ذهبت بركة بيوتنا .
عندما أخليت الأم ورأيت تلك الأيدي المغموسة بعجين كان يعد للابطال وعليه بعض من قطرات الدم وكأنه وسام قبول للجنة , شعرت بتاريخ هاتان اليدان , فكم سعت وكم تعبت وكم مسحت عرق الجبين , وقدر لها ان يكون آخر عمل توقمان به تحت شمس الحياة , من أجل الأبن ورفاقه , فيأتي الأبن تحمله ملائكة السماء ليقبل اليدين ويرفعهما معه حيث لا صغب ولا تعب , حيث الخلود.
أين تذهب ارواح الشهداء ليلاً ؟ّ! , كلما زرت الأقصى تطلعت الى قبابه , فوجدها مكتظة طهر وبهاء , فأتسائل لعل أرواح الشهداء تطوفها ليلاً , وقد علق بالفضاء شيء منهم .
تتعدد الحكايات فخلف كل باب مُؤصد حكاية , ولكل فلسطيني تاريخ أقل سطورة الرباط , مداهمة البيوت .. ومصادر الاراضي … والحصار.. واغلاق الطرق .. والحرمان من أدنى سبل الحياة , إنه الرباط الجميل , حيث يبقى الفلسطيني صامد يستقبل المعاناة بثبات .
انتهت الأنتفاضة الثانية , وكنا كمن يتراجع للخلف , يخسر الشهداء والقادة والارض , ولا يكسب شيئ, وأصبحت العودة لمكاسب الماضي أنجاز صعب المنال .
وأنا غارق في ضجر الذكريات وأحداث الماضي فجأة سمعت صوت الباب يفتح اعلاناً بأنتهاء سجني الأنفرادي , ويأخذوني لأنضم لباقي الرفاق , كم كانت سعادتي كبيرة , فقد اشتقت للحديث مع الأخرين , ومخالطة الناس, بعد ان امضيت أكثر من اربع سنوات في الانفرادي , أشتقت لمواعيد الزيارة , لتحتضن عيوني عيون الأحبة , وكم تشتاق لعناق ينسي الروح الأغتراب , إني بعد كل زيارة وفي آخر الليل آوي لفراشي أضع جسدي المنهك من لوعة الأشتياق على البرش الجاف , أضم يدي الى صدري بحال يشبه ضمة القبر , فليس كل ضمة عناق , بعض من الموت يعشه الجسد المغترب المحروم من الأحباب , حيث يلقاهم ولا ينالهم , ببرودة قضبان السجن حكاية تحترق مفرداتها ألماً بكل لقاء .
في الزيارة المرتقبة اتت ياسمين تحمل بعيونها بشرى , منذ ان لمحتها قادمة من بعيد شعرت بأنها تحمل الفرح وتسرع لطرحه بين يديّ, فرغم كبرها ما زالت تشبه الاطفال ببرائتهم وشفافيتهم .
سألتها : ما حكاية الفرح بعيونك ؟
: سيكون بأمكاننا ان ننجب طفلاً , لنسكر ارادة السجان ونجدد الحياة التي قيدها أسرك , اريد ان تتحرك حياتك في أحشائي رغم اغترابك عني , بميلاد طفل جديد قهر لليأس المسيطر علىّ بسنوات سجنك , كلنا ( انا واهلك وابنك ) نحتاج لهدية منك عليها تتشكل مجريات حياتنا القادمة , سيكون ابننا النور الذي يضيء عتمة الزنزانة .
: الأمر صعب لكن لأجل رغبتك سأحقق الصعب .
: خضنا امور أكثر صعوبة من هذا الأمر معاً , هي نطفة مهربة بحبه تمر فيها كل الحياة .
: في الزيارة القادمة سأجتهد لأحقق رغبتك , لن أطفيء الأمل المتقّد بعيونك .
: في الزيارة القادمة لنحتفل إذن .
ومرت الأيام وآتى موعد الزيارة القادمة حيث رافق ياسمين ابي وامي وفداء والطبيب , ليساندوا ياسمين ويشهدوا على النطفة المهربة التي ستزرع في رحم ياسمين , تم الأمر بالكثير من الجهد والتكتم , والآن جميلتي ستنجب لي ابناً آخر , فجميلتي تخاف ان تكبر ولا يسعفنا الزمن للأنجاب فتعجلت الحمل .
