الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

جوزف حرب 20 محبرة الخليقة بقلم: د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-12-20
جوزف حرب 20 محبرة الخليقة بقلم: د. حسين سرمك حسن
محبرة الخليقة (20)
------------------------
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
   د. حسين سرمك حسن
      بغداد المحروسة
      2012 - 2013
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 
السيدة الشجرة:
يبدأ الشعر من تقطيع القلب
---------------------------
(                                       ......... وتمضي ،
      لا يرافقها إلّا دموعٌ
                           حملتها مقلتاها ،
                           وأطارتها مع الريحِ
                           يداها ،
                           حيثُ تحيى وحدها . تُنفقُ ممّا
      قد جنتْ ، بعضاً على عزلتها . بعضاً على تلكَ
      المساحيقِ التي تلمحُ فيها
                           طيفَ أيامِ صباها . )







عندما يسمع الإنسان البسيط مفردة "شجرة" ، فإن إيحاءات مثل الظل والراحة والثمار والخصب والتكاثر والتلقيح والصعود (برمزيته المعروفة في الأحلام) وغيرها تنهض في ذاكرته اللاشعورية مصحوبة بالإرتياح والإستجابة الهادئة غير المستفزّة ، وكل هذه الإيحاءات ترتبط عادة بصورة الأنوثة خصوصاً في وجهها الأمومي ووظائفها الرحمية المنعمة . ولو حاولنا جمع خصائص الشجرة تلك لوجدنا أنها تقوم – بالنسبة للاشعور الإنسان – مقام "رحم" ، ورحم المرأة في الحقيقة هو مصدر الكون والوجود في فعالياتهما البشرية . فالرحم الذي هو مستودع الجنين عند المرأة ، أو الأنثى ، وهو رمز الخصب واستمرار الحياة ، وتعني (ر ح م) الكنعانية "فتاة" ، كأن يُقال "ر ح م . ع ن ت" أي الفتاة عناة (الإلاهة الكنعانية) بمعنى "البتول عناة" . وتفيد هذه الكلمة – رحم – بالكنعانية ، مثل اللغات السمية معنى الرحمة ايضاً . وتعني بالعربية ، القرابة أيضاً ، كأن يُقال ذو رحم ، أي ذو قرابة ، ولعل هذا التعبير يحمل جذور المجتمع الأمومي (أي المجتمع الذي تكون فيه السيادة للمرأة) . وهذا يذكرنا أيضا بكلمة (بطن) العربية بمعنى عشيرة ، ومن البطن الفخذ ، وكلاهما مصطلحان لهما صلة بتشريح جسم المرأة . ويُقال للمرأة رحوم ورحماء ورحِمة . ومن هذا الجذر جاء مفهوم الرحمة بمعنى رقة القلب والتعطّف ، وكلها تعود إلى الرحم ، لأن حمل الجنين في الرحم هو أعلى مظاهر الحب والحدب والرحمة عند المرأة .. ويكفينا القول أن اسم أعظم وأقدم الإلهات منذ بدأ الخليقة وهي "عشتار" مشتق – كما يقول جون ألليغرو – من الكلمة السومرية Ush-Taar التي تفيد معنى "الرحم" (31) .
أما ارتباط عشتار السيّدة بالشجرة فهو معروف منذ أقدم الأزمنة ايضاً ، فقد عبد الإنسان الأول روح الغاب ممثلة في الشجرة ، ولم تكن عبادته موجهة نحو الشجرة بذاتها بل نحو الروح الكامنة فيها . ثم بدت عشتار تخرج من الشجرة في شكلها الإنساني الجميل . وقد عبد البشر القدماء العديد من الأشجار وقدّموا لها الأضاحي ، ونقلوها إلى معابدهم وبيوتهم . إذن فالفعل متبادل بين الشجرة والمرأة ، لكن مصدر الإيحاءات والدلالات هو جسد الأنثى وحضورها الملغز ووظائفها المحيية والمميتة وأهمها الحمل والولادة ، وهما سرّ الأنوثة وعظمتها . ومثلما تحدّثنا ونحن نحلل نصوص جوزف حرب المبكرة في هذا الديوان : "الرائعة" و "رباعية الخلق" و "رؤيا المحبرة" ، عن الكيفية الخاشعة والمهيبة التي كان الإنسان القديم يستقبل بها فعل الكلمة ويفهمه عندما كان لاشعوره عارياً ولم يثقل ويختنق بأتربة الكبت ، فإن الحمل الذي جعله العلم – وهذه من سيّئاته - عملية عاديّة وبسيطة ، ويمكن أن تتم في الأنابيب الزجاجية خارج الرحم البشري المقدّس ، وبخلطة من منيّ أي عابر وبويضة مرتجفة ، كان لغزاً كونياً محيّراً . و (أول فكرة للإنسان ، هي أنّ "قوّة ما" تقرّر الولادات . وقد كانت تلك الفكرة تقوم على أن الأب لا يحمل بالأطفال ، وإنما – على مستوى متطوّر كثيراً أو قليلاً من مجيئهم – يأتون ليتخذوا مكاناً في بطن الأم إثر احتكاك بين المرأة وبين شيء ما أو مع حيوان من وسط كوني محيط) (32) .
حتى الرجل كان يقف متوجّساً ومتحيّراً أمام بدء انتفاخ رحم زوجته بسبب تلك الفاصـلة الزمنـيّـة التي لم تكن قابلة للتفسير قبل نمو المعـرفة الأنسانيّـة ــ بين الأتصال الجنسي (المواقـعة ، إيداع البذرة) ، وبين ظـهـور بوادر وعلامات الحمل ، والتي تمتد لعدّة أشهر . فالكثير من الشعوب القديمة كانت لا تؤمن مطلقاً بأنّ هناك علاقة بين المجامعة و الحبل . (والكثيرون بالطبع يفهمون هذه العلاقـة غـيـر أنّ جهـل البـعـض بـها ربّـما كان مبنيّـاً أيـضاً على معرفتـهـم بـأنّ مـن المتزوّجات من لا تـلـد أولاداً لسنين عديدة أو طول أيام حياتـهـا 0 كانوا يعـتـقـدون أنّ الحبـل ممكن دون مضاجعة الذكـر . فـقد تحبل المرأة ــ كما يعتـقد السكّـان في بعـض جـزائـر (ملانيزيا الجنوبيّة) - بدخول روح حيوان أو روح فاكهـة في رحمها بدون مساعـدة الرجل . ولايقـرّ سكان نهر (تلي) في (كوينزلند) بأنّ المـجامعة هي سبب حبل النسـاء مع أنّـهم يعترفون بأنّـها سبب الحبل عند الحيوانات ، ويتفاخـرون بسمـوّهم على الوحـوش بأنّ بقاءهم على وجه الأرض ليس مدينـاً بشيء الى وسائل دنيئة كهذه ، وأنّ الأسباب الحقيـقيّـة لحبـل المرأة قــد تكـون تنـاولها ضربـاً من السمـك الأسود أو إسـتنشاقها رائحة السمـكة الـمشويّة الشهـية ، قد يأمرها رجل مـا بالحـبـل ومجـرد ذلك يكفي لأن يحرك الجنين في أحشائها أو قد تحلم بأن الطفل قد وضع فيها ، ويكفـي الحـلم لأن يـحقـق نفـسه . إذن فـي ضوء ما تقـدم من الأدلـة والحجـج فـأن قـصص الأبـطال والآلهة الذين ولدوا ولادة عجيبة من أمّهات عذارى تفقد كثيراً من الروعة التي كانت تحيط بهم في الزمن القديـم ، وما نراهـا نحن إلاّ كبقايا خرافية دامـت كالمتحجرات لـكي تنبئنا عـن عصر غابـر ملـؤه الجهـل الصـبياني وسـذاجـة التصديـق حسـب معـرفـتنا الموضوعية المتطّورة) كما يقول (جيمس فريزر) (33) . 
وقد حملت "مارجانا" عذراء كاليفالا بعنبة زرقاء . من هذا "الخبر" الأسطوري الموجز يستقي جوزف نصّه الأول من قسم "السيّدة الشجرة" التي يصوّر فيها نداءً أنثوياً موجّهاً إلى "صبايا الأقحوان" يصوّر حبل صاحبة الصوت بحبّة عنب زرقاء أدخلتها في أحشائها :
(                 يا
                  صبايا الأقحوان ،
                  أقبلَ الليلُ ،
                  تعرّيتُ على تختي ، وذرذرتُ على
فخذيَّ مسكاً لغزالٍ
                  عنقهُ بيضاءْ ،
                  ثمّ أدخلتُ إلى أعماق احشائي
حينَ الليلُ في عتمتهِ أدخلَ
                       بدراً ،
                 حبّةً
                  من عنبٍ زرقاءْ . – ص 401) .
