الأخبار
سيناتور أمريكي: المشاركون بمنع وصول المساعدات لغزة ينتهكون القانون الدوليالدفاع المدني بغزة: الاحتلال ينسف منازل سكنية بمحيط مستشفى الشفاء38 شهيداً في عدوان إسرائيلي على حلب بسورياالاحتلال الإسرائيلي يغتال نائب قائد الوحدة الصاروخية في حزب الله17 شهيداً في مجزرتين بحق قوات الشرطة شرق مدينة غزةمدير مستشفى كمال عدوان يحذر من مجاعة واسعة بشمال غزة"الإعلامي الحكومي" ينشر تحديثًا لإحصائيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزةغالانت يتلقى عبارات قاسية في واشنطن تجاه إسرائيلإعلام الاحتلال: خلافات حادة بين الجيش والموساد حول صفقة الأسرىالإمارات تواصل دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني وتستقبل الدفعة الـ14 من الأطفال الجرحى ومرضى السرطانسرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (7) بقلم: د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-12-16
رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (7) بقلم: د. حسين سرمك حسن
مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :
رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري (7)
----------------------------
                د. حسين سرمك حسن
          بغداد المحروسة – 1/10/2014
إنّهما كائنان هشّان يكابران جراهما المخفية وأجنحتهما المقطّعة ، ويتعاليان على هذه الجراح بالتصدّي للعب دورين هائلين لا يمتلكان مقوّماتهما العميقة : هو بدور الأب تجاه "صغيرته" ، وهي بدور المُعالج الأمومي لذعر الخطوط الأماميّة في فرصة نادرة . وهذا ليس غريباً ، بالرغم من صراعاتها الدفينة التي عرضناها ، لأن الأنموذج الأول لأي علاقة حب في التاريخ هو الأنموذج الأمومي بين الأم وطفلها . وتحت ضغوط مطارق الحرب وأهوالها "ينكص" الإنسان لتتفجّر خفية تلك الحاجة الحبّية للأمومة (الممزوجة بالجنس طبعاً ، ولهذا ينتعش دور المومس الفاضلة في الحروب) خصوصاً أنه – كما يقول للراوية – نتاج محاولات والديه في الإنجاب لمدة خمس عشرة سنة ، والولد الوحيد يحمل كل سمات صاحب الجلالة بالنسبة للأم ، مثلما يكون محطّ كل مخاوف الفقدان في حياتها ، مخاوف سوف تنعكس عليه بصورة مؤكّدة . ووسط خلوتهما الناعمة يفزّان لأصوات إطلاقات في الخارج . ثم يفاجئهما هابطاً من شباك الشقة العليا بيان عسكري عن معارك شرق البصرة . يقتنعان أنّ الحرب ستمزّق أرواح الناس بحيث (سنكون قد نسينا كل شيء عن أنفسنا عند انتهائها) (ص 134) كما يقول لها ..
ثم ماذا ؟
سيأتي زمن يكون لزاماً عليهم خلق كينونة جديدة في بقاء مختلف .
وما فائدة هذا النوع من البقاء ؟
لا شيء غير الخدع التي نكتشفها في دواخلنا ..
وانتَ ؟ ..
أبحث الآن عن خدعتي .. هل أستطيع أن أفلت بنحتي ؟ (ص 134) ..
وهنا تنفتح كوّة نطلّ منها على عوامل الخراب الكامنة في ذات الفنان . فهو لا يعلم لماذا ينحت ! ولو كان يعلم لتوفّر له إحساس عزوم بأنه إنّما يوفّر امتداداً خلوديّاً بوجه غولة الحرب وعجلة الفناء :
(لا أعلم لماذا أنحت .. ألكي أخلق بيدي نماذج حياتية ، حتى لو كانت جامدة ، لكنها من صنعي أنا ؟ ألأنها أشياء تشعرني بأنني أملكها ... أهي لعبة خلق ، أم تملّك ، أم هروب ؟ أم لعبة أنانية مع الذات ليس إلّا ؟ كل هذه الأسئلة تزيد الدوّامة القادمة تعقيداً ) (ص 135) .
