بعض النازحين إلى المدن يحب غسل روحه من تلوث المدينة بالتوجه نحو البادية، لينعش رئته بهواء نقي يسري في كيانه سريان الإكسير في الجثث الهامدة، يتلذذ بنعمها مثل الغرباء الذين لا يربطهم بالمكان أي رباط.... يأتي بسيارته الفارهة محدثا فوضى في الأحلام العادية لشباب البلدة المهمشة ...
ينتفع هذا الـ "بعض" بمشاريع اجتماعية يربحون من ورائها أموالا طائلة، ويحاولون تطهير أنفسهم من أضرانها عبر توزيع الحلوى الرخيصة على الأطفال الصغار أمام أعين آبائهم المبتلعة غضبهم إكراما لحق الضيافة....
وينسى هؤلاء أن الناس في هذه القرى النائية لا ينظرون إلى ما في أيدي غيرهم كما لا ينتظرون صدقة من أحد، لأن لديهم من القناعة والرضا ما يكفي للإقبال بأمل كبير على الحياة التي تمر كما شاء لها الله، وتستوي فيها الأسبات والآحاد بأمان، حيث تعود السكان على استقبال القادمين من المدن الكبرى في بيوتهم وإكرامهم بدون انتظار مقابل.....
ولكن، في هذا السبت انقلب إيقاع الحركة الهادئة إلى إيقاع متوتر، إذ ترك السكان أشغالهم التي لا تخضع لقانون العطل والراحة، وخرجوا عن بكرة أبيهم يهرولون في اتجاه الغابة وعلامات الانزعاج تكسو وجوههم، كانوا على عجل من أمرهم وكأنهم كومبارس في فلم حربي عن العصر الوسيط؛ بعضهم تسلح بالمناجل وأخرون بالعصي، والنساء بدورهن خرجن وفي يد بعضهن مذراة أو رفشا تلوّح به....
منظر امرأة تجري حافية، وعويلها الموجع يذيب الصخر، كان يثير الغموض ويبعد فرضية الصراع حول حدود أرض أو عين ماء كما جرت عادة الفلاحين؛ لقد كانت تندب عائلتها بسب عار كبير سيصمها إلى الأبد، متسائلة عن كيفية غسله لتستطيع عائلتها العيش بين الناس بكرامة و أمان.....
تجمهر بعضهم تحت شجرة على حافة الطريق الغابوية، حيث طوقت عناصر من الدرك المكان، وحيث تقف بعض الفتيات متوجسات وقد اغتال الرعب ابساماتهن الوديعة فاسحا المجال لدموع تنهمر بغزارة على وجوههن البريئة... حاول أحدهم تهدئتهن بدون جدوى، كنّ يومئن إلى الأسفل بأيديهن الصغيرة... بدت هناك أحذية صغيرة مبعثرة ومحفظة بالية، علقت بغصن شجرة، تطل من شقوقها بعض الدفاتر والأقلام الملونة....
حاول دركي أن يمنع سيدة من الاقتراب، ولكنها تجاوزته بقوة مندفعة ودقات قلبها تتصاعد، قالت بأنها رئيسة جمعية الترافع عن حقوق القاصرات بالعالم القروي، اقتربت أكثر وهي تندد بغياب الأمن في المنطقة... رأت رجلا صغيرة مغطاة بالدماء، ويدا متدلية كأنها انتزعت من مكانها، ووجها صغيرا مشوها عن آخره كأن وحوشا تنازعته، كان اللون الأحمر يغطي الأرض، وذلك الجسم الهزيل الصغير ممدد هنالك يستغيث....
لم تتمالك السيدة نفسها بسبب هول المنظر، فصرخت في وجه عناصر الدرك كي يفسحوا الطريق لإسعاف الضحية، متخيلة بأنها تعرضت لهجوم الخنازير البرية الموجودة في المحمية القريبة، كما أوحى منظر السكان المتوجهين صوب الغابة باحثين عن الهدف.
لم تلاحظ السيدة الملابس الصغيرة الممزقة المرمية على مقربة الفتاة، إلا عندما سمعت إحداهن تصف الجاني: ذلك الوحش مديني يبدو في الثلاثينيات من عمره أو أقل، وسيم وحسن الهندام ولا يثير أية ريبة، وكان لابسا....
سقطت السيدة مغشيا عليها.
لقد تعودت زهرة التي لم يتجاوز عمرها تسع سنين، الذهاب إلى المدرسة رفقة صديقتيها وقريبتها يوميا عبر الطريق الغابوية آمنات... فالسكينة سمة الأماكن الصغيرة حيث يعرف السكان بعضهم بعضا فلا يقلقون على فلذات أكبادهم من مخاطر الطريق، ولا سيما أن انشغالهم بتوفير القوت اليومي يمنعهم من مرافقة الصغار إلى المدرسة البعيدة والتي يتطلب الوصول إليها وقتا ومشقة يؤثرون استغلالهما في السعي الدؤوب لتأمين أدنى شروط العيش البسيط.
في صبيحة ذلك السبت، توجهت زهرة كالمعتاد إلى المدرسة مع رفيقاتها، فناداها سامي، ذهبت إليه مسرعة مستبشرة، فناولها حلوى ولعبة مقترحا أن تخبئ لعبتها تحت الشجرة ويتولى حراستها إلى أن تخرج من المدرسة.
انطلقت الطفلة خلف رفيقاتها مسرورة وهي تتمنى انتهاء الدوام لتعود وتعانق لعبتها الجميلة، شاكرة كرم العم سامي.
في طريق العودة، لم تأبه لتحذير قريبتها وهي تذكرها بكلام جدتهما عن عدم الاستئناس بالغرباء: العم سامي ليس غريبا، إنه طيب ولطيف جدا، كما أنه فرد من العائلة .. لقد أرضعته جدتي ....
عندما وصلت الفتيات الثلاث إلى البلدة بدون زهرة، قلقت والدتها ولكنها اطمأنت لما علمت بأنها في عهدة سامي البعيد عن الشبهات، فهو دائم التردد على دارهم رفقة والدته الطيبة....
قبل العصر، سمع السكان استغاثة امرأتين كانتا تحطبان في الغابة، فخرجوا مستفسرين المرأتين اللتين أكدتا مشاهدتهما شخصا وهو يهوي بصخرة على وجه فتاة صغيرة، ولما سمع صراخهما عدا نحوهما لإخراسهما... وعندما تأكد من عدم الإمساك بهما، انطلق هاربا عبر الغابة...
انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، فانطلق الجميع إلى الغابة متوعدين الفاعل.....
لما استعادت السيدة وعيها أجرت ثلاث مكالمات هاتفية، ثم انطلقت مسرعة لتلتقي ابنها سامي وتضعه على متن أول طائرة تغادر البلد، تاركة زهرة تواجه قدرها بملامحها المشوهة وعاهتها الدائمة و........
ينتفع هذا الـ "بعض" بمشاريع اجتماعية يربحون من ورائها أموالا طائلة، ويحاولون تطهير أنفسهم من أضرانها عبر توزيع الحلوى الرخيصة على الأطفال الصغار أمام أعين آبائهم المبتلعة غضبهم إكراما لحق الضيافة....
وينسى هؤلاء أن الناس في هذه القرى النائية لا ينظرون إلى ما في أيدي غيرهم كما لا ينتظرون صدقة من أحد، لأن لديهم من القناعة والرضا ما يكفي للإقبال بأمل كبير على الحياة التي تمر كما شاء لها الله، وتستوي فيها الأسبات والآحاد بأمان، حيث تعود السكان على استقبال القادمين من المدن الكبرى في بيوتهم وإكرامهم بدون انتظار مقابل.....
ولكن، في هذا السبت انقلب إيقاع الحركة الهادئة إلى إيقاع متوتر، إذ ترك السكان أشغالهم التي لا تخضع لقانون العطل والراحة، وخرجوا عن بكرة أبيهم يهرولون في اتجاه الغابة وعلامات الانزعاج تكسو وجوههم، كانوا على عجل من أمرهم وكأنهم كومبارس في فلم حربي عن العصر الوسيط؛ بعضهم تسلح بالمناجل وأخرون بالعصي، والنساء بدورهن خرجن وفي يد بعضهن مذراة أو رفشا تلوّح به....
منظر امرأة تجري حافية، وعويلها الموجع يذيب الصخر، كان يثير الغموض ويبعد فرضية الصراع حول حدود أرض أو عين ماء كما جرت عادة الفلاحين؛ لقد كانت تندب عائلتها بسب عار كبير سيصمها إلى الأبد، متسائلة عن كيفية غسله لتستطيع عائلتها العيش بين الناس بكرامة و أمان.....
تجمهر بعضهم تحت شجرة على حافة الطريق الغابوية، حيث طوقت عناصر من الدرك المكان، وحيث تقف بعض الفتيات متوجسات وقد اغتال الرعب ابساماتهن الوديعة فاسحا المجال لدموع تنهمر بغزارة على وجوههن البريئة... حاول أحدهم تهدئتهن بدون جدوى، كنّ يومئن إلى الأسفل بأيديهن الصغيرة... بدت هناك أحذية صغيرة مبعثرة ومحفظة بالية، علقت بغصن شجرة، تطل من شقوقها بعض الدفاتر والأقلام الملونة....
حاول دركي أن يمنع سيدة من الاقتراب، ولكنها تجاوزته بقوة مندفعة ودقات قلبها تتصاعد، قالت بأنها رئيسة جمعية الترافع عن حقوق القاصرات بالعالم القروي، اقتربت أكثر وهي تندد بغياب الأمن في المنطقة... رأت رجلا صغيرة مغطاة بالدماء، ويدا متدلية كأنها انتزعت من مكانها، ووجها صغيرا مشوها عن آخره كأن وحوشا تنازعته، كان اللون الأحمر يغطي الأرض، وذلك الجسم الهزيل الصغير ممدد هنالك يستغيث....
لم تتمالك السيدة نفسها بسبب هول المنظر، فصرخت في وجه عناصر الدرك كي يفسحوا الطريق لإسعاف الضحية، متخيلة بأنها تعرضت لهجوم الخنازير البرية الموجودة في المحمية القريبة، كما أوحى منظر السكان المتوجهين صوب الغابة باحثين عن الهدف.
لم تلاحظ السيدة الملابس الصغيرة الممزقة المرمية على مقربة الفتاة، إلا عندما سمعت إحداهن تصف الجاني: ذلك الوحش مديني يبدو في الثلاثينيات من عمره أو أقل، وسيم وحسن الهندام ولا يثير أية ريبة، وكان لابسا....
سقطت السيدة مغشيا عليها.
لقد تعودت زهرة التي لم يتجاوز عمرها تسع سنين، الذهاب إلى المدرسة رفقة صديقتيها وقريبتها يوميا عبر الطريق الغابوية آمنات... فالسكينة سمة الأماكن الصغيرة حيث يعرف السكان بعضهم بعضا فلا يقلقون على فلذات أكبادهم من مخاطر الطريق، ولا سيما أن انشغالهم بتوفير القوت اليومي يمنعهم من مرافقة الصغار إلى المدرسة البعيدة والتي يتطلب الوصول إليها وقتا ومشقة يؤثرون استغلالهما في السعي الدؤوب لتأمين أدنى شروط العيش البسيط.
في صبيحة ذلك السبت، توجهت زهرة كالمعتاد إلى المدرسة مع رفيقاتها، فناداها سامي، ذهبت إليه مسرعة مستبشرة، فناولها حلوى ولعبة مقترحا أن تخبئ لعبتها تحت الشجرة ويتولى حراستها إلى أن تخرج من المدرسة.
انطلقت الطفلة خلف رفيقاتها مسرورة وهي تتمنى انتهاء الدوام لتعود وتعانق لعبتها الجميلة، شاكرة كرم العم سامي.
في طريق العودة، لم تأبه لتحذير قريبتها وهي تذكرها بكلام جدتهما عن عدم الاستئناس بالغرباء: العم سامي ليس غريبا، إنه طيب ولطيف جدا، كما أنه فرد من العائلة .. لقد أرضعته جدتي ....
عندما وصلت الفتيات الثلاث إلى البلدة بدون زهرة، قلقت والدتها ولكنها اطمأنت لما علمت بأنها في عهدة سامي البعيد عن الشبهات، فهو دائم التردد على دارهم رفقة والدته الطيبة....
قبل العصر، سمع السكان استغاثة امرأتين كانتا تحطبان في الغابة، فخرجوا مستفسرين المرأتين اللتين أكدتا مشاهدتهما شخصا وهو يهوي بصخرة على وجه فتاة صغيرة، ولما سمع صراخهما عدا نحوهما لإخراسهما... وعندما تأكد من عدم الإمساك بهما، انطلق هاربا عبر الغابة...
انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، فانطلق الجميع إلى الغابة متوعدين الفاعل.....
لما استعادت السيدة وعيها أجرت ثلاث مكالمات هاتفية، ثم انطلقت مسرعة لتلتقي ابنها سامي وتضعه على متن أول طائرة تغادر البلد، تاركة زهرة تواجه قدرها بملامحها المشوهة وعاهتها الدائمة و........