الأخبار
قطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيراني
2024/4/18
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مظفر النواب 19 طير الحبر الملموم بقلم:د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-11-22
مظفر النواب 19 طير الحبر الملموم بقلم:د. حسين سرمك حسن
مظفّر النوّاب :
          (19) أين يكمن طير الحَبَر الأسود الملموم ؟
--------------------------------------------------------
                  د. حسين سرمك حسن
                بغداد المحروسة - 2014

قبيل نهاية قصيدة "زفّة شناشيل" تحصل رجعة تجعلنا كمن يمارس مرحلة " اللذة التمهيدية " التي تسبق " اللذة النهائية " في العملية الجنسية ، ولكن بصيغة مضافة ومضاعفة رغم جوهرها " التكراري " السرّاني الذي يجري عادة من وراء أستار ظلمة الرغبة المسمومة . لكننا أُدخلنا الآن - بتعمد الشاعر - في مركز دائرة المشهد المكشوف ، نحن مع الشاعر وحبيبته وهما يختلان في حجرة النوم .. هذه العودة التي قد تبدو حركة فنّية بسيطة ، هي في حقيقتها تعبير عن سمة من بين أهم سمات الثورة النوابية وتتمثل في المسار السردي اللولبي الذي اخترعه الشاعر . فقد كان الشاعر القديم " مستقيما " ، " يحكي " حكاية قصيدته وفق مسار أفقي " يزحف " على مستوى مسطّح يوصل إلى البلادة الاستقبالية والتحليلية ويطفيء شحنة الترقب الملتهبة . مع النواب ظهر السرد الّلاخطي الذي لا يطفيء الملاحقة الفضولية ، بل يشعلها ، ظهرت تقنية السرد اللولبي التي يعود فيها إلى الموضوعة التي تناولها من جديد ولكن من مستوى أعلى . يتضح هذا بصورة جلية في قصيدة " نگّضني " والتي تناولناها قبل قليل . لكن هناك تقنية " الفلاش باك - flashback " أو الإسترجاع التي لم تكن معروفة في القصيدة العامية إلّا وفق الصيغة الظرفية الماضية التي تعبّر عنها صيغة " كنّا " التقليدية التي تعيد ولا تستعيد . إن خير ما يعبّر عن هذا المنجز النوابي الباهر هو قصيدة " جنح اغنيدة " التي كتبها عام 1964 وقدّم لها بقوله : " عن الأيام التي لا تمر مرة أخرى " ، ولكن الشاعر " خالق " ، يحيي ويستدعي ما مات من الأيام التي لا تمر مرة أخرى ، وأجد من المناسب أن أنقل مقطعا كاملا من القصيدة يتحدث فيه الشاعر عن ذكريات طفولته بعد أن كبر هو ورفاقه في ( الحفرة - سجن ومنفى نقرة السلمان الرهيب ) ، ورجعوا إلى أهاليهم تنقط ثيابهم محبة وطينا – لاحظ من جديد الروح التفاؤلية لدى الشاعر - :
( يغنيده أمس ، يا حلوة الحلوات ، صار العمر طوفة طين
  وغفّينه ولگينه الدرب والسمّاگ وقمر الدين
  نتختل وره النسوان والشيّاب
  وندگ المحلة باب بباب
  يا أول جرس أرعن نتل فرحة وكاحتنه
                                    كُبرنه سنين
يا أول جرس .. انتلني .. انتلني
  لغنيده أمس ، للضحكه رد لي جناحي ..
                                رجّعني
وتغيب الشمس خضره على محجّر الجوارين
 وألمح عمّتي من ابعيد ، وتضمني بعبايتهه
                                       وأحس البيت
  - عمّه الشمس ماتت ، وانته ما ردّيت
  - عمّه الشمس ماتت ، وآنه ما ردّيت .......... )
هنا نلاحظ أن السرد الشعري ليس خطّيا ، وأن الأزمان تتداخل من ارتداد إلى ماضي الطفولة من حاضر الرشد المحبط ، فعودة لحظية إلى نداءات الحاضر ثم استعادة شقاوة الصغار فعودة مربكة إلى الفقدان حيث نداء مزدوج من العمة والشاعر عن الغياب الفاجع . ويتمثل جانب آخر من الإرباك الذي يسببه السرد اللاخطي في نسيان القاريء التحقيق في معنى دعوة الشاعر الساخنة للجرس الأول بأن يصعقه مرارا وتكرارا لأن الطلب قد تشكّل عبر نداء الشاعر في زمن خيبته المدوّية التي تصل أشد مستويات قساوتها حين يصف الشمس بأنها ماتت ولا يقول  غابت . وفي هذه القصيدة " زفّة شناشيل " يتضح هذا الابتكار السردي بصورة واثقة ، مثلما يتوهّج الميل الجنسي - الحسّي - لا التناسلي - الذي تلعبه الكلمات والذي يثبت أن أصل اللغة هو الجنس ؛ في المقطع الذي يحوّل فيه الشاعر مفردة " شيكمشچ " إلى " التكمكش " ، والأخيرة هي مقلوب الأولى النفسي في الواقع ، فهنا الرهاوة مقابل العجز المندهش ، وكل ذلك يتم في الظلام .. الظلام المتواطيء مع يد المحب بحركتها اللصوصية الماهرة :
( والتكمكش حلو يا حبيبة
              واذا لگيتچ أكمشچ ...