هذه الفوضى الذهنية مؤسسة على فوضى نفسيّة غذّتها فوضى الحرب بدماء الضحايا وصرخاتهم ، ومقابلها تعيش الراوية فوضى مقابلة مؤلمة يغذّيها أنين أمّها القريب ، ونداءات استغاثة إحباطاتها البعيدة ، وصيحات الزمن الهارب الراهن ، وتشوّشها سحب دخان حرائق الواقع المحيط بها :
(كيف سأحتفل باجواء علاقتي بأول رجل يكبرني بعشر سنوات ولا يوجد وقت لللأسئلة ؟ هل يوجد وقت لعلاقة تحت الدويّ ؟ كيف نبني وسط أشياء تخرب ؟ إنسان بعد آخر يسقط . الأبنية وبيوت الأهالي تسقط . هل سيأخذ يدي بين يديه المتورّمتين ثانية ؟! ) (ص 136) .
وهي تساؤلات "تأكيد" للإندفاعة الجامحة ، فقد اندفعت لرؤيته في شقٌته في إجازته الأولى لتجده نائماً وسط فوضى الملابس العسكريّة ومنحوتاته ولوحاته . وفي مرّات قليلة في الأدب النسوي – وعبر جمل قصيرة لاهثة بخلاف جملها المتوسطة الطول والطويلة - تعبّر كاتبة عن الإلتحام الجسدي بحبيبها ، وفقدان عذريتها بهذا الشكل الرائع الحيي والشعري الموحي بما لا يُقال ، فقد حوّلت الكثير من الروائيات ساحة السرد إلى ساحة للسلوك "الإستعرائي" الذي يقرب من الحالة العُصابيّة أحياناً .
ترك سليم باب الشقة مفتوحاً ، فدخلت الراوية بحذر "خشية أن تُفصح عنها دقّأت قلبها" .. ووقفت تتأمله وهو نائم .. وبعد ثوان :
(مدّ يده فاتحاً راحته في اتجاهي ، دون أن يفتح عينيه . ظلّ مغمض العينين . يده تنتظرني . لم أجد نفسي إلّا تحت المرايا .
رأسي يدور . أول رجل . عشر سنوات . خائفة أنا وحذرة . لا ! المقولة تؤكّد أن الحذر والفضول لا يأكلان من صحن واحد . يجب أن أقرّر ، هل أنا حذرة أم فضولية ! الحرب في الخارج ، ونحن في الداخل . لا وقت للتعارف البطيء . لماذا أكرّر كلماته ؟ أين كلماتي ؟ هل أغلقتُ باب الشقة خلفي ؟ لدينا ساعة واحدة فقط . يرغب في زيارة والدته هذا المساء . عيناه جذبتاني بيديها المتورمتين . بدأت المرايا تساعدنا على التعارف . دعاني للإستلقاء . كان يبتسم طوال الوقت . طوال الوقت القصير . ابتسامته تقترب . المرايا تعكس ظهره . ذراعي بدأت تطبق على جوانبه . كنبات طازج راحت أطرافي تنبت حوله . المرايا تجسّمنا معاً ، تدبّ فيها الحياة . طبع الجبهة على شفاهي .
في ومضة حلم بلون السماء ، بنيتُ لنفسي قصراً من سكّر . جسده الأشقر الأملس يقطر عرقاً أذاب جدران قصري . سبحتُ في محلول حليبي دار بي . لن أنجو . استسلمتُ . وقبل أن أغرق ، ابتلعت موجة صغيرة من حلاوة أخيرة .
انقضت الساعة . وضعتُ أصابعي هناك . قلتُ لنفسي : "حمرة المغيب" . لم أبكِ مثلما يحدث في الأفلام المصرية يوم الجمعة . لم أعد صغيرته) (ص 137 و138) .  
وليس عبثاً أن تستدعي الراوية الخدرة ، حيث تراخت سطوة الوعي ، واحداً من مصطلحات أبيها التي استخدمها وهما يمارسان لعبة التسميات الشاعرية أمام أنظار الأنثى "المنافسة" الدهشة (ص 75) ، استدعت مصطلح أبيها : "حمرة المغيب" ، وهي تعاين نتائج التحامها بحبيبها سليم في الوقت السريع اللاهث الذي لا يُعوّض .
ومن جديد .. وفي أجواء هذه اللحظات البهيّة .. المتوتّرة الناعمة .. والنفس منسحقة بالنشوة وقلق الإنفصال القريب .. تحضر غولة الحرب لتفسد كل شيء :
(الفاو . مثلث الملح .. الحرب تدور رحاها في أشرس المعارك ... أبشع منظر لآلاف القتلى الممزّقين . اللجنة الدائمة لضحايا الحرب دعت منظمة الصليب الأحمر الدولية للمساعدة بإخلاء الجثث ، خشية من تفشّي الأوبئة نتيجة التفسّخ السريع في حرّ الجنوب) (ص 138) .
وفي أيام انتظار مجيء سليم في إجازته المقبلة التي لا يُعرف موعدها ، كانت الراوية تواجه مخاوف أمّها المشروعة ؛ مخاوف الأمومة على البنت الوحيدة ، ومخاوف مُسقطة من تجربة زواجها الفاشلة ، والتي ترى أنّ هناك مصاعب جمّة تحيط بعلاقة ابنتها بسليم ، منها اختلاف ديانتيهما الذي قد يسبّب لها مشاكل مع مجتمعها ، ومسألة تفكيرهما في الزواج ، وخصوصاً من جانبه لأنها - أي الأم - ترى أنّ شجاعة الحياة المدنية قد تكون أصعب من الحياة العسكرية . وفي الوقت الذي ترى الأم فيه أن ابنتها تضيّع وقتها في هذه العلاقة تعلّق البنت :
(تقصدين أضيّع المزيد من الوقت الضائع) (ص 139)
معبّرة عن التشوّهات النفسية التي ألحقتها الحرب بطرق تفكير ابنتها كجزء من جيل كامل مخرّب هو "جيل الحرب" . ولكن البنت تحسّ - وبفعل معايشتها لتجربة أمّها الزوجيّة المريرة - أنّ حديث أمّها يحمل في طيّاته الكثير من المواقف المُسقطة من عِبَر تجربتها الشخصية المخّيبة ، إنّه حديث عنها أكثر مما هو حديث عن ابنتها . ففي الوقت الذي تسائل الأم ابنتها هل علاقتها بسليم هي حالة حب حقيقية ، أم أزمة عاطفة مضغوطة بحالة حرب ، في صورة حبّ ، تقلب البنت هذا التساؤل المشروع لترميه كرةَ تساؤلٍ مقابل في مرمى الأم عن علاقتها بديفيد ، وهل هي عاطفة مضغوطة في صورة حبّ . ويأتي البيان العسكري المنبعث من راديو المطبخ ، وكأنه – ومن حيث لا تدري الراوية أننا نتحرك في كثير من الأحيان وفق "حتم" سردي لاشعوري – يؤكّد تشخيصات الأم . لكن تشخيصات البنت صحيحة أيضاً من منظور آخر . هنا تضع الروائية – والروائيون سبقوا المحلّلين النفسيين في الكشف عن قوانين النفس البشرية – إصبعها على دور "العامل الذاتي" في تشكيل تجاربنا وصياغة أحكامنا على تجربتين تختلفان في الشكل وتلتقي فسيلتيهما في تربة لاشعور واحدة . لكن الأم تريد ايضاً تجنيبها آلاماً لا جدوى منها كما تقول ـ فقد اكتوت بعلاقة بين طرفين ، وتقلّبت على جمر علاقتين ، كانت نتيجتهما أنها تعيش الآن وهي بنصف أنوثتها في عالم من "الضمائر الغائبة" . إنّها مقصوصة الجناح تبحث عبثاً عمّن يمدّ لها جناحاً أو نصف جناح يعينها على التحليق في هذه الحياة الجائرة .