وبكثير من اليقظة القرائية الذكيّة ستلاحظ أن الشاعر الإنسان ، معاصرنا ، لا يستطيع إلاّ أن يكون نتاجاً لمنظومة معرفيّة شاملة تحكم عصره ، وترسّخ طريقة معينة في إشباع الرغبات اللاشعورية وفي مقدّمتها الجنس . وقد حاول الشاعر "ترجمة" الخبر الأسطوري السابق شعراً بلغة عصره ، ولكنه لم يسلم مما علق بفكره من حقائق اكتشفت حديثاً وصارت عرفاً وهي أن المرأة تخصّب بمنيّ الرجل . لم يستطع استيعاب أن أكل تلك الأنثى حبة عنب زرقاء كان سبب حبلها . لابدّ أن "يدخل" هذا الشيء في أحشاء الأنثى لكي تتم عملية الإخصاب . مثلما لابدّ أن تكون هناك "أفعال تمهيدية" لعملية المواقعة بالحبّة ، كتعريّ الأنثى ، وذرذرة المسك على فخذيها الناعمين . والترابط السحري الوحيد كان حين تمت عملية "الإدخال" في الوقت الذي أدخل فيه الليل بدراً – وهو من رموز الإله الإبن إضافة إلى الأم – في عتمته . وحتى عنقود العنب الذي انتقته من قصر العريش الحلو ، لم يأت عفواً ، بل بحكم مشابهة بين تدويرة حبّاته ، وتدويرة حمراء يمتلكها حبيبها (ص 400) . وقد حكم هذه التغييرات ميل الشاعر الذي أشرنا إليه من قبل وهو أنّه قد وضع نصب عينيه هدف التصحيح والتشذيب والمعاصرة وتحديث اسطورة الخليقة برؤى من محبرة روحه وعصره .
ويتناول النص الثاني "الغبار" هذه الأطروحة من منظور آخر ، وهو أنّ مادة الإخصاب تقرّر بـ "نوعها" الجمالي ، الطبيعة "الجمالية" والعضويّة للجنين . فالغبار يمكن أن يخطف النساء حين تهبّ العواصف ، ويضاجعهن خلف الهضاب :
(                  فيعودَ من سيجيءُ منّا عندما
         يغفو على حجرِ الضريحِ
                   إلى
                   التُرابْ . – ص 403) .
والأهم من ذلك كلّه هو أن الشاعر ينثر بين هذه النصوص ، نصوصه القصيرة  التي تعبّر عن نظرته الشفيفة الحالمة إلى الحبّ والفعل الجنسي ، والتي ، مادامت نظرة شاعر ، تلتقي في روحها مع كثير من تلك الأبعاد الاسطورية التي تحدّثنا عنها ، فالشاعر هو في عمق تركيبته ، وفي تجليّات حالات فعله ، هو الإنسان البدائي النقي الذي يمشي بيننا في الأسواق . في مقطوعة "أمس" يجعل العروسين المتعانقين العاريين ، يستقبلان ضوء الصبح كي تحبل الحبيبة من الشمس . وهي طريقة "حديثة" ورومانسية يبغي منها العاشق الإلتحام بروح الطبيعة ، وتلبّس المحبوبة بنور الشمس ليأتي المولود إبناً للطبيعة العذراء :
(                  أمسْ
                   بعد الزفافِ ، ضمّها ، ناما معاً ،
      لكنْ ، لكي تُنجبَ ، قاما عاريينِ ، استقبلا أولَ
      ضوءِ الصبحِ
                      كيْ تدخلَ فيها الشمسْ . – ص 404) .
لا يكمل الفعل الجنسي البشري إلاّ بمباركة الأم الشمس ، وهي على مستوى اللاشعور مداورة شديدة المكر في الإخلاص لطيف الأم المبارك .
ولكن المعاصرة تعني أيضاً تغيّر الكثير من الدلالات الرمزية وتراكبها بصورة تجعلها ملغزة ، ولكنها تخضع لنفس الأطر الأسطورية القديمة ، فحتى الآن تلوب في نفوسنا جميعاً – منعكسة في أحلامنا وإبداعنا طبعاً – رغبات أن نكون أبناء للشمس ، ونحمل شعلتها ظافرين . "وتُتّهم الشمس أيضاً بأنها مخصّب عنيف ، ومؤسس للعديد من الأسر الملكيّة ، كأسرة جنكيزخان ، وفي الهند وبلاد فارس تُعرض الخطيبات لأشعتها . إنها الشعيرة التي تُسمّى في الهند "شعيرة الحمل" . كذلك فإنه يوجد في بلاد فارس اعتقاد بأن أشعة الشمس المشرقة هي المناسبة اكثر من غيرها كي تجعل العرائس الشابات يحبلن . وفي بعض المناطق يرفع الزوجان لكي يستقبلا الاشعة الأولى للشمس ، وذلك قبل صباح اليوم الذي يلي ليلة العرس ) (34) .
ولكن الرمزية الكونيّة التي يتحدث عنها الباحثون الأسطوريون والمحللون النفسيون ويوظّفها المبدعون وغيرهم ليست ثابتة . هي نتاج انفعالات النفس البشرية وتأويلات لاشعورها حين يُسقط عليها مكبوتاته ، فلا رمزية إلاّ لمكبوت كما قال المحلل النفسي الإنكليزي "إرنست جونز" . ففي بعض الحالات النفسية القلقة والمتخوّفة من الفقدان والموت ، يمكن للنفس البشرية أن تُلبس أجمل الرموز وأكثرها ثراءً بالجمال والآمال دلالات حزينة ، معتمة وآسية . وهذا ما يتجلى في حوار الحبيبين في قصيدة "القمر" حيث يُفاجأ الحبيب برد حبيبته الغريب حين تجيب بالنفي على سؤاله لها هل تنظر إلى القمر ؟ ولم يسألها عن السبب مباشرة ، ولكنه يشرع في شرح مزايا القمر شعريّاً (من فضّة ، يضيء الليل ، يهدي أجمل القمصان للوادي ، وأعشاب المراعي ، والشجر .. إلخ) . وهومحق تماماً فالقمر مكتنز بكل هذه الدلالات المنعشة ، لكن الحبيبة المرأة ، وهي "تحسب" حياتها الإخصابية بعدد دورات القمر – وهي دورات عمرها - تنظر إلى القمر من زاوية مغايرة مهدّدة لوجودها ولعلاقتهما الحبية :
(            - لا ، هو كلَّ يومٍ ناقصٌ عن أمسهِ ،
             فإذا اختفى ، أو صار ذات دجىً
               مُحاقْ ،
               أبكيْ
               لكثرةِ ما يذكّرني بموتي ،
           أو
               بأيام
               الفراقْ - ص 407) .  
في نص "ماء البحيرة" يتناول موضوعة الحمل بلا دنس كما يُسمّى في التحليل النفسي . والماء مخصّب كذلك ، حيث تشير الأساطير الهندوسيّة إلى أنّ "بارافاتي" زوجة "شيفا" إله الخراب ، وُلِدت بعد أن كانت والدتها قد استحمّت فقط (فيليب؟؟؟) ، وهنا يطيح بأسطورة الولادة المقدّسة من الماء مادام إله الدمار قد نتج عن التخصيب بالماء . ثم حبل "هيرا" حسب الموروث اليوناني بمداعبات الريح مضيفاً شرط "الإختراق" (نص "الريح" ص 410 و411) . أو أن الحمل يتم عن طريق ثعبان (وهو رمز ذكوري – رمز للقضيب – كما يرى جوزف وأكثر الباحثين ، لكنه في الحقيقة رمز مزدوج حسب السياق) يدخل فرج المرأة ، فيأتي الطفل مسلحاً بالقوّة والحكمة (نص "الثعبان" ص 422 و423) . أو أن الفتيات يحملن وقت بلوغهن بأن يرقصن عارياتٍ تحت المطر (نص "رقص" ص 462 و463) . فهل في هذه التفسيرات شيئاً غريباً يصدم وعينا العلمي الحاضر ؟ الجواب : كلّا  فهذه هي "الأمومة العفويّة" كما سمّاها "فيليب كامبي" ، فـ "كل شيء في الواقع يفسح مجالاً للإفتراض ، إن الطفل لم يكن يُعتبر في البدء سوى ثمرة من أمّه . فالأم كالأرض هي وحدها مسؤولة عن ثمارها . وعلى هذا المستوى يُعتبر الأطفال كأنهم بدون آباء ، أو أنهم منحدرون من عدد من الآباء ، أو أبضاً كنباتات بُذرت صدفة ويُعين الأب من قبل أيًّ كان .
هل في هذا مدعاة للعجب ؟
إنّ العلاقة بين الجماع والوضع تمتد لما يقرب من سنة ، وبذلك تكون هذه العلاقة غير واضحة . هذا وأن المعرفة العلمية لآلية الإنجاب لا تتعدى المئة وخمسين سنة تقريباً ؛ والأكثر مدعاة للدهشة لا يمكن أن يكون – كما يقول أندريه مالرو - : سوى أن البشر لم يكونوا أقاموا علاقة بين العمل الجنسي والإنجاب ، مع أنهم فعلوها (35) .
(          لا طفلَ أبوهُ رجلٌ !
           هوَ إمّا ثمرهْ
           من أمًّ
           تحبلُ مثل الشجرهْ ،
           أو تحبلُ إمّا من ماءٍ أو
قمرٍ ، أو ثعبانٍ ، أو صبحٍ وهّاجٍ ،
أو ريحٍ ، أو
            أحدِ الأربابْ .
            عاشت هذي الأرضُ طويلاً ،
لا تربطُ بين المتعةِ
           والإنجابْ . – ص 444 و445) (نصّ "الممحو").
 كل هذا شيء بسيط من العالم الباطني الملغز للأنثى المباركة . فهناك ما هو أكثر تعقيداً وتشابكاً . فالمرأة كتلة من الأسرار الشائكة ، ومن أكبر مساويء العلم هو أنه أوصل كشف تلك الأسرار حدّ التسطيح والفجاجة . هل تستطيع الأنثى في عالمنا الآن أن تشكو وهي تكشف معاناتها من كونها حاملة الأسرار ؟ :
(             كم يتعبني أني امرأةٌ
     حارسةٌ
             للأسرارْ .
             لكأني بين ليالي الكونِ
             نهارْ – ص 412) (نصّ "الحارسة") .
إنّ (كلّ سرّ من اسرار الطبيعة وحكمة من حكمها وخبيئة من خبايا النفس الإنسانية ، وعلاقة من علائق القوى الخفية ، قد أبانتها عشتار في كل أو جزء أو إشارة لبني البشر ، عن طريق كاهناتها اللواتي كنّ منذ البداية صلة الوصل بين عالم البشر وعالم الآلهة . وبذلك لعبت المرأة دور المعلّم الأول في تاريخ الحضارة . فالمرأة أكثر حسّاً بالخفي والماورائي من الرجل ، وأكثر منه تديّناً وإيماناً بالقوى الإلهية ، وأكثر شفافية روحية . فبينما يتجه عقل الرجل للتعامل مع ظواهر المادة ، تتجه نفس المرأة إلى تحسس العوالم الروحانية وتلمّس القوى الباطنية . مما جعلها الكاهنة الأولى والعرافة الاولى والناطقة بالوحي الاولى ، في المجتمع الأمومي القديم القائم على حقّ الام وسيادة المرأة الاجتماعية وسلطان عشتار الكونية . لذلك "تأنّست" المرأة قبل الرجل وقادت بيده من إيقاع المادة الرتيب إلى ملكوت الروح الإنسانية الرحيب (...) وإلى جانب المستوى الطبيعي للديانة العشتارية الذي تعطي عشتار عنده ثمار الأرض (أم القمح) ، هناك المستوى السرّاني الذي تعطي عنده الأم القمريّة ، راعية الليل ، ثمار الروح ؛ هي أم الخمر التي تهب أهل الباطن قوت قلوبهم ، وتفتح بصائرهم على حكمة الليل ) (36) .                               وبنفس هذه النظرة الروحية العميقة كانت تتعامل مع حاجات الجسد الملتهبة لإشباع الغريزة الجنسية والتي عبّر عنها جوزف حرب باروع صورة تغني عن الكثير من التفسير والتحليل في نص "كانتْ" :
(                قرباناً
                 جعلتْ هذا الجسد الفاتنْ
                 لا
                 متهتّك فيها ،
                 أو ماجنْ .
                 ما رضيتْ أيّ مضاجعةٍ من
أجل اللذة . أو حبّاً بالرجلِ العاصفِ في مخدعها .
كانت في الجنسِ تمارسُ طقس الكونِ ،
                          مصيرَ الكائنْ .
                 لا شيءَ ، وليسَ طبيعياً فيها .
كانتْ تعطي هذا الجسدَ ،
                           النابضَ فيهِ ،
                           الحيَّ ،
                           القلقَ ،
                           الهاديءَ ،
                           كانت تعطيهِ المتحرّكَ
                                    والساكنْ .
             ليسَ وفيّاً هذا الجسدُ الفاتنُ فيها
                                    أو خائن .
                           كانتْ لا تفعلُ غيرَ نظامِ
الأشياءِ ،
            فلا عهرَ
            ولا طهرٌ فيها .
            فيها أنّ الكونَ
            كماءِ البحرِ الصاخبْ ،
                 وهي
                 الملحُ الذائبْ . – ص 414 و415) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف