شجرات الأسير نائل البرغوثي
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين
المكان، بحور سجون احتلالية، أشباح تضيء في تجاعيد ذلك التراب، تمتزج العودة بالرحيل، وتختلط الأجساد بالحنين، الزنازين بالوقت المسلح يتربص على نوافذ القلب، يذوب الكلام في هذا الزمن محتفلا بالموت.
هو الأسير نائل البرغوثي، أقدم الاسرى الذين قضوا من أعمارهم سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدار خمسة وثلاثين عاما في رحلة المؤبدات المجهولة والتي لم يقضها أسير في العالم، ظل قابضا على الحلم، واقفا على قدميه، وجهه إلى الأمام، لا يرى سوى الشمس.
أعادت سلطات الاحتلال اعتقاله مرة أخرى وضمن حملة الاعتقالات التي طالت الاسرى المحررين في صفقة شاليط والبالغ عددهم 85 أسيرا محررا، ووفق سياسة انتقامية رسمية من الشعب الفلسطيني ومن الاسرى في سجون الاحتلال، عاد إلى نفس غرفته السابقة، إلى برشه وظلاله وخربشاته، والى أشلاء روحه، السجان هو السجان، القيد هو القيد، الباب وصدأ المفاتيح، وأنفاس مخنوقة معلقة بين جدار وجدار.
عامان قضاهما نائل بعد الافراج، تزوج وتألق عريسا في شوارع رام الله، حمله الشباب عاليا فوق الأكتاف، في زفة كونية شارك فيها الغيم والطير والبرق والحب وهدوء السماء.
طار نائل فوق صوت مدينة رام الله التي سقفها الفرح والسحاب، أعلى من برج المراقبة ومنظار السجان، اعلي من حواجز ومستوطنات وأسلاك تمتد من معبر قلنديا حتى سجن عوفر العسكري، كان وسيما وجميلا وفي وجهه يزدحم الضباب.
الحياة أقوى من السجن والموت، قالها نائل وهو يزرع مائة شجرة برتقال وليمون وكرز وزيتون ومشمش وتين في حديقة بيته في قرية كوبر، الأرض تشفي المعذبين من غيابهم، والأرض تشفي الضحايا مما أصاب أرواحهم من اضطهاد وحرمان على يد المحتلين والجلادين، وارض نائل فاضت به، وفاض بها، أعطته كل المعاني، وكان جديرا على إطفاء العطش، وجديرا على النظر في بصر التراب وهو يسرج أكثر إحمراراً وإشعاعا.
تحل ذكرى مرور عامين على زواج نائل البرغوثي، وقد كان يحلم إما بطفل أو بشجرة، تعثر وصول الطفل، ولكن الشجرة جاءت و كبرت وحملت ثمارها وأسماءها وما في بطنها من مواليد وأقمار، وسألت أين نائل و فأسه وعرقه وأنفاسه؟ أين يداه وبيارقه؟ أين حبه الممزوج بالماء والنار والكلمات الخصيبة؟ لم يخبرها احد أن نائل في السجن يجدد انعتاقه مرة أخرى، ويزرع في الغيب أشجاره القادمات المتدليات غصونها في كل نافذة وزنزانة خضراء خضراء.
نائل البرغوثي تعود أن يظل منفيا في الحرية، يتنقل من اشتباك إلى اشتباك، منشغلا بالعصيان على المألوف، يحمل الماء وجرات الزيت المعتقة، يسقي مائة شجرة، يجلس أمامها حتى تتفتح البراعم، ويرى بأم عينه جناحا حجر يرفرف شيئا يمتزج بغير عناصره في ذاكرة ليست إلا وجع المكان.
يعود نائل إلى السجن ويتركنا، حديقة بلا صاحب يطل عليها في ساعات الفجر، بلد لا يسمع فيها سوى صوت الموت والاعتقالات والقمع والبطش، واستغاثات الصلوات والآيات في القدس، ولكنه يعلو طائرا، لا شيء يصرعه، ولا شيء يوقفه عن أحتضان المسافات بين هنا وهناك.
يحتفل نائل بعيد زواجه في السجن، تولد قيود لأعناق الضوء، آلاف الأطفال من القدس يصلون السجون، حكايات تتنفس بين الحديد والظلمات، مرضى وإداريون ونواب وكبار في السن ونساء، تزدحم المعسكرات، وتشهق دولة إسرائيل بكل ما فيها من قتل وسفك وحشر وأسلاك، زفيرها ساخن بنا، حلقها يضيق بنا، لا تستطيع لفظنا، ولا تقدر أن تحتوينا، تختنق الدولة العبرية باحتلالها وبجشعها و بفتاويها، تغلق الباب، وتترك نائل البرغوثي يرتب أشجاره كيفما يشاء.
تحت قدميه
يرن جرس العالم
الآذان في الأقصى
الترانيم في القيامة
الشجرات أخوات التراب
قلبه حديقة
جسده غابة
تفيض بالماء
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين
المكان، بحور سجون احتلالية، أشباح تضيء في تجاعيد ذلك التراب، تمتزج العودة بالرحيل، وتختلط الأجساد بالحنين، الزنازين بالوقت المسلح يتربص على نوافذ القلب، يذوب الكلام في هذا الزمن محتفلا بالموت.
هو الأسير نائل البرغوثي، أقدم الاسرى الذين قضوا من أعمارهم سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدار خمسة وثلاثين عاما في رحلة المؤبدات المجهولة والتي لم يقضها أسير في العالم، ظل قابضا على الحلم، واقفا على قدميه، وجهه إلى الأمام، لا يرى سوى الشمس.
أعادت سلطات الاحتلال اعتقاله مرة أخرى وضمن حملة الاعتقالات التي طالت الاسرى المحررين في صفقة شاليط والبالغ عددهم 85 أسيرا محررا، ووفق سياسة انتقامية رسمية من الشعب الفلسطيني ومن الاسرى في سجون الاحتلال، عاد إلى نفس غرفته السابقة، إلى برشه وظلاله وخربشاته، والى أشلاء روحه، السجان هو السجان، القيد هو القيد، الباب وصدأ المفاتيح، وأنفاس مخنوقة معلقة بين جدار وجدار.
عامان قضاهما نائل بعد الافراج، تزوج وتألق عريسا في شوارع رام الله، حمله الشباب عاليا فوق الأكتاف، في زفة كونية شارك فيها الغيم والطير والبرق والحب وهدوء السماء.
طار نائل فوق صوت مدينة رام الله التي سقفها الفرح والسحاب، أعلى من برج المراقبة ومنظار السجان، اعلي من حواجز ومستوطنات وأسلاك تمتد من معبر قلنديا حتى سجن عوفر العسكري، كان وسيما وجميلا وفي وجهه يزدحم الضباب.
الحياة أقوى من السجن والموت، قالها نائل وهو يزرع مائة شجرة برتقال وليمون وكرز وزيتون ومشمش وتين في حديقة بيته في قرية كوبر، الأرض تشفي المعذبين من غيابهم، والأرض تشفي الضحايا مما أصاب أرواحهم من اضطهاد وحرمان على يد المحتلين والجلادين، وارض نائل فاضت به، وفاض بها، أعطته كل المعاني، وكان جديرا على إطفاء العطش، وجديرا على النظر في بصر التراب وهو يسرج أكثر إحمراراً وإشعاعا.
تحل ذكرى مرور عامين على زواج نائل البرغوثي، وقد كان يحلم إما بطفل أو بشجرة، تعثر وصول الطفل، ولكن الشجرة جاءت و كبرت وحملت ثمارها وأسماءها وما في بطنها من مواليد وأقمار، وسألت أين نائل و فأسه وعرقه وأنفاسه؟ أين يداه وبيارقه؟ أين حبه الممزوج بالماء والنار والكلمات الخصيبة؟ لم يخبرها احد أن نائل في السجن يجدد انعتاقه مرة أخرى، ويزرع في الغيب أشجاره القادمات المتدليات غصونها في كل نافذة وزنزانة خضراء خضراء.
نائل البرغوثي تعود أن يظل منفيا في الحرية، يتنقل من اشتباك إلى اشتباك، منشغلا بالعصيان على المألوف، يحمل الماء وجرات الزيت المعتقة، يسقي مائة شجرة، يجلس أمامها حتى تتفتح البراعم، ويرى بأم عينه جناحا حجر يرفرف شيئا يمتزج بغير عناصره في ذاكرة ليست إلا وجع المكان.
يعود نائل إلى السجن ويتركنا، حديقة بلا صاحب يطل عليها في ساعات الفجر، بلد لا يسمع فيها سوى صوت الموت والاعتقالات والقمع والبطش، واستغاثات الصلوات والآيات في القدس، ولكنه يعلو طائرا، لا شيء يصرعه، ولا شيء يوقفه عن أحتضان المسافات بين هنا وهناك.
يحتفل نائل بعيد زواجه في السجن، تولد قيود لأعناق الضوء، آلاف الأطفال من القدس يصلون السجون، حكايات تتنفس بين الحديد والظلمات، مرضى وإداريون ونواب وكبار في السن ونساء، تزدحم المعسكرات، وتشهق دولة إسرائيل بكل ما فيها من قتل وسفك وحشر وأسلاك، زفيرها ساخن بنا، حلقها يضيق بنا، لا تستطيع لفظنا، ولا تقدر أن تحتوينا، تختنق الدولة العبرية باحتلالها وبجشعها و بفتاويها، تغلق الباب، وتترك نائل البرغوثي يرتب أشجاره كيفما يشاء.
تحت قدميه
يرن جرس العالم
الآذان في الأقصى
الترانيم في القيامة
الشجرات أخوات التراب
قلبه حديقة
جسده غابة
تفيض بالماء