تختم الراوية حديثها الساخن مع أمّها بوعد منها أن تسافر معها إلى إنكلترا ، ليأتي البيان العسكري عن الغارات المدمّرة على المدن الآمنة من قبل الطرفين المتحاربين ، وكأنّه يبرّر جانباً كبيراً من هذا الوعد . وهناك سمة اخرى هي أنّ الكثير من البيانات التي تدخلها الراوية بين حوادث روايتها ، ووقائع الخراب الذي ترصده في الحياة العامة ، مصمّمة لتكون حلقات وصل وانتقال كجزء من المسار السردي . فنهاية هذا البيان – ناهيك عن بدايته التي أشرنا إليها – والتي تتحدّث عن فقدان طيارين كبت طائرتيهما في أرض العدو ، تبدو وكأنّها تسلمنا إلى قلق الراوية المرتبط بعدم مجىء حبيبها في إجازته الدورية ، حيث سلّمها زميل له مفتاح الشقّة مع رسالة يخبرها فيها بأنّه قد نُقل إلى وحدة عسكرية اخرى ، وأنّ إشاعة أهل القلم – قلم الوحدة – تقول أنّهم سيوكلون إليه مهمة نقل جثث الشهداء إلى المدينة .
ثم يأتي صوت المحلل السياسي ليلاحق الناس كالكابوس ، ليشكل - بتخطيط الكاتبة طبعاً - أيضاً حلقة وصل انتقالية حيث يؤكد على أن بين الأسرى الإيرانيين أطفال سيعيدهم الصليب الأحمر إلى ذويهم ، فيخلق معبراً إلى الحلم الليلي الذي التقت فيه الراوية بـ "حسّون" الملعون .. حسّون الذي كانت تراقب – كما راينا – هي وخدّوجة كيف يضع حلقة القنينة الزجاجية في قضيبه الصغير . شاهدته في الحلم يرقص أمامها و"شيئه" الصغير ينبع من تحت دشداشته ، يوجّهه في جميع الإتجاهات ، مفتخراً أنّه ألبسه حلفة القنينة الزجاجية . لم تجد أي أثر لبقية الأطفال أو معمل البيرة . نادته لتسأله عن خدّوجة فلم يبالي وشرع بالركض .
وقد قلتُ سابقاً – وهذا من قواعد عمل الحلم في التحليل النفسي – أن الحلم يتأسس على بقايا نهارية يستثمرها كنواة لإشادة بنيانه الصوري عليها . ويمثل خبر الأطفال الأسرى الذي سمعته في نهار يوم الحلم نفسه تلك المادة النهارية ، كما يمثل صراع الهويّة النفسي العميق الرغبة اللاشعورية المكبوتة التي ينبغي حلّها . لم يجبها حسّون عن خدّوجة "مُسقطةً" عدم معرفتها عليه ، فهي مقصّرة إذ لم تفكّر مرّة واحدة بزيارة عائلة خدّوجة التي قامت برعايتها وتقاسمت معها رغيف الخبز ، وساندتها عند مرض أبيها ، وأمضت بين ربوعهم أروع أيام طفولتها . وهذا موقف غريب يعود إلى "البرودة" الناجمة عن أواليّة العَزْل التي أشرت إليها في ما سبق . وهذا التساؤل عن خدّوجة مداورة يخفّف بها الحلم من شعورها بالذنب ، وليخفي مجريات الصراع الأعمق ، فحسّون هو الطفل الملعون الذي كان يجترىء على ما لم يستطع أي طفل من عصبته على القيام به ، وهو أن يزهو لاعباً بقضيبه . وقد اجتافته الطفلة الراوية في عمرها الهش – تعويضاً عن مشاعر الأنوثة بالإنخصاء عبر المقارنة الحتمية – كرمز لدوافع ذكورية تنافسية عبر تماهي الطفلة القوي مع أبيها ، وصلاتها المتأزمة والمحتقنة مع أمّها التي تحمّلها لاشعوريا مسؤولية "نواقص" الجسد الأنثوي . لكن الصراع الدفين بين جوانب الهويتين – والذي كانت من علاماته انجذاب الراوية إلى التمثال الخشبي "الخنثي" الحائر في مشغل النحّات – ظلّ متأجّجاً حتى في كبرها . وكان لابدّ أن يُحسم لصالح علاقتها الحبّية الجديدة التي تتوّجت بافتراعها من قبل سليم . وتمثل هروب حسّون / القضيب محاولة لمقاومة خطوة جوهريّة وحاسمة على طريق تصفية هذه "البقايا" الذكورية في لاوعي الشخصية ، والتي أخرجها الحلم بصورة درامية حين سقط حسّون على وجهه :
(هبط على وجهه مرتطماً بالصخرة . لحقت به لاهثة . جثوتُ على ركبتي إلى جانبه ؛ أناديه لكنه لا يجيب . قلبته على ظهره . أُغمي عليه . شيئه الصغير يسبح على التراب في بركة من دماء قرب بطنه) (ص 143) .
بعد أسبوعين تأتيها رسالة من سليم تخبرها بتأجيل إجازته الدورية للمرة الثانية لأجل غير مسمى ، ورسالة تشرح لها عذاباته وهو ينقل شهيداً مقطّع الجسد إلى عائلته . ووسط قراءة رسالة الموت ، يرن الهاتف برسالة حياة عبر صوت المدام وهي تخبرها بعرض راقص اسمه "نور" ستقدّمه مع فرقتها قريبا (ص 144) ، وانقطاع تال ببيان عسكري عن تحطيم القوات المعادية . وكل بيان يحمل في طيّأته احتمال موت الحبيب واجتثاث الآمال النديّة . وفي ختام الرسالة يحذّرها سليم من التحوّلات التي جرت في روحه الممزقة :
(إعذريني إن وجدتني إنساناً آخر) (ص 145)
وكأنّ الكاتبة تبغي تهيئة المتلقي لاستقبال السلوكيات المضطربة والهذيانية لسليم ، وكان الأفضل أن تترك سلوك الشخص هو الذي يتكفل بالإخبار . وفعلاً يأتي سليم في إجازته محطّماً . شعرت الراوية بالتغيير منذ اللحظات الأولى للقائهما .. كان يتكلم كلاماً كثيرا هو أقرب إلى الهذيان .. رافقته عشرة أيام كاملة .. كان ممزق النفس بصورة كاملة . ويأتي مشهد الأسير العراقي الذي رُبطت أطرافه بسيارتين عسكريتين تسيران بصورة متعاكسة لتمزقاه (وابتلعنا نحن أشلاء ما كان جندياً) (ص 146) ، لتضاعف حالة التمزّق في النفس . وفي تلك الليلة سمعَتْ طرقاً منتظماً في الإستديو . كان سليم يحطّم تماثيله بمطرقته ويبكي .. 
في الإجازة التالية حضرا العرض الرائع "نور" الذي صممته المدام ونفّذته مع فرقتها . كان صراعا بين النور والظلام .. بين الخير والشر .. بين الموت والحياة ، ليتكلل بانتصار إرادة الحياة . وفي ختام العرض عرفت أن المدام سوف تتزوّج عازفا يكبرها بخمس عشرة سنة . وليذكّرها سليم بمرور سنة على لقائهما الأول ، فتخبره - وبكل قسوة ومن دون أن تسعى لتكسير الخبر السيّء كما نعتاد - بأنها سوف ترحل قريباً مع أمّها إلى إنكلترا ، فتسهم بذلك في الإجهاز على علاقتها به . وبعد أن تنقل لنا مقترحات لجنة النوايا الحسنة بصورة لا داعي لها ، تعلمنا بانتهاء الحرب ووصول رسالة وداع من سليم وتمثال نَحَتَه لها بيد جندي . كانت الرسالة ،  بالنسبة لي غير مقنعة ، وهي تختلط بموقف هروبي من الوداع ، وتتحدّث بفذلكات تمهيدية عن التمثال ، وتُختم بدعوة للراوية بأن تتحرّر وتحلّق ، وأنّه لن يحتجز حصّتها من العمر عنده !! . تُنهي الراوية هذا الشوط المُهلك بعبارة أكثر فداحة :
(صعدتُ سلالم الطائرة أحمل حقيبة واحدة تتبعني أمّي بثدي واحد) (ص 151) .
الآن الراوية مع أمّها في لندن .. تقدّم لنا وصفاً لايقاعات الحياة هناك .. وصخبها . إيقاعات ضاع في ضجيجها صوتها الفردي ، وصخب أفقدها امتياز من كان يسمعها في موطنها القديم ؛ كتلة لحمية تهرول بين المهرولين ولا تختلف عن رتل الهياكل الحديدية المتحرّكة من أمامها عبر شباك غرفتها المطل على الشارع . ملامح ضائعة ليس لها حسب بل لجميع من يسيرون في "حيّ السحالي" القادمين من كل أرجاء المعمورة .. وحدة موحشة وغربة وعزلة وسط الضجيج . الجميع يركضون غير مدركين أنّهم – جميعاً - يتحرّكون بأجنحة مقصوصة ، أو أنّهم يدركون ذلك بلاوعيهم ويخشون وضع الحقيقة الصادمة هذه أمام أعين وعيهم فينشرخ بدرجة أوسع وأشد ، ولذا يسيرون مغيّبين لاهثين خلف شيء "ما" هو بالتأكيد البقاء .
ووسط كل ذلك تواجه الراوية أيضاً ضغوط العناية بأمها بعد أن بدأت نذر انتشار سرطان الثدي إلى مناطق أخرى من جسمها .. وضغوط العيش .. مع نُذر حرب جديدة مرعبة سوف تُشنّ على وطنها . قرأتْ أول أخبار هذه الحرب وهي وحيدة في الباص ، وحين احتاجت إلى أن يسمعها أحد وجدت الجميع يضعون على آذانهم سمّاعات الراديو ! :
(فاتني أن أشتري الجريدة ساعتها . فجأة أقرأ : "الأمم المتحدة تدين دخول العراق إلى الكويت" .. احتسيتُ الشاي جرعة واحدة ، شعرتُ أنها تنزل إلى معدتي مباشرة . رفعتُ رأسي أبحثُ عن وجه مألوف ينقذني ، فإذا في المقهى مجموعة من شباب يضعون على آذانهم سمّأعات مسجّل راديو صغير متنقل ، ويتفاهمون بالإشارات . تركتُ المكان على الفور) (ص 155) .
نعود مع الراوية إلى دوّامة مرعبة جديدة تُفسد فيها بيانات الأمم المتحدة إيقاع حياتها المشوّش والثقيل أصلاً ؛ قرارات بمنع التعامل التجاري ثم تحريك الجيوش والأساطيل . لكن هنا يحصل فارق جوهري جسيم وشديد الأذى . فعلى الأقل كانت بيانات الموت والحرب في سنوات الحرب العراقية الإيرانية تتناوب مع لحظات هناءة وجيزة مع أبيها ، أو مع ساعات إصرار على الحياة بتشفيف الجسد والتحليق بالروح مع المدام ، أو مع أوقات الإلتحام العذبة الملتهبة برغم أنّها مُهدّدة مع سليم . الآن تتناوب بيانات وأخبار التجويع والتهديد والفناء مع تدهوّر حالة أمّها الصحّية وتصاعد كآبتها وتوقّعها للموت وفزعها من مضاعفات العلاج بالمواد الكيمياوية كتساقط الشعر وعجز الكبد والتهاب الجلد وتقيّح الثدي .. وغيرها .. أو مع ساعات وحدة متطاولة وإحساس مرير بالغربة . كانت للأمل حلقات بيض أو رماديّة  تراوح بين حلقات سلسلة الموت السوداء ، أمّا الآن فقد صار الحزن والعذاب سلسلة طويلة مظفورة بخيوط اليأس ؛ أنشوطة تخنق أنفاس الأمل المحتضر أصلاً . إنّه عالم جائر منافق تتردّى فيه إنسانية الإنسان إلى الحضيض ، ففي الوقت الذي تعلن فيه البنت لأمّها ، وهي تسمع شكواها من تأثيرات العلاج الكيمياوي السلبية ، أنّ الحرب المقبلة على وطنها ستكون مرعبة لأن تطوّر آلاتها قد بلغ الأوج في القرن العشرين ، تردّ الأم متهكمة وهي تدير ظهرها :
(-إذن ، فلنطلب من الله أن يكون علم الطب قد بلغ الأوج أيضاً) (ص 156) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف