النصّ بين المفقود و الموجود و المنشود
في عودة النصّ الضّالّ
للأستاذ الأديب جلال المخ
بقلم محمد الصالح الغريسي
صدر مؤخّـرا كتاب بعنـ،وان : عـودة النصّ الضّـال للأستاذ الأديب جـلال المـخ، و هو الكتاب العشرون في إصداراته.و للرّقم عشرين دلالة خاصّة عند صاحبه ، إذ يأتي تتويجا لسنوات طويلة من الكتابة ، بين شعر باللّغتين العربيّة و الفرنسيّة ، و سرد و ترجمة و دراسة و أنطولوجيا.
هذا الكتاب و هو من جنس قصيدة النّثر يحمل عنوان : عودة النصّ الضّالّ ، ويضمّ بين جوانبه اثنتي عشرة قصيدة أو نصّا نثريّا طويلا ، شغلت أربعا و مائة من الصّفحات ذات الحجم المتوسّط ، في طبعة أولى عن شركة المطبعة الثّقافيّة بحمّام الأنف . و يحيلنا عنوان الكتاب على عناوين مشابهة لأعمال أبيّة و فنّية ، مثل كتابي عودة الرّوح ، و عودة الوعي لتوفيق الحكيم و الشّريط السينمائي : عودة الابن الضّالّ للمخرج السينمائي يوسف شاهين.و كلّ هذه الأعمال و غيرها يطغى عليها هاجس العودة إلى أصل مفقود ، هو الرّوح أو الوعي أو الرّشد.و هو هاجس صاحب تراث الأمم القديمة منذ غابر العصور. نجده في ملحمة "كلكامش" و أسطورة طائر "الفينيق" الّذي ينبعث من تحت الرّماد ، كما نجده في العقائد الفرعونيّة القديمة الّتي كانت تؤمن بالانبعاث إلى الحياة من جديد بعد الموت . ولم تزل فكرة الانبعاث أو العودة إلى أصل مفقود تظهر من حين إلى آخر ، في ثوب فكريّ أو حضاريّ أو أدبيّ أو فنّيّ . و لعلّ الأستاذ الأديب جلال المخ واحد من هؤلاء الّذين يبحثون عن هذا المفقود ، من بين جذور الماضي الغابر و الحديث ، لكن عبر تراث الإنسانيّة ، و في ثوب جديد هو ثوب النصّ و فعل الكتابة .
و كانّ جلال المخّ أراد بكتابه العشرين ، أن يؤسّس لعودة نصّ ضال في واعيته الخفيّة ، يسعى إلى إخراجه إلى السّطح .. هذا النصّ الّذي يعيد على الكلمة جذوتها و سلطانها و قدسيّتها المفقودة. في هذا الإطار ، يتنزّل عنوان مجموعته الشّعريّة ك عودة النصّ الضّالّ.
تسعة عشر كتابا سبقت هذا الكتاب ، كانت بمثابة البحث عن النصّ الضّالّ الّذي يطمح إليه ، في تجربة ماراطونيّة للكتابة دامت ما يقارب الخمسة و ثلاثين عاما، تقلّب فيها بين أجناس عديدة من الكتابة.
إنّ المتجوّل بين ردهات الكتاب و أروقته ، و في كلّ زاوية من عمارته ، يلحظ أنّ نصوص الكتاب ، جاءت ضمن نسق زمنيّ متقارب في المسافة ، و في خطّ تصاعديّ ، و هذا ما يساعد القارئ و الباحث المتأمّل في رسم خطّ بيانيّ لانفعالات الكاتب ، و درجات تفاعله مع القضيّة المحوريّة الّتي شغلته ، ألا و هي النصّ و درجة الوعي الّذي يصاحبه أثناء ممارسة فعل الكتابة . كما يمكن للقارئ أن يستشفّ الخيط الرّابط بين نصوص الكتاب ، ألا وهو قضيّة النصّ و إشكاليّات الكتابة بين المفقود و الموجود و المنشود. ففي نصّ عودة النصّ الضّالّ ، يطرح الأستاذ جلال المخّ قضيّة النصّ الإبداعيّ بين الشّكل و المضمون و الرّوح ، ملمّحا إلى رحلة النصّ ( الكلمة ) عبر تاريخ الإنسانيّة ، على معنى ما ورد في الكتاب المقدّس الإنجيل :
« في البدء كان الكلمة ، و الكلمة كان عند الله و كان الكلمة الله . هذا كان في البدء عند الله . كلّ شيء به كان ، و بغيره لم يكن شيء ممّا كان . فيه كانت الحياة و كان نور النّاس . و النّور يضيء في الظّلمة و الظّلمة لم تدركه « *1
كما ورد ذكر لفظة "الكلمة" في القرآن الكريم في قوله تعالى :
« و تلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم »*2
و يتّضح من هذين النّصّين معنى النّور الّذي هو الهداية ، و معنى التّوبة ، الّذي هو العودة إلى الرّشاد . و جاءت سورة العلق في القرآن الكريم لتقرن بين القراءة و الكتابة و العلم في قوله تعالى : « اقرأ بسم ربّك الّذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم « *3 .
فالأمر المنزّل على الرّسول الكريم بالقراءة ، ليس على المعنى المتعارف من فكّ الحروف المكتوبة و تحويلها إلى أصوات ، على ما هو متعارف عليه زمن نزول
هذه الآية ، بعد أن كانت الإنسانيّة قد اكتشفت الكتابة ، و إنّما جاءت بمعنى الأمر بتبليغ الرّسالة الّتي سيتلوها عليه جبريل عليه السّلام بأمر من ربّه ، ألا و هي القرآن الكريم . و يسمّى القران بالقرآن لأنّه نزل قراءة ن أي رسالة شفويّة أو صوتيّة ، كما سمّي القرآن بالكتاب ، لوجوب حفظه و تدوينه كتابة على معنى الآية الكريمة : « اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم « .*4
من خلال هذه الأمثلة من النّصوص المقدّسة ، تتبيّن لنا أركان الكلمة (الكتابة)، ألا و هي الحفظ و التّدوين ، لتكون للنّاس نورا و هداية . من هنا جاءت قداسة الكتابة و قداسة الكلمة لارتباطها بغاية سامية ، هي نفع النّاس و إرشادهم و تغيير ما بأنفسهم .
و رغم أنّ اكتشاف الإنسان القديم للكتابة ،كان رغبة منه في تجسيد معنى الخلود و تحدّي سلطان الموت ،إلاّ أنّها تظلّ نوعا من الاستذكار لما رسخ في وعي الإنسان منذ الخلق ،من حكمة و علم يساعدانه في ترسيخ إنسانيّته و معرفة حقيقته الّتي كرّمه بها المولى سبحانه و تعالى .و بما أنّ رحلة الإنسان مع الكتابة كانت طويلة و مضنية ، فقد ارتبط وعي الإنسان فيها برقيّ الكتابة ، و ذلك لما أثاره من قضايا حول أشكالها و مضامينها و أهدافها. وقد كانت هذه المواضيع حاضرة في نصوص جلال المخّ ، منها قوله في نصّ عودة النصّ الضّالّ :
من رحم الأشكال خرج النصّ
و غادر قافلة الحروف
هجر الدّوح الّذي شهد مولده
و يمّمم صوب فضاءات بعيدة
حيث ينصهر الزّمان في المكان *5
ثمّ يواصل الشّاعر استحضار رحلة الإنسان مع الكتابة أي مع النصّ الإبداعيّ ، فيقول :
كم طوّف في الأصقاع البعيدة
كم يمّم صوب فضاءات أخرى
تدفعه أعاصير المجهول
ليوغل في مهامه الكتابة
يغتذي بأساليب الغرباء
و ترتوي جذوره ببلاغات أخرى
تفعم بيانه ، تستحدث الصّور*6
إلى أن يقول :
و تنفتح أسرارها و تنضج أثمارها
حبلى بأسرار معان جبّلتها الأمم *7
يشير الشّاعر هنا إلى تواصل الأمم و الحضارات عبر النصّ ، يصاحبه وعي بواقع الأدب العربيّ الّذي تأخّر عن القافلة فلم يجد مناصا من الاغتذاء بأساليب الغرب ، لترتوي جذوره ببلاغات أخر ، فيستعير حياته من الأمم الأخرى.
و هكذا ، لم تعد الكتابة الإبداعيّة حكرا على أمّة بعينها ، و بالتّالي لم تعد سجينة شكل بعينه ، و لا مضمون تنفرد به أمّة دون أخرى ، بل أصبح شكلا من أشكال التّواصل بين الأمم و الحضارات ؛ يربط الماضي بالحاضر ، و القاصي بالدّاني في الزّمان و المكان.
كم أثمر هذا النصّ بساتين بعيدة
مسمّدا بحكمة الماضي و خيالات الزّمن
و استنسخ المغامرة في عشرات التّجارب
و أضحى غابة كثيفة الأشجار
تغطّي خضرتها العلوّ الرّحب
و المدى الشّاسع
و الأفق الرّحب و المسافات الفسيحة *8
و يمضي الشّاعر في تقصّي واقع النصّ الإبداعيّ العربيّ و تخلّفه عن غيره مقارنة بما هو لدى الأمم الأخرى ،ليعيش حالة من الغربة و التّخبّط و الضّياع في أمّته و بين أهله الّذين ما يزال الكثير منهم يكبّلونه بالقيود و يضربون حوله الحواجز و الحدود ، فلا يلبث أن يتمرّد عليهم .فلكم عانت القصيدة العربيّة من أسرها داخل أشكال تقليديّة و قوالب قديمة أصبحت ضيّقة على توق المبدع العربيّ إلى نصّ يعبّر عن إنسانيّته في عالم كسر كلّ الحواجز ليصبح قرية إنسانيّة يذوب فيها العرق و اللّغة و تتلاشى فيها الحدود المصطنعة .
لكم تمرّدت القصيدة
على الأصول و المنابع الصلبة
و واصلت التّرحال
تبحث عن مخيال
لا يمتّ للوشائج بصلة *9
ثمّ يمضي الشّاعر في توصيف حالة التّخبّط الّتي تعاني منها القصيدة العربيّة ،فيقول :
كم لبست جلبابا من تحت عباءة
و تحت ذلك كسوة من أرفل الأثواب
كم نزعت من فوف رأسها العمامة
و وضعت طربوشا و قلنسوة
و قبّعة ، بل غمامة *10
و لئن لم يذكر الشّاعر هنا القصيدة العربيّة تصريحا ، إلاّ أنّه اعتمد في ذلك على نباهة القارئ الّذي يقرأ ما بين السّطور ، و يدرك مقاصد الأمور.و لعلّ عنوان القصيدة الّذي هو نفسه عنوان الكتاب ، يستبطن بين حروفه معنى النصّ الّذي ظلّ عن سبيله في رحلة التّاريخ ،فأصبح يحلم باستعادته في كتابه هذا ، اتّباع أسلوب في الكتابة يخرج عن المألوف ، متوخّيا في ذلك الإشارة و التّلميح أحيانا و النّقد و التّجريح أحيانا أخرى . نعم ، إنّ القصيدة ليست ألغازا و طلاسم عند جلال المخّ ، و لكنها أيضا ليست كلاما عاديّا ، لا من حيث الشّكل و لا من حيث المضمون ، و لا من حيث الغاية .لذا وجب على الكاتب و كذلك القارئ ، أن يتسلّح كلاهما برغبة البحث عن اللّذة و المتعة .. لذّة الكتابة و متعة القراءة.
إنّ العلاقة بين الكاتب و النصّ كما هي العلاقة بين القارئ و النصّ ،إنّما هي علاقة عشق ، و معرفة ،لما لها من قدسيّة و جماليّة ،و لأنّها في النّهاية حمّالة مقاصد و قيم عليا ،و أفكار بنّاءة تتطلّب من الكاتب و القارئ على حدّ سواء ،وعيا بالذّات و نفاذا إلى التّراث الإنسانيّ ، فكرا و معرفة و قيما و حضارة .فليس ثمّة نصّ أو كتابة خارج اللغة و لا خارج المعرفة ،بما يجعلها عملا إبداعيّا إنسانيّا.و هذا ما حدا بالشّاعر إلى خوض رحلة البحث عن الجمال و الحقيقة اللّذين يشكلان الخصلتين المميّزتين للإنسان عن سائر المخلوقات مصداقا لقوله تعالى : » اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم « *11 .
و يواصل الشّاعر رحلته في عالم القصيدة فيقول :
كانت دائما تبحث عن شيء
و كلّما اهتدت إليه أحسّت بخيبة النّجاح
و تفقد لذّة البحث إذا وصلت لنتيجة
و تمجّ طعم الحلم إذا الحلم تحقّق...*12
تلك هي رحلة الكاتب للبحث عن اللذّة المنشودة ،و هي لذّة ضروريّة لتحقيق توازن الذّات لدى الكاتب ،انطلاقا من إيمانه بأنّه يقدّم نصّا أو رؤية تخرج عن المألوف شكلا و مضمونا و روحا.و هذا يعطي القارئ المتلقّي للنصّ الإبداعيّ إمكانيّة العبور به إلى الضفّة الأخرى من المعنى ليتجاوز به حدود اللّغة المعجميّة إلى مساحات متفاوتة الفهم و الدّلالات بقدر اتّساع دائرة إدراكه لذاته و للمخزون الثّقافيّ الإنسانيّ و لمحيطه العام واقعا و تاريخا و تطلّعات،ليحقّق بذلك متعة القراءة الّتي لا تتحقّق إلاّ بقدر ما يختزنه من زاد لغويّ و معرفيّ و ثقافيّ إنسانيّ، ما يخوّل له تلقّي إشارات الكاتب و تلميحاته و إحالاته و اختلاجاته ، و يسمح له بالغوص في أغوار النصّ فيستخرج درره ، و يكشف خباياه.
لقد سعى جلال المخّ في كتابه : عودة النصّ الضّالّ ،أن يجسّد هذه المفاهيم سواء من حيث الشّكل الّذي توخّاه في كتابته أو تقنيات الكتابة ذاتها ، أو في المقاصد الّتي ضمّنها في نصوصه ، و الإشكالات الّتي طرحها .فالنصّ لدى جلال المخّ هو نصّ قلق .. ثائر على السّائد ، يحفر في إشكالات النصّ ، و في هموم الإنسان بما هو كائن عاقل .. توّاق إلى الأرقى و الأفضل ، في عالم لم يبح بكلّ أسراره، و بالتّالي فهو يسعى إلى بناء علاقة جيّدة بين الكاتب و القارئ. فجلال المخّ و هو يحفر في تضاريس الكتابة بحثا عن معالمها و احتفاء بتجلّياتها ، إنّما يحسن الظنّ بالقارئ ذكاء و غوصا في أغوار النصّ و استبطانا لمعانيه و مقاصده ، إيمانا منه بأنّ الكتابة الإبداعيّة ،إنّما هي جسر للارتقاء بالقارئ و جعله يؤسّس بنفسه قراءته الذّاتيّة للنصّ بما يفترض أن يكون متسلّحا به من اطّلاع و متابعة للتّراث الإنسانيّ قديمه و حديثه . و هو في أدنى الحالات يقدّم له فرصة لتغذية فكره ، و توسيع دائرة معارفه بحثا و فهما ، و استكناها للحقائق ، و تصالحا مع الإنسان الّذي بداخله ،و الّذي يشكّل حلقة تواصل مع الإنسان في المطلق بين الماضي و الحاضر ،عبر فكره و إبداعاته ، و في صراعه مع الزّمن ، انتصاره العراقيل الّتي تعترضه ، و كذلك في حلمه بمزيد التّرقّي و السّموّ.
إنّ القارئ المتأنّي لكتاب :عودة النصّ الضّالّ للأستاذ جلال المخّ ، يجد أنّ صاحبه لم يكن يثير إشكاليّات النصّ الإبداعيّ فحسب ،بل سعى إلى تطبيق ما رسخ في واعيته من نظريّات تتعلّق بالكتابة ،ليعثر في النّهاية على نصّه الضّالّ. و أحسن مثال على ذلك نصّ : تانيت الآلهة المرضع *13 .
إنّ جلّ المفردات و العبارات و الصّور الّتي وردت النصّ ،تحيلنا على النّصوص المقدّسة ، سواء منها الكتب السّماويّة أو الأساطير و العقائد القديمة ، و غيرها. » سيزيف – برومثيوس – المسيح – تشي غيفارا – زوربا – الهنود الحمر – الأمازونيّات – العقائد الطّوطميّة – الهولوكوست *14 ...إلخ « .هذه الإحالات تضعنا أمام زخم من المخزون الثّقافيّ القديم و الحديث ، و أمام أنماط حضارية مختلفة الوجوه ، فكرا و ثقافة و انتماء للزّمان والمكان.
و لما للكتابة من قداسة ومكانة عالية في نفسه ،و لما تحمله من رسالة تسعى إلى التّغيير و الرّقيّ بالإنسان من حالة إلى أخرى أفضل ،فقد استعمل الشّاعر ألفاظا و عبارات من المعجم العقائديّ . « ليتقدّس اسمك – ليأت ملكوتك – الخلود – ربّانيّة – سدنة – كهنة – أساطير « .*15 .و نحن هنا إذ نستعمل عبارة قداسة الكتابة ،لا نعني بها الكتاب ،أو قداسة الكلمة ،فلا نعني بها سوى قداسة المعنى أي الرسّالة القيمية الّتي تحملها الكلمة . من هنا فإنّ نصوص جلال المخّ في هذا الكتاب ، تأخذ بعدها الخاص الّذي يجعل لها مناخها الخاصّ و طقوسها المميّزة ، الّتى لا تغازل مشاعر القارئ بقدر ما تشحذ ذهنه ، لتدخل به إلى عالم كلّه رهبة و جلال ،عالم يكون فيه الذّهن الموجّه الرّئيسيّ لمشاعر القارئ و أحاسيسه و المحرّك لمخياله .
إنّ النصّ الّذي بين أيدينا لا يخلو من تناصّ مع بعض ما جاء في الكتب المقدّسة ، كققوله :
( و لا تحملي علينا إصرا*16
كما حملته على الّذين من ربوعنا )
و قوله :
( و إذا ما أزفت الآزفة*17
و رجفت الرّاجفة
تتعبها الرّادفة (. *18
أمّا تناصّه مع ما ورد في التّوراة فيظهر في قوله :
( في الأصل كانت الأنثى
و الأنثى هي الرّبّة ) *19
هذا ما نجد أثره في عقيدة اليهود ، من أنّ الأصل في الانتساب إلى الدّيانة اليهوديّة ، هو الأمّ و ليس الأب فقط . فالمولود لأمّ يهوديّة ، و إن كان أبوه غير يهوديّ فهو يهوديّ ، لأنّ الأصل في عقيدة اليهود المرأة و ليس الرّجل.
يسعى الشّاعر جلال المخ من خلال النصّ إلى التّعبير عن توقه الكبير إلى كتابة نصّ إبداعيّ متميّز يتجاوز به السّائد ، نصّ يرضي ذاته التّواقة إلى ممارسة لذّة الكتابة و إحداث الصدمة و الإدهاش لدى القارئ .و لهذا الغرض ، يستعمل الشّاعر جملا طلبيّة تفيد معنى الالتماس .يتوجّه بها إلى الآلهة "تانيت" ، موحيا لنا بانّ الكتابة إلهام لا يتاح لكلّ النّاس ،وهو خاضع لجملة من الملكات الّتي ينبغي توفّرها عند الكاتب المبدع .
يقول في ص 14 :
( اجعليني أعمر النصّ
و أحوّل يبابه إلى حقول من الصّور
تعطي كثافتها اليانعة
ما سبقها من حقول البرسيم
و مواسم حصاد الهشيم *20 .
يعبّر الشّاعر من خلال هذا المقطع عن مفهومه للنصّ الشّعريّ ، الّذي ينبغي أن يكون غنيّا بالصّور الشّعريّة ، ينمّ عن خصوبة و رقيّ خيال صاحبه .ويعتبر أنّ ما دون ذلك هو أشبه بالبرسيم ، و أنّ أصحابها و قرّاءها أشبه بالسّوائم منهم بالآدميّن ، لأنّ الآدميّ مبدع بالضّرورة.و الإلهة "تانيت" في هذا النصّ ليست إلهة للخصب الّذي هو مصدر الحياة فحسب ، فتلك حياة بيولوجيّة ماديّة ، و إنّما هي لدى الشّاعر رمز لخصب الرّوح الّذي هو أجدر من المادّة و الجسد بالخلود.كما أنّ الخصب في النصّ ، ورد مرادفا للثّورة ، فلا خصب بدون ثورة على القديم البالي الّذي هو مرادف للجمود و الموت.أليس هذا هو قانون الحياة .. قانون الطّبيعة ؟!..
إنّك لا تمرّ بسطر أو مقطع من هذا النّصّ ،دون أن تجد فيه ما يحيلك على التّراث الإنسانيّ قديمه و حديثه ، من عقائد و أفكار و نماذج حضاريّة و شخصيّات تاريخيّة .و هذا ما يحمل القارئ على التّسلّح بجملة من المعارف ، و كمّ من الاطّلاع على التّراث الإنساني ، حتّى يستمتع بما في النصّ من جمال لا يمكنه إدراكه بالأحاسيس و الانفعالات المباشرة فقط ، و إنّما بشحذ الذّهن و ترويضه على فكّ رموزه ، و استخراج كوامنه ، فتتحقّق له متعة القراءة ،وصولا إلى متعة النّفس .و ذلك بما يحدثه فيه النصّ من الاندهاش و الإعجاب ، بما يكشف تناقض الذّات مع الواقع.
لقد قام الشّاعر في نصّه هذا ، و في أغلب نصوص الكتاب ، بحفر أركيولوجيّ عبر أحقاب التّاريخ الإنسانيّ ، متشبّعا في ذلك بالمنهج الأركيولوجيّ عند الفيلسوف الفرنسيّ " ميشال فوكو "(1926-1989) ،و الّذي يقول عنه الدكتور هيثم الحلّي الحسيني في مقال له منشور على موقع الشّيرازي الإلكتروني بعنوان : منهج البحث الأركيولوجي الحفري و الدّراسات المعمّقة في التّراث العلمي..يقول : » إنّ هذا الشّكل من الأركيولوجيا الّتي بدأت تترسّخ في العلوم الإنسانيّة و الّتي تعرف بالمنهج الأركيولوجي الحفريّ ، يقصد بها البحث المعمّق في متون الوقائع أو الوثائق التّاريخيّة ، و قراءتها مجدّدا ، قراءة مختلفة ، بشكل عموديّ ، سواء باستخدام أدوات البحث المعاصرة و المستحدثة ، أو باستحضار المرونة في الذّهن و القدرة الاستيعابيّة المنفتحة على آفاق النصّ و مكنوناته ، دون الانغلاق على صورته التّقليديّة و مدركاته الموروثة الشّائعة.*21« .
لقد سعى الشّاعر من خلال هذا التّمشّي ، إلى كشف المستور ، و القبيح الممجوج في عالم الكتابة ، ليقرع الماضي بالحاضر ، و الرّديء في واقع النصّ الإبداعيّ العربيّ ، بالرّاقي المتميّز عند الغرب المتقدم.و لعلّه تمثّل في ذلك السّؤال "الكانطيّ"، أي سؤال اللّحظة الرّاهنة : ( ماذا يجري اليوم ؟ ما هي اللّحظة الحاليّة الّتي نعيشها ؟) . سؤال طرحه الشّاعر في نصّ : طوبى للسّاعين إلى الأوهام ص80 ،إذ يقول :
( أبا العلاء جسدك الّذي غمر المحيط حكمه
أمسى إناء بعد البلى قد يتغرّب
و يا خيّام جسمك الّذي رشف خمور البحث عن الحقيقة
و عبّ من طلا التّفلسف حتّى الثّمالة
ها هو يضحي كوزا يمتلئ
بأصناف الرّحيق لكنّه لا ينشر.
سؤال لا يخلو من المرارة و الحزن على واقع الشّعر العربيّ الّذي بات على حدّ تعبيره خمّارة شعريّة ممتدّة في الفلاة ، ينسى فيها الشّعراء همومهم و معاناتهم :
( و يضحي الكون خمّارة شعريّة ممتدّة في الفلاة
و حانة فنّيّة تحيط بها الأديرة
و يصبح العتق العاطر عنوانا للوجود
و معنى للكيان... )
ثمّ يمضي قائلا في شيء من السّخرية المرّة :
( املأوا المدام للنّدامى
و تجمّعوا عصابات حميّا
و أحزاب تسابق
و فرقا و شيعا و زمرا و أجواقا
تحلّ المشكلة لتعمّق المعضلة .*22 )
إنّ هذا الاستقراء لواقع الشّعر العربيّ ، و الحفر في تضاريسه واقعا و تاريخا كما يشخّصه الشّاعر ، لم يمنع كلاهما الأنا لدى الشّاعر أن تكون حاضرة بقوّة و رسوخ .. أنا واعية ثابتة في وعيها ، لا تفقد توازنها ، ترفض أن تختار طريق الهروب إلى عالم الوهم ، بل تفضّل مواجهة الواقع المرّ بالتّحدّي و الثّبات على المبدإ و البحث عن نصّ أكثر وعيا و إقناعا و جمالا . إذ باتت الكتابة لدى الكثيرين ضربا من الهروب ، لا تأسيسا لنصّ أجمل ، و ترسيخا لقيم عليا .:
( أمّا أنا فلا خمرة مقدسة ترعشني
و لا خمرة عزاء تذهب رأسي
و لا خمرة رومنسيّة تسكر حسّي ...
احتموا بسكركم من سكرات الهباء
أمّا أنا فأواجه المصير واقفا
كتمثال قدّه الوقت من تجارب *23)
ثمّ يقول في ص 86 :
( و أيمّم صوب المهمه
و ما قولي كذا
لأعانق ذرّات غبار الوجود
بوعي عليم أليم
و كلّ وعي ألم و كلّ لبّ حُرفٌ
فطوبى لكم و هنيئا
يا عشّاق خمور الوهم و التّأسّي
إنّك و أنت تقرأ نصوص جلال الخّ في هذا الكتاب ، تجد النّصوص القديمة حاضرة في وعيه بأبعادها التّاريخيّة و الثّقافيّة و الوجدانيّة ، مستحضرا فيها ما ذكره الدّكتور هيثم الحلّي الحسيني في مقاله المشار إليه ، من »مرونة في الذهن و قدرة استيعابيّة منفتحة على النّصوص القديمة و مكنوناته ، دون الانغلاق على صورتها التّقليديّة و مدركاتها الموروثة الشّائعة « .
فالمتأمّل في المقطع السّابق ، لا يفوته أن يستحضر شخصيّة المتنبّي الطّموحة و الثّائرة على الواقع الرّديء بما فيه من مرارة ، إذ يقول :
أصخرة أنا مالي لا تحرّكني
هذي المدام و لا تلك الأغاريد *24 .
فالكتابة الواعية لا تخلو عند جلال المخ من إحساس بالغربة المرّة و المعاناة ، كأنّ قدره أن يعاني الواقع بوعي و ثقة لا يدركهما أبناء عصره ،إذ يرتبط الوعي في ذهنه بالألم ، على معنى قول المتنبّي :
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
و أخ الجهالة في الشّقاوة ينعم*25
أو قوله:
أطاعن خيلا من فوارسها الدّهر
وحيدا و ما قولي كذا و معي الصّبر
و قول المعرّي :
وجدت سجايا الفضل في الناس غربةً ** وأَعدم هذا الدهر مغْتربيهِ*26
لقد استدعى الشّاعر في كثير من نصوصه شخصيّات من الأدب العربيّ ، و تمثّّل كثيرا من الأحاسيس الّتي وردت في أشعارهم ، و الّتي هي الواقع مرآة لأحاسيس الشّاعر نفسه ، فحفلت نصوصه بنماذج من التّناص الجميل مع نصوص للمتنبّي أو غيره .. تناص مقصود ، و انزياحات ذكيّة ، يوحي الشاعر من خلالها بتشابه بين الماضي الحاضر .. بين معاناة الشّاعر في زمن الماضي ، و معاناته في هذا العصر ، بل قد يصل هذا التّشابه أحيانا حدّا بعيدا بين شخصيّة الشّاعر و شخصيّة كلّ من المتنبّي و المعرّي مثلا ، و هما نموذجان لوعي الشّاعر بذاته و بالواقع الّذي يحيط به و بهموم العصر ، في رحلة البحث عن الذّات و التّوق إلى الأفضل ، مع شعور واضح بالغربة و الغبن .
إنّ إحساس الشّاعر بالغبن في نصّه هذا واضح ، و هو متأتّ من وعيه الحادّ بالواقع الحاضر ، إذ يرى أنّ الكتابة في عصره ، قد تحوّلت أحيانا إلى ضرب من العبث الّذي لا يؤدّي بصاحبه إلاّ إلى مزيد من الفراغ و التّخبّط في اللامعنى ، حتّى لو التحف بشعاع خفيّ.
و ممّا أستخلصه من قراءتي للنصوص الواردة في كتاب : عودة النصّ الضّالّ لجلال المخّ ، إيمان الشّاعر بأن لا وجود لكتابة خارج الموضوع ، و لا لكلام خارج المعنى ، و بالتّالي خارج السّياق التّاريخي و المعرفيّ ، بما يمثّله ذلك من تراكم لمخزون التّراث الإنسانيّ الإبداعيّ.فالكتابة عنده لا تأتي من فراغ . فالبرق و إن خدعنا بريقه ، لا يمكنه أن يُنزل مطرا من سحاب لا مزن فيه ، إذ فاقد الشّيء لا يعطيه.
لا تلمه فإنّ الفراغ يملأ الورقة
و ما بين السّطور تفترسه يرقة
لطالما سكنت في كهوف اللاّوجدان
ذرّة يواصل المغامرة تلو المغامرة
ليقف على مشارف اللانتيجة *26
إنّ حفر الشّاعر في أركيولوجيا التّراث الإنسانيّ عموما و العربيّ على وجه التّحديد ، جعله يبلغ بوعيه الحادّ حالة من الشّعور بالإحباط و عدم الرّضا بواقع الكتابة ، و بالنصّ العربيّ على وجه الخصوص ، فانبرى ثائرا متمرّدا على من أسماهم بباعة الهيكل و صيارفة الكلام ، الأمر الّذي جعل خطابه في نصّه : باعة الهيكل ص 55 ، ينحو نحو المباشرة .. خطابا مشحونا بالغضب و السّخرية و المرّة ، فنعتهم بأبشع النّعوت ، و أخرجهم في أقبح الصّور ، و اعتبرهم بادّعائهم الحداثة ، قد ضربوا قداسة الكلمة و رسالتها الإنسانيّة ، فكانوا بمثابة من هدم الهيكل على رأسه عملا بمقولة شمشون الجبار ( الوارد ذكره في التّوراة ) :» عليّ و على أعدائي يا ربّ « . :
( فالسّواري تمجّكم و العرصات
و السّقوف تنذر بالسّقوط على فوق رؤوسكم
لتدقّ عظامكم
و تفتّت مناهجكم الّتي عشّش فيها الزّيف.
اغربوا عن الهيكل
و ليتعال بكاؤكم و صرير الأسنان
عندما تكسّرون يا أشباه الكتبة و الفريسيّين
بقايا أقلامكم ص58 (باعة الهيكل)
تلك هي الكتابة عند جلال المخ ، هي بمثابة المعبد المقدّس الّذي على داخليه أن يحترموا طقوسه و يعملوا بها ، و أن لا يدنّسوه ، فما بالك أن يسعوا إلى هدمه.
لقد انخرط الأستاذ جلال المخ في هذا الكتاب ، في كتابة واعية ، استبطن فيها مخزون التّراث الإنساني فنّ و إبداعا و كتابة ، معتبرا أنّ الكتابة فعل مقدّس و رسالة نبيلة ، تهدف إلى تنوير العقل البشري لتخرج به من الظّلمات إلى النّور ، و من الجهل إلى المعرفة ، و الضّلال إلى الرّشد ، فكان كتابه : "عودة النصّ الضّال " ، عبارة عن رحلة في أركيولوجيا تاريخ التّراث الإنسانيّ القديم و الحديث، كشف فيها المستور و حزّ فيها الجروح إلى العظم ، مؤملا عودة النّصّ من الضّلال إلى الرّشد ، ليستعيد قداسته و وظيفته الرّاقية ، ألا و هي الرّقيّ بالإنسان عقلا و فكرا و وجدانا و سلوكا ،و ينتصر للقيم الإنسانيّة العليا الّتي هي الغاية المثلى للكتابة . و لعلّه بكتابه هذا أراد أن يقدّم نصّا مختلفا هو بمثابة النصّ الّذي ضلّ منه في غمرة الزّحام ، و أراد أن يكون جديرا بدلالة الرّقم عشرين عنده ، الّذي هو تتويج لخمس و ثلاثين من السّنوات تقريبا أصدرا خلالها عشرين منجزا في أجناس مختلفة من الكتابة حرص فيها ان يكون فيها مختلفا عن غيره ، يقدّم فيها الإضافة تلو الإضافة.
كأنّي بالأستاذ جلال المخ و هو يقدّم لنا هذا الزّخم من الإنتاج الفكريّ و الإبداعيّ ، يستحضر في كلّ ما كتبه و في هذا المنجز بالذّات ، تلك الأسئلة الخالدة :
- لماذا نكتب؟
- ماذا نكتب ؟
- كيف نكتب؟
- لمن نكتب ؟
فإذا الكتابة عنده عقيدة مقدّسة تعطي لوجوده معنى ، و معنى أسمى للوجود الإنسانيّ ككلّ ، ليضيف للكوجيتو الدّيكارتي القائل : أنا أفكّر ، إذا أنا موجود ، مقولة جديدة : أنا أكتب ، إذا أنا موجود.
20/02/2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1- يوحنّا 1 : 1 – 30
2 – سورة البقرة . الآية 37
3 – سورة العلق . اآيات من 1 إلى 54 – سورة العلق . الآيات من 3 إلى 5
5 – عودة النصّ الضّالّ ص 43
6 - عودة النصّ الضّالّ ص 43
7 – عودة المصّ الضّالّ . ص 45
8 – عودة النصّ الضّلّ ص 45
9 – عودة النصّ الضّال .ص 46
10 – عودة النصّ الضّالّ . ص 46
11 * سورة العلق . الآية 3 و 4
12 – عودة الصّ الضّالّ . ص48
13 – تانيت الآلهة المرضع .ص 7
14 – تانيت الآلهة المرضع . ص 7
15– تانيت الآلهة المرضع . ص 7
*16 – سورة البقرة الاية 286 .: » و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا «
17 – نص : تانيت الالهة المرضع ص7
*18 – التّوراة : سفر التّكوين 2‘18- 24 www.asalalya
19 : نص : تانيت الالهة المرضع ص13
*20 - تانيت الآلهة المرضع ص14
*21 :www.alshirazi.com/wold/article/2011/798.htm
*22 - : نصّ ، طوبى للسّاعين إلى الأوهام .ص 80
*23 – نص طوبى للسّاعين إلى الأوهام ص 84
*24 – قصيدة المتنبّي : عيد بأيّة حال عدت يا عيد
*25 – من قصيدة للمتنبي مطلعها :
أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ **
وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ
*26 – من قصدة للمتنبّي مطلعها : لهوى النفوس سريرة لا تعلم *** عرضا نظرت وخلت أني أسلم
في عودة النصّ الضّالّ
للأستاذ الأديب جلال المخ
بقلم محمد الصالح الغريسي
صدر مؤخّـرا كتاب بعنـ،وان : عـودة النصّ الضّـال للأستاذ الأديب جـلال المـخ، و هو الكتاب العشرون في إصداراته.و للرّقم عشرين دلالة خاصّة عند صاحبه ، إذ يأتي تتويجا لسنوات طويلة من الكتابة ، بين شعر باللّغتين العربيّة و الفرنسيّة ، و سرد و ترجمة و دراسة و أنطولوجيا.
هذا الكتاب و هو من جنس قصيدة النّثر يحمل عنوان : عودة النصّ الضّالّ ، ويضمّ بين جوانبه اثنتي عشرة قصيدة أو نصّا نثريّا طويلا ، شغلت أربعا و مائة من الصّفحات ذات الحجم المتوسّط ، في طبعة أولى عن شركة المطبعة الثّقافيّة بحمّام الأنف . و يحيلنا عنوان الكتاب على عناوين مشابهة لأعمال أبيّة و فنّية ، مثل كتابي عودة الرّوح ، و عودة الوعي لتوفيق الحكيم و الشّريط السينمائي : عودة الابن الضّالّ للمخرج السينمائي يوسف شاهين.و كلّ هذه الأعمال و غيرها يطغى عليها هاجس العودة إلى أصل مفقود ، هو الرّوح أو الوعي أو الرّشد.و هو هاجس صاحب تراث الأمم القديمة منذ غابر العصور. نجده في ملحمة "كلكامش" و أسطورة طائر "الفينيق" الّذي ينبعث من تحت الرّماد ، كما نجده في العقائد الفرعونيّة القديمة الّتي كانت تؤمن بالانبعاث إلى الحياة من جديد بعد الموت . ولم تزل فكرة الانبعاث أو العودة إلى أصل مفقود تظهر من حين إلى آخر ، في ثوب فكريّ أو حضاريّ أو أدبيّ أو فنّيّ . و لعلّ الأستاذ الأديب جلال المخ واحد من هؤلاء الّذين يبحثون عن هذا المفقود ، من بين جذور الماضي الغابر و الحديث ، لكن عبر تراث الإنسانيّة ، و في ثوب جديد هو ثوب النصّ و فعل الكتابة .
و كانّ جلال المخّ أراد بكتابه العشرين ، أن يؤسّس لعودة نصّ ضال في واعيته الخفيّة ، يسعى إلى إخراجه إلى السّطح .. هذا النصّ الّذي يعيد على الكلمة جذوتها و سلطانها و قدسيّتها المفقودة. في هذا الإطار ، يتنزّل عنوان مجموعته الشّعريّة ك عودة النصّ الضّالّ.
تسعة عشر كتابا سبقت هذا الكتاب ، كانت بمثابة البحث عن النصّ الضّالّ الّذي يطمح إليه ، في تجربة ماراطونيّة للكتابة دامت ما يقارب الخمسة و ثلاثين عاما، تقلّب فيها بين أجناس عديدة من الكتابة.
إنّ المتجوّل بين ردهات الكتاب و أروقته ، و في كلّ زاوية من عمارته ، يلحظ أنّ نصوص الكتاب ، جاءت ضمن نسق زمنيّ متقارب في المسافة ، و في خطّ تصاعديّ ، و هذا ما يساعد القارئ و الباحث المتأمّل في رسم خطّ بيانيّ لانفعالات الكاتب ، و درجات تفاعله مع القضيّة المحوريّة الّتي شغلته ، ألا و هي النصّ و درجة الوعي الّذي يصاحبه أثناء ممارسة فعل الكتابة . كما يمكن للقارئ أن يستشفّ الخيط الرّابط بين نصوص الكتاب ، ألا وهو قضيّة النصّ و إشكاليّات الكتابة بين المفقود و الموجود و المنشود. ففي نصّ عودة النصّ الضّالّ ، يطرح الأستاذ جلال المخّ قضيّة النصّ الإبداعيّ بين الشّكل و المضمون و الرّوح ، ملمّحا إلى رحلة النصّ ( الكلمة ) عبر تاريخ الإنسانيّة ، على معنى ما ورد في الكتاب المقدّس الإنجيل :
« في البدء كان الكلمة ، و الكلمة كان عند الله و كان الكلمة الله . هذا كان في البدء عند الله . كلّ شيء به كان ، و بغيره لم يكن شيء ممّا كان . فيه كانت الحياة و كان نور النّاس . و النّور يضيء في الظّلمة و الظّلمة لم تدركه « *1
كما ورد ذكر لفظة "الكلمة" في القرآن الكريم في قوله تعالى :
« و تلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم »*2
و يتّضح من هذين النّصّين معنى النّور الّذي هو الهداية ، و معنى التّوبة ، الّذي هو العودة إلى الرّشاد . و جاءت سورة العلق في القرآن الكريم لتقرن بين القراءة و الكتابة و العلم في قوله تعالى : « اقرأ بسم ربّك الّذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم « *3 .
فالأمر المنزّل على الرّسول الكريم بالقراءة ، ليس على المعنى المتعارف من فكّ الحروف المكتوبة و تحويلها إلى أصوات ، على ما هو متعارف عليه زمن نزول
هذه الآية ، بعد أن كانت الإنسانيّة قد اكتشفت الكتابة ، و إنّما جاءت بمعنى الأمر بتبليغ الرّسالة الّتي سيتلوها عليه جبريل عليه السّلام بأمر من ربّه ، ألا و هي القرآن الكريم . و يسمّى القران بالقرآن لأنّه نزل قراءة ن أي رسالة شفويّة أو صوتيّة ، كما سمّي القرآن بالكتاب ، لوجوب حفظه و تدوينه كتابة على معنى الآية الكريمة : « اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم « .*4
من خلال هذه الأمثلة من النّصوص المقدّسة ، تتبيّن لنا أركان الكلمة (الكتابة)، ألا و هي الحفظ و التّدوين ، لتكون للنّاس نورا و هداية . من هنا جاءت قداسة الكتابة و قداسة الكلمة لارتباطها بغاية سامية ، هي نفع النّاس و إرشادهم و تغيير ما بأنفسهم .
و رغم أنّ اكتشاف الإنسان القديم للكتابة ،كان رغبة منه في تجسيد معنى الخلود و تحدّي سلطان الموت ،إلاّ أنّها تظلّ نوعا من الاستذكار لما رسخ في وعي الإنسان منذ الخلق ،من حكمة و علم يساعدانه في ترسيخ إنسانيّته و معرفة حقيقته الّتي كرّمه بها المولى سبحانه و تعالى .و بما أنّ رحلة الإنسان مع الكتابة كانت طويلة و مضنية ، فقد ارتبط وعي الإنسان فيها برقيّ الكتابة ، و ذلك لما أثاره من قضايا حول أشكالها و مضامينها و أهدافها. وقد كانت هذه المواضيع حاضرة في نصوص جلال المخّ ، منها قوله في نصّ عودة النصّ الضّالّ :
من رحم الأشكال خرج النصّ
و غادر قافلة الحروف
هجر الدّوح الّذي شهد مولده
و يمّمم صوب فضاءات بعيدة
حيث ينصهر الزّمان في المكان *5
ثمّ يواصل الشّاعر استحضار رحلة الإنسان مع الكتابة أي مع النصّ الإبداعيّ ، فيقول :
كم طوّف في الأصقاع البعيدة
كم يمّم صوب فضاءات أخرى
تدفعه أعاصير المجهول
ليوغل في مهامه الكتابة
يغتذي بأساليب الغرباء
و ترتوي جذوره ببلاغات أخرى
تفعم بيانه ، تستحدث الصّور*6
إلى أن يقول :
و تنفتح أسرارها و تنضج أثمارها
حبلى بأسرار معان جبّلتها الأمم *7
يشير الشّاعر هنا إلى تواصل الأمم و الحضارات عبر النصّ ، يصاحبه وعي بواقع الأدب العربيّ الّذي تأخّر عن القافلة فلم يجد مناصا من الاغتذاء بأساليب الغرب ، لترتوي جذوره ببلاغات أخر ، فيستعير حياته من الأمم الأخرى.
و هكذا ، لم تعد الكتابة الإبداعيّة حكرا على أمّة بعينها ، و بالتّالي لم تعد سجينة شكل بعينه ، و لا مضمون تنفرد به أمّة دون أخرى ، بل أصبح شكلا من أشكال التّواصل بين الأمم و الحضارات ؛ يربط الماضي بالحاضر ، و القاصي بالدّاني في الزّمان و المكان.
كم أثمر هذا النصّ بساتين بعيدة
مسمّدا بحكمة الماضي و خيالات الزّمن
و استنسخ المغامرة في عشرات التّجارب
و أضحى غابة كثيفة الأشجار
تغطّي خضرتها العلوّ الرّحب
و المدى الشّاسع
و الأفق الرّحب و المسافات الفسيحة *8
و يمضي الشّاعر في تقصّي واقع النصّ الإبداعيّ العربيّ و تخلّفه عن غيره مقارنة بما هو لدى الأمم الأخرى ،ليعيش حالة من الغربة و التّخبّط و الضّياع في أمّته و بين أهله الّذين ما يزال الكثير منهم يكبّلونه بالقيود و يضربون حوله الحواجز و الحدود ، فلا يلبث أن يتمرّد عليهم .فلكم عانت القصيدة العربيّة من أسرها داخل أشكال تقليديّة و قوالب قديمة أصبحت ضيّقة على توق المبدع العربيّ إلى نصّ يعبّر عن إنسانيّته في عالم كسر كلّ الحواجز ليصبح قرية إنسانيّة يذوب فيها العرق و اللّغة و تتلاشى فيها الحدود المصطنعة .
لكم تمرّدت القصيدة
على الأصول و المنابع الصلبة
و واصلت التّرحال
تبحث عن مخيال
لا يمتّ للوشائج بصلة *9
ثمّ يمضي الشّاعر في توصيف حالة التّخبّط الّتي تعاني منها القصيدة العربيّة ،فيقول :
كم لبست جلبابا من تحت عباءة
و تحت ذلك كسوة من أرفل الأثواب
كم نزعت من فوف رأسها العمامة
و وضعت طربوشا و قلنسوة
و قبّعة ، بل غمامة *10
و لئن لم يذكر الشّاعر هنا القصيدة العربيّة تصريحا ، إلاّ أنّه اعتمد في ذلك على نباهة القارئ الّذي يقرأ ما بين السّطور ، و يدرك مقاصد الأمور.و لعلّ عنوان القصيدة الّذي هو نفسه عنوان الكتاب ، يستبطن بين حروفه معنى النصّ الّذي ظلّ عن سبيله في رحلة التّاريخ ،فأصبح يحلم باستعادته في كتابه هذا ، اتّباع أسلوب في الكتابة يخرج عن المألوف ، متوخّيا في ذلك الإشارة و التّلميح أحيانا و النّقد و التّجريح أحيانا أخرى . نعم ، إنّ القصيدة ليست ألغازا و طلاسم عند جلال المخّ ، و لكنها أيضا ليست كلاما عاديّا ، لا من حيث الشّكل و لا من حيث المضمون ، و لا من حيث الغاية .لذا وجب على الكاتب و كذلك القارئ ، أن يتسلّح كلاهما برغبة البحث عن اللّذة و المتعة .. لذّة الكتابة و متعة القراءة.
إنّ العلاقة بين الكاتب و النصّ كما هي العلاقة بين القارئ و النصّ ،إنّما هي علاقة عشق ، و معرفة ،لما لها من قدسيّة و جماليّة ،و لأنّها في النّهاية حمّالة مقاصد و قيم عليا ،و أفكار بنّاءة تتطلّب من الكاتب و القارئ على حدّ سواء ،وعيا بالذّات و نفاذا إلى التّراث الإنسانيّ ، فكرا و معرفة و قيما و حضارة .فليس ثمّة نصّ أو كتابة خارج اللغة و لا خارج المعرفة ،بما يجعلها عملا إبداعيّا إنسانيّا.و هذا ما حدا بالشّاعر إلى خوض رحلة البحث عن الجمال و الحقيقة اللّذين يشكلان الخصلتين المميّزتين للإنسان عن سائر المخلوقات مصداقا لقوله تعالى : » اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم « *11 .
و يواصل الشّاعر رحلته في عالم القصيدة فيقول :
كانت دائما تبحث عن شيء
و كلّما اهتدت إليه أحسّت بخيبة النّجاح
و تفقد لذّة البحث إذا وصلت لنتيجة
و تمجّ طعم الحلم إذا الحلم تحقّق...*12
تلك هي رحلة الكاتب للبحث عن اللذّة المنشودة ،و هي لذّة ضروريّة لتحقيق توازن الذّات لدى الكاتب ،انطلاقا من إيمانه بأنّه يقدّم نصّا أو رؤية تخرج عن المألوف شكلا و مضمونا و روحا.و هذا يعطي القارئ المتلقّي للنصّ الإبداعيّ إمكانيّة العبور به إلى الضفّة الأخرى من المعنى ليتجاوز به حدود اللّغة المعجميّة إلى مساحات متفاوتة الفهم و الدّلالات بقدر اتّساع دائرة إدراكه لذاته و للمخزون الثّقافيّ الإنسانيّ و لمحيطه العام واقعا و تاريخا و تطلّعات،ليحقّق بذلك متعة القراءة الّتي لا تتحقّق إلاّ بقدر ما يختزنه من زاد لغويّ و معرفيّ و ثقافيّ إنسانيّ، ما يخوّل له تلقّي إشارات الكاتب و تلميحاته و إحالاته و اختلاجاته ، و يسمح له بالغوص في أغوار النصّ فيستخرج درره ، و يكشف خباياه.
لقد سعى جلال المخّ في كتابه : عودة النصّ الضّالّ ،أن يجسّد هذه المفاهيم سواء من حيث الشّكل الّذي توخّاه في كتابته أو تقنيات الكتابة ذاتها ، أو في المقاصد الّتي ضمّنها في نصوصه ، و الإشكالات الّتي طرحها .فالنصّ لدى جلال المخّ هو نصّ قلق .. ثائر على السّائد ، يحفر في إشكالات النصّ ، و في هموم الإنسان بما هو كائن عاقل .. توّاق إلى الأرقى و الأفضل ، في عالم لم يبح بكلّ أسراره، و بالتّالي فهو يسعى إلى بناء علاقة جيّدة بين الكاتب و القارئ. فجلال المخّ و هو يحفر في تضاريس الكتابة بحثا عن معالمها و احتفاء بتجلّياتها ، إنّما يحسن الظنّ بالقارئ ذكاء و غوصا في أغوار النصّ و استبطانا لمعانيه و مقاصده ، إيمانا منه بأنّ الكتابة الإبداعيّة ،إنّما هي جسر للارتقاء بالقارئ و جعله يؤسّس بنفسه قراءته الذّاتيّة للنصّ بما يفترض أن يكون متسلّحا به من اطّلاع و متابعة للتّراث الإنسانيّ قديمه و حديثه . و هو في أدنى الحالات يقدّم له فرصة لتغذية فكره ، و توسيع دائرة معارفه بحثا و فهما ، و استكناها للحقائق ، و تصالحا مع الإنسان الّذي بداخله ،و الّذي يشكّل حلقة تواصل مع الإنسان في المطلق بين الماضي و الحاضر ،عبر فكره و إبداعاته ، و في صراعه مع الزّمن ، انتصاره العراقيل الّتي تعترضه ، و كذلك في حلمه بمزيد التّرقّي و السّموّ.
إنّ القارئ المتأنّي لكتاب :عودة النصّ الضّالّ للأستاذ جلال المخّ ، يجد أنّ صاحبه لم يكن يثير إشكاليّات النصّ الإبداعيّ فحسب ،بل سعى إلى تطبيق ما رسخ في واعيته من نظريّات تتعلّق بالكتابة ،ليعثر في النّهاية على نصّه الضّالّ. و أحسن مثال على ذلك نصّ : تانيت الآلهة المرضع *13 .
إنّ جلّ المفردات و العبارات و الصّور الّتي وردت النصّ ،تحيلنا على النّصوص المقدّسة ، سواء منها الكتب السّماويّة أو الأساطير و العقائد القديمة ، و غيرها. » سيزيف – برومثيوس – المسيح – تشي غيفارا – زوربا – الهنود الحمر – الأمازونيّات – العقائد الطّوطميّة – الهولوكوست *14 ...إلخ « .هذه الإحالات تضعنا أمام زخم من المخزون الثّقافيّ القديم و الحديث ، و أمام أنماط حضارية مختلفة الوجوه ، فكرا و ثقافة و انتماء للزّمان والمكان.
و لما للكتابة من قداسة ومكانة عالية في نفسه ،و لما تحمله من رسالة تسعى إلى التّغيير و الرّقيّ بالإنسان من حالة إلى أخرى أفضل ،فقد استعمل الشّاعر ألفاظا و عبارات من المعجم العقائديّ . « ليتقدّس اسمك – ليأت ملكوتك – الخلود – ربّانيّة – سدنة – كهنة – أساطير « .*15 .و نحن هنا إذ نستعمل عبارة قداسة الكتابة ،لا نعني بها الكتاب ،أو قداسة الكلمة ،فلا نعني بها سوى قداسة المعنى أي الرسّالة القيمية الّتي تحملها الكلمة . من هنا فإنّ نصوص جلال المخّ في هذا الكتاب ، تأخذ بعدها الخاص الّذي يجعل لها مناخها الخاصّ و طقوسها المميّزة ، الّتى لا تغازل مشاعر القارئ بقدر ما تشحذ ذهنه ، لتدخل به إلى عالم كلّه رهبة و جلال ،عالم يكون فيه الذّهن الموجّه الرّئيسيّ لمشاعر القارئ و أحاسيسه و المحرّك لمخياله .
إنّ النصّ الّذي بين أيدينا لا يخلو من تناصّ مع بعض ما جاء في الكتب المقدّسة ، كققوله :
( و لا تحملي علينا إصرا*16
كما حملته على الّذين من ربوعنا )
و قوله :
( و إذا ما أزفت الآزفة*17
و رجفت الرّاجفة
تتعبها الرّادفة (. *18
أمّا تناصّه مع ما ورد في التّوراة فيظهر في قوله :
( في الأصل كانت الأنثى
و الأنثى هي الرّبّة ) *19
هذا ما نجد أثره في عقيدة اليهود ، من أنّ الأصل في الانتساب إلى الدّيانة اليهوديّة ، هو الأمّ و ليس الأب فقط . فالمولود لأمّ يهوديّة ، و إن كان أبوه غير يهوديّ فهو يهوديّ ، لأنّ الأصل في عقيدة اليهود المرأة و ليس الرّجل.
يسعى الشّاعر جلال المخ من خلال النصّ إلى التّعبير عن توقه الكبير إلى كتابة نصّ إبداعيّ متميّز يتجاوز به السّائد ، نصّ يرضي ذاته التّواقة إلى ممارسة لذّة الكتابة و إحداث الصدمة و الإدهاش لدى القارئ .و لهذا الغرض ، يستعمل الشّاعر جملا طلبيّة تفيد معنى الالتماس .يتوجّه بها إلى الآلهة "تانيت" ، موحيا لنا بانّ الكتابة إلهام لا يتاح لكلّ النّاس ،وهو خاضع لجملة من الملكات الّتي ينبغي توفّرها عند الكاتب المبدع .
يقول في ص 14 :
( اجعليني أعمر النصّ
و أحوّل يبابه إلى حقول من الصّور
تعطي كثافتها اليانعة
ما سبقها من حقول البرسيم
و مواسم حصاد الهشيم *20 .
يعبّر الشّاعر من خلال هذا المقطع عن مفهومه للنصّ الشّعريّ ، الّذي ينبغي أن يكون غنيّا بالصّور الشّعريّة ، ينمّ عن خصوبة و رقيّ خيال صاحبه .ويعتبر أنّ ما دون ذلك هو أشبه بالبرسيم ، و أنّ أصحابها و قرّاءها أشبه بالسّوائم منهم بالآدميّن ، لأنّ الآدميّ مبدع بالضّرورة.و الإلهة "تانيت" في هذا النصّ ليست إلهة للخصب الّذي هو مصدر الحياة فحسب ، فتلك حياة بيولوجيّة ماديّة ، و إنّما هي لدى الشّاعر رمز لخصب الرّوح الّذي هو أجدر من المادّة و الجسد بالخلود.كما أنّ الخصب في النصّ ، ورد مرادفا للثّورة ، فلا خصب بدون ثورة على القديم البالي الّذي هو مرادف للجمود و الموت.أليس هذا هو قانون الحياة .. قانون الطّبيعة ؟!..
إنّك لا تمرّ بسطر أو مقطع من هذا النّصّ ،دون أن تجد فيه ما يحيلك على التّراث الإنسانيّ قديمه و حديثه ، من عقائد و أفكار و نماذج حضاريّة و شخصيّات تاريخيّة .و هذا ما يحمل القارئ على التّسلّح بجملة من المعارف ، و كمّ من الاطّلاع على التّراث الإنساني ، حتّى يستمتع بما في النصّ من جمال لا يمكنه إدراكه بالأحاسيس و الانفعالات المباشرة فقط ، و إنّما بشحذ الذّهن و ترويضه على فكّ رموزه ، و استخراج كوامنه ، فتتحقّق له متعة القراءة ،وصولا إلى متعة النّفس .و ذلك بما يحدثه فيه النصّ من الاندهاش و الإعجاب ، بما يكشف تناقض الذّات مع الواقع.
لقد قام الشّاعر في نصّه هذا ، و في أغلب نصوص الكتاب ، بحفر أركيولوجيّ عبر أحقاب التّاريخ الإنسانيّ ، متشبّعا في ذلك بالمنهج الأركيولوجيّ عند الفيلسوف الفرنسيّ " ميشال فوكو "(1926-1989) ،و الّذي يقول عنه الدكتور هيثم الحلّي الحسيني في مقال له منشور على موقع الشّيرازي الإلكتروني بعنوان : منهج البحث الأركيولوجي الحفري و الدّراسات المعمّقة في التّراث العلمي..يقول : » إنّ هذا الشّكل من الأركيولوجيا الّتي بدأت تترسّخ في العلوم الإنسانيّة و الّتي تعرف بالمنهج الأركيولوجي الحفريّ ، يقصد بها البحث المعمّق في متون الوقائع أو الوثائق التّاريخيّة ، و قراءتها مجدّدا ، قراءة مختلفة ، بشكل عموديّ ، سواء باستخدام أدوات البحث المعاصرة و المستحدثة ، أو باستحضار المرونة في الذّهن و القدرة الاستيعابيّة المنفتحة على آفاق النصّ و مكنوناته ، دون الانغلاق على صورته التّقليديّة و مدركاته الموروثة الشّائعة.*21« .
لقد سعى الشّاعر من خلال هذا التّمشّي ، إلى كشف المستور ، و القبيح الممجوج في عالم الكتابة ، ليقرع الماضي بالحاضر ، و الرّديء في واقع النصّ الإبداعيّ العربيّ ، بالرّاقي المتميّز عند الغرب المتقدم.و لعلّه تمثّل في ذلك السّؤال "الكانطيّ"، أي سؤال اللّحظة الرّاهنة : ( ماذا يجري اليوم ؟ ما هي اللّحظة الحاليّة الّتي نعيشها ؟) . سؤال طرحه الشّاعر في نصّ : طوبى للسّاعين إلى الأوهام ص80 ،إذ يقول :
( أبا العلاء جسدك الّذي غمر المحيط حكمه
أمسى إناء بعد البلى قد يتغرّب
و يا خيّام جسمك الّذي رشف خمور البحث عن الحقيقة
و عبّ من طلا التّفلسف حتّى الثّمالة
ها هو يضحي كوزا يمتلئ
بأصناف الرّحيق لكنّه لا ينشر.
سؤال لا يخلو من المرارة و الحزن على واقع الشّعر العربيّ الّذي بات على حدّ تعبيره خمّارة شعريّة ممتدّة في الفلاة ، ينسى فيها الشّعراء همومهم و معاناتهم :
( و يضحي الكون خمّارة شعريّة ممتدّة في الفلاة
و حانة فنّيّة تحيط بها الأديرة
و يصبح العتق العاطر عنوانا للوجود
و معنى للكيان... )
ثمّ يمضي قائلا في شيء من السّخرية المرّة :
( املأوا المدام للنّدامى
و تجمّعوا عصابات حميّا
و أحزاب تسابق
و فرقا و شيعا و زمرا و أجواقا
تحلّ المشكلة لتعمّق المعضلة .*22 )
إنّ هذا الاستقراء لواقع الشّعر العربيّ ، و الحفر في تضاريسه واقعا و تاريخا كما يشخّصه الشّاعر ، لم يمنع كلاهما الأنا لدى الشّاعر أن تكون حاضرة بقوّة و رسوخ .. أنا واعية ثابتة في وعيها ، لا تفقد توازنها ، ترفض أن تختار طريق الهروب إلى عالم الوهم ، بل تفضّل مواجهة الواقع المرّ بالتّحدّي و الثّبات على المبدإ و البحث عن نصّ أكثر وعيا و إقناعا و جمالا . إذ باتت الكتابة لدى الكثيرين ضربا من الهروب ، لا تأسيسا لنصّ أجمل ، و ترسيخا لقيم عليا .:
( أمّا أنا فلا خمرة مقدسة ترعشني
و لا خمرة عزاء تذهب رأسي
و لا خمرة رومنسيّة تسكر حسّي ...
احتموا بسكركم من سكرات الهباء
أمّا أنا فأواجه المصير واقفا
كتمثال قدّه الوقت من تجارب *23)
ثمّ يقول في ص 86 :
( و أيمّم صوب المهمه
و ما قولي كذا
لأعانق ذرّات غبار الوجود
بوعي عليم أليم
و كلّ وعي ألم و كلّ لبّ حُرفٌ
فطوبى لكم و هنيئا
يا عشّاق خمور الوهم و التّأسّي
إنّك و أنت تقرأ نصوص جلال الخّ في هذا الكتاب ، تجد النّصوص القديمة حاضرة في وعيه بأبعادها التّاريخيّة و الثّقافيّة و الوجدانيّة ، مستحضرا فيها ما ذكره الدّكتور هيثم الحلّي الحسيني في مقاله المشار إليه ، من »مرونة في الذهن و قدرة استيعابيّة منفتحة على النّصوص القديمة و مكنوناته ، دون الانغلاق على صورتها التّقليديّة و مدركاتها الموروثة الشّائعة « .
فالمتأمّل في المقطع السّابق ، لا يفوته أن يستحضر شخصيّة المتنبّي الطّموحة و الثّائرة على الواقع الرّديء بما فيه من مرارة ، إذ يقول :
أصخرة أنا مالي لا تحرّكني
هذي المدام و لا تلك الأغاريد *24 .
فالكتابة الواعية لا تخلو عند جلال المخ من إحساس بالغربة المرّة و المعاناة ، كأنّ قدره أن يعاني الواقع بوعي و ثقة لا يدركهما أبناء عصره ،إذ يرتبط الوعي في ذهنه بالألم ، على معنى قول المتنبّي :
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
و أخ الجهالة في الشّقاوة ينعم*25
أو قوله:
أطاعن خيلا من فوارسها الدّهر
وحيدا و ما قولي كذا و معي الصّبر
و قول المعرّي :
وجدت سجايا الفضل في الناس غربةً ** وأَعدم هذا الدهر مغْتربيهِ*26
لقد استدعى الشّاعر في كثير من نصوصه شخصيّات من الأدب العربيّ ، و تمثّّل كثيرا من الأحاسيس الّتي وردت في أشعارهم ، و الّتي هي الواقع مرآة لأحاسيس الشّاعر نفسه ، فحفلت نصوصه بنماذج من التّناص الجميل مع نصوص للمتنبّي أو غيره .. تناص مقصود ، و انزياحات ذكيّة ، يوحي الشاعر من خلالها بتشابه بين الماضي الحاضر .. بين معاناة الشّاعر في زمن الماضي ، و معاناته في هذا العصر ، بل قد يصل هذا التّشابه أحيانا حدّا بعيدا بين شخصيّة الشّاعر و شخصيّة كلّ من المتنبّي و المعرّي مثلا ، و هما نموذجان لوعي الشّاعر بذاته و بالواقع الّذي يحيط به و بهموم العصر ، في رحلة البحث عن الذّات و التّوق إلى الأفضل ، مع شعور واضح بالغربة و الغبن .
إنّ إحساس الشّاعر بالغبن في نصّه هذا واضح ، و هو متأتّ من وعيه الحادّ بالواقع الحاضر ، إذ يرى أنّ الكتابة في عصره ، قد تحوّلت أحيانا إلى ضرب من العبث الّذي لا يؤدّي بصاحبه إلاّ إلى مزيد من الفراغ و التّخبّط في اللامعنى ، حتّى لو التحف بشعاع خفيّ.
و ممّا أستخلصه من قراءتي للنصوص الواردة في كتاب : عودة النصّ الضّالّ لجلال المخّ ، إيمان الشّاعر بأن لا وجود لكتابة خارج الموضوع ، و لا لكلام خارج المعنى ، و بالتّالي خارج السّياق التّاريخي و المعرفيّ ، بما يمثّله ذلك من تراكم لمخزون التّراث الإنسانيّ الإبداعيّ.فالكتابة عنده لا تأتي من فراغ . فالبرق و إن خدعنا بريقه ، لا يمكنه أن يُنزل مطرا من سحاب لا مزن فيه ، إذ فاقد الشّيء لا يعطيه.
لا تلمه فإنّ الفراغ يملأ الورقة
و ما بين السّطور تفترسه يرقة
لطالما سكنت في كهوف اللاّوجدان
ذرّة يواصل المغامرة تلو المغامرة
ليقف على مشارف اللانتيجة *26
إنّ حفر الشّاعر في أركيولوجيا التّراث الإنسانيّ عموما و العربيّ على وجه التّحديد ، جعله يبلغ بوعيه الحادّ حالة من الشّعور بالإحباط و عدم الرّضا بواقع الكتابة ، و بالنصّ العربيّ على وجه الخصوص ، فانبرى ثائرا متمرّدا على من أسماهم بباعة الهيكل و صيارفة الكلام ، الأمر الّذي جعل خطابه في نصّه : باعة الهيكل ص 55 ، ينحو نحو المباشرة .. خطابا مشحونا بالغضب و السّخرية و المرّة ، فنعتهم بأبشع النّعوت ، و أخرجهم في أقبح الصّور ، و اعتبرهم بادّعائهم الحداثة ، قد ضربوا قداسة الكلمة و رسالتها الإنسانيّة ، فكانوا بمثابة من هدم الهيكل على رأسه عملا بمقولة شمشون الجبار ( الوارد ذكره في التّوراة ) :» عليّ و على أعدائي يا ربّ « . :
( فالسّواري تمجّكم و العرصات
و السّقوف تنذر بالسّقوط على فوق رؤوسكم
لتدقّ عظامكم
و تفتّت مناهجكم الّتي عشّش فيها الزّيف.
اغربوا عن الهيكل
و ليتعال بكاؤكم و صرير الأسنان
عندما تكسّرون يا أشباه الكتبة و الفريسيّين
بقايا أقلامكم ص58 (باعة الهيكل)
تلك هي الكتابة عند جلال المخ ، هي بمثابة المعبد المقدّس الّذي على داخليه أن يحترموا طقوسه و يعملوا بها ، و أن لا يدنّسوه ، فما بالك أن يسعوا إلى هدمه.
لقد انخرط الأستاذ جلال المخ في هذا الكتاب ، في كتابة واعية ، استبطن فيها مخزون التّراث الإنساني فنّ و إبداعا و كتابة ، معتبرا أنّ الكتابة فعل مقدّس و رسالة نبيلة ، تهدف إلى تنوير العقل البشري لتخرج به من الظّلمات إلى النّور ، و من الجهل إلى المعرفة ، و الضّلال إلى الرّشد ، فكان كتابه : "عودة النصّ الضّال " ، عبارة عن رحلة في أركيولوجيا تاريخ التّراث الإنسانيّ القديم و الحديث، كشف فيها المستور و حزّ فيها الجروح إلى العظم ، مؤملا عودة النّصّ من الضّلال إلى الرّشد ، ليستعيد قداسته و وظيفته الرّاقية ، ألا و هي الرّقيّ بالإنسان عقلا و فكرا و وجدانا و سلوكا ،و ينتصر للقيم الإنسانيّة العليا الّتي هي الغاية المثلى للكتابة . و لعلّه بكتابه هذا أراد أن يقدّم نصّا مختلفا هو بمثابة النصّ الّذي ضلّ منه في غمرة الزّحام ، و أراد أن يكون جديرا بدلالة الرّقم عشرين عنده ، الّذي هو تتويج لخمس و ثلاثين من السّنوات تقريبا أصدرا خلالها عشرين منجزا في أجناس مختلفة من الكتابة حرص فيها ان يكون فيها مختلفا عن غيره ، يقدّم فيها الإضافة تلو الإضافة.
كأنّي بالأستاذ جلال المخ و هو يقدّم لنا هذا الزّخم من الإنتاج الفكريّ و الإبداعيّ ، يستحضر في كلّ ما كتبه و في هذا المنجز بالذّات ، تلك الأسئلة الخالدة :
- لماذا نكتب؟
- ماذا نكتب ؟
- كيف نكتب؟
- لمن نكتب ؟
فإذا الكتابة عنده عقيدة مقدّسة تعطي لوجوده معنى ، و معنى أسمى للوجود الإنسانيّ ككلّ ، ليضيف للكوجيتو الدّيكارتي القائل : أنا أفكّر ، إذا أنا موجود ، مقولة جديدة : أنا أكتب ، إذا أنا موجود.
20/02/2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1- يوحنّا 1 : 1 – 30
2 – سورة البقرة . الآية 37
3 – سورة العلق . اآيات من 1 إلى 54 – سورة العلق . الآيات من 3 إلى 5
5 – عودة النصّ الضّالّ ص 43
6 - عودة النصّ الضّالّ ص 43
7 – عودة المصّ الضّالّ . ص 45
8 – عودة النصّ الضّلّ ص 45
9 – عودة النصّ الضّال .ص 46
10 – عودة النصّ الضّالّ . ص 46
11 * سورة العلق . الآية 3 و 4
12 – عودة الصّ الضّالّ . ص48
13 – تانيت الآلهة المرضع .ص 7
14 – تانيت الآلهة المرضع . ص 7
15– تانيت الآلهة المرضع . ص 7
*16 – سورة البقرة الاية 286 .: » و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا «
17 – نص : تانيت الالهة المرضع ص7
*18 – التّوراة : سفر التّكوين 2‘18- 24 www.asalalya
19 : نص : تانيت الالهة المرضع ص13
*20 - تانيت الآلهة المرضع ص14
*21 :www.alshirazi.com/wold/article/2011/798.htm
*22 - : نصّ ، طوبى للسّاعين إلى الأوهام .ص 80
*23 – نص طوبى للسّاعين إلى الأوهام ص 84
*24 – قصيدة المتنبّي : عيد بأيّة حال عدت يا عيد
*25 – من قصيدة للمتنبي مطلعها :
أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ **
وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ
*26 – من قصدة للمتنبّي مطلعها : لهوى النفوس سريرة لا تعلم *** عرضا نظرت وخلت أني أسلم