اسراء عبوشي
____________
بهي الطلعة , جميل المبسم , تحلق في صدى ضحكته الفراشات , واثق الخطى , هذا هو فداء .
تكبر معه أحلامي انه صورة مني بلا قيد , لم يقيد فداء الا الحب , الحب يغزل اثوابه من سنا الضياء , انه الهندام الذي يجملنا , فنكون به أبهى , وما أجمله من كساء , ولأجل حب أم تفانت لأجلي ولأجله رضيَ فداء بقيد ياسمين , الأم التي تريد سند تتكيء عليه كلما أوحش دربها , وتعبت خطاها , لم تطلب منه ياسمين الأبتعاد عن طريق الجهاد , فالمحبة لا تكون بالطلب , والأم الفلسطينية تدفع ابنها للجهاد بكل الاحوال , لكن القلق المتربص بنظرات عيونها طلب الحذر , فكان كثير الحرص على سلامته لأجلها , ولأجل أب ينتظره خلف القضبان , حين بدأت الأنتفاضة الثانية كان فداء طفل لا يتعدى السبعة اعوام , لأحق الدبابات مع الصبية في أزقة المخيم , وبعد فترة ومع تطور اساليب المقاومة ونضوج فداء , تعلم كيف يعد (الكوع ) وهو (كوع ماسورة المياه الحديدية تعبأ بالمواد المتفجرة ) , اختلفت الأنتفاضة الثانية عن الأولى بسبل المقاومة والوسائل المتاحة , وكذلك اختلفت اساليب العدو في قمعها .
شيء واحد باقي على هذه الأرض , اننا نكبر معها .. نكبر لها .. وقد لا نكون يوماً صغار .
جئنا الأرض لنرفعها لتقبل جبهة الشمس , لا نريد من هذا الحب عتقاً , فأي صمت يمكنه أن يتوارى امام دماء الشهداء ! , نودعهم لثرى هذه الأرض لحب بجوفها يملأ المروج , سينبت زهر الحنون , سيأتي يوم وتصدأ السلاسل , وتعلن الزغاريد والميجنا بداية الفرح , سيبرأ الحزن مني يوماً .
كان دائما لجوار ( فداء ) عمه ( حمزة ) , مع ان حمزة اصبح طبيباً لكن دائما كان المبادر لأسعاف الجرحى , فكان عند كل عملية إقتحام للمدينة يخرج بسيارة الأسعاف ليخلي الجرحى , لا يأبه لعرقلة جنود الأحتلال لعمله , بل يصر على إنجاز مهمته وإسعاف الجرحى , سألته مرة : ما أكثر حالة اسعفتها وأثرت فيك ؟
أجاب : حالة شاب استشهد خلال المواجهات في أحد شوارع المخيم , وفي نفس الوقت استشهدت أمه حين وقعت قذيفة داخل بيتها , وكأن أرواحهم أبت أن ترتقي الا سوياً , كما عاشت سوياً , فلتحسن استقبالهما ملائكة السماء , كانت الام تعد الخبز وتضع عليه الزيت والزعتر ثم ترسله مع أحد الصبيه للمجاهدين , ايضاً الام كانت تجاهد وتساند الجهاد بالقوت , صعدت روحها للسماء ولم يزل عجين المجاهدين على يديها , فكما المحارب المقبل الذي يرفع سلاحه ويترصد للعدو يستشهد هي استشهدت وهي مقبلة .
إنه خبز الأم , ترنيمة الصباح , رائحة الخبز حين تلامس الأيدي تشبه شيء من رائحة الجنة , شقاء كامن في تجاعيد يديها لا تظهره الا محبة وحنان , فمنذ أن انطفأت نار مواقدنا ذهبت بركة بيوتنا .
عندما أخليت الأم ورأيت تلك الأيدي المغموسة بعجين كان يعد للابطال وعليه بعض من قطرات الدم وكأنه وسام قبول للجنة , شعرت بتاريخ هاتان اليدان , فكم سعت وكم تعبت وكم مسحت عرق الجبين , وقدر لها ان يكون آخر عمل توقمان به تحت شمس الحياة , من أجل الأبن ورفاقه , فيأتي الأبن تحمله ملائكة السماء ليقبل اليدين ويرفعهما معه حيث لا صغب ولا تعب , حيث الخلود.
أين تذهب ارواح الشهداء ليلاً ؟ّ! , كلما زرت الأقصى تطلعت الى قبابه , فوجدها مكتظة طهر وبهاء , فأتسائل لعل أرواح الشهداء تطوفها ليلاً , وقد علق بالفضاء شيء منهم .
تتعدد الحكايات فخلف كل باب مُؤصد حكاية , ولكل فلسطيني تاريخ أقل سطورة الرباط , مداهمة البيوت .. ومصادر الاراضي … والحصار.. واغلاق الطرق .. والحرمان من أدنى سبل الحياة , إنه الرباط الجميل , حيث يبقى الفلسطيني صامد يستقبل المعاناة بثبات .
انتهت الأنتفاضة الثانية , وكنا كمن يتراجع للخلف , يخسر الشهداء والقادة والارض , ولا يكسب شيئ, وأصبحت العودة لمكاسب الماضي أنجاز صعب المنال .
وأنا غارق في ضجر الذكريات وأحداث الماضي فجأة سمعت صوت الباب يفتح اعلاناً بأنتهاء سجني الأنفرادي , ويأخذوني لأنضم لباقي الرفاق , كم كانت سعادتي كبيرة , فقد اشتقت للحديث مع الأخرين , ومخالطة الناس, بعد ان امضيت أكثر من اربع سنوات في الانفرادي , أشتقت لمواعيد الزيارة , لتحتضن عيوني عيون الأحبة , وكم تشتاق لعناق ينسي الروح الأغتراب , إني بعد كل زيارة وفي آخر الليل آوي لفراشي أضع جسدي المنهك من لوعة الأشتياق على البرش الجاف , أضم يدي الى صدري بحال يشبه ضمة القبر , فليس كل ضمة عناق , بعض من الموت يعشه الجسد المغترب المحروم من الأحباب , حيث يلقاهم ولا ينالهم , ببرودة قضبان السجن حكاية تحترق مفرداتها ألماً بكل لقاء .
في الزيارة المرتقبة اتت ياسمين تحمل بعيونها بشرى , منذ ان لمحتها قادمة من بعيد شعرت بأنها تحمل الفرح وتسرع لطرحه بين يديّ, فرغم كبرها ما زالت تشبه الاطفال ببرائتهم وشفافيتهم .
سألتها : ما حكاية الفرح بعيونك ؟
: سيكون بأمكاننا ان ننجب طفلاً , لنسكر ارادة السجان ونجدد الحياة التي قيدها أسرك , اريد ان تتحرك حياتك في أحشائي رغم اغترابك عني , بميلاد طفل جديد قهر لليأس المسيطر علىّ بسنوات سجنك , كلنا ( انا واهلك وابنك ) نحتاج لهدية منك عليها تتشكل مجريات حياتنا القادمة , سيكون ابننا النور الذي يضيء عتمة الزنزانة .
: الأمر صعب لكن لأجل رغبتك سأحقق الصعب .
: خضنا امور أكثر صعوبة من هذا الأمر معاً , هي نطفة مهربة بحبه تمر فيها كل الحياة .
: في الزيارة القادمة سأجتهد لأحقق رغبتك , لن أطفيء الأمل المتقّد بعيونك .
: في الزيارة القادمة لنحتفل إذن .
ومرت الأيام وآتى موعد الزيارة القادمة حيث رافق ياسمين ابي وامي وفداء والطبيب , ليساندوا ياسمين ويشهدوا على النطفة المهربة التي ستزرع في رحم ياسمين , تم الأمر بالكثير من الجهد والتكتم , والآن جميلتي ستنجب لي ابناً آخر , فجميلتي تخاف ان تكبر ولا يسعفنا الزمن للأنجاب فتعجلت الحمل .
اسراء عبوشي