                     وأرجع من أول أكمكش
   آنه يعجبني التكمكش ....
                 والتكمكش حلو يا حبيبه .... )
إن هذا التفعيل الحسّي " المنضبط " والمحسوب لم يكن الشاعر القديم يجرأ على إعلانه بهذه الطريقة الشعرية ، كان يتحرج لأنه لا يعرف سوى الطريق " المستقيمة " التي تكبح جماحها القيود الدينية والضوابط الاجتماعية القامعة ولا يستطيع الالتفاف عليها لأنه لم يستطع فهم أن رمزية شعرية " جنسية " جمالية مموّهة يمكن أن تُشتق من التركيبات العضوية العملية والتعبيرية للفعل الحسي الأصلي المنبوذ . لم يكن يدرك أن أي شيء يمكن أن يوظّفه الشاعر كأداة وموضوع لإشباع رغبته ، وشحنه بالمعاني الجنسية الملتهبة . هناك فنانون – ومنذ أزمان قديمة – أدركوا روعة مثل هذه الإمكانية ؛ إمكانية أن يحصل إشباع للرغبة الجنسية من خلال اللعب الرمزي والشعري ؛ إشباع غير مرتبط بصورة مباشرة بالعمليات الفيزيولوجية أو بالمكونات العضوية للأعضاء التناسلية . تقول شاعرة سومرية حوالي 1700 قبل الميلاد :
( أنا في طريقي إلى زوجي اليافع
  سوف أصير التفاحة
  المعلّقة على الغصن
  موشّحة الساق
  ببشرتي الغضّة .. )
 أي أن التوهج الجنسي للمعشوقة يمكن أن يتجسد في ( تفّاحة ) ( يتغزل الشعراء بتفاح الخدين ) .. أو في ثمرة المشمش كما فعل النواب . النواب هو الذي أدخل حسّية الطبيعة ورمزيّتها الجنسية في القصيدة العامية . فـ " في نظر الصوفي ، يتمثل الكون بأكمله كشيء جنسي ، والجسد بأكمله هو موضوع اللذة الجنسية . ويمكن قول الشيء ذاته بصدد كل كائن بشري يتبيّن له بأن القضيب والبظر ليسا الموضعين الوحيدين للّذة ، بل اليدان والشرج والفم والشعر وباطن القدمين ، وكل بوصة في أجسامنا المدهشة . فما يوقظ الحواس ماديا وذهنيا ويفتح أمامنا ما كان ويليام بليك يطلق عليه اسم " أبواب الفردوس " يظل دائما غائم الملامح ، ولمّا كنا جميعا ينتهي بنا الأمر إلى اكتشافه ، فهذا يرتبط على الدوام بالشكل الذي تتخذه قوانينه وهي ما لا نعلم عنه أي شيء . فنحن نعترف بأننا نحب امرأة ، رجلا ، طفلا ، فلماذا لا نعترف بحب غزالة ، حجرة ، حذاء ، السماء المعتمة ؟ . في " نساء عاشقات " لمؤلفه (د. هـ . لورنس ) ، يكون موضوع رغبة روبير بيركان ، النمو النباتي  ( التمدّد والتغلّب على الطراوة الدبقة للسوسن الغض ، النوم منبطحا وتغطية الظهر بأضاميم من العشب الرهو الرطب ، الناعم والأرق والأجمل من مداعبة أية امرأة ، ومن بعد ذلك ، وخز الخاصرة بالإبر القاتمة النابضة بالحياة في شجر الصنوبر ، ومن بعد ذلك ، الإحساس فوق الكتفين بخبطات السوط الخفيف للعشب المتطاول ، الواخز هو أيضا . ومن بعد ذلك احتضان الجذع الفضي لشجرة بتولة ، نعومتها ، صلابتها ، عقدها ، تموّجاتها الحيّة – كان ذلك لذيذا ، كان ذلك لذيذا جدا ، كل ذلك يعطي الرضى الشديد ) ...
وقد جعل فنانون آخرون الإيروس شجرة أو منديلا أو قطة أو دبّا ... حتى الرأس المقطوع لمن نحب يمكن أن يصبح مادة جنسية ، كما هو الحال مع ستاندال في " الأحمر والأسود " ، حين جعل ماتيلد تستعيد جثمان جوليان سوريل بعد إعدامه بالمقصلة :
( سمع ماتيلد تمشي بسرعة واضطراب في غرفة النوم ، كانت منهمكة باشعال عدد من الشموع ، وعندما واتت فوكيه القوّة كي ينظر إليها ، تبيّن بأنها كانت قد وضعت على منضدة صغيرة من الرخام ، أمامها ، رأس جوليان ، وراحت تقبّل جبينه ) ( 6 ) .
وببساطة ، وباختصار ، فإن الشاعر القديم لم يكن يعرف كيف " يكمكش " !! أمّا مظفر فلا يتردد في أن يسقط انفعالاته الغرامية والجنسية على حيوان بسيط مثل " الديك " :

( ديچ أبو العرفين
                    ومحجّل حِجل حُبي
                                             علامه
يفرش الجنحين لو شافچ
                        من الفرحه 
                              ويشمر الشوگ گامه
امگابل أنه ديچي
                  يا حبيبه
                            نلگطچ شامه .. شامه
آنه يا حبيبه
                فحل
                       وأعرف سواليف الفخاتي ..)
ثم يقدم تشبيها أنثويا حسّياً يقطر شهوة لكن مضمرة ومتحايلة :
( إنت مسبوچه سبچ
                     للّيل
                       والهيلات مشگوكه
                             دِفو ...
                                    وضيگ ..
                                                 ووسامه .. )
ثم " تنتصب " قامته التعبيرية بعنفوان رجولي شامخ يتعهد فيه لحبيبته أن يتحوّل معها إلى ماء وورد – وليس بعيدا عن أذهاننا التعبير الشائع عن ماء الرجل - ، لكن ماء مظفر كاف لكي يسقي صحراء " تهامه " – وبالمناسبة مفردة تهامه مأخوذة من اسم الأم العراقية الأسطورية الأولى " تعامه " التي شقّها الإله " مردوخ " الإبن إلى نصفين ، كالصدفه ، صنع من نصفها الأعلى السماء ، ومن نصفها الأسفل الأرض ، ومن ثدييها الرافدين العظيمين - :
( بيّ حيل اوياچ أصيرن
                         ماي ..
                                 أورّد
 أكتل جويريد .... ومامش كل برد
بيّ حيل أسگي " تهامه " .... )
ومع وصولنا تخوم " الذروة " النهائية ، واقتراب فعل السقي الوشيك - والنواب صانع أمهر - يحوّل الشاعر ديك حبّه ذا العرفين الذي كان يفرش جناحيه فرحا وينتفخ في مشيته الطاووسية الذكورية أمام أنثاه ، ويستعرض أمامها معرفته بأحوال وسوالف وألعاب الفاختات بصفته فحلا محترفا ، مع بلوغنا عتبة اللذة " النهائية " يحوّل مظفر " ديكه " – ديچي - الذي كان يختال على الأرض إلى  طير ينقذف نحو السماء مبتهجا ، وينقلب في حركة دورانية - عدنا إلى الدائرة كرمز للأنثى كيانا وأعضاء – على ذاته في الأعالي من شدة غرامه وغبطته :
( طير أبو الكعكوله
                   ومحجّل حِجل
                               حبّي ، علامه
  حطّت طيور المحله
                        وهوّه ...
                           يگلب من غرامه )  
وفوق ذلك فإن مظفر " عالم نفس " يدرك : أن الرغبة السهلة مبتذلة ، وأن الرغبة المعطلة والمعاقة والتي تواجهها الحواجز تشتعل وتهتاج ويكون إشباعها عجيبا وفائقا . إنه السر نفسه وراء خرق المحظور من قبل آدم وحواء ، أو من قبل أبطال ألف ليلة وليلة الذين يفتحون " الغرفة المحرّمة " رغم كل التحذيرات التي تُعطى لهم فتحل عليهم اللعنة . و " التكمكش " يعني مشقّة بحث وعناء انتظار ونشوة ظفر ، وهذا الموقف لا يبقيه مظفر في حدوده الأرضية ، فهو محكوم بـ " الرؤيا " التي تقود الشاعر في إبداعه ، الرؤيا الفكرية التي تقف خلف فعله الشعري ، بل يوسّعه ويحوّله إلى موقف " فلسفي " عام من الحياة ، يرتبط بالموقف من الألم وأهميته في الوجود البشري من خلال صلته باللذة . يضع الشاعر موقفه الفلسفي في صورة معادلة شعرية هائلة الإحكام والدلالات :
( آنه يعجبني أدوّر ..
                  عالگمر بالغيم
                         ما حِب الگمر كلّش گمر ... )
ولكن من أي مدخل وصلنا إلى الموقف الفلسفي هذا ؟ لقد وصلناه من مدخل " التكمكش " الجنسي . وهذا يوضحه موقف ( وليام كارترايت الملفع بالغموض والتعمية والذي كتب في القرن السابع عشر – the royal slave  - الرقيق الملكي - فيستحق وقفة تذكّر إعجابا بالأبيات التالية التي تعيد الحب الروحاني إلى مصدره الصحيح - وهو يتفق في المآل النهائي مع تحليلات فرانوا الابن التي اقتبستها سابقا ، الناقد - :
( فعلت تلك الحماقة التي انتهت ذات يوم
  إلى ممارسة ذلك " الحب " الهزيل
  فمضيت صاعدا من الجنس إلى النفس ، ومن النفس إلى الروح
   لكني هناك ، لدى رغبتي بالتحرّك
   دحرجت رأسي أولا من الروح إلى النفس ، ومن بعدها
من النفس رجعت أدراجي إلى الجنس ... ) ( 7 )
هذه هي الطريق الدائرية – وليست المستقيمة – ذات الممرين النفسيين الإنفعاليين الغريزيين المبيتين سما ومكرا . ولقد كان الإمام علي بن ابي طالب يقول : لو كان الدين يؤخذ بالمنطق لكان مسح باطن القدم أوجب من مسح ظاهرها . إبحث دائما عن الرغبة ولا تخدعنك اللبوسات النظرية والفكرية والفلسفية . الإنسان كما يقول معلم فيينا " كائن تبريري وليس كائنا منطقيا " ، تحاصره رغباته وتمزقه شهواته فيجد لها تخريجا فكريا أو تصريفا فلسفيا ، وإلا كيف نفسّر نظرية أرسطو في أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل ولم يفكر لحظة واحدة في حساب عدد أسنان واحدة من زوجتيه ؟ ويمكننا أن نضع قسما كبيرا من سحر الشعر في هذا الإطار النظري الذي رسمه النواب ، ويتمثل في العناء المُسر والمشقة الباذخة التي تفرضها ضغوط الغريزة فيلبسها الشاعر أبهى الأثواب الجمالية والفكرية وحتى الفلسفية . هذا الإطار المهم الذي سيعود الشاعر منه إلى مرجعه الحسّي ، لنتأكد أن العلاقة بين ما هو حسّي وما هو نظري وفلسفي هي أشبه بطريق دائري ذي ممرين . يعود الشاعر هابطا من علياء التنظير الفلسفي المحلّق إلى أرضية " التكمكش " في حقل جسد الحبيبة البستاني الذي أينما مدّ يده و " تكمكش " فستعود مثقلة بآيات عطايا الطبيعة الجسدية الأنثوية ؛ ثمار وأزهار وعنبر وطيور وأقمار . والمقطع التالي يجب أن يؤرخ له في تاريخ الشعر العامي العراقي - :
( منين أجيسچ ...
             تاخذ الختلات روحي
    ألگه عنبر ... ألگه مشمش ...
               ألگه غرنوگين يصلّن
             ألگه شي ساكت مثل فرخ الحبر ...
                                    ألگه شي ضايع نهر )
هنا لن تأخذ من النواب حقّا شعريا أبدا ، ولن تأخذ باطلا حسّيا إطلاقا ، ستأخذ عصير " التركيب " الجمالي المُسكر الناتج عن انسراب " أطروحة " الشهوة في أوصال " طباق " العقل التبريري ، هذا التركيب الذي تشكّله مطرقة فكر الشاعر الجسور المراوغ ،على سندان الغريزة الصبور المعاند ، إن " يد النواب تكتشف " زهرات بتولات ، وثمرات بكر في حجرة العرس ، أين ستجد الطيرين ( الغرنوقين ) الأبيضين اللذين انشغلا بالصلاة ( وهنا عودة تحرّشية مباركة أخرى ) ؟.. أين يكمن طير الحبر ( الأسود الملموم بنعومة ) ، والشيء  الضائع الذي يشبه النهر ؟ في أي مكان من جسد الحبيبة ؟ ولا يظنن أحد أن ابتكار النواب الثوري هذا هو منجز يسير في الثقافة العراقية . إنه ثورة جذرية مضافة خرقت قيودا تأسست لقرون طويلة . حتى الجواهري لم يستطع التمويه والإيهام وفق الرمزية الحسّية.. كان في أغلب الأحوال ، وهذا من مزاجه العنيف حيث قال في لقائه الشهير بالدكتور علي جواد الطاهر : أن أهم صفة في الشاعر هو العنف . كان اقتحاميا ، بل انتحاريا رمى عمامته في الكُناسة كما يقول في قصائده ، وبدأ يعب من حوض اللذة مباشرة وبلا وسائط وممهدات حدّ الاختناق . خذ قصيدة " النزغة – ليلة من ليالي الشباب " أو " جرّبيني " أو " عريانة " أو " بديعة " وغيرها من القصائد التي نظمها في بدايات حياته الشعرية إذا قارنّا بدايتي الشاعرين . ديك الجواهري لا يحتاج لمرحلة تمهيدية يستعرض فيها أجنحته وريشه الملوّن ، فلا وقت لديه لمثل هذه المقدمات الضائعة ، ديك الجواهري يأتي لـ " يفعل " لا ليستعرض ، وليس بحاجة لأن " يگلب " في السماء مبتهجا بعد أن ينهي فعله ، إنه يخلّص شغلته ويمشي . لكن النوّاب ، على العكس من ذلك ، صبور ومتأن ، وهذا مرتبط بمزاجه الشخصي أيضا . إن متعته تكمن في البحث ، في " التكمكش " ، في الحركات التمهيدية ؛ في " اللذة التمهيدية " الجمالية ، لا في اللذة الختامية رغم أهميتها الجسيمة . فلا مانع لديه من أن يبدأ بـ " زفة الشناشيل " ويسير بنا ويصعّد توترنا حتى حافة " ما بعد فوات الأوان " ليعود بنا ، متلاعبا بتوترنا العاصف ، ويبدأ بـ " زفة الشناشيل " من جديد . وحيث من المفروض أن يصل الشاعر بالمتلقي نقطة الذروة مع ختام القصيدة التي تأتي عنيفة وتفريغية عادة لدى الشعراء الآخرين ، نجد النواب يصف ، وبهدوء مميت ، وبحركة تقسيطية ، اللحظة الختامية التي يلتحم فيها بحبيبته ، هذا الالتحام الذي يصل حدا من الصفاء الفردوسي أن زقزقة عصفور تخدشه ، فيسحب العريسان لحاف الدخلة ، وهو الآن بستان أخضر – ولاحظ تشابه البنية الهندسية الأفقية - بستان كامل عامر بكل العطايا بعد أن كانت مفردة : تمر ، برحية ، مشمشة ، طير ... إلخ - كي يغطّيا نفسيهما ويحتميان من الزقزقة المنغصة - فأي نوم رخي هذا !! – وهما اثنان غارقان " في المشمش " ، يستعين النواب بالوصف العامي الذي يعني غيبة مخدرة بلا صحوة - : 
( اثنين بالمشمش ..
  وإذا العصفور يزقزق فوگ
                      نسحب البستان
                               نتغطه شهر ... )                                                 ولذلك ، واتساقا مع الحركة التي تخافت إيقاعها في المقطع السابق الذي عثر فيه - " ألگه – أجد أو أعثر على " – على كل الأشياء في وضعيتها الساكنة : الغرنوقين المصليين ، فرخ الحبر الصامت ... وكأنها مرحلة انتقالية تمهّد للنوم ، مرحلة خدشتها زقزقة العصفور .. اتساقا وانتهاء بكل ذلك ، نجد الشاعر يحوّل - في عودة مدروسة إلى استهلال القصيدة - الصخب العارم الذي يجتاح الزفّة والدرب – العگد والذي يصعّده الدفّ ، إلى صمت ، وليس إلى هياج تفرضه اللذة الختامية كما هو متوقع ، ولكن تحت غطاء هذا الصمت المهيمن تتم " العملية " التي تتطلب حصانا يطارد القمر وماء منعشا .. وعناق ملامسة حييّة بين العذوق – العثگ والنهر . تأتي الحركة الانفعالية النهائية " ناعمة " يبشّر بها المطر المقبل الذي يعلن مجيئه الشاعر بحركة مفرحة تنبيء بقدوم الغبطة الكونية :
( صنطه الشناشيل ..
                  صنطه العگد ..
                         نام الدف على مخاديد الجوارين
وحصان العمر مسرع
                         وره الگمره عبر
 گنطره وماي وگمر ..
                 گنطره ونوم
                       وعثگ جاس النهر
گنطره ... گنطره جانه المطر ............ )
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف