هل جنسية المسلم عقيدته أم وطنه؟
بقلم د.وليد القططي
مما لا شك فيه أن جانباً مهماً من الصراع الدائر حالياً في بعض الدول العربية التي ضربتها عاصفة (الربيع العربي) فتركتها هشيماً تذروه رياح تفتتاً. التطرف و الحروب الأهلية ، و بعض الدول التي خفضت رأسها للعاصفة فخرجت بأقل الأضرار ، و البعض الآخر الذي لا يزال ينتظر العاصفة و ما بدّلت تبديلاً و استمرت على نهجها القائم على الاستبداد و الفساد. هو صراع على هوية الدولة المنشودة ، التي يريدها البعض إسلامية استناداً إلى مفهوم الأمة الإسلامية و ارتكازاً على العقيدة الإسلامية، بينما يريدها البعض الآخر قائمة على أساس مفهوم الوطن الذي يضم كل المنتمين له بغض النظر عن عقيدتهم و دينهم و عرقهم و لسانهم ....، و بين هذين التيارين –الإسلامي و الوطني –تيارات عديدة بعضها ينبش في ركام تاريخ الفتن ليعثر على هوية مذهبية لم تزد الأمة إلا انقساماً و الوطن إلّا تفتتاً . و بعضها يفتّش في الدفاتر القديمة لأنظمة حاكمة فالتالي:ثر على هوية قومية لم تزد شعوبها إلا خسارا ، و دولها إلا فساداً و استبداداً. و في صياغة أخرى لصراع الهوية يمكن توجيه السؤال التالي : هل جنسية المسلم و هوية دولته تقوم على أساس انتمائه لعقيدته أم انتمائه لوطنه ؟ و للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى أصول هاتين الفكرتين في العصر الحديث.
جاء في فصيلي:سية المسلم و عقيدته) من كتاب (معالم في الطرالإسلامية. الإسلامي (سيد قطب) ما يلي :" لا وطن للمسلم إلّا الذي تُقام فيه شريعة لله ..و لا جنسية للمسلم إلّا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة الإسلامية ... ولا قرابة للمسلم إلّا تلك التي تنبثق من العقيدة..." . و من قبله قال الإمام (حسن البنّا) مؤسس جماعة (الإخوان المسلمين ) في نفس المعنى "إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة ، و هم يعتبرونها بالتخوم الأرضية و الحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وطن عندنا له حرمته و قداسته و حبه و الإخلاص له و الجهاد في سبيله . و كذلك موقف معظم مفكري الحركة الإسلامية يتمحور حول هذا الرأي الذي يعتبر الرابطة الإسلامية القائمة على أساس العقيدة هي الأساس في تحديد جنسية المسلم و هويته و انتمائه ،و تأتي الروابط الأخرى بما فيها القومية و الوطنية في إطارها و لاحقة لها .
و لقد فرّقت الحركة الإسلامية بين مفهوم الوطنية بمعنى الحب للوطن و الدفاع عنه و تحريره و السعي لخيره، و هو مطلوب دينياً، وبين مفاهيم : الوطنية القطرية الانفصالية كنقيض لمفهوم الأمة الإسلامية ووحدتها ، و الوطنية العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة كنقيض لمفهوم الدولة الإسلامية ، و الوطنية العصبية المرتكز ة على العرق كنقيض لمفهوم الوطنية المرتكزة على العقيدة. كما أن هذا الفهم التقليدي لهوية و جنسية المسلم قد تعّرض للتغيير و التطور على يد بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين و أهمهم الدكتور حسن الترابي في السودان و الأستاذ راشد الغنوشي في السودان حيث أصبح هناك قبول للدولة الوطنية القائمة على فكرة المواطنة و ليست العقيدة.
و في المقابل فإن التيار الوطني الذي برز في مصر بعد ثورة عام 1919 ، وقف على النقيض من التيار الإسلامي في موضوع الهوية الجمعية التي تعطي مصر هوية وطنية متميزة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و منفصلة عن الجغرافيا العربية و التاريخ الإسلامي ، و تربط تاريخها بالفراعنة، و مستقبلها بأوروبا . و من أهم رموز هذا التيار (أحمد لطفي السيد) مؤسس( حزب الأمة ) المصري الذي كتب في مجلته (الجريدة) يقول :" إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية ، و الاحتفاظ بها و الغيرة عليها غيرة التركي على وطنه، و الانجليزي على قوميته، لا أن نجعل بلادنا على المشاع وسط ما يُسمّى الجامعة الإسلامية ". و كذلك من رموز هذا التيار عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين) الذي دعا إلى الوطنية المصرية المنفصلة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و ربطها بالغرب الأوروبي و هذا ما عبر عنه في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بقوله " مصر ثقافياً و حضارياً هي دولة غربية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالة" و كذلك المفكر المصري القبطي (سلامة موسى) الذي نادى بالبحث عن معالم الشخصية الوطنية المصرية في جذورها الفرعونية ، و اعتبار الفرعونية هي الأساس في انتماء المصريين لوطنهم ، و استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية و اللغة العربية الفصحى باللهجة العامية المصرية . و هذا التيار الوطني القطري منتشر في كل الأقطار العربية تقريباً. حيث يُقّدم الهوية الوطنية القطرية على الهوية الإسلامية الأممية. و يجعل رابطة الوحدة الوطنية مقدمة على رابطة الوحدة الإسلامية.
و في الختام فإن الإشكالية في التناقض الموجود بين هذين التيارين و الصراع بينهما ناتجة من أسباب عديدة منها : النظرة الإلغائية التي يحاول من خلالها كل تيار إقصاء الآخر و استبعاده من منظومته الفكرية ، و فرض مفهومه الخاص للهوية الفردية و الجمعية. و منها محاولة ربط مفهوم الوطنية بالعلمانية التي تفصل الدين عن الدولة و في صورها المتطرفة تُعادي الدين، مع أنها في الأصل مفهوم محايد قد يرتبط بالدين أو بالعلمانية أو بغيرها. و منها سوء الفهم المتراكم لموقف الإسلام من غير المسلمين في الدولة الإسلامية الذي نتج عن تطبيق خاطئ لهذا الفهم شوّه مفهوم (أهل الذمة) و أعطاه صورة سلبية تتنافى مع ما طبّقه الرسول –صلى الله عليه وسلم_ في دولة المدينة التي كان تحكمها (الصحيفة) دستور دولة المدينة التي اعتبر سكان المدينة (أمة من دون الناس) و سكانها من غير المسلمين (لهم ما لنا و عليهم ما علينا) التي تعني المساواة في الحقوق و الواجبات بين سكان الدولة مهما اختلفت أديانهم و أعراقهم و هو ما يُعرف حديثاً بمفهوم المواطنة. وفي الحقيقة فإن الانتماء للعقيدة و الهوية الدينية لا تناقض الانتماء للوطن و الهوية الوطنية.غ687
بقلم د.وليد القططي
مما لا شك فيه أن جانباً مهماً من الصراع الدائر حالياً في بعض الدول العربية التي ضربتها عاصفة (الربيع العربي) فتركتها هشيماً تذروه رياح تفتتاً. التطرف و الحروب الأهلية ، و بعض الدول التي خفضت رأسها للعاصفة فخرجت بأقل الأضرار ، و البعض الآخر الذي لا يزال ينتظر العاصفة و ما بدّلت تبديلاً و استمرت على نهجها القائم على الاستبداد و الفساد. هو صراع على هوية الدولة المنشودة ، التي يريدها البعض إسلامية استناداً إلى مفهوم الأمة الإسلامية و ارتكازاً على العقيدة الإسلامية، بينما يريدها البعض الآخر قائمة على أساس مفهوم الوطن الذي يضم كل المنتمين له بغض النظر عن عقيدتهم و دينهم و عرقهم و لسانهم ....، و بين هذين التيارين –الإسلامي و الوطني –تيارات عديدة بعضها ينبش في ركام تاريخ الفتن ليعثر على هوية مذهبية لم تزد الأمة إلا انقساماً و الوطن إلّا تفتتاً . و بعضها يفتّش في الدفاتر القديمة لأنظمة حاكمة فالتالي:ثر على هوية قومية لم تزد شعوبها إلا خسارا ، و دولها إلا فساداً و استبداداً. و في صياغة أخرى لصراع الهوية يمكن توجيه السؤال التالي : هل جنسية المسلم و هوية دولته تقوم على أساس انتمائه لعقيدته أم انتمائه لوطنه ؟ و للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى أصول هاتين الفكرتين في العصر الحديث.
جاء في فصيلي:سية المسلم و عقيدته) من كتاب (معالم في الطرالإسلامية. الإسلامي (سيد قطب) ما يلي :" لا وطن للمسلم إلّا الذي تُقام فيه شريعة لله ..و لا جنسية للمسلم إلّا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة الإسلامية ... ولا قرابة للمسلم إلّا تلك التي تنبثق من العقيدة..." . و من قبله قال الإمام (حسن البنّا) مؤسس جماعة (الإخوان المسلمين ) في نفس المعنى "إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة ، و هم يعتبرونها بالتخوم الأرضية و الحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وطن عندنا له حرمته و قداسته و حبه و الإخلاص له و الجهاد في سبيله . و كذلك موقف معظم مفكري الحركة الإسلامية يتمحور حول هذا الرأي الذي يعتبر الرابطة الإسلامية القائمة على أساس العقيدة هي الأساس في تحديد جنسية المسلم و هويته و انتمائه ،و تأتي الروابط الأخرى بما فيها القومية و الوطنية في إطارها و لاحقة لها .
و لقد فرّقت الحركة الإسلامية بين مفهوم الوطنية بمعنى الحب للوطن و الدفاع عنه و تحريره و السعي لخيره، و هو مطلوب دينياً، وبين مفاهيم : الوطنية القطرية الانفصالية كنقيض لمفهوم الأمة الإسلامية ووحدتها ، و الوطنية العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة كنقيض لمفهوم الدولة الإسلامية ، و الوطنية العصبية المرتكز ة على العرق كنقيض لمفهوم الوطنية المرتكزة على العقيدة. كما أن هذا الفهم التقليدي لهوية و جنسية المسلم قد تعّرض للتغيير و التطور على يد بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين و أهمهم الدكتور حسن الترابي في السودان و الأستاذ راشد الغنوشي في السودان حيث أصبح هناك قبول للدولة الوطنية القائمة على فكرة المواطنة و ليست العقيدة.
و في المقابل فإن التيار الوطني الذي برز في مصر بعد ثورة عام 1919 ، وقف على النقيض من التيار الإسلامي في موضوع الهوية الجمعية التي تعطي مصر هوية وطنية متميزة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و منفصلة عن الجغرافيا العربية و التاريخ الإسلامي ، و تربط تاريخها بالفراعنة، و مستقبلها بأوروبا . و من أهم رموز هذا التيار (أحمد لطفي السيد) مؤسس( حزب الأمة ) المصري الذي كتب في مجلته (الجريدة) يقول :" إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية ، و الاحتفاظ بها و الغيرة عليها غيرة التركي على وطنه، و الانجليزي على قوميته، لا أن نجعل بلادنا على المشاع وسط ما يُسمّى الجامعة الإسلامية ". و كذلك من رموز هذا التيار عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين) الذي دعا إلى الوطنية المصرية المنفصلة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و ربطها بالغرب الأوروبي و هذا ما عبر عنه في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بقوله " مصر ثقافياً و حضارياً هي دولة غربية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالة" و كذلك المفكر المصري القبطي (سلامة موسى) الذي نادى بالبحث عن معالم الشخصية الوطنية المصرية في جذورها الفرعونية ، و اعتبار الفرعونية هي الأساس في انتماء المصريين لوطنهم ، و استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية و اللغة العربية الفصحى باللهجة العامية المصرية . و هذا التيار الوطني القطري منتشر في كل الأقطار العربية تقريباً. حيث يُقّدم الهوية الوطنية القطرية على الهوية الإسلامية الأممية. و يجعل رابطة الوحدة الوطنية مقدمة على رابطة الوحدة الإسلامية.
و في الختام فإن الإشكالية في التناقض الموجود بين هذين التيارين و الصراع بينهما ناتجة من أسباب عديدة منها : النظرة الإلغائية التي يحاول من خلالها كل تيار إقصاء الآخر و استبعاده من منظومته الفكرية ، و فرض مفهومه الخاص للهوية الفردية و الجمعية. و منها محاولة ربط مفهوم الوطنية بالعلمانية التي تفصل الدين عن الدولة و في صورها المتطرفة تُعادي الدين، مع أنها في الأصل مفهوم محايد قد يرتبط بالدين أو بالعلمانية أو بغيرها. و منها سوء الفهم المتراكم لموقف الإسلام من غير المسلمين في الدولة الإسلامية الذي نتج عن تطبيق خاطئ لهذا الفهم شوّه مفهوم (أهل الذمة) و أعطاه صورة سلبية تتنافى مع ما طبّقه الرسول –صلى الله عليه وسلم_ في دولة المدينة التي كان تحكمها (الصحيفة) دستور دولة المدينة التي اعتبر سكان المدينة (أمة من دون الناس) و سكانها من غير المسلمين (لهم ما لنا و عليهم ما علينا) التي تعني المساواة في الحقوق و الواجبات بين سكان الدولة مهما اختلفت أديانهم و أعراقهم و هو ما يُعرف حديثاً بمفهوم المواطنة. وفي الحقيقة فإن الانتماء للعقيدة و الهوية الدينية لا تناقض الانتماء للوطن و الهوية الوطنية.